الحمد لله رب العالمين، والصلاة، والسلام على عبده، ورسوله الأمين سيدنا، ونبينا محمد، وعلى آله، وأصحابه، ومن اهتدى بهداه، وعمل بسنته إلى يوم الدين.
وبعد؛ فيقول الله -تبارك وتعالى- {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84) وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85) وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86) وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ }[الأنبياء:83-88]
هذه الآيات من سورة الأنبياء في سياق ذكر الله -تبارك وتعالى- لهذه الطائفة الشريفة، العظيمة ممن اختصهم الله -تبارك وتعالى- بالنبوة، والرسالة فمن جملة هؤلاء، قال -جل وعلا- وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ أيوب نبي من أنبياء بني إسرائيل نَادَى رَبَّهُ دعاه -سبحانه وتعالى- قائلاً: أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وهذا الدعاء يدل على أنه يعني شكا الآلام التي به بطريقة غير مبالغ فيها، وإنما قال: مَسَّنِيَ الضُّرُّ والمس هو أدنى اللمس، الضر الذي أصابه، ضر في بدنه، أصابه الله -تبارك وتعالى- بضر في بدنه حتى تهرى كثير من جلده، واستمر به البلاء زماناً طويلاً حتى أن قال الناس ممن حوله أن أيوب قد عصى الله -تبارك وتعالى- معصية كبيرة بذلك ابتلاه بهذا البلاء الطويل حتى إن أهله زوجته التي كانت تقوم بخدمته فارقت، وبعد ذلك أخرجه أهل القرية إلى مكان بعيد حتى لا ينتشر وبائه؛ فأصابه الضر من جميع النواحي، الضر في بدنه، والضر في مجافاة الناس له، وكلامهم عليه، وأنه لو لم يكن قد أذنب ذنباً عظيماً عندما أطال الله -تبارك وتعالى- ابتلاءه على هذا النحو، والضر بعد ذلك كذلك بترك زوجته له بعد أن كانت تقوم بخدمته، وتزوره، وتأتي له بطعامه، وشرابه؛ ثم بعد ذلك يبدو أنها ملت من ذلك، وفارقته، وتركته؛ فأصابه الضر من جميع النواحى؛ فالتجأ إلى الله -تبارك وتعالى- طالباً منه -سبحانه وتعالى- أن يكشف عنه هذا الضر [أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ] توسل إلى الله -تبارك وتعالى- بصفته، وبأسمائه -سبحانه وتعالى- وأن الله هو أرحم الراحمين، وأنه يدرك برحمته من يلتجئ إليه، ويعود إليه؛ فمع صبره هذا الصبر الطويل على البلاء دون تذمر، ودون شكوى، ودون سخط على - الله وتعالى- جاء، وخاطب ربه -سبحانه وتعالى- بهذا الخطاب الندي مستعطفاً الرب -تبارك وتعالى- مسترحماً إياه، وأنه قد أصابه الضر، وطلب من الله -تبارك وتعالى- أن يكشف الضر الذي به.
قال -جل وعلا- [فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ ]فا للتعقيب أنه بمجرد أن التجا إلى الله -تبارك وتعالى- هذا اللجوء، استجاب الله -تبارك وتعالى- دعوته، وكشف ما به من ضر، كل أنواع الضر الذي جاءه كشفه الله -تبارك وتعالى- عنه كشفه، ورفعه، وأبعده [وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ] آتاه الله -تبارك وتعالى- أهله؛ فقد رجعت زوجته عندما كانت تأتي تزوره، يقال أنه لما جاءت وكان الله -تبارك وتعالى- قد عافاه بعد أن دعى بهذا الدعاء، وقال له الله -تبارك وتعالى- {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ}[ص:42] ارْكُضْ بِرِجْلِكَ يعني اضرب برجلك الأرض؛ فضرب برجله الأرض؛ فانفجر منها عين ماء باردة، شرب منها، واغتسل منها؛ فبعد أن اغتسل منها برأ كأن لم يكن به مرض، حتى أنه لما جاءت زوجته يعني تزوره العادة عندما كانت تزوره، وترعى حاجته، قالت له يا عبد الله ألم ترى نبي الله هذا المبتلى بهذا المكان، وكان هو زوجها يعني تغير الأمر عليه، وكان قد أقسم بالله أن يضربها مائة سوط إذا عافاه الله -تبارك وتعالى- ولكن لما كانت امرأة صابرة، وقامت معه هذا القيام الطويل؛ فإن الله -تبارك وتعالى- أمره أن يصدق حلفه هذا أن يضربها ليس بمائة سوط، وإنما شمراخ فيه مائة عود من الأعواد، قال: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ........}[ص:44] وإنما يقع اليمين كما أقسم به؛ فقال الرب -تبارك وتعالى- [وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ] رجعت إليه زوجته، وأصلح الله -تبارك وتعالى- ما كان بينهما [وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ] يعني أن الله -تبارك وتعالى- أكثر خيره، وماله، وتزوج بعد ذلك يعني زوجة أخرى مع زوجته الأولى، وقد جاء في الحديث أن جبريل، أن أيوب عليه السلام، وهو يغتسل أرسل الله -تبارك وتعالى- رجل جراد من ذهب، يعني ذهب يطير، ويأتي إليه كأنه مثل الجراد؛ فأخذ يحثو من هذا، وقال؛ فقال له الرب -تبارك وتعالى- يعني يا أيوب ألم أكن قد أغنيتك عن هذا؛ فقال ربي لا غنى لي عن بركتك، لا غنى لي عن بركتك، وهذا من يعني ملاطفة الله -تبارك وتعالى- له، وإغداق النعم يعنى الدنيوية قبل الأخروية عليه بصبره، ولجوءه إلى الله -تبارك وتعالى- [وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا ] أن كل هذا يعني الإنعام، والإفضال من الله تبارك وتعالى على هذا العبد من عباد الله الصالحين أنه الرحمة من عند الرب الإله الذي لا إله إلا هو -سبحانه وتعالى- [وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ] يكون ابتلاء أيوب عليه السلام، وما تم له بعد ذلك من لجوؤه إلى الله -تبارك وتعالى- ومن عناية الرب -جل وعلا- به، ومن كشف هذا الضر، ومما أعطاه الله -تبارك وتعالى- من الخير في الدنيا وما يؤهله له، ما اذخره عنده -سبحانه وتعالى- من العطاء للأنبياء في الآخرة يكون هذا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ وذكر العابدين كل من يعبد الله -تبارك وتعالى- يذكر هذا، ومن العبادة لله -تبارك وتعالى- الصبر على البلاء؛ فإن الله -تبارك وتعالى- هذا من التعبد لله -عز وجل- إن العبد اذا أبتلي، وصبر على ذلك سمي هذا الصبر عابداً لله -تبارك وتعالى- بل الصبر هو من أعظم العبادات، وهذا من الذي يعطي عليه العبد ما لا يعطي على سواه الصبر {........إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}[الزمر:10] ؟؟؟؟؟؟؟ فهذا ذكر ما قصه الله -تبارك وتعالى- من شأن أيوب وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ لمن يريد أن يعبد الله -تبارك وتعالى- فيتذكرها، يتذكر هذا العبد كيف أنه يعني كان على هذا النحو، وأثنى الله عليه، كما قال -جل وعلا- يعنى إنه كان صابرا {........نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ}[ص:44] نِعْمَ الْعَبْدُ أى ايوب الذي ابتلاه الله -تبارك وتعالى- فصبر، ابتلاه بهذا المرض الشديد، وبمجافاة الناس، وبمقالة الناس فيه للشيطان، وبتخلي الناس عنه، ولكنه كان عند وعد الله -تبارك وتعالى- وعهده صابراً لله -جل وعلا- [وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ ].
ثم ذكر الله -تبارك وتعالى- هؤلاء الأنبياء {وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ}[الأنبياء:85]{وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ}[الأنبياء:86] إسماعيل إبن إبراهيم أبو العرب إسماعيل من زوجة إبراهيم المصرية هاجر، وقد أسكنه إبراهيم هو، وأمه أرض مكة بأمر الله -تبارك وتعالى- وأنبته الله -تبارك وتعالى- فيها، وتزوج من القبيلة العربية جرهم، وبارك الله -تبارك وتعالى- في نسله، ومن نسله العرب جميعهم قحطانيون، وعدنانيون كلهم من نسل إسماعيل؛ فإسماعيل الذي باركه الله -تبارك وتعالى- وأكثر أولاده، وكان نبياً من أنبياء الله -تبارك وتعالى- وداعيا إلى الله -تبارك وتعالى- وأقام التوحيد في ذريته إلى أن غير هذا بعد ذلك، العرب غيروا دين إسماعيل في عهد عمر ابن حيي الخزاعي لما غلبت خزاعة على البيت، وتغير الدين، الشاهد أنه يعني هو أبو العرب، وهو أبو النبي محمد -صلوات الله والسلام عليه- فإن نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- من نسل إسماعيل من طريق عدنان، وعدنان ابن إسماعيل فهذا من البركة العظيمة التي بارك الله -تبارك وتعالى- فيها في هذا النبي.
[ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ] وأما إدريس، وذا الكفل فهم من الفرع الثاني من أنبياء بني إسرائيل من فرع يعقوب هو إسرائيل يعقوب ابن إسحق ابن إبراهيم، قال -جل وعلا- كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ كل هؤلاء كان من الصابرين، وقد ذكر الله -تبارك وتعالى- من صبر إسماعيل أمر عظيم جداً، وهو الصبر على القتل عندما قال له أبوه {........إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ}[الصافات:102] وأن هذا أمر لا يصبر عليه، ولكن هذا النبي الصالح صبر هذا الصبر العظيم، وكذلك لم يخلف وعده مع الله -تبارك وتعالى- كما قال -جل وعلا- {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا}[مريم:54] ومن صدقه في الوعد أن موعدته التي وعدها لأبيه؟، وقال له: [سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ] كان عند ذلك؛ فإنه لم يخلف وعده الذي قطعه على نفسه، قطعه لأبيه، وأنه سيصبر على البلاء الذي يعني كتب عليه، وأنه يقتل، ويذبح بيد أبيه، وأما إدريس، وذا الكفل فلم يذكر في القرآن ذكر تفاصيل في ما أبتلوا به، ولا شك أنهم من أنبياء الله الصالحين، أبتلوا بما أبتلو به، وصبروا على البلاء، وقال الله -تبارك وتعالى- كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ كل هؤلاء الأنبياء كان من الصابرين بكل معنى الصبر لأن الصبر يدخل فيه الصبر على الطاعة، والعبادة صبر على الأحداث، والابتلاءات هؤلاء الأنبياء يجري الله -تبارك وتعالى- عليهم صنوف من صنوف البلاء؛ فأشد الناس بلاءً الأنبياء؛ الأمثل؛ فالأمثل يبتلي المرء على قدر دينه فإن كان في دينه شدة زيد له في الابتلاء.
تاريخ هؤلاء الأنبياء كلها سلسلة متواصلة من الابتلاءات، ولذلك كلهم صابرين، ولكن قد يكون لكل منهم نوع من البلاء يتميز به عن غيره؛ فالبلاء الذي تميز به أيوب، البلاء في البدن، والبلاء الذي أبتلى به إسماعيل، بلاء بالقتل بأنه يقتل، ومن أبيه، وأن هذا أمر الله -تبارك وتعالى- فيصبر لهذا الأمر، قال -جل وعلا- كُلٌّ أي من هؤلاء المذكورين {وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ}[الأنبياء:85]
ثم قال -جل وعلا- {وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ}[الأنبياء:86] هذه كرامة الله -تبارك وتعالى- وإحسانه لهؤلاء الأنبياء الصالحين في الآخرة وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا في رحمة الله -تبارك وتعالى- الكبرى، وهي ادخاله جنته -سبحانه وتعال- ورضوانه، أن هؤلاء كانت هذه نعم الله -تبارك وتعالى- عليهم في الدنيا ثم نعمته -جل وعلا- لهم في الآخرة أنهم يدخلون في رحمة الله -تبارك وتعالى- الكبرى جنته -جل وعلا- [إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ] إنهم من العباد الصالحين، والجنة دار الصالحين؛ ثم ذكر الله -تبارك وتعالى- نبياً آخر من أنبياء بني إسرائيل.
قال: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}[الأنبياء:87] ذا النون صاحب الحوت، الحوت، النون هو الحوت، وسمي ذا النون لما كان له من شأنه في الحوت الذي سجنه الله -تبارك وتعالى- يعني سجن فيه هذا النبي يونس ابن متى عليه السلام في بطن هذا الحوت، ذا النون هو يونس ابن متى عليه السلام، وهو قد أرسله الله -تبارك وتعالى- إلى اهل نينوى في العراق إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا مغاضباً أي قومه يعنى أنهم أحنقوه من شدة الأذى له، والآلام، والعنت الذي لاقاه في دعوة قومه غاضبهم، ومن غضبه منهم تركهم، ولا يحل لنبي أن يترك موقعه الذي أقامه الله -تبارك وتعالى- فيه إلا أن يأذن الله -تبارك وتعالى- لا بل أن يهاجر من البلد الذي أرسل فيها حتى يأذن الله -تبارك وتعالى- في الهجرة؛ فإنه في مهمة النبي يقام في أمر معين مهمة من الله -تبارك وتعالى- لا بد أن يؤديها، وإلا سؤل عن هذه سؤل عن رسالته، وعن قيامه بهذا الأمر؛ فهو تكليف إلهى يعني النبوة تشريف باختيار، واصطفاء؛ ثم تكليف إلهي أنه كلف بهذه المهمة يجب أن يؤديها {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ........}[المائدة:67] إذا كان فيه مؤذين فهذا النبي، والرسول إنما يعصمه الله -تبارك وتعالى- من الناس هذه عصمة الرب -جل وعلا- فيجب أن يقوم بما أوكل إليه، بما وكله الله -تبارك وتعالى- به، وأقامه به، وإذا قصر في هذا سيسأل.
فيونس عليه السلام سماه الله -تبارك وتعالى- ذا النون ذَهَبَ مُغَاضِبًا مغاضباً قومه فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ يعني ظن لما خرج مغاضبا لقومه أن الله -تبارك وتعالى- لن يقدر، يقدر هنا بمعني يضيق الله -تبارك وتعالى- عليه بمعنى أنه لن يؤاخذه بتركه قومه على هذا النحو، وقد يرسله الله -تبارك وتعالى- إلى غيرهم، وقد يكمل هذه هذه المهمة، وهذه المسؤلية، وهذه النبوة في غيرهم لكن، لا، ليس من شأن النبي أن يترك حتى يحكم الله -تبارك وتعالى- بينه، وبين يعني من أرسل إليهم، ومن أمر بدعوتهم، وتعليمهم.
[فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ] لكن الله -تبارك وتعالى- عاقبه بعقوبة دنيوية لكي يرده إلى جادة الأمر؛ فإنه ركب سفينة، ولعبت بها الموج، وزادت حمولتها، وكان لا بد التخلي، أو الاستغناء عن بعض الحمولة حتى يسلم الباقي، لا بد من التخلص من بعض الركاب لينقذ الآخرون؛ فعند ذلك طبعاً لا يستطيعوا أن يأخذوا أي فرد، ويلقوه لا بد من قرعة؛ فيقترع؛ ثم من تخرج قرعته يلقي في البحر ليسلم الآخرون؛ فلما ضربوا القرعة خرج اسم يونس عليه السلام، وتعاطف كثير مع الناس لأنه معروف فأنه رجل من أهل الدين، والصلاح، رجل نبي؛ ثم ضربت القرعة مرة ثانية؛ فخرج اسمه؛ ثم ضربت الثالثة فخرج اسمه؛ فألقي في البحر؛ فلما ألقوه في البحر كان الله -تبارك وتعالى- هيأ حوتاً عظيماً له؛ فالتقمه، كما قال -جل وعلا- {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ}[الصافات:141] ساهم هيا الأسهم الذي هوا القرعة فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ هو الذي هزم في هذه القرعة {فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ}[الصافات:142]{فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ}[الصافات:143]{لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}[الصافات:144] لكنه عندما ألقي في هذه الظلمة التي هي ظلمة في داخل ظلمات كثيرة، ظلمة بطن الحوت، لا سجن في الدنيا أشر من هذا، ومعلوم بطن الحوت بما فيه من الدهاويل من الأمور العظيمة، وسجنة الغلاف يعني جسم الحوت، وسجن بعد ذلك في البحر الذي هو فيه؛ فهذا أضيق مكان، أضيق مكان، وأشر مكان.
قال -جل وعلا- {فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ}[الصافات:143] يعنى سبح الله -تبارك وتعالى- قائلاً: لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ لا إله إلا أنت ذكر الله بالوحدانية هو الإله الذى لا إله إلا هو سبحانه، قال: سُبْحَانَكَ تنزيهاً لك إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ أي فيما صنعه من تركه قومه مغاضباً لهم وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ ظلمات ليست ظلمة واحدة، ظلمة بطن الحوت، وجسد الحوت، ظلمة البحر هذا لا يمكن هذا يرى الإنسان فيها شيء أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ اعترف بخطيئته، وذنبه، ورجع إلى الله -تبارك وتعالى- قال -جل وعلا- فَاسْتَجَبْنَا لَهُ في التو، واللحظة مما يعني دعا بهذا الدعاء في هذا المكان الذي لا يراه فيه إلا ربه -سبحانه وتعالى-
قال -جل وعلا- {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ}[الأنبياء:88] فَاسْتَجَبْنَا لَهُ استجابة الرب أنه أجاب طلبته -سبحانه وتعالى- وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ الغم هو الهم الثقيل الذي يقذف على القلب، والصدر . وهذا الغم الذي كان فيه يعني ذا النون غم لا يمكن وصفه من هذه الضيق، الضيق الشديد الذي كان فيه، والحالة العظيمة الذي كان فيها في بطن الحوت.
ثم قال -جل وعلا- وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ هذا تذكير من الرب -تبارك وتعالى- أن هذه الاستجابة ليست فقط بالنسبة نبي من أنبياء الله -تبارك وتعالى- بل كل من كان من أهل الإيمان؛ فإنه إذا التجأ إلى الله -تبارك وتعالى- وقال هذا الدعاء، واعترف بخطيئته؛ فإن الرب -تبارك وتعالى- يعنى ينجيه، قال: وَكَذَلِكَ يعنى وكذلك الإنشاء الذي كان أمر لا يمكن أن ينجي منه إلا رب العباد -سبحانه وتعالى- فإنه هذا حوت يعنى بهيم لكنه هو الله -تبارك وتعالى- يخاطبه، ويأمره، وأنه ابتلع يونس، ولا تعصره، ولا تهضمه إلا لحظات ممكن أن يهضم يعني في بطن الحوت، ويقتل في ثواني، ولكن يبقى، ويحفظه الله -تبارك وتعالى- على هذا النحو، وينجيه من هذه الظلمة التي وقع فيها على هذا النحو بما كفل له الله -تبارك وتعالى- من الحفظ، والرعاية، وأن يأمر الحوت أن يلقيه، وأن يقذفه على الشاطئ، يوصله إلى الشاطئ، أيضا كان لا يقذفه وسط البحر، وذلك بأنه يخرج بهذه الحالة من السقم، والمرض فيهلك، ولكن الله يقول بأنه يوصله الحوت بعد ذلك إلى الشاطئ يضعه في بر الأمان.
قال -جل وعلا- {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ}[الأنبياء:88] كذلك الإنجاء كما أنجى الله -تبارك وتعالى- عبده يونس على هذا النحو؛ فإنه ينجي عباده المؤمنين؛ ثم قال -جل وعلا- ذاكراً نبياً آخر عظيم من أنبياء بني إسرائيل، قال: {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ(89) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ}[الأنبياء:89-90] زكريا النبي من آخر أنبياء بني إسرائيل ؟[إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ] وذلك عندما علم أنه ليس هناك من يحمل أمانة النبوة بعده، لم يجد أحد ممن يحمل ذلك؛ فالتجأ إلى الله -تبارك وتعالى- وأنه قد كبر سنه، ورق عظمه، وأنه ليس هناك من يخلفه، كما قال -تبارك وتعالى- { ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3) قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6) يَازَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا}[مريم:2-6] فاستجاب الله -تبارك وتعالى- دعاءه على حين كبر سنه، وكبر زوجته، وعقمها كانت كبيرة، عجوز، وعقيمة كذلك، وهو قد كبر سنه، وشاخ، ولكن الله -تبارك وتعالى- خرق له هذه العوائد كلها، واستجاب الله -تبارك وتعالى- له وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا ليس له ذرية وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ طلب من الله -تبارك وتعالى- أن ينشئ الله -تبارك وتعالى- له ولداً يرثه، الميراث هنا ليس ميراث المال؛ فإنه لا يليق بنبي أن يخاف على ماله من وارثه من غير الصلب، كأن يرثه عمه، أو أخوه؛ فيدعو الله -تبارك وتعالى- بأن يرزقه ولد ليرث ماله، إن هذا لا يتأتى من أحد من الصالحين فضلاً عن أن يكون نبياً من أنبياء الله -تبارك وتعالى- وإنما التركة التي خشي عليها زكريا إنما هي الدين، والعلم، وأراد أن يورث هذا من يقوم من أبناءه لأنه لم يجد هناك من هو أهل لأن يتولى ذلك، وكانت بني إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي تبعه نبي؛ ثم إن زكريا نفسه كان رجلاً فقيراً؛ فقد كان نجارا، كل حرفته، وكل؟؟؟؟؟؟ نجار عليه السلام فلم يكن له ذلك المال الذي يخاف عليه، ويدعو الله -تبارك وتعالى- بهذا الدعاء ليخرق له العادة، ويقول أنت خير الوارثين هب لي ولد ليرثني، ليرثني ليرث من المال، لا، يستحيل أن يكون هذا. فمن ذهب لأنه يعني خشي على ماله، وأراد أن يقيم الله -تبارك وتعالى- من أبناءه من يرث ماله قد قال قولاً عظيماً يعني على هذا النبي، وعلى كل الأنبياء؛ فإن الأنبياء من شأنهم أن لا يورثوا أن ليس تركة الأنبياء، ليس تركتهم مال حتى يورثوه، إنما ميراث الأنبياء، ميراث الأنبياء هو الدين، هو الدين كما جاء في الحديث إن النبي لم يترك ديناراً، ولا درهم، وإنما ترك العلم؛ فمن أخذه أخذ بحظ وافر. فهذه دعوة زكريا إلى ربه -سبحانه وتعالى- الذى نادى ربه [رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ].
قال -جل وعلا- [فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ ] أن الله تبارك وتعالى استجاب له في التو، واللحظة، وأنه وهب له ولداً من صلبه، ومن زوجته ذلك العاقر، الكبيرة يَحْيَى سماه الله -تبارك وتعالى- بهذا الاسم، وسماه يحيى ليحيا، ليحي الله به القلوب، وهذا فيه اخبار من الله -تبارك وتعالى- أن، أنه سيورث هذا الدين، وبالفعل كان نبياً عظيماً من أنبياء الله -تبارك وتعالى- آتاه الله -تبارك وتعالى- الحكم، والنبوة من الصغر كما قال -تبارك وتعالى- {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا}[مريم:12] وهو صبي يستطيع أن يحكم على الأمور بحكم الله، وبالنور الذي يعطيه الله -تبارك وتعالى- إياه.
قال -جل وعلا- [وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ] إصلاح دنيوي، ولعله كذلك إصلاح للآخرة وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ فإن هذه الزوجة لم تكن مؤهلة لأن تنجب؛ فجعل الله -تبارك وتعالى- الولد منها [وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ ]
ثم قال -جل وعلا- إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ هذه ختام لهذه الطائفة العظيمة من هؤلاء الأنبياء بأنهم هؤلاء الأنبياء كانوا [يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ] والمسارعة يعني المسابقة كل يسابق الآخر في الخيرات، ومن يجد خير من الأمر الذى يحبه الله -تبارك وتعالى- فإنه يسارع فيه في قيام ليل، في الصلاة، في الصدقة، في زكاة، في بر، في إحسان، أي باب من أبواب الخير فهو يسرع فيه إلى الله -تبارك وتعالى-.
[ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ] يدعون الله -تبارك وتعالى- حال كونهم راغبين فيما عند الله -تبارك وتعالى- راهبين خائفين من عقوبة الرب -تبارك وتعالى- [وَكَانُوا لَنَا] لله -تبارك وتعالى- [خَاشِعِينَ] ثناء من الله -تبارك وتعالى- في ختام ذكر هؤلاء الأنبياء عن أحوالهم، وعن أحوالهم على هذا النحو جميعهم [إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ].
لنا عودة إن شاء الله لهذه الآية مرة ثانية في الحلقة الآتية.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي، ولكم من كل ذنب، وصلى الله وسلم على عبده، ورسوله محمد.