الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على عبده الرسول الأمين, وعلى آله وأصحابه, ومن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.
وبعد... فيقول الله -تبارك وتعالى-: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ}[الأنبياء:107-112]: هذه الآيات هي ختام سورة الأنبياء, هذه السورة العظيمة التي بدأها الله -تبارك وتعالى- بتصوير حال إعراض الناس عن هذه الرسالة العظمى التي أرسل بها نبيه محمد -صلوات الله والسلام عليه- التي تملك لهم السعادة في الدنيا والآخرة كيف أن الناس أهملوها وتركوها {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ}[الأنبياء:1-3]: فبدل من أن يقبلوا رسالة هذا النبي ويصدقوا به وقد قامت كل الأدلة على صدقه وأمانته -صلوات الله والسلام عليه- إذا بهم يجابهوه -صلى الله عليه وسلم- بأنه ساحر, ويرفضوا ما جاء به -صلوات الله والسلام عليه- وأنه كاذب, وأنه لو كان رسولاً حقاً لأتى بآية مثل ما أرسل به الأولون ورفضوا هذه الآية العظمى كتاب الله -تبارك وتعالى- المنزل لهم, ثم ذكر الله -تبارك وتعالى- في هذه السورة طائفة الأنبياء وأن شأن النبي محمد -صلوات الله والسلام عليه- شأنه شأن إخوانه كلهم من الرسل قص الله -تبارك وتعالى- بعد ذلك طائفة من رسل الله -تبارك وتعالى-, وبين الله -تبارك وتعالى- مع هؤلاء الرسل صنيعه الجميل بهم كيف أن الله -تبارك وتعالى- جعل العاقبة لهم على المعاندين والمكذبين, ثم وكأن هذا بيان إن هذا الرسول الذي عاندتموه وكذبتموه أيها العرب وأيها الأمم الذي بعث فيهم النبي سترون كيف تكون العاقبة لهم فشأنه هو شأن إخوانه هؤلاء الذين سبقوه من الرسل ولكن يزداد شأن النبي على أولئك الرسل بأن الله -تبارك وتعالى- أرسله للعالمين للكل فقال -جل وعلا-: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ: أي للنبي محمد -صلوات الله والسلام عليه- إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ قال الله -تبارك وتعالى- هذا بعد قوله -جل وعلا-: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ }[الأنبياء:105-106]: هذا حكم الله -تبارك وتعالى- في كل الرسالات في كل مزبور كتب ونزل على عبد من عباد الله -تبارك وتعالى- هؤلاء الصالحين الأنبياء والمرسلين بشرهم الله -تبارك وتعالى- بأن العاقبة لهم كما قال -جل وعلا-: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا ........}[إبراهيم:13], قال -جل وعلا-: {........ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ }[إبراهيم:13-14]: فهذا حكم الله -تبارك وتعالى- المؤمنون من قوم نوح وهم الذين ورثوا الأرض, والمؤمنون والصالحون من ثمود وعاد هم الذين ورثوا الأرض, وبنو إسرائيل ورثوا الأرض بعد أن أهلك الله -تبارك وتعالى- قوم فرعون, وهكذا في كل التاريخ كانت العاقبة للمتقين ووراثة للأرض للصالحين, وكذلك الشأن والحال أخبر -تبارك وتعالى- بأن الأرض سيرثها عباده الصالحين من هؤلاء الذين آمنوا بعبده ورسوله محمد -صلى الله عليه وسلم-, أخبر -جل وعلا- بأنه أرسل عبده ورسوله محمد رحمة للعالمين لكن هذه الرحمة المهداة للعالمين لم يقبلها, من قبلها دخل فيها, ومن لم يدخل فيها, هذا قد بيناه في تفصيل هذه الآية في الحلقة السابقة, وهناك قول لبعض المفسرين وهو أنه حتى الكافر النبي رحمة له بوجه ما وهو من رحمته كذلك تأخير العذاب, فإن الله -تبارك وتعالى- جعل للنبي هذا -صلوات الله والسلام عليه- محمد شيء اختصه عن سائر الرسل وهو أن كان الله -تبارك وتعالى- ينجيه وهو وأهل الإيمان ثم يهلك الظالمين والكافرين, أما بالنسبة لنبينا محمد -صلوات الله والسلام عليه- فإن الله -تبارك وتعالى- لم يشأ أن يهلك المكذبين به ما دام أن النبي موجود فلا يهلك الأمة الكافرة به {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}[الأنفال:33]: ما كان الله -سبحانه وتعالى- يعذبهم وأنت فيهم هذا رحمة من الله -تبارك وتعالى- لأهل العناد والكفر أنهم لا يعذبون في هذه الدنيا بالاستئصال والنبي -صلى الله عليه وسلم- موجود بين ظهرانيهم وكذلك بعد أن يتوفاه الله -تبارك وتعالى- طالما بقي أهل إيمان فإن الله -تبارك وتعالى- لا يستأصل الباقين من الكفرة, ولا يكون الاستئصال والهلاك الماحق إلا عندما ينتهي الحق كما قال النبي في قيام الساعة, أن الساعة لا تقوم إلا على شرار الخلق وعليهم تقوم الساعة حتى لا يقال في أرضي الله, الله فعند ذلك تأتي الساعة التي هي المزيلة المستأصلة للجميع, لكن إذا كثر الخبث فإنه تكون هناك عقوبة لكن عقوبة جزئية وليست عقوبة استئصال.
كما قال -صلى الله عليه وسلم-: «ويل للعرب من شر قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج هكذا فقيل للنبي -صلى الله عليه وسلم- قالت له زوجه من زوجاته يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون قال: نعم إذا كثر الخبث», فإذا كثر الخبث ممكن وكان هناك بعض الصالحين فإنهم يهلكون مع من يهلك, حتى يأجوج ومأجوج عندما يأتوا فإن الله -تبارك وتعالى- يخرج عباد الله -تبارك وتعالى- المؤمنين كما جاء في الحديث أن الله يقول لعيسى إنحز بعبادي إلى الطور فإني مرسل عبادًا لا يدان لأحد بقتالهم ما أحد يقف أمامهم وهم يأجوج ومأجوج المفسدون, أمة كافرة مفسدة تأتي على من في الأرض فتفسدها {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ}[الأنبياء:96], وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ, وقال -جل وعلا-: {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا}[الكهف:99]: ترك يأجوج ومأجوج ليفسدوا في الأرض الفساد النهائي, وبعد ذلك عندما يفزع عيسى إلى الله -تبارك وتعالى- يهلك الله -تبارك وتعالى- هذه الأمة الكافرة, فالشاهد في قول من قال من أهل التفسير والعلم بأن النبي هو رحمة للكفار كذلك رحمة جزئية رحمة في أن الله -تبارك وتعالى- رحمهم بوجودهم ألا يستأصلهم بعذاب, ورحمة بهذا الدين وكرامة لهذه الأمة ألا يستأصل الباقين ويبقي المؤمنين وحدهم فقط كما صنع الله -تبارك وتعالى- بالسابقين فهو رحمة من هذا لكنه لا شك أنه عذاب عليهم -صلوات الله والسلام عليه- فالنبي هو نبي الرحمة ونبي الملحمة -صلوات الله والسلام عليه- فإنه كل من رد على النبي أمره هلك ولابد أن يهلك, أما أن النبي رحمة للكفار فلا شك أنه رحمة لهم من عذاب الله -تبارك وتعالى- فإن من كذب بالنبي -صلوات الله والسلام عليه- فإن الله -تبارك وتعالى- كتب له الخزي والدمار في الدنيا والآخرة هذا أمر لا شك فيه, أما أنه رحمة للعالمين كل أمته من كفر به ومن آمن به يدخل الجنة فلا وإنما يدخل الجنة من آمن به كما قال -صلى الله عليه وسلم-: «إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل بنى دارا وجعل فيها مأدبة ثم أرسل داعيا فمن أجاب الداعي دخل الدار وأكل من المأدبة فالداعي هو رسول الله والدار هي الإسلام والمأدبة جنة الله -تبارك وتعالى-» {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}[الأنبياء:107].
ثم قال -جل وعلا-: {قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}[الأنبياء:108]: هذا هو خلاصة الدين وقضيته الكبرى الأساسية والوحي كله يعود إلى هذا الأمر الأساسي قل إنما يوحى إلي بالحصر, أنما إلهكم إله واحد: إلهكم معبودكم الذي يجب أن تعبدوه هو إله واحد وذلك أنه لا إله على الحقيقة إلا الله, وأنه ليس مع الله -تبارك وتعالى- إله آخر إله بمعنى إله حقيقي بمعنى أنه يكون ند لله يخلق كما يخلق الله يرزق كما يرزق الله له شيء من التصريف له شيء من الفعل تعالى الله عن ذلك, فالله لا ند له ولا شبيه ولا نظير له ولا معين له لا معين ولا ظهير في خلق شيء ولا الذرة {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ}[سبأ:22]: فكل من دعي من دون الله ملائكة عيسى بن مريم كبير صغير أي مخلوق موجود دعي من دون الله -تبارك وتعالى- لا يملك مثقال ذرة في السماوات والأرض, وما لهم فيهما من شرك, الشرك ملك, أو الشرك أن الله -تبارك وتعالى- أشركه معه في شيء من الملك لا وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا: لا يقبل الله -تبارك وتعالى- الشركة في حكمه وملكه فهو الملك وحده -سبحانه وتعالى-, وهو الخالق وحده هو المتصرف وحده -جل وعلا- ما في نفس من عليا ولا سفلى من الملائكة ومن غيرها تملك لنفسها نفع ولا ضر إلا بمشيئة إلهها وخالقها -سبحانه وتعالى- فقل إنما يوحى إلي أنما إلهكم معبودكم إله واحد, فهو معبود واحد لا تعبدوا إلا هو, وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ: حكم وأمر؛ لأنه لا إله إلا هو -سبحانه وتعالى-, وكل ما يتخذ من غيره إله فباطل, إله زائف كل إله غير الله -تبارك وتعالى- فهو إله مزيف سماه أتباعه وعباده إله لكنه على الحقيقة ليس بإله ويخزي الله -تبارك وتعالى- أتباعه {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ }[الأنبياء:98]: كيف إله ويلقَى في جهنم وكل فيها خالدون لكن من عبد من هؤلاء من هذه الموجودات بدون إذن منه واتخذ إله فإن الله -تبارك وتعالى- مكرمه لا يتبرأ من عابده الملائكة تتبرأ ممن عبدها والرسل الذين عبدوا يتبراءون ممن عبدهم عيسى تبرأ ممن عبده ويقول: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }[المائدة:117-118] فكل ما من عبد من دون يتبرأ من عابده يوم القيامة {وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ ........}[النحل:86], قال -جل وعلا-: فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ, {وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ}[النحل:87] {قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}[الأنبياء:108]: سؤال يراد به إلزام الحجة والدعوة إلى الاستسلام للرب -تبارك وتعالى- فيطلب منهم الرب -جل وعلا- بهذه الصورة صورة الأمر هل ستستسلموا لهذا الأمر؟ وهل ستقبلوه وتذعنوا له فهل أنتم مسلمون لربكم؟ مسلمون منقادون إلى هذا الإله الواحد لا تعبدوا غيره وتسلموا له -سبحانه وتعالى- فهل أنتم مسلمون؟ طبعًا من أذعن ورجع ونفعته هذه الموعظة دخل في رحمة الله -تبارك وتعالى-, وأما من قال لا أسلم إذًا يبقى ألزم الحجة فهذا سؤال لإلزام الحجة أصبح ملزم الحجة وأنه قد جاءه البلاغ وجاءه البيان وهو رفض الأمر فهل أنتم مسلمون فإن تولوا فقل آذنتكم على سواء إن تولوا إن أسلموا هذا استجابوا لأمر الله ودخلوا الجنة, وإن تولوا التولي هو الإعراض عن الحق فقل آذنتكم على سواء آذنتكم أعلنتكم, الآذان هو الإعلان ومنه الآذان الذي هو للصلاة هو إعلام بدخول الوقت آذنتكم على سوءا أنا وأنتم لم أخف شيء وإنما بينت لكم الأمر هكذا واضحًا بينًا على سواء مني ومنكم كلنا الآن أصبحنا نعرف هذه الحقيقة وقد بينت وظهرت, فما أخفيت الأمر ولا قلت اتركهم يذهبوا في جهنم ولا أبين لكم ولا أحذركم من ما أنتم مقدمون عليه لا وإنما أظهرت لكم هذا الأمر ظهورا على هذا النحو أظهر وأبين, والنبي نذير قد بانت وظهرت نذارته للجميع فقل آذنتكم على سواء وإن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون, لا أدري لأن العلم هنا بالنسبة ما يعدهم الله -تبارك وتعالى- فيه من العذاب والنكالة عند رفض الدعوة هذا علمه عند الله -تبارك وتعالى- قد غيبه فالله عالم الغيب لا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول واختم يكون قد قضى لله -تبارك وتعالى- بأمر يخبر به رسوله يعرفه ما لا يخبره لا يعرفه, لست أدري ما أدري أقريب أم بعيد ما توعدون أقريب هذا الذي توعدونه من أن ينزل الله -تبارك وتعالى- فيكم عقوبته أم أنه بعيد قد أجل بعد الموت وعندما تأتون يوم القيامة أو يكون هذا العذاب قريب هذا علمه إلى الله -تبارك وتعالى- قُلْ لَوْ أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ: هو العذاب لَقُضِيَ الأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ: لكن أنا العذاب ليس لي وحكم الله -تبارك وتعالى- فيكم إنما هو عائد إلى الله -تبارك وتعالى- وسينفذه الله -تبارك وتعالى- في الوقت الذي يريده هو وليس الذي أريده أنا, إنه يعلم الجهر من القول إنه الله -سبحانه وتعالى- يعلم الجهر من القول الجهر هو العلانية من القول لو تكلم الإنسان كلام جهر في الناس جهرا فيعلم ويعلم ما تكتمون وكذلك فالله -تبارك وتعالى- عليم بما تكتمونه وقدم الجهر هنا؛ لأنهم هذا قد أعلنوه الكفر معلن عندهم قولهم للنبي إنك ساحر وكذاب وكاهن وما ردوا به هذا قد أعلنوه, فهذا الذي أعلنوه من الكفر يعلمه الله -تبارك وتعالى- ما أعلنتموه من هذا الكفر والعناد فالله -تبارك وتعالى- عليم به وإذا كان الله عليم به وقد جدفتم هذا التجديف وقلتم هذا انتظروا بعد ذلك ما يكون وكذلك يعلم ما تكتمون يعلم ما تسرونه في قلوبكم وكان هؤلاء غالباً ما يسرون أن النبي صادق وأنه على الحق المبين وهذا في سرهم ولكنهم امتنعوا عن الإيمان أمور في أنفسهم عناد مكابرة احتقار لشأن للنبي -صلى الله عليه وسلم- كيف نتبع هذا.
{وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ}[الزخرف:31]: لو كانت جاءت الرسالة عند غيره لفعلنا هذه أمور صعبة لا نقدر نقول فيها كيف نقوم بهذا الأمر ونعادي كلها كانت لهم صوارف صرفتهم عن هذا الأمر, فكذلك هذه الأمور التي هي في داخلها الله -تبارك وتعالى- هددهم وأخبر أنه يعلم هذا كما قال الله -تبارك وتعالى- في شأنهم {........ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ}[الأنعام:33]: هؤلاء الظالمون يجحدون بآيات الله إنه الرب سبحانه وتعالى يعلم الجهر من القول ويعلم ما تكتمون وهذا تهديد لهم من الله -تبارك وتعالى-, {وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ}[الأنبياء:111]: كذلك لست أدري لعله فتنة لكم لعله ما أنتم فيه قد فتنتم به ومتاع إلى حين أنه ما أنتم فيه من التكذيب والعناد هذه يكون فتنة لكم من الله -تبارك وتعالى- بأنكم لما كذبتم وعاندتم فإن الله طبع على قلوبكم وعم عنكم الحق وأصبحتم أخذتم هذه استمرأتم هذا الكفر وأحببتموه وشربتموه ويمتعكم الله -تبارك وتعالى- فيما أنتم فيه من المتاع الدنيوي إلى وقت وحين كما قال نوح -عليه السلام- لقومه {وَلا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}[هود:34]: فنصحي لا ينفعكم إن كان الله -تبارك وتعالى- أراد فتنتكم وأن تكون على هذا النحو فتردوا الحق بعد أن تعلموه أنه الحق أعلنت أنه الحق رددتموه وكفرتم جعلكم الله -تبارك وتعالى- على هذا النحو هذا أمره على الله -تبارك وتعالى- يكون هذا صنيع الرب -تبارك وتعالى- وكما قال -جل وعلا-: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ }[البقرة:6-7] بالكفر لما كفروا فإن الله -تبارك وتعالى- صنع بهم هذا الصنيع قال -جل وعلا- كذلك: {يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ }[يس:1-6], ثم قال -جل وعلا-: {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ}[يس:7]: حق القول بالعذاب على أكثرهم فهم لا يؤمنون, {وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ }[يس:10-11] فهذا الذي تفيده النذارة نذارة الله -تبارك وتعالى- فإذًا هؤلاء فتنوا أوانهم يفتنون بكفرهم, وقد بين الله -تبارك وتعالى- هذا كما قال -جل وعلا- كذلك {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}[الأنعام:110]: ينقلب القلب والبصر فالقلب لا يفقه لأنه أصبح منكوس, والبصر كذلك لا يبصر لأن الله -تبارك وتعالى- أعماه عن الحق ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون, عله ما أنتم فيه من الكفر قد فتنكم الله -تبارك وتعالى- به واستمرأتم هذا وأحببتم هذا الكفر بكفركم عقوبة لكم من الله -تبارك وتعالى- أنكم كفرتم ولم تتبعوا الحق بعد بيانه ومتاع إلى حين, تمتعون به ثم تلقون العقوبة الكبرى عند الله -تبارك وتعالى-.
النار قال أي الرسول {قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ}[الأنبياء:112]: هذه مقالة النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال هذا وهذا المنزل قال الرسول ربي احكم بالحق بيني وبين قومي وربنا الرحمن المستعان على ما تصفون قد حكم الله -تبارك وتعالى- لرسوله بالحق فإن الله -تبارك وتعالى- قد أعز رسوله ومكن لدينه وأكثر أتباعه وأعطى الله -تبارك وتعالى- هذا النبي مفاتيح كنوز الأرض ومشارقها ومغاربها شرق الأرض وغربها وساحت أمة النبي -صلى الله عليه وسلم- تفتح البلدان وتحطم عروش القياصرة والأكاسرة ولم يبقى بعد ذلك ملك وحاكم إلا أمته ومملكته في الإسلام قال وهؤلاء الذين عاندوا النبي -صلوات الله والسلام عليه- قد أذهبهم فأصبحوا كأمس الذاهب المستهزئون الكبار في مكة قال -جلا وعلا- لرسوله {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ}[الحجر:95]: كبار المجرمين من أمثال الوليد ابن المغيرة العاصي بن سالم أولاد زمعة هؤلاء كبار المجرمين الذين كانوا يتصدون ويقولون في النبي هذه المقالات الفاجرة الكافرة أنت ساحر أنت كاهن هذا سحر مقالة الوليد التي صورها الله -تبارك وتعالى- {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ نَظَرَ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ }[المدثر:18-25] قال -جل وعلا-: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ}[المدثر:26] أهلكه الله -تبارك وتعالى- بما أهلكه به بطرف شيء شوكة صغير جاءت أخذت في ثيابه قطعت حديدة برادة صغيرة وجاءت في قدمه فأهلكه الله -تبارك وتعالى- بها, وكذلك سائر المستهزئين فهؤلاء الذين استهزئوا بالنبي -صلى الله عليه وسلم- في مكة أهلكهم الله -تبارك وتعالى-, ثم أن الله أعز رسوله جعله يهاجر إلى هذه المدينة وهيأ له الله -تبارك وتعالى- الأمة القوية التي تقوم معه بالأمر, ثم كل هؤلاء الذين عاندوا في مكة كانت مصيرهم القتل في بدر والإلقاء في قليب من قلبان بدر ويخاطبهم النبي يا فلان يا فلان يا فلان يناديهم بأسمائهم سبعين, ثم يقول لهم: هل وجدتم ما وعد ربكم حقا؟ فإني وجدت ما وعدني ربي حقا قل شفتن وعد الله -تبارك وتعالى- فيكم حق من العقوبة هذه العقوبة الدنيوية بالقتل, ثم عقوبة النار قيل للنبي كيف تخاطب قوما قد جيفوا؟ قال ما أنتم بأسمع لما أقول منهم وهم أسمع لكلامي منكم الآن قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ: حكم الله هذه الآيات نزلت في مكة على النبي -صلوات الله والسلام عليه- وانظر حكم الله -تبارك وتعالى- في رسوله وفي هؤلاء المجرمين الذين عاندوه -صلوات الله والسلام عليه- وربنا الرحمن: الرب الذي وسعت رحمته كل شيء فالخلق كله وهذا بخلقه من رحمته -سبحانه وتعالى- وبالتالي لا يستطيع أحد أن يخرج عن أمره وأن يعانده لأنه وجود هذا الموجود المعاند هو من الرب الله -تبارك وتعالى- برحمة الرب -تبارك تعالى- قد كان فالله -تبارك وتعالى- هو الرب الرحمن -جل وعلا- المستعان على ما تصفون: المستعان الذي استعين به أطلب عونه على ما تصفون من الكذب والزور من سب النبي -صلى الله عليه وسلم- وشتمه وبيان واحتقاره وبيان أن الذي جاء به ليس رسالة الله -تبارك وتعالى- وأنه مفتري وأنه أتى بهذا الكلام من عنده وهذا أمر كان يشق على النبي -صلى الله عليه وسلم- أشد المشقة أذى عظيم وجهر له بالقول السيئ وأنه كذاب في هذا وكان النبي يعذب بهذا عذابين, عذاب أولاً في نفسه أن هذا أمر لا تتحمله الجبال أن يجابه من هؤلاء المجرمين بهذه الأوصاف, الأمر الآخر شفقته عليهم مع إجرامهم لكن مشفق عليهم يحزن عليهم يقول الله -تبارك وتعالى-: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا}[الكهف:6]: فكاد يقتل نفسه غمًا وهمًّا على هؤلاء يقول الله -تبارك وتعالى-: {قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ}[الأنبياء:112]: أستعينه على ما تصفون من هذا الإفك والافتراء وكذلك أفكهم في سب الرب -تبارك وتعالى- وشتمه, ونسبة الولد, وقول الملائكة بنات الله, وأن الله تزوج الجن وولد له الملائكة, أمور عظيمة من التجديف والتخريف والكذب والافتراء على الله -تبارك وتعالى- فيقول استعين الله -تبارك وتعالى- الله المستعان على ما تصفون.
الحمد لله رب العالمين, بهذا تنتهي هذه السورة (سورة الأنبياء), ولله الحمد والمنة, أستغفر الله لي ولكم من كل ذنب.