الجمعة 29 ربيع الآخر 1446 . 1 نوفمبر 2024

الحلقة (386) - سورة الأنبياء 50-58

الحمد لله رب العالمين، والصلاة، والسلام على عبده، ورسوله الأمين سيدنا، ونبينا محمد، وعلى آله، وأصحابه، ومن اهتدى بهداه، وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد؛ فيقول الله -تبارك وتعالى-  {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ (48) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49) وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50) وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (54) قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55) قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56) وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ}[الأنبياء:48-57].

هذا فاصل جديد في هذه السورة، سورة الأنبياء بدأ الله -تبارك وتعالى- فيها بذكر طائفة من أنبياءه، ورسله رد الرب -سبحانه وتعالى- على هؤلاء العرب الذين كذبوا برسالة النبي محمد -صلوات الله والسلام عليه- أبطل الله حجتهم، أبطل شركهم، وعظهم، أنذرهم بما ينتظرهم يوم القيامة؛ ثم أخبر الله -تبارك وتعالى- أن سنته -سبحانه وتعالى- في إرساله نبيه، ورسوله محمد -صلى الله عليه وسلم- هي سنته الجارية في خلقه؛ فإن الله -تبارك وتعالى- أرسل قبل النبي محمد -صلوات الله وسلامه عليه- هذه السلسلة الطيبة من الرسل، والأنبياء بدأ الله -تبارك وتعالى- بموسى، وهارون، وبإنزال كتاب الله -تبارك وتعالى- التوراة عليهم، وذلك أن التوراة، والقرآن يعني هما الكتابان الذان نزلا من السماء، وبقيا، والذى سارت على التوراة أمم، وأنبياء تحكم به بدأً من موسى عليه السلام إلى آخر نبي من أنبياء بني إسرائيل، وهو عيسى عليه السلام، وليس بين عيسى، وبين نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- نبي؛ ثم أرسل الله -تبارك وتعالى- رسوله الخاتم محمداً -صلى الله عليه وسلم- بالفرقان، بالضياء، بالذكر، بالقرآن العظيم المبارك في كل أنواع البركات.

قال -جل وعلا- {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ}[الأنبياء:48] موسى النبي، العظيم رسول الله تبارك وتعالى إلى بني إسرائيل مخلصهم من الفراعنة، ومقيمهم في أرض الله -تبارك وتعالى- ليكونوا شعباً يعبد الله -تبارك وتعالى- وهارون أخوه النبي، والذي نبئ بشفاعة، وطلب من موسى عليه السلام { وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا (35) قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى }[طه:31-36] أعطاه الله -تبارك وتعالى- سؤله فيما طلب من أن يكون هارون نبياً كذلك منبأ من الله -تبارك وتعالى- يقوم بجواره بهذه المهمة العظيمة التي أرسل إليها، وقد أرسله الله -تبارك وتعالى- إلى أكبر جبار موجود في الأرض في وقته، آتاه الله -تبارك وتعالى- الفرقان، سمى الله -تبارك وتعالى- التوراة المنزلة على عبده موسى فرقاناً لأنها جاءت تفرق بين الحق، والباطل، تدعو إلى طريق الله -تبارك وتعالى- وصراطه مفرقة عن صورة الشياطين الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً نور، هادي وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ وكذلك تذكير للمتقين بالأوامر، والنواهي، وما يحتف بأمر الله -تبارك وتعالى- ونهيه على الأمر، والتحذير من النهي بصنوف المواعظ، والتحذيرات، نزولها ليس مجرد بنود، وأوامر مجردة، ونواهي مجردة، لا، كما قال الله -عز وجل- {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ........}[الأعراف:145] مع كل أمر، ونهي في وعظ، وإرشاد من الله -تبارك وتعالى- وحث على أخذ الأمر، وعلى الانتهاء عن النهى وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ تذكير للمتقين بطريق الرب -سبحانه وتعالى- .

ثم شرح الله -تبارك وتعالى- بين هؤلاء المتقون أن الذين يستفيدون بهذا الوحي المنزل على موسى، التوراة التي سماها الله فرقاناً، وضياءً، وذكرا، قال: {الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ}[الأنبياء:49] الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ يخافون ربهم -سبحانه وتعالى- وهم بالغيب لم يروا ربهم -سبحانه وتعالى- ولم يسمعوه، ولكنهم آمنوا به بآياته المنزلة، المسموعة، وبآياته المقرؤة، وبرسوله الذي أرسله؛ فآمنوا بالله -تبارك وتعالى- عن هذا الطريق بالغيب، وهذا هو طريق الإيمان، وهذا معنى الإيمان التصديق بإخبار الله -تبارك وتعالى- والإقرار، بالاستدلال بهذه الآيات التي تدل على وحدانية الله -تبارك وتعالى- ، وأنه الرب الإله، خالق الكل -سبحانه وتعالى- فهؤلاء الذين يخشون ربهم بالغيب خافوا الله -تبارك وتعالى- وآمنوا به، وعظموه، الخشية أنما هي خوف، وتعظيم، خوف، وتعظيم للرب -سبحانه وتعالى- ثم [وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ] خائفون من الساعة خوفاً عظيماً، مرتعبون مع إيمانهم بالله -تبارك وتعالى- وعملهم الصالح، إلا أنهم يخافون الساعة، ويشفقون منها، والإشفاق هو غاية الخوف، وذلك لأنه لا أمان إلا بعد تأمين الله -تبارك وتعالى- وبعد قبول العبد، وبعد عرض عمله على الرب -سبحانه وتعالى- فمن قبل، ومن أخذ، ومن حط الله -تبارك وتعالى- عنه سيئاته هو الذي يعنى يكون قد أمن بعد، ويظل العبد المؤمن خائف، مشفق من الساعة لا يدري ما يكون مصيره إلا بعد أن يؤمنه الله -تبارك وتعالى- يوم القيامة؛ فهؤلاء العباد الذين آمنوا بربهم -سبحانه وتعالى- في هذه الدنيا، وعظموه، وخشوه الخشية الكاملة، وخافوا يوم القيامة هؤلاء الذين يستفيدون بالتوراة، وهذه الآيات هي نفسها التي ذكر الله -تبارك وتعالى- فيها من  يستفيد بهذا القرآن المنزل على عبده، ورسوله محمد، قال الله -تبارك وتعالى- {الم(1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ}[البقرة:1-2] هُدًى ثم حصر الله -تبارك وتعالى- هدايته في المتقين، قال: {........هُدًى لِلْمُتَّقِينَ(2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ(3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ(4) أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[البقرة:2-5] فأولاء هم الذين على الهداية، والذين يستفيدون بهذا القرآن الهدى الخاص أنهم يهتدوا به، وبالطبع هذا غير الهداية العامة؛ فإن الهداية العامة للقرآن، وللتوراة يدركها كل أحد؛ فالقرآن هداً للناس، هداً للناس بمعنى البيان، والإرشاد، {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}[القمر:32] [شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ] هذه هداية عامة، هداية عامة بمعنى البيان، والإرشاد لكن الهداية الخاصة أنه يأخذ هذا القرآن، ويهتدي به، يؤمن به ويسلك مسلكه، المسلك الذي يدل عليه؛ فهذه هداية خاصة لهؤلاء الناس المخصوصين {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ}[الأنبياء:48] فيعني كونه فرقاناً، وكونه ذكراً، وكونه ضياءً لهؤلاء المتقين {الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ}[الأنبياء:49].

 ثم قال الله -تبارك وتعالى- به الكتاب المنزل على عبده، ورسوله محمد؛ فقال -سبحانه وتعالى- [وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ] وهذا القرآن المنزل على عبده، ورسوله محمد ذكر، أعظم ذكر لأنه يذكر العباد بربهم، وإلههم، وخالقهم -سبحانه وتعالى- ويذكرهم بطريقهم إلى الرب -جل وعلا- ويذكرهم بمآلهم، ومصيرهم في يوم القيامة بهذه الأمور العظيمة، العظيمة، ذكر  [وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ] وكونه مبارك البركة الزيادة، والخير، والنماء، والقرآن كله زيادة في الخير في كونه بيان، وإرشاد، وهداية، وتوفيق من الله -تبارك وتعالى- لمن سلكه، وأخذ طريقه، وأن كل يعني إيمان به، وعمل به، وقيام به، قراءة له، وحفظ له هذا فيه الأجر العظيم، والثواب الكبير من الله -تبارك وتعالى- بدأً من النظر في القرآن، قراءة القرآن، لمسه، حفظه، القيام به، العمل بما يأمر به، الانتهاء عما ينهي عنه كل إيمان، وعمل بهذا القرآن كله بركة «من قرأ حرفاً من كتاب الله أعطاه الله عشر حسنات»  «لا أقل لكم ألم حرف بل أ حرف ول حرف وم حرف»  حفظ القرآن، والعناية به «خيركم من تعلم القرآن وعلمه»  «يقال لقارئ القرآن إقرأ وإرتقى ورتل كما كنت ترتل في الدنيا فإن منزلتك عند آخر آية تقرأها» قراءة القرآن بتعتعة، وصعوبة بسبب ثقل في النطق، وثقل في اللسان فيه أجر، أجر لهذه المعاناة، وهذه المشقة هذه الجزئية التي يلاقيها من ثقل لسانه، ومن يعني يتعلم القرآن في بداية الأمر، والذي يقرأ القرآن «يقرأ القرآن ويتعتع فيه له أجران أجر القراءة وأجر التعتعة» .

هذا كتاب مبارك، هذا كتاب مبارك هداية لأمة كل هذه الذين اهتدوا بدين الله -تبارك وتعالى- إنما كان سبب ذلك القرآن بدءً بالنبي محمد -صلوات الله والسلام عليه- النبي كيف أصبح نبياً؟ وكيف تعلم؟ وكيف اهتدى؟ وكيف سار؟ بهذا الوحي المنزل له من الله -تبارك وتعالى- {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ}[الشورى:52-53] فالنبي لم  يصبح نبياً إلا بالقرآن {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ(1)خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ(2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ(3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ(4)عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}[العلق:1-5] هذه أول كلمات من هذا القرآن آيات لامست سمع النبي -صلوات الله والسلام عليه- وغيرت بعد ذلك مجرى حياته من طريق إلى طريق آخر، من طريق ما يعرف يعنى الرسل، ولا الأنبياء، ولا طريق الرب -تبارك وتعالى- ثم بعد ذلك خلاص؛ ثم { يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ }[المدثر:1-7] وهذه، هذه آيات الرسالة نزلت على النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم بدأ القرآن يتنزل، يعلم الله -تبارك وتعالى- رسوله بهذا الدين.

 فالنبي نشأ بعد ذلك، وأصبح مثالا للعالمين، مثال الإنسان الكامل, عبد الله تبارك وتعالى الكامل في كل الأخلاق، والصفات بما؟ بهذا القرآن؛ فأخلاقه الكاملة التي يعنى حمله عليها كل البشر ممن يقدر الأخلاق، وأثنى الله -تبارك وتعالى- بها {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}[القلم:4] بل هذا القرآن بنزول هذا الكتاب الكريم على النبي -صلى الله عليه وسلم- كما سئلت أم المؤمنين عائشة رضى الله تعالى عنها؛ فقيل لها: يعنى كيف خلق رسول الله؟ فقالت يابنى أليس تقرأ القرآن لقد كان يعنى خلق النبى -صلى الله وسلم- خلق النبى القرآن؛ فالله علمه بهذا، وأصبح مثالا للأمة بهذا؛ ثم هذا القرآن هو الذي يعني علم، وربى هذه الأمة أمة الإسلام التي أخرجها الله -تبارك وتعالى- لتكون خير أمة أخرجت للناس بهذا القرآن.

 فانظر بعد ذلك البركات بركات هذا القرآن من إنشاء هذه الأجيال المسلمة المؤمنة جيل بعد جيل التي اهتدت إلى طريق الرب -تبارك وتعالى- وتركت هذه المناهي التي ينهى عنها الرب -تبارك وتعالى- وفعلت الأعمال العظيمة الصالحة {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}[النحل:90] الدين جاء بالخلق الكامل «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» الأخلاق الكاملة في كل شيء؛ فهذا بهذا القرآن [وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ] لا كتاب أكثر بركة، كان أكثر بركة يعني في آثاره في الأرض، وكذلك آثاره في السماء كهذا الكتاب المنزل من الله -تبارك وتعالى- على عبده، ورسوله محمد.

 ثم قال الله أَنزَلْنَاهُ نسباً نزول هذا القرآن إليه -سبحانه وتعالى- وفى هذا تشريف، وتعظيم لهذا القرآن لأنه كلامه، وأن الله هو الذى أنزله -سبحانه وتعالى- [أَنزَلْنَاهُ] فعندما يقول الرب -سبحانه وتعالى- أنا الذي أنزلته يعني يكون هذا تعظيم لهذا الكلام أنه كلامه -سبحانه وتعالى- وكتابه ذكره المبارك المنزل منه -سبحانه وتعالى- ثم جاء سؤال لتقريع، وتوبيخ هؤلاء الذين ردوا هذا الكلام، قال: {........أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ}[الأنبياء:50] أَفَأَنْتُمْ كلام لهؤلاء المشركين الجاحدين أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ أتنكرون هذا الكتاب الذي ينسبه الله -تبارك وتعالى- لنفسه، والذي فيه هذه البركة، والذي يغير، غير الله -تبارك وتعالى- به يغير النفوس تغيير كامل يحولها من شيء إلى شيء من الظلمة، والشرك، والكفر، والضلال، والظلم كل أنواع الظلم إلى الهداية، والنور هذا الكتاب الذي يفعل هذا الصنيع، يغير هذا التغيير {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى........}[الرعد:31] يعني لكان هذا القرآن لكان هذا الكلام أولى الكلام بكل هذا، وقد فعل ما هو أعظم من هذا، والقرآن فعل ما هو أعظم من تكليم الموتى، ومن تقطيع الأرض، ومن تسيير الجبال بتغيير هذه الأمم، وهذه الشعوب تغيير هذه النفوس تحويلها من حال إلى حال، من حال الظلمة، والجهل، والكفر، والعناد إلى حال آخر حال الهداية، والإحسان، والزكاة، والطيبة، والخلق، والاستقامة على أمر الله -تبارك وتعالى- فهذا يقول لهم: أتنكرون هذا [أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ] وقد قامت أدلة، وشواهد، وأنه أولا من الله إعجازاً بأسلوبه العربي النازل به، وبركة يعني في آثاره، ونوراً فيما يدعو إليه لا يدعو إلى أي شيء من الظلمة، ولا الخنى، ولا الفجور، ولا الميل؛ فهو كتاب لا عوج فيه {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا}[الكهف:1] ما فيه أي عوج، لا في أسلوبه، والفاظه، ولا في معانيه ما في معنى خارج يعني عن معنى الحق بكله، كله حق {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}[الأنعام:115] فهو صادق في كل ما يخبر به، وكذلك عادل في كل ما يحكم به فيقول لهم الله -عز وجل- [أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ] تنكرون هذا! تنكرون هذا الذكر المنزل! هذا أمر عظيم جداً، هذا أمر عظيم في هذا ينطوي هذا [أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ] تهديد، والوعيد لهؤلاء المجرمين، الذين ردوا هذا القرآن، ولم يقبلونه [أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ].

 ثم شرع الله -تبارك وتعالى- يبين يعني طائفة الأنبياء؛ فقال: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ}[الأنبياء:51] لما ذكر الله -تبارك وتعالى- هنا إبراهيم قال: [مِنْ قَبْلُ] يعني من قبل موسى، وقبل هارون ليبين أن هذه سلسلة الأنبياء، وذكر إبراهيم هنا، وكأنه في المقدمة من الأنبياء، والرسل لأنه أب لكل من جاء بعده من الأنبياء، والرسل كلهم من نسله، رزق إبراهيم ولدان إسماعيل، وإسحق أما إسماعيل فكان أباً لهذه الأمة العربية، ونبي فيهم ترك كلمة التوحيد فيهم؛ ثم ختم الله -تبارك وتعالى- الأنبياء بنبي من نسل إسماعيل وهو محمد -صلوات الله والسلام عليه- فهذا فرع، الفرع الثانى ابن إبراهيم الثاني، وهو إسحق من زوجته سارة، وهذا تناسل من نسله كل الأنبياء بها بني إسرائيل الذين أتوا بعد ذلك، يعقوب، وهو إسرائيل؛ ثم بعد ذلك الأنبياء الكثر الذين يعني اختارهم الله تبارك وتعالى من بني إسرائيل،  من بني إسرائيل أكثر شعب خصه الله -تبارك وتعالى- بالنبوات لأنه ما كان يموت نبي منهم إلا، ويخلفه نبي، قال النبي -صلى الله عليه وسلم- «كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء» فالأنبياء هم الذين يتولون يعني أمرهم، وقيادتهم، والعناية بهم سياسة يعني الشعب كله كانت راجعة للأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي؛ فلا يمت نبي إلا، ويخلفه نبي، آخرهم هو عيسى بن مريم عليه السلام.

 قال -جل وعلا- [وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ] هذا بالتأكيد يؤكد الله -تبارك وتعالى- أنه هو الذي أعطى إبراهيم رشده، وهداه إليه -سبحانه وتعالى- آتَيْنَا فهذه الهداية التي كان عليها إبراهيم، وجاءت لإبراهيم إنما كانت من فعل الرب الإله -سبحانه وتعالى- مِنْ قَبْلُ يعني من قبل موسى، وهارون [وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ] في كل يعني مراحلة حياته الرسالية كان الله -تبارك وتعالى- به عالماً به، يوحي له، يوجهه -سبحانه وتعالى- إلى يعني وجهة الخير والدين؛ ثم البداية، قال -جل وعلا- {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ}[الأنبياء:52] هذه أول المواقف الكبرى من مواقف إبراهيم في دعوته إلى الله -تبارك وتعالى- أنه توجه إلى أبيه آزر، وإلى قومه، قوم إبراهيم وقال لهم: [مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ] سؤال يريد منه أن التنبيه، والبيان أنهم يعبدون ما لا ينفعهم، ولا يضرهم [مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ] التماثيل جمع تمثال، والتمثال هو الصورة التي تصور على مثال ما تصور، على مثال إنسان، على مثال حيوان أمر متخيل، وقد كان قومه من الصابئة يعبدون النجوم، ويجعلون لها صورا يسمونها روحانية الكوكب؛ فالقمر روحانيته يصوروله تمثال، الشمس يصورولها تمثال؛ فقال لهم [مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ] عاكفون عكوف عبادة، والعكوف هو المكث، والتوفر على أمر ما؛ فقد كانوا يحبسون أنفسهم، ويمكثون عند هذه التماثيل، وبيوتها التي أقاموها لها، المعابد التي أقاموها لها، ويأتون، ويعكفون، ويمكثون المكث الطويل عند هذه الأصنام.

 قالوا مجيبين لإبراهيم {........وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ}[الأنبياء:53] ليس عندهم دليل أو برهان على عبادتهم، وعكوفهم لهذه الأصنام إلا أنهم قد رأوا آبائهم يعبدونها بس، أما لما يعبدونها؟ ما ثمرة ذلك؟ ما الفائدة في هذا؟ ما الدليل على ذلك؟ هل هذا له دليل؟ هل هذا له برهان؟ لا، وإنما استدلوا فقط بفعل الآباء، وهذا من أسخف، وأضل أنواع الإستدلال، كيف تستدل على عمل بمجرد أن آبائك كانوا يفعلونه؟ طيب، ولو فرض، وإذا كان آبائك كانوا لا يعقلون، لا يفقهون، مجرمون ما على هذا دليل يستدل به على الفعل، لا بد أن يكون لهذا الفعل الذي يفعل، وهذا عمل شريف، عبادة، لا بد أن يكون لها مستند تستند إليه برهان، وإلا الإنسان يبذل ثمرة قلبه، وغاية  نفسه، ويقتطع وقته لعبادة هذه؛ ثم لا برهان له، ولا دليل عنده مستند يستند إليه في هذا العمل {قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ}[الأنبياء:53].

 قال لهم مجيباً {........لَقَدْ كُنتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}[الأنبياء:54] قال لهم [أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ] كنتم هذا كينونة استمرار، وبقاء [لَقَدْ كُنتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ] الذين سبقوكم [فِي ضَلالٍ مُبِينٍ] الضلال هو البعد عن الحق المبين البين الواضح يعني ضلال بين واضح يعني برهانه قائم، ولا يحتاج استدلال عليه {قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ}[الأنبياء:55] هل كلامك الذي تقوله الآن جئت بشيء بالحق، الحق الثابت المستقر [أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ] مجرد المستهزئين، اللعب هنا نوع من الاستهزاء، وقول كلام يراد به فقط اللهو، واللعب، ولا يراد به الإرشاد، والبيان، ولا دليل عندك على هذا، قال: مستدلاً لهم على بطلان ما يعبدون {قَالَ بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ}[الأنبياء:56] بَل رَبُّكُمْ سيدكم الذي يجب أن تعتقدوه الرب، الرب بمعنى السيد، والرب بمعنى الخالق المربي؛ فخالقكم الذي خلقكم، وخلق هذه السماوات، والأرض، وأوجدها هو الذي يستحق العبادة؛ فهذا ربكم الحقيقي، والذي يجب أن تعتقدوه أنه السيد الذي تطيعوه، وتعبدوه  [قَالَ بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ] رب السماوات، خالق السماوات، وخالق الأرض [الَّذِي فَطَرَهُنَّ] فطر يأتي بمعنى شق، ويقول ابن عباس ما علمت فاطر حتى تخاصم عندى أعرابيان في بئر؛ فقال أحدهما أنا الذي فطرتها يعني يستدل بوجود البئر بأنه هو الذي شقها أول ما شقها؛ فهذه خلق هذه السماوات، ووضعها على هذا النحو الذي فيه هذا فعل الرب -تبارك وتعالى- فالذي فطرها يعني خلقها أول مرة الذي أنشأ هذه السماوات أول مرة هو الرب الذي تجب له العبادة.

 [قَالَ بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ] فطر السماوات، والأرض [وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ] أنا على ذلكم على هذا الأمر الذي أرشدكم إليه مِنَ الشَّاهِدِينَ شاهد على هذا الأمر، وذلك بما أوحى الله -تبارك وتعالى- إلي؛ فاستدلاله قائم على أمرين، الأمر الأول هذا النظر، وهذا برهان، نظر برهاني لكل ذي عقل، من تعبد؟ أعبد الذي فطرني الذي خلقني؛ فهذا الذي يستحق العبادة، هو المتفضل عليه، لأنه أوجدنى من العدم، يطعمني، يسقيني، هو الذي أحياني، هو الذي يميتني؛ وكذلك الذي خلق هذا الكون الذي يعيش فيه؛ فخالق هذا الكون هو الذي يستحق العبادة، وقال لهم: أنا على ذلكم من الشاهدين، وهذا بما أوحى الله -تبارك وتعالى- إليه؛ فهو الشاهد على هذا، وأن الله -تبارك وتعالى- قد أرسله بهذا الأمر  يقبلوا مقالته هذه.

 وأراد بعد ذلك إبراهيم أن يهزهم هزاً إلى الإيمان؛ فقال: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ}[الأنبياء:57] أدبر في نفسه أن يريهم رأي العين أن هذه الأصنام التي تعبد لا تستحق العبادة؛ فقال: وَتَاللَّهِ أقسم بالله لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ الكيد هو إيصال الضر بطريق خفي أكيدنها، وعزمه على كيدها أن يحطمها، وأن يجعل لها طريق ليثير عقول هؤلاء حتى يدركوا أن ما يفعلونه إنما هو سخافة، وإضلال مبين [بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ] عنه يعني في الخفاء بعد أن تخرجوا من  معتكفكم هذا عن الأصنام سأكيدها كيداً يوقظ قلوبكم، ويرجعكم إلى الحق {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ}[الأنبياء:57]

قال -جل وعلا- {فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ}[الأنبياء:58] [فَجَعَلَهُمْ] جعل هذه الأصنام [جُذَاذًا] جذاذاً يعني قطعا، كسرها حتى أصبحت قطعا صغيرة [إِلَّا كَبِيرًا ]الصنم الأكبر؛ ثم قال: [كَبِيرًا لَهُمْ] ما قال إلا كبيراً لأنه لو قال ؟؟؟؟؟ كبيراً يفهم أنه كبير في نفسه، ولكن كبير لهم يعني هم يعظمونه، أو إلا كبيراً لهذه الأصنام يعني كبير صنم كبير من جملة الأصنام، قال -جل وعلا- [لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ] لعلهم لعل هؤلاء يرجعون إليه في نسبة تحطيم هذه الأصنام إلى هذا الكبير.

 نقف هنا إن شاء الله، ونكمل إن شاء الله في الحلقة الآتية.