الجمعة 29 ربيع الآخر 1446 . 1 نوفمبر 2024

الحلقة (392) - سورة الأنبياء 102-107

إنَّ الحمد لله, نحمده ونستعينه ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا, مَن يهديه فهو المهتدِ, ومَن يضلل فلن تجد له وليًا مرشدًا, وأشهد ان لا إله إلَّا الله وحده لاشريك له, وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

وبعد... كنا وقفنا في الحلقة الماضية عند قول الله -تبارك وتعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ}[الأنبياء:101-106]: يخبر -سبحانه وتعالى- أن عباده الذين اختصهم الله -تبارك وتعالى- برحمته وكتب في سابق علمه -سبحانه وتعالى- هدايتهم وتوفيقهم من الرسل والأنبياء وأتباعهم من المؤمنين هؤلاء الذين سبقت لهم من الله -تبارك وتعالى-الحسنى أن تكون لهم الجنة, ويكون لهم الطريق الحسن إلى الله -تبارك وتعالى- قال -جل وعلا- أُوْلَئِكَ عَنْهَا: أي النار مُبْعَدُونَ: وهذا رد على هؤلاء الذين قالوا إنا عبدنا الملائكة فهل يكونون في النار, وأولئك الذين النصارى عبدوا عيسى بعد قول الله -تبارك وتعالى-: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ}[الأنبياء:98-99], قال -جل وعلا-: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ}[الأنبياء:101-102]: أي في الجنة خالدون, لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ: الموقف كله فزع, ولكن أكبر أحداثه هو مجئ النار إلى  الموقف {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى}[الفجر:23], وقد قال -صلى الله عليه وسلم- بأنها تجر لها سبعون ألف زمام في كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها, فإذا رآها الناس كان هذا هو الهول الأكبر والفزع الأكبر, لا يحزنهم هذا لأنهم قد طمئنوا من الله -تبارك وتعالى- أولا عند الموت, ثم عند الخروج من الموت لا يحزنهم الفزع الأكبر وتتلاقاهم الملائكة بعد أن يخرجوا من قبورهم هذا يومكم الذي كنتم توعدون: هذا اليوم هو اليوم الذي كنت توعد, يقول ملك للمؤمن عندما يخرج من قبره أبشر هذا يومك الذي كنت توعد فقد أتاهم موعود الله -تبارك وتعالى- وموعود الله -تبارك وتعالى- الرحمة لا يتخلف لا يمكن أن يخلف الله -تبارك وتعالى-وعده فيهم كما قال -جل وعلا-: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ }[يونس:62] لهم البشرى في الحياة الدنيا يبشرهم الله -تبارك وتعالى-وذلك عند الموت {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ}[فصلت:30]: تتنزل عليهم ملائكة عند الموت ألا تخافوا على ما أنتم مقدمون عليه ولا تحزنوا على ما تخلفونه خلفكم فهؤلاء يبشرون عند خروجهم هذه بشرى بعد بشرى فلذلك لا يحزنهم الفزع الأكبر وتتلقاهم الملائكة هذا يومكم الذي كنتم توعدون, ثم أخبر -سبحانه وتعالى- عن حال هذا الكون المشاهد قال: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ}[الأنبياء:104]: هذا اليوم العظيم يوم القيامة يخبر -سبحانه وتعالى- أنه يطوي السماء كطي السجل للكتب, الطي هو أن تلف بعضها حول بعض, وشبه الله -تبارك وتعالى- طيها لتقريب المعنى البشر قال كطي السجل للكتب السجل هو الورق المكتوب فيه شيء والكتب ما يكتب فيه ويكتب في ورقة ثم تطوى هذه الورقة يلف بعضها على بعض, فهذه السماوات العظيمة التي هي سبع سماوات طباقا كما أخبر الله -تبارك وتعالى- الله -تبارك وتعالى- يطويها فيطوي طرف السماء حتى تطوى السماء كلها الأولى, ثم تزاح ثم الثانية ثم إلى السابعة وهذه القدرة الإلهية -سبحانه وتعالى- الرب الإله الذي لا إله إلا هو كما قال -سبحانه وتعالى- عن نفسه {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}[الزمر:67], فهذا الرب العظيم الذي تصبح هذه الأرض كبيرة والسماء التي أعظم من الأرض والأرض بالنسبة للسماء كحلقة في فلاة كلها في قبضة الرب -تبارك وتعالى- فهو الرب العظيم الكبير الله أكبر لا أكبر من الله -تبارك وتعالى- الله أكبر من كل خلقه ومن كل مخلوقاته -سبحانه وتعالى- ويقول ابن عباس -رضي الله تعالى عنه- وما السماوات السبع والأرضين في كف الرحمن كخردلة في يد أحدكم مثل خردلة الإنسان إذا وضع في يده حبة الخردل الصغيرة, فهذا للتقريب والتشبيه الله -تبارك وتعالى- أعظم من هذا, وجاء في الصحيحين أن النبي -صلى الله عليه وسلم- «صعد يوما المنبر فقال: إن الله يضع السموات على إصبع والأرضين على إصبع والخلائق على إصبع والماء والثرى على إصبع ثم يحركهن ويقول أنا الملك» فالله هو الملك -سبحانه وتعالى- وهذا الخلق بالنسبة إليه خلق صغير حقير وهذا صنيعه -سبحانه وتعالى- كما بدأ الله -تبارك وتعالى- الخلق يعيد الله -تبارك وتعالى- هذا الخلق إلى حالته الأولى فهل يكون هذا المعنى بالنسبة لهذه ترجع هذه كتلة السماء إلى حالها الأول وبعد هذا الانتشار كما قال -سبحانه وتعالى-: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ}[التكوير:1], {وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ}[التكوير:2], {وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ}[التكوير:3], {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ}[التكوير:6]: فإذا الشمس كورت تكور أنها تلف ويذهب ضوئها يتداخل بعضها ببعض ويذهب ضوئها هذه الشمس المتوهجة المضيئة التي يحصل فيها هذه الانفجارات العظيمة وهذا الضوء العظيم هذه تطفئ ويجمع بعضها على بعض, وهذه النجوم الزاهية المشتعلة تنكدر تصبح مثل الكدرة تعود مرة ثانية إلى أصلها الذي كانت عليه قال -جل وعلا-: وَعْدًا عَلَيْنَا: هذا الأمر العظيم الفظيع الكبير الذي لا تتصوره عقول البشر المخاطبين كيف هو سيكون كما أخبر الرب -تبارك وتعالى- وعدًا علينا: وعد على الله, الله هو الذي وعد به وهو حق على الله -تبارك وتعالى- قد حقه لابد من أن ينفذه الله -تبارك وتعالى- ويقضيه, إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ: إنا الرب -سبحانه وتعالى-كنا فاعلين لما نعد به ولما نأمر به فلا يمكن أن يعد الله -تبارك وتعالى- بأمر ثم يتركه -سبحانه وتعالى - بل الله -تبارك وتعالى- سيفعل هذا الذي يقوله ويتوعد به -سبحانه وتعالى-.

 ثم قال -جل وعلا-: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ}[الأنبياء:105]: الله الذي كتب -سبحانه وتعالى- في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون, في هذه الآية علماء التفسير مجموعة من الأقوال, منها في الزبور قول الظاهر الزبور: الكتاب المنزل على داوود -عليه السلام- وهذا الكتاب لم يكن كتاب أحكام وإنما كان كتاب ذكر ومواعظ, ولذلك كان يقرأ داوود -عليه السلام- ويترنم به, وإلا فكتاب التشريع هو التوراة وداوود -عليه السلام- من أنبياء بني إسرائيل كان يحكم بالتوراة المنزلة قبله على موسى -عليه السلام- وأنزل الله -تبارك وتعالى- عليه هذا الكتاب كتاب ذكر ودعاء ومواعظ, فقالوا لأن الزبور هنا الكتاب المنزل عليه وأن الله -تبارك وتعالى- كتب فيه من بعد الذكر, أي من بعد التوراة, والتوراة ذكر أن الله -تبارك وتعالى- أنزلها ذكرا فيها الأحكام وفيها التذكير وفيها كذلك المواعظ المقارنة لهذا الأمر كما قال -تبارك وتعالى-: { وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ ........}[الأعراف:145]: فأمر كل مفصل من الأحكام مم يأخذ ومم يترك ومن تفاصيل العبادة ثم أنها مقترنة بالموعظة, أي افعل هذا وإلا, لا تفعل هذا وإلا, فتكون كل هذه الأوامر والنواهي مقترنة بالوعد والوعيد كما شأن في إنزال هذا القرآن وهذا الفرقان فإن الله -تبارك وتعالى- أنزله موعظة وذكر وكتاب أحكام وأحكام ليست الحكم مجرد كأن يقال عليكم أن تفعلوا كذا وكذا وكذا واتركوا كذا وكذا لا بل أوامر الله -تبارك وتعالى- مقترنة بالوعد والوعيد كل أمر ينزله الله -تبارك وتعالى- وكل نهي إنما يكون الله -تبارك وتعالى- بالوعد والوعيد بما يكون من وراءه وبيان هذا الأمر ولما يفعل وما هي تعليل الحكمة منه فالقرآن نزل على هذا النحو أن الله -تبارك وتعالى- كتب في الزبور الكتاب المنزل على داوود -عليه السلام- من بعد الذكر من بعد التوراة أن الأرض يرثها عبادي الصالحون, قيل أيضًا الأرض هنا هذه أرض الدنيا التي يعيش عليها الناس, ومعنى يرثها عبادي الصالحون أن العباد الصالحين هم الذين يرثوها بعد أن يهلك الله -تبارك وتعالى- الظلمة وأنها تبقى الأرض للسكنى الصالحين يعيش عليها الظالمون مدة معينة, ثم إن الله -تبارك وتعالى- يهلكهم ويستخلف من بعدهم أهل الصلاح والتقوى, وهذا القول بالنسبة للأرض يشهد له القرآن قول آخر لقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر: الزبور المكتوب, وقالوا هذا ليس خاصًا بالكتاب المنزل على داوود وإنما الكتب التي أنزلها الله -تبارك وتعالى- وقد جاء في القراءة الثانية في الزبور جمع زَبَرَ وهو الكتب المنزلة من الله -تبارك وتعالى- من بعد الذكر من بعد أن كتب الله -تبارك وتعالى- هذا في اللوح المحفوظ فقال الذكر هنا هو اللوح المحفوظ, أي أن الله كتب هذا في اللوح المحفوظ وأنزله في كل مزبور, وكتاب زُبِرَ كتب على الرسل بهذه الحقيقة وهي أن الأرض يرثها عبادي الصالحون الأرض الدنيا هذا المعنى, على كل حال قد جاء مبينًا مفصلاً وهو أن الله -تبارك وتعالى- دائماً يهلك الظلمة ويستخلف من بعدهم أهل الصلاح كما الشأن في قوم نوح أول أمة من أمم الأرض أرسل فيهم عبد الله ورسوله نوح -عليه السلام- فإنهم لما خالفوا أمر الله -تبارك وتعالى- بعد أن دعاهم نوح ما دعاهم ويئس بعد ذلك من قبولهم للحق وقال مشتكيًا للرب -تبارك وتعالى-: {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا}[نوح:26-27]: فإن الله -تبارك وتعالى- أزالهم عن وجه الأرض أهلك كل هؤلاء الظلمة الكفرة ثم بقيت الأرض لا يسكنها إلا أهل الصلاح, ثم انتشر أهل الصلاح ما انتشروا ي لما وقع الفساد بعد ذلك كل أمة أرسل الله -تبارك وتعالى- فيها رسولها يدعوها إلى الله -تبارك وتعالى- ثم إنه كان في نهاية المطاف يهلك الله -تبارك وتعالى- الكافرين ويستبقي الله -تبارك وتعالى- أهل الإيمان وقال -جل وعلا-: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ}[إبراهيم:13-14]: فهذه مقالة أعداء الرسل للرسل لما قالوا لهم وأرادوا أن يستفزوهم وقالوا لهم لنخرجنكم من أرضنا قالوا جعلوا هذه الأرض أرض الله -عز وجل- جعلوها أرضهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا فهذه قد كانت سنة الله -تبارك وتعالى- الجارية في عباده بأنه يهلك الكفرة ويسكن أهل الإيمان الأرض من بعدهم هذا شأن الله -تبارك وتعالى- في كل الرسالات, المعنى الثاني للأرض هو أرض الجنة ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون أرض الجنة يرثها عباد الله -تبارك وتعالى- الصالحون كما في قول الله -تبارك وتعالى-: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ}[الزمر:73-75]: فيخبر -سبحانه وتعالى- في هذه الآيات أنه في نهاية المطاف الآخرة أن كل المتقين تسوقهم الملائكة إلى الجنة ويدخلون الجنة, وعندما يدخلون الجنة يذكروا موعود الله -تبارك وتعالى- يقول الحمد لله الذي صدقنا وعده الذي وعده وأنزله في الكتب المنزلة من عنده -سبحانه وتعالى - وأورثنا الأرض, الأرض هنا أرض الجنة أرض الجنة نتبوأ من الجنة حيث نشاء قال -جل وعلا-: فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ: الملائكة حافين من حول عرش الله -تبارك وتعالى- يسبحون بحمد ربهم, فالقول الثاني في الأرض هنا أنها أرض الجنة ولا شك أن هذا حق وهذا حق, ولكن في سياق الذي هو هنا هو أن الله -تبارك وتعالى-سيورث عباد الله -تبارك وتعالى- المؤمنين الأرض من بعد الكافرين {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ }[الأنبياء:105-106]: إن في هذا الوعد المذكور وهو الذي أنزله الله -تبارك وتعالى- في كل هذه الكتب المنزلة منه -سبحانه وتعالى- على عباده المرسلين وعد الله للكل هذا وعد الله لجميع الرسل, إن هذا العاقبة لكم العاقبة للمتقين, لابد وهذه العاقبة في الدنيا وكذلك العاقبة في الآخرة فإن الله يرثهم الأرض بعد هلاك الظالمين أرض الدنيا وكذلك يورثهم أرض الجنة بعد أن يدخل هؤلاء المجرمين إلى النار إن في هذا: هذا وعد الله -تبارك وتعالى- الصادق الذي لا يتخلف هذا موعود وهذا حكمه -سبحانه وتعالى- والله قد كتبه ودونه وسجله في اللوح المحفوظ أولاً, وأنزله في الكتب أمر مفروغ منه فهذا أمر مفروغ منه وقد دونه الله -تبارك وتعالى- وكتبه, إن في هذا لبلاغ لقوم عابدين: بلاغ رسالة تبلغهم وتصل وبليغة تصل إلى القلوب لكن لقوم عابدين هؤلاء فقط هم الذين يستفيدون بهذا البلاغ وبهذه الرسالة الذين عبدوا الله -تبارك وتعالى- ذلوا له وخضعوا له وآمنوا به هؤلاء هم الذين يستفيدون بهذا الموعود العظيم من الله -تبارك وتعالى-.

ثم قال -جل وعلا-: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}[الأنبياء:107]: وجه الله -تبارك وتعالى- الخطاب للنبي -صلى الله عليه وسلم- وهو بيان وإعلان للجميع وما أرسلناك يا محمد إلا رحمة للناس أجمعين, وذلك أولاً من معاني هذه الرحمة أن الله -تبارك وتعالى- أرسله إلى الناس كلهم فهو ليس رسول لأمة من الأمم محدودة دون سائر أمم الأرض,بل أرسله الله -تبارك وتعالى- إلى كل أمم الأرض من وقته وإلى قيام الساعة فكما قال -جل وعلا-: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}[الأعراف:158], فهو أولاً رسول الله إلى الخلق كلهم -صلوات الله والسلام عليه- مبين الحق يأتي ببيان الحق للجميع ليفهمه الكل كتاب مقروء لا يمحوه الماء حفظه الله -تبارك وتعالى- ميسر للذكر {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِر}[القمر:22], ونبي ظاهر الدلالة واضح تقوم كل الأدلة على صدقه وأمانته -صلوات الله والسلام عليه- تحتفي بهذا فهو مصدق لما قبله من الكتب مخبر بالأخبار العظيمة من بعده والتي تقع منذ بعد أحيانا يتكلم بأنه أمر مستقبلي سيكون بعد دقائق ويكون, كن فلان فيكون من الأمر الغيبي إلى قيام الساعة قد أخبر بما بينه وبين قيام الساعة بأحداث تكون آلاف الأخبار وكلها تقع في كل جيل يقع من إخباره نبأ صادق يدل على صدق هذا النبي -صلوات الله والسلام عليه- لتبقى معجزته قائمة عبر العصور في كل عصر يخبر النبي -صلى الله عليه وسلم-بخبر لن تقوم الساعة حتى يكون كذا لن تقوم الساعة حتى يكون كذا سيكون كذا سيكون كذا عبر العصور وإلى قيام الساعة, وكل ما حدث به -صلوات الله والسلام عليه- يقع كما حدث به تمامًا فهذه من أدلة وبراهين صدقه -صلوات الله والسلام عليه- وأنه رسول الله حقًا وصدقًا, ثم هذه البركات العظيمة التي أجراها الله -تبارك وتعالى- على يديه فلم يجري الله -تبارك وتعالى- في كل العصور والدهور من البركات العظيمة ما أجرى على يدي النبي محمد -صلوات الله والسلام عليه- من هداية الخلق إلى طريق الرب -تبارك وتعالى- ومن انتشالهم من الظلمات إلى النور, ومن هذه الأفعال الحسنة العظيمة التي تترتب على الإيمان كالصدق, والأمانة, والبر بالوالدين, والإحسان إلى الجار, والإحسان إلى الناس, وفعل الخير, واستقامة الأمر والكف عن الشر كله, فهذا أمر هداية هذه الخلق بهذه الصورة هذا أثر من آثار دعوته هذه المباركة وهذا الدين الذي جاء به -صلوات الله والسلام عليه- فأولاً أرسله الله -تبارك وتعالى- رحمة للعالمين أنه رسول من عنده -سبحانه وتعالى- مرسل برحمة الله بأن ينقذهم من الظلمات إلى النور كما قال, ومن السقوط في النار إلى طريق الجنة كما قال -جل وعلا-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}[آل عمران:102-103]: هذه منة الله -تبارك وتعالى- بإرسال هذا النبي الكريم -صلى الله عليه وسلم- الذي أنقذ الله -تبارك وتعالى- به هذه الأمم الكثيرة من السقوط في النار والهوي فيها إلى طريق جنة الرب -تبارك وتعالى-, فهذه الآثار العظيمة التي ترتبت على دعوته -صلى الله عليه وسلم- والخير الدنيوي, ثم الخير الأخروي بعد ذلك لئن يكون هؤلاء سلك بهم الطريق إلى جنة الله -تبارك وتعالى- ورضوانه كل هذا من معاني الرحمة, أما كون أن هناك من العالمين من لم يستفد بهذه الرحمة فنعم كثير من العالمين لم يستفد برحمة الله -عز وجل- الله أرسله رحمة للعالمين لكن كثيرون لم يستفيدوا بهذه الرحمة؛ لأنهم نبذوها وتركوها ليس لأنه ليس رحمة بل لأن هؤلاء نبذوا هذه الرحمة ولم يقبلوها فكل من رد على النبي أمره ولم يقبل دينه ولم يسر في هذا الطريق فقد قفل على نفسه باب هذه الرحمة, وقد شبه النبي -صلى الله عليه وسلم- مثله بالناس على هذا المثل قال: إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل بنى داراً وصنع فيها مأدبة ثم أرسل داعيًا فمن أجاب الداعي دخل الدار وأكل من المأدبة, وأما لم يجب الداعي لم يدخل الدار ولم يأكل من المأدبة, هذا مثل النبي –صلى الله عليه وسلم- في الأمة أن المثل أن الله -تبارك وتعالى- بنى هذه الجنة هذه الدار, الدار الجنة المأدبة هذه الجنة والدار الإسلام والداعي محمد –صلوا الله والسلام عليه- بنى الله -تبارك وتعالى-الجنة العظيمة هذه مأدبة الرب نزلا من ربي ضيافة الرب -سبحانه وتعالى- لأهل كرامته وهذه الدار الإسلام والداعي محمد -صلوات الله وسلامه عليه- أرسله ليدعو الناس جميعًا يقول للناس هلموا كلكم تعالوا ادخلوا هذه مأدبة الرب -تبارك وتعالى-, يقول النبي فمن أجاب الداعي دخل الدار دخل الإسلام وأكل من المأدبة دخل الجنة, ومن لم يجب الداعي لم يدخل الدار ولم يأكل من المأدبة, فالنبي مرسل إلى العالمين رحمة لهم لكن كثير من هؤلاء العالمين لم يقبلوا هذه الرحمة ولم يقبلوا هذه الكرامة لم يجيبوا الداعي: -محمد صلوات الله والسلام عليه-, ثم إن النبي أيضًا مثل نفسه بمثال آخر يقرب هذا المعنى فقال: إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد نارًا فصار يأتي هذا الفراش والدواب التي تقع في النار وهو يذبهن فصار يذبهن: أي يبعدهن عن النار, ثم يقول النبي فأنا آخذ بحجزكم وإنكم لتتفلتون مني, فيقول أنا مثلي ومثلكم كمثل رجل أوقد نار في البر ثم يأتي هذا الفراش وهذه الدواب التي عندما ترى النار تأتي وتقتحمها فتموت تحترق فهذا من حرصه على هذه الدواب صار يذب عن النار كل ما تأتي فراشة يبعدها لكنه لا يستطيع تأتي هذه الفراش وتقتحم النار رغمًا عنه يقول الني فأنا آخذ بحجزكم الحجزة: موضع الحزام في الوسط وإنكم بحزمكم حتى لا تقتحموا النار وإنكم لتتفلتون مني فالنبي كان هو كما قال -صلى الله عليه وسلم- وأنا النذير العريان, النذير الذي يفعل أي شيء ليستجيب الناس للدعوة لقد أنذر الناس وبين لهم وأخلص لهم تمام الإخلاص ونصح لهم تمام النصح لكن كثير لم يقبل نصحه -صلى الله عليه وسلم- فذهب إلى النار, {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}[الأنبياء:107].

اللهم ارحمنا به -صلى الله عليه وسلم-, واجعلنا من أتباعه في الدنيا, ومن أصحابه ورفقائه في الجنة.

أستغفر الله لي ولكم من كل ذنب, وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد-.