الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على عبد الله والرسول
الأمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، وعمل بسنته إلى يوم الدين.
وبعد أيها الإخوة الكرام، فيقول الله -تبارك وتعالى- {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً
وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ}[البقرة:138]، {قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي
اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ
وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ}[البقرة:139]، {أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ
إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطَ كَانُوا
هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ
مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا
تَعْمَلُونَ}[البقرة:140]،
{تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا
كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[البقرة:141]، يخبر -سبحانه وتعالى- عن
فضله وإحسانه إلى أمة الإسلام، أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-، وأن الله -تبارك
وتعالى- أنشأها على الدين القويم، وصبغها بصبغته -سبحانه وتعالى-، فجعلها أمة
محسنةً قائمةً بهذه المواصفات التي يحبها الله -تبارك وتعالى- لعباده المؤمنين،
بمثل قوله -جل وعلا- {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ
الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ
قَالُوا سَلامًا}[الفرقان:63]، {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ
لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا}[الفرقان:64]، {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ
جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا}[الفرقان:65]، {إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا}[الفرقان:66]، إلى آخر ما وصف الله -تبارك
وتعالى- به عباده، عباد الرحمن، وكذلك ما وصف الله -تبارك وتعالى- به نبيه محمد -صلى
الله عليه وسلم- والمؤمنين معه، فقال -جل وعلا- {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ
عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ
فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ
السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ
كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ
الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا}[الفتح:29]، فهذه الأمة الموصوفة بهذه
الصفات العظيمة المباركة قد اصطبغوا بصبغة الله -سبحانه وتعالى-، فالله صبغهم
بصبغة هذا الدين، وليس بالماء الأصفر الذي يصبغ به النصارى أطفالهم، ثم يخرجوهم به
ويقولون قد صبغناهم على دين النصرانية، فهذه هي الصبغة الحقيقية؛ صبغة الله.
قبل هذا قال -تبارك وتعالى- {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا
أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ
وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا
نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}[البقرة:136]، فهذا إعلان بأن أهل الإيمان
يؤمنون بكل رسل الله، ولا يفرقون بين رسولٍ ورسول، عكس اليهود الذين آمنوا ببعض
رسل الله، وكفَّروا البعض وسبُّوا الآخرين، وكذلك النصارى، قال -جل وعلا- {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا}،
إذا آمن اليهود والنصارى على هذا النحو بكل رسل الله -تبارك وتعالى-، ولم يفرقوا
بين رسولٍ ورسول، فقد اهتدوا هذه الهداية، {وَإِنْ
تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ}، هم مختلفون في أصل دينهم، يسبُّ
بعضهم بعضًا، يكفِّر بعضهم بعضًا، ثم {فَسَيَكْفِيكَهُمُ
اللَّهُ}، قال الله لرسوله إن الله سيكفيه إياهم، أي سيتولى هو بنفسه -سبحانه
وتعالى- حربهم، وإفشال سعيهم في إطفاء نور الله -تبارك وتعالى-، {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}،
{صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ
صِبْغَةً ........}[البقرة:138]، الله سيُقيم أمة قد اصطبغت بنوره، بهدايته -سبحانه وتعالى-،
وهل هناك صبغة أكمل وأبقى من صبغة الله -تبارك وتعالى-؟! {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً}، فهذه أمة
سيقيمها الله -تبارك وتعالى- مصطبغةً بدينه، لا تغيرها الشمس ولا تلوحها، وهؤلاء
لن ينالوها بشيء، {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ
صِبْغَةً وَنَحْنُ}، أي أهل الإسلام، {لَهُ}،
للرب -سبحانه وتعالى-، {عَابِدُونَ}، لربنا -سبحانه وتعالى-.
ثم قال -جل وعلا- ]، {قُلْ}، لهؤلاء اليهود والنصارى، {أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ
رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ }، {أَتُحَاجُّونَنَا}،
أي يا معشر اليهود والنصارى، والمحاججة هي أن يدلي كلٌ بحجته، {فِي اللَّهِ}، في الرب الإله -سبحانه وتعالى-، {وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ}، الحال أن الله -تبارك
وتعالى- رب الجميع، ربكم؛ خالقكم وإلهكم ومولاكم -سبحانه وتعالى- شئتم أم أبيتم،
فهو رب الجميع -سبحانه وتعالى-، وقد هدانا إليه -سبحانه وتعالى- وللإيمان به، وأما
أنتم فتحاجوهم في الله، فإن النصارى لم يهتدوا إلى إلههم كما الله -سبحانه
وتعالى-، وإنما زعموا له الولد، وكذلك لم يهتدي اليهود في الله -تبارك وتعالى- كما
الله -سبحانه وتعالى-، وإنما وصفوه بصفات لا تليق به -سبحانه وتعالى-، وهو ربنا
وربكم وهو رب الجميع -سبحانه وتعالى-، الأله الحق مالك الكل -سبحانه وتعالى-، {وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ}، فكلٌ
سيجازى بعمله، والحال أن النبي -صلوات الله والسلام عليه- عمله هو الإيمان
والتوحيد وتقوى الله -تبارك وتعالى-، وأما عمل هؤلاء فهو الشرك والكفر والصد عن سبيل
الله والكذب والافتراء في الدين، فهذا لكم ستحاسبون وفق هذا العمل، {وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ}، نحن للرب -سبحانه وتعالى-
مخلصون له، والإخلاص هو الصفاء الكامل، خلوص الشيء هو صفاؤه وجعله خالصًا من كل
شائبة، أي أن عبادتنا له وحده -سبحانه وتعالى- دون سواه، ومنه {........ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ}[الزمر:2]، أي اجعل دينك كله لله، فنحن عبادتنا كلها لله -تبارك
وتعالى-، وجهتنا كلها لله، {وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ}،
هذا فيه إعلان إلى اليهود وإلى النصارى أن يرجعوا إلى الرب -سبحانه وتعالى-، فإن
المسلمين لم يدعوا إلى إله غير الله -سبحانه وتعالى-، وإنما دعوا إلى الله، والذي
يزعمه اليهود ويزعمه النصارى أنهم ينتمون إليه، وأنه ربهم، وأنه خالق السماوات
والأرض، وأنه هو الذي أرسل لهم، فهذا إذن .. ارجعوا إليه، ولا تحاجوننا في الله
فهو ربنا، وهو الذي أنزل كتابه على النبي محمد -صلوات الله والسلام عليه-، فهو ربٌ
واحد غير متعدد، فإذا كنتم تؤمنون به حقًا فإذن اذعنوا لأمره، وسيروا وفق مراده –سبحانه
وتعالى-، فإنه هو الذي أرسل محمدًا -صلوات الله والسلام عليه- بالدين والرسالة، وكلٌ
سيجازى بعمله يوم القيامة، ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ونحن نعلن أننا مخلصون لله -تبارك
وتعالى- لا نشرك به شيء، ولا نرائي ولا نضع أنفسنا بالمنزلة التي نرفض بها الحق لأجلها،
كما الشأن في اليهود فإنهم رفضوا الحق لأن الرسالة قد تعدت بني إسرائيل إلى غيرهم.
قال -جل وعلا- {أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ
وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى}، وذلك أنهم قالوا كونوا هودًا أو نصارى تهتدوا، كل هذا
في معرض الرد على قول اليهود للمسلمين، إذا أردتم الهداية فكونوا يهود، وقال
النصارى للمسلمين كذلك بل ولغيرهم، إذا أردتم الهداية فكونوا نصارى، فهذا في معرض
الرد عليهم، يقول لهم الله -عز وجل- {أَمْ تَقُولُونَ}،
أي هل تقولون بأن {إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ
وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى}،
وذلك أنهم زعموا أن هؤلاء أي زعم اليهود أن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق والأسباط
كانوا يهود، وزعم النصارى أنهم كانوا نصارى، والحال أن اليهودية والنصرانية لم تكن
إلا بعد هؤلاء، فإن كلمة يهود إنما كانت بدين موسى -عليه السلام-، {إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ}، فسمي دين موسى باليهودية من
هنا، وأما النصرانية فإنها بدين عيسى، {الَّذِينَ
قَالُوا إِنَّا نَصَارَى}، على دين عيسى المسيح -عليه السلام-، وموسى وعيسى
إنما هم بعد إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط بزمن طويل، زمنهم ثلاثة آلاف
سنة بين هؤلاء وبين هؤلاء، فكيف يكون هؤلاء يهود أو نصارى! بل الحال أن هؤلاء لم
يكونوا يهودًا أو نصارى، وإنما كانوا مسلمين مناقدين مذعنين لله -تبارك وتعالى-، {أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ
وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطَ}، الذين هم أبناء يعقوب ومنهم تناسل
هذه القبائل، قبائل بني إسرائيل من هؤلاء الاثنى عشر، {كَانُوا
هُودًا أَوْ نَصَارَى}، هل هؤلاء كانوا هودًا أو نصارى؟ كيف يكونوا هودًا
أو نصارى واليهودية والنصرانية لم تكن إلا بعدهم، {قُلْ
أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ}، عندما تحكمون بأن هؤلاء كانوا هودًا أو
نصارى، هل أنتم أعلم بحال هؤلاء؟ أم الله الذي يخبركم -سبحانه وتعالى-.
ثم قال -جل وعلا- {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ
اللَّهِ}، سؤال يراد به التقريع والتأنيب، أو التقرير حتى يقال لا أحد
أظلم، {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً
عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ}، عنده علم وشهادة لله -تبارك وتعالى- عنده ثم
يكتمها، يكتم الحق، وذلك أنهم كانوا يعلمون أن اليهودية والنصرانية إنما كانت بعد
ذلك، بعد هؤلاء، فكيف يكون إبراهيم يهودي! واليهودية إنما كانت في آخر نسله في
موسى، أو كيف يكون نصراني! وعيسى من آخر نسله، هذا أمرٌ لا شك أنه كذب وافتراء، فعندهم
العلم ولكنهم يقولون هذا مكابرةً، حتى للحس وللعقل يكتمون شهادة الله -تبارك
وتعالى-، فلا أحد أظلم من هذا؛ أظلم ممن كتم شهادةً عنده من الله، ثم هددهم الله -تبارك
وتعالى-، قال {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا
تَعْمَلُونَ}، ليس الله -تبارك وتعالى- غافل عمَّ تعملون، بل هو العليم
الخبير -سبحانه وتعالى- بما يفترونه وما يكذبونه وبدعواهم الكاذبة التي يدَّعونها.
ثم قال -جل وعلا-
مرةً ثانية {تِلْكَ أُمَّةٌ}، تلك الأمة التي
تتمسكون بها وتقولون نحن أبناء إبراهيم ونحن من ذريته -تلك أمة-، ما وصفها هنا؟ {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ}، أي بالبعيد رِفعةً لهذه
الأمة، هذه الجماعة من الأنبياء والمرسلين قد خلت انتهت، ذهبت بعملها الصالح إلى
الله -تبارك وتعالى-، {لَهَا مَا كَسَبَتْ}، ما
كسبوه من الخير هو لهم، ولا ينتقل هذا لأبنائهم إن كان الأبناء على غير ما كان
عليه الآباء، {وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ}، لكم
أنتم كسبكم تحاسبون عليه، {وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا
كَانُوا يَعْمَلُونَ}، لا يسألكم الله -تبارك وتعالى- عن عملهم الذي عملوه، هذه تكرير لهذه الآية
في هذا الموطن لتأكيد الأمر الذي ينبغي تأكيده لهم، وذلك أنه يبطل أصل الدعوة التي
يدَّعونها، وهي أنهم ما داموا أنهم من أبناء الصالحين فهم على صلاح، وما دام أنهم
من أبناء المباركين فيهم مباركون مثلهم، فأخبرهم الله -تبارك وتعالى- أن كل إنسان
سيحاسب بعمله هو، وأنه لن يستفيد بعمل آبائه إن كانوا هو على غير دين هؤلاء الآباء
من الصلاح والتقوى، {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا
مَا كَسَبَتْ}، لهذه الأمة ما كسبت، {........
وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[البقرة:141]، وبهذا يكون قد حسم
كل ما ادَّعاه اليهود والنصارى من الدعاوى التي ادَّعوها، في أنهم أهل الهدى
وحدهم، وأنهم على الدين الحق، وفيما ذرُّوه من الشبهات في وجه النبي -صلوات الله
والسلام عليه-.
وتدخل سورة البقرة
بعد ذلك في فاصل جديد من تثبيت ادعائهم هذا الدين، هذا المرسل به النبي -صلوات
الله والسلام عليه-، ويبدأ هذا بتثبيت القبلة، القبلة هي مركز الإسلام، وهي العلم
المرفوع الذي يتجه إليه أهل الإسلام خمس مرات في يومهم وليلتهم، كل مسلم يجب
وجوبًا أنه يتجه خمس مرات في اليوم إلى هذا العلم الظاهر، فالله -تبارك وتعالى-
جعل للمسلمين مركز، قبلة تتوجه وجوههم من كل مكان إليها، في كل بقعة من العالم
إليها، قبلة الصلاة؛ والصلاة أشرف أعمال المسلمين، هي أشرف أعمالهم، أعلى عمل
للمسلم هي الصلاة، خير ما وضِع لأهل الأرض الصلاة، فيتوجه في صلاته لا يصلي لأي
جهة وإنما يتوجه في صلاته وجوبًا إلى هذا العلم المنصوب، القبلة المنصوبة التي هي
منارة يتوجه إليها كل مسلم، في وجهه بصلاته إليها، هذه القبلة مركز للمسلمين
يجتمعوا حوله، تؤلف بين وجوههم، وتؤلف كذلك بين قلوبهم، وتجعلهم كالأمة الواحدة
لأنها المجتَمِع على علمٍ واحد، أول ما أُمر النبي أن يصلي أُمر أن يتوجه إلى بيت
المقدس وهو بمكة -صلوات الله والسلام عليه-، هو بيت المقدس كان هو القبلة التي
لليهود، ثم القبلة بعده للنصارى في بيت المقدس، ولكن النصارى بعد أن خالفوا
اليهود، حمَّل النصارى اليهود تَبِعة قتلهم للإله عندهم، ظنوا أنهم هم الذين صلبوا
المسيح، وأن إلههم قد صُلب على الخشب على هذا النحو، فكفَّروا اليهود وكفَّروا
نسلهم كله إلى يوم القيامة، وأنهم ملعونون بذلك، وأصبحت من كراهيتهم لليهود فإنهم
غيروا الدين، وغيروا الشريعة، وغيروا القبلة، كان من شأن هذا أن غيروا القبلة،
فجعلوا قبلتهم إلى الشرق مطلقًا، أي نصراني إذا صلى يصلي إلى جهة طلوع الشمس، وغيروا
القبلة التي كانت لهم في الأول التي هي قبلتهم في بيت المقدس.
لما بعث الله نبيه
محمد -صلوات الله والسلام عليه- وأُمر بالصلاة، أُمر أن يصلي أولًا إلى بيت
المقدس، ثم لما هاجر النبي إلى المدينة وبعد ستة عشر شهرًا من بقائه في المدينة،
أمره الله -تبارك وتعالى- أن يتحوَّل عن هذه القبلة، التي هي قبلة بيت المقدس إلى
البيت الحرام في مكة، وكانت هذه فتنة عظيمة لبعض المسلمين، وكانت فرصة عظيمة
لهؤلاء الكافرين من اليهود والنصارى، في أن يلقوا بأعظم شبهاتهم نحو الإسلام، فقد
انتهزوا الفرصة، وقالوا بأن محمد -صلى الله عليه وسلم- ليس على بينة من أمره، فإنه
قد اتجه إلى بيت المقدس زمانًا، ثم أشاد بالأنبياء والمرسلين الذي أُرسلوا في هذا
المكان، إبراهيم وقد كان هو قبلة من بعده لذريته، وقبلة موسى وقبلة عيسى، ثم
تحوَّل عن قبلة الأنبياء ووجهها إلى البيت الحرام، وظنوا أن البيت الحرام -الكعبة-
إنما هي من صناعة المشركين العرب، وأنها لا تمت إلى الدين، فقالوا هذا محمد ليس
على بينة من أمره، وقد غيَّر القبلة؛ والقبلة جعلوها هي التبديل والتغيير القبلة
جعلوها هي أكبر دليل على عدم الثبات في الدين، وعلى أنه هدم للدين الأول كله، فكيف
يغيِّر الإنسان وجهه للصلاة من هنا إلى هنا، أصبحت هذه شبهة كبرى.
وجاء هذا الفاصل هذا
الفاصل من هذه السورة من أول قول الله -تبارك وتعالى- {سَيَقُولُ
السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا
عَلَيْهَا ........}[البقرة:142]، إلى أن حسم الله -تبارك وتعالى- هذا الأمر بالحُجج
البيَّنة، التي تبين حكمة الله -تبارك وتعالى- في توجيه النبي أولًا إلى القبلة
الأولى، ثم توجيهه إلى هذه القبلة الثانية، قبلة المسجد الحرام، ولماذا اختار الله
-تبارك وتعالى- للمسلمين هذا المسجد الحرام، قال تعالى {سَيَقُولُ
السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا
عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى
صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}[البقرة:142]، {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ
مِنَ النَّاسِ}، هذا أخبر الله -تبارك وتعالى- أنهم سيقولونه قبل أن
يقولوه، حتى يهيئ الأذهان لهذه الشبهة التي ستقال، وكيف الرد عليها، وذلك أنه أمرٌ
عظيم، فالله -تبارك وتعالى- قوله سيقول أنهم لم يقولوا إنما سيقولونه، فاعلموا
الرد على هذه الشبهة قبل أن يلقيها هؤلاء الكفار، السفهاء جمع سفيه؛ والسفيه هو
الطائش، الذي لا لبَّ له، خفيف العقل ضعيف الفهم، من الناس وهؤلاء هم اليهود
وأشباههم، الذين أثاروا هذه الشبهة في وجه أهل الإسلام، {سَيَقُولُ
السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ
قِبْلَتِهِمُ}، ولاهم عن قبلتهم أي حوَّلهم، ، {عَنْ
قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا}، وكان النبي يصلي إلى بيت المقدس
في مكة، مدة بقائه في مكة كلها، ثم في المدينة ستة عشر شهرًا صلى في المدينة إلى
بيت المقدس، ثم بعد ذلك أمره الله -تبارك وتعالى- بالتوجه إلى المسجد الحرام.
قال --جل وعلا- {قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ}، هذه الجهات
كلها لله -تبارك وتعالى-، والتوجه في الصلاة إنما هو جهة، إنما هو التوجه إلى جهة،
{قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ}، شرق
الأرض وغربها، مشارقها ومغاربها، كل الجهات هي خلق الله -تبارك وتعالى-، {قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ}، وما دام أنها
لله؛ والله هو الذي أمر عبده ورسوله محمد بالتوجه، بحيث يقول له وجِّه وجهك في
الصلاة يوجِّه وجهه، وإذا توجه لهذه الجهة توجه إلى الله -تبارك وتعالى-، وإذا
توجه إلى هذه الجهة توجه إلى الله، وهذه الجهة لله وهذه الجهة لله، وهو عاملٌ بأمر
الله، فما الأمر في هذا؟! فمن السفاهة الاعتراض على هذا الأمر مادام أنه من أمر
الله -تبارك وتعالى-، وأنه هو الذي يوجه عبده ورسوله حيث يشاء –سبحانه وتعالى-، {قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ
إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}، وهذا بيان أن القبلة التي هدى الله -تعالى-
النبي إليها إنما هي هدى من الله -تبارك وتعالى-، هدى بها نبيه إلى صراطٍ مستقيم،
أما لماذا كانت قبلة قبلها؟ اختارها الله لرسوله ثم حوَّله إليها يأتي الحكمة في
هذا، أن هذا الأمر فيه حكمة، في أن الله -تبارك وتعالى- يأمر نبيه بأن يتوجه أولًا
إلى بيت المقدس ثم يحوِّله، وسيأتي الحكمة في هذا، وهو أن الله -تبارك وتعالى- قد
جعل هذا نوع من الاختبار والابتلاء لعباد الله المؤمنين، هل يستجيبوا أم لا؟ وإلا
فإن الله -تبارك وتعالى- قد قضى وقدَّر منذ الأزل، وأنه يعلم أنه سيوجه رسوله إلى
هذه القبلة الثانية، قبل أن يأمره بأن يتوجه إلى القبلة الأولى، فلم ينشأ عند الله
-تبارك وتعالى- علم لم يكن يعلمه، وظهر له شيء كان يجهله، تعالى الله عن ذلك، ولكن
الله يعلم أنه سيوجه نبيه بعد القبلة الأولى إلى هذه القبلة، اختارها له والقبلة
التي ستبقى وتستمر مع المسلمين إلى آخر الزمان، يعلم الله هذا ولكن له حكمة في أنه
وجهَّه إلى القبلة الأول قبل ذلك.
قال -جل وعلا- {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا
شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا
جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ
الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا
عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ
اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ}[البقرة:143]، أجمل الله -تبارك وتعالى-
في هذه الآية الحجة الدامغة، التي تدمغ هذه الشبهة، فبيَّن -سبحانه وتعالى- أولًا
قال
{يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}، {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ
أُمَّةً وَسَطًا}، هذا أول شيء، من هداية الرب -تبارك وتعالى- لهذه الأمة
أن جعها أمةً وسطا، فاختيار مكة لتكون القبلة لأنها مركز العالم وسطهُ، نقطة
المحور في الأرض كلها، هذه نقطة المحور في الأرض كلها، في كل الأرض هذا محورها؛
محور الأرض الذي دحيت منه الأرض، والذي تلتف الأرض كلها، وإذا رأينا هذه الأرض
البسيطة التي نحن عليها، والكرة التي نحن عليها، وجدنا أن محورها هو مكة المكرمة،
محورها وسطها تمامًا، {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً
وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ}،
وكذلك جعلناكم أيها المؤمنين أمة وسطا، وسطًا عدولًا، الوسط هو العدول أي أهل عدل،
أقامكم الله –تبارك وتعالى- لتكونوا في أمة عادلة، من أهل العدل، وأنه من عدلهم
أنهم يشهدون على كل الأمم، {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى
النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ
شَهِيدًا}، تكونوا شهداء على الناس بما أنزل الله
-تبارك وتعالى- عليكم من دينه، ويكون الرسول عليكم شهيدًا إذ شهادته عند الله -تبارك
وتعالى- لا شك مقبولة، فيشهد لمن أطاعه بالجنة، ولمن عصاه بالنار.
فكَون أهل الإسلام
يجعلهم الله -تبارك وتعالى- في هذا المكان المتوسط من الأرض، هذا إذن يسهِّل
مهمتهم في الشهادة على الناس، لأن المركز هو النقطة التي يجتمع عليها أهل الأرض، أما
إذا كانت هذه القبلة في مكن أخر مكان متطرف، فإنه يصبح بعيدًا على البعيد عن هذا
الطرف، أما الوسط فهو أقرب نقطة إلى كل الأطراف، فالله -تبارك وتعالى- جعل الأمة
وسط في المكان، وهي أمة وسط كذلك عدول في الخلق وفي الاستقامة وفي الصفات، فهم
عدول واختار لهم الله -تبارك وتعالى- هذا المكان الوسط في الأمم، وهو كذلك ليقيمهم
الله -تبارك وتعالى- شهداء على الناس جميعًا، ناسهم، زمانهم الذي يعيشون فيه وكل
الأزمنة، كما قال النبي -صلوات الله والسلام عليه- «يأتي نوح فيسأله الله -تبارك
وتعالى- هل بلَّغت؟ فيقول إي ربي نعم، فيقول له من يشهد لك؟ فيقول أمة محمد، ثم
يؤتى بكم فتشهدون»، فأمة محمد تشهد لنوح على قومه، وتشهد لهود على قومه، وتشهد لكل
نبي على قومه بشهادة الله -سبحانه وتعالى-، وذلك أن الله أنزل عليها كتابه وفيه
أخبار كل الأمم، وأخبار كل الرسالات، والأمة تشهد بشهادة الله -تبارك وتعالى- لأن
الله لا يقول إلا حقًّا -سبحانه وتعالى-، {وَكَذَلِكَ
جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا}، عدولَ، {لِتَكُونُوا
شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ}، يعلي الله منزلتكم فتشهدون على الناس جميعًا، {وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}.
ثم قال -جل وعلا- {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ
مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ}، أي أن
الله -تبارك وتعالى- ما أمرك يا محمد بالتوجه إلى بيت المقدس في أول الأمر، طيلة
هذه المدة سنوات إقامة النبي في مكة، وستة عشر شهرًا من هجرته إلى المدينة، {إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ}، يعلم
الله أنه سيحوِّلوك في القبلة إلى البيت الحرام، وأراد الله -تبارك وتعالى- أن
يعمل اختبار للمؤمنين، هل يتبعوا الرسول في هذا لأمر أم يشكُّوا فيه، أم إذا قال
لهم لا القبلة تحوَّلت، أمرني الله -عز وجل- أن أتحول من بيت المقدس إلى الكعبة،
فتشك في هذا الأمر، ويتغير نظرها إلى النبي -صلوات الله والسلام عليه-، فالذي يكون
من أهل الثبات والصدق والتصديق للنبي لا يُزلزله هذا الاختبار، وأما من كان في
قلبه شكٌ وضعف فإنه ينقلب على عقبيه، {وَمَا جَعَلْنَا
الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ}، عِلم هنا يترتب
عليه الحساب، وليس علمًا عن جهل، بل علمٌ يترتب عليه الحساب، {إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ
يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ}، ثم قال الله -عز وجل- {وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى
الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ
اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ}، في هذه الآية مزيد شرح وتفسير
وتفصيل، نرجئه إلى الحلقة الآتية -إن شاء الله-.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد.