الحمد لله رب العالمين, وأصلي وأسلم على عبد الله ورسوله الأمين. وعلى آلة وأصحابه, ومن اهتدى بهديه وعمل بسنته إلى يوم الدين.
وبعد, فيقول الله -تبارك وتعالى-: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ}[الحج:5], {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[الحج:6], {وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ}[الحج:7], هذه الآيات من سورة الحج, وقد مضى أن هذه السورة من القرآن المدني أي الذي نزل على النبي -صلوات الله والسلام عليه- بعد هجرته, افتتح الله -تبارك وتعالى- سورة الحج بهذا الإعلام والنذارة الشديدة وهو التذكير بأهوال يوم القيامة قال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ: خطاب لكل الناس, {اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ}: زلزلتها للقلوب وللنفوس, يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ: هذه صورة من صور زلزلة يوم القيامة, تذهل: تجعلها ناسية ذاهلة بعيدة عن الوعي, {وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ}, ثم قال -جل وعلا-: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ}[الحج:3], {كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ}[الحج:4], انظر إخبار الرب -تبارك وتعالى- بيوم القيامة وأهوالها وأنه قادم لا محالة, وانظر فعل هذا الكافر الذي يتبع كل شيطان مريد, أي شيطان من الإنس والجن يزخرف القول يتبعه ويترك كلام الله -تبارك وتعالى -قال -جل وعلا-: كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ: هذا حكم الرب -تبارك وتعالى- الذي حكم به من البداية من بداية طغيان إبليس وعدم استجابته لأمر الله -تبارك وتعالى- أن الله -تبارك وتعالى- حكم على إبليس وحكم على كل من اتبعه أن يكون مصيرهم إلى النار, {قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا}[الإسراء:63], كتب عليه أن من من تولى الشيطان فإنه يضله أول شيء, ويهديه إلى عذاب السعير, ثم شرع الله -تبارك وتعالى- في هذه الآيات يبين أدلة البعث الدليل العقلي المشاهد الذي يشاهده الإنسان, فهو قائم ويعقله كل من له عقل ولُب, قاليَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ: إذا كنتم تشكون في البعث وأنه كما كان الكفار يقولون إن هذا مستحيل على الله -تبارك وتعالى- بأنه إذا بليت الأجساد وانتهت وأكلتها الأرض واختلطت هذه الذرات بالأرض فأنى لها أن تعود مرة ثانية؟ وأن الحياة لا تعود في الغصن أوفي النبتة إذا انتهت وانتهى وقتها وأصبحت رميم فإنه لا تعود مرة ثانية النبتة العود ليخضر من جديد وأن هذا أمر {وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ........}[السجدة:10]: يحيلون على الله -تبارك وتعالى- هذا بالرغم من إيمانهم بأنه الرب الإله الخالق خالق السماوات والأرض -سبحانه وتعالى- يقول -جل وعلا- لهؤلاء الكفار المكذبين: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ: النشور يوم القيامة, فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ: اذكروا هذا الأمر بدايتكم خلقناكم من تراب, خلق الله -تبارك وتعالى- أبا البشرية آدم -عليه السلام- من تراب هذه الأرض, وطين جبله الله -تبارك وتعالى- في السماء, ثم من نطفة: هذا لكل أحد بعد ذلك من اجتماع الذكر والأنثى, ثم من علقة: أي أن النطفة إذا أُقرت في الرحم تعلق فيه, والعلقة سميت علقة؛ لأنها تعلق بالرحم تنغرس هذه البويضة التي قد لقحت بالحيوان المنوي تصبح هنا علقة تعلق بالرحم, ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ: ثم بعد ذلك هذه العلقة يزداد حجمها حتى تصبح كقطعة اللحم التي يمضغها الإنسان مضغة, مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ: أن هذه المضغة تكون أولَّا غير مخلقة ثم بعد ذلك تبدأ هذه التخلق وهو أن يظهر صورة الإنسان فيها الرأس والأطراف تظهر فتخلق بعد أن تكون الأول قطعة لحم لا شكل لها غير مخلقة ما فيها أي أثر للخلقة لأطراف الإنسان, ثم إذا بها بعد ذلك تتحول هذه المضغة التي هي أصبحت قطعة لحم يوجه كل جزء منها إلى تكوين عضو من أعضاء الإنسان, قال -جل وعلا-: لِنُبَيِّنَ لَكُمْ: بهذا بالتفصيل والبيان لنبين لكم أساس خلقتكم كيف بدأتم من بداية النطفة, ثم قال -جل وعلا-: وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى: نقر في الأرحام من هذه النطف التي أصبحت بعد ذلك مضغة وخلقت يُقِّر الله -تبارك وتعالى- في الأرحام ما يشاء إما يقر في الأرحام ما يشاء منها ما يستقر ومنها بعد ذلك قد يدفعه الرحم لهذا قبل هذا التمام من البداية, أو تقر في الأرحام ما نشاء من الصفات الخلقية وكذلك الصفات النفسية التي تكون في هذا المخلوق الجديد في رحم أمه كما جاء في الحديث: «إذا مر على النطفة أربعون يوماً أتاها ملك فقال أي ربي ما عمله؟ ما أجله؟ ما رزقه؟ شقي أو سعيد؟ ذكر أو أنثى؟», فهذه مقومات الإنسان ومقاديره تكتب هنا يقر الله -تبارك وتعالى- في الرحم هنا في هذا الوقت بعد أربعين يوم, وجاء في بعض هذه الأحاديث: إذا مر على النطفة واحد وأربعون يوماً أو إحدى وأربعون ليلة أتاها ملك يسأل الله -تبارك وتعالى- الله هو الذي يعلم ماذا سيكون في الأرحام قبل هذه لا يكون قد كشف العلم الإلهي لمخلوق هنا يكشف للملك الموكل بالرحم ويسأل الرب -تبارك وتعالى- أي ربي ما رزقه؟, ما عمله؟, ما أجله؟, فالرزق والعمل والأجل ثم الخاتمة شقي أو سعيد ثم ذكر أنثى, هل هذا سيكون هذا مشروع الإنسان هذا المضغة ستكون ذكر أم أنثى؟ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى: إلى أجل مسمى عند الله -تبارك وتعالى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى عند الله ليخرج هذا الجنين من بطن أمه, والله -تبارك وتعالى- هو الذي يجعل هذا الأجل إما تمام يتم الحمل وقد يزداد أيام على الوقت العام للمواليد, وقد يأتي ناقصًا فيخرج الرحم جنينه الجنين الذي فيه قبل هذا الوقت, وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى: أجل مسمى عند الله محدد وليس أمرًا متروكا لصدفة بل هذا أمر قد كتبه الله -تبارك وتعالى- وسماه عنده, ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا: نخرجكم بعد ذلك إلى هذه الحياة من أرحام أمهاتكم طفلا أطفالا, طفل: اسم جنس هنا, ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ: بلوغ الأشد وهو كمال القوة العقلية والبدنية كما يقال كمال القوة البدنية في الرابع والعشرين والخمس والعشرين يبلغ الإنسان كمال القوة في الأربعين يبلغ تمام القوة العقلية, ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ: منكم من يتوفى قبل بلوغ هذا السن الأشد ومنكم من يجاوز مرحلة كمال القوة البدنية والعقلية إلى أرذل العمر, أرذل العمر: أسوأه وأثقله فالرذيل هو السيء الثقيل وهذا بعد أن يكبر الإنسان ويشيخ وتبدأ القوة البدنية تضمحل ثم كذلك القوى العقلية تضمحل وقد تصل إلى أنها تتلاشى وتذهب بالكلية, إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا: بعد علمه لا يكاد ولا يعلم شيء حتى أبناؤه لا يعرفهم, بعض من يصل أحياناً إلى نحو الشيخوخة المتأخرة وذهاب العقل فإنه لا يعرف الأوقات, وكل ما كان يعلمه وهو ثابت في عقله كل القوى العقلية هذه تضمحل وتنتهي لكي لا يعلم من بعد علم شيئاً, وفي هذا من الآيات ما فيه أولا على قدرة الرب -تبارك وتعالى- على خلق الإنسان من هذا الأمر من النطفة, وأن يتدرج به -سبحانه وتعالى- هذا التدرج, وإن يبلغ به هذا الكمال الإنساني في بلوغ الأشد, ثم بعد ذلك أن ينكسه -سبحانه وتعالى- في الخلق على هذا النحو حتى تضمحل وتنتهي قواه البدنية وقواه العقلية كذلك, في هذا آيات عظيمة من آيات الرب -تبارك وتعالى- قدرة الرب -جل وعلا- على الخلق, وقدرته -سبحانه وتعالى- على هذا الإنسان وأن هذا الإنسان فقير فقر ذاتي جِبلِّي إلى خالقه وإلهه ومولاه -سبحانه وتعالى-, هذه آية من آيات الله -تبارك وتعالى- في خلق الناس وبدأ الله -تبارك وتعالى-؛ لأنها في النفس وفي أنفسكم هذه آيات الله -تبارك وتعالى- في خلق الإنسان.
ثم آية كذلك في هذه الآفاق وهي آية الأرض قال: وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً: ترى أيها المخاطب من قوله يا أيها الناس الأرض هامدة, هامدة: أي خاشعة ملتصق بعضها ببعض من الجفاف وأرض جرز ليس فيها نبت وهي كذلك قد دخلت ذراتها بعضها مع بعض فخشعت وهمدت, فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ: ماء المطر, اهْتَزَّتْ: هذه الأرض اليابسة الجردة الجافة إذا بها تهتز نفس الأرض تهتز لأنه يبدأ حركة في نفس هذه التربة فتتحرك هذه التربة وتبدأ هذه ذرات التربة يتفكك بعضها من بعض ويحصل فيها هزة لتربو هذه الأرض, اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ: أي زادت أصبحت هذه الأرض التي كانت خاشعة زادت وارتفعت التربة بفعل سقوط هذا المطر عليها, وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ: بعد ذلك تنبت من كل زوج بهيج تكون فيها البذرة, البذرة عندما تتفكك التربة على هذا النحو بنزول المطر يخرج الجذر إلى أسفل ويخرج الساق إلى أعلى تدفع به هذه التربة التي تصبح بعد ذلك هشة حتى تدفعها, ثم تنبت من كل زوج أي من النبات, الزوج ما له شيء من جنسه كل شيء له شيء من جنسه فرد له شيء من جنسه, أي أزواج من النبات شتى أنواع ليس عود واحد لا مثيل له وإنما تخرج أزواج أشكال وألوان من النبات ممن لها مثيل, وأخبر الله -تبارك وتعالى- بأنه كل زوج بهيج: يبهج بهجة النفس وهو فرحها وسرورها بمرأى هذا النبات من خضرته ومن ألوانه المختلفة ومن ثماره ومن مما يشرح النفس ويجعلها تشعر بالسرور والفرح من منظرها فانظر أين كانت الأرض قبل أن ينزل الله -تبارك وتعالى- عليها المطر وانظر هذه النقلة البعيدة المعجزة لتحول هذه التربة الجافة التي لا حياة فيها إلى أن تحيا هي بنفسها ثم يحيي الله -تبارك وتعالى- فيها هذا الزرع البهيج الذي يمتلئ خضرة ونضارة وألوان ويكاد زهوره تبتسم أو تتكلم للناظر من حسنها وبهجتها, فانظر هذه النقلة الهائلة فالذي خلق هذا الخلق وحوَّل هذه التربة الجافة إلى أن تكون تربة حية على هذا النحو وأخرج منها هذا الزرع الجميل لا شك أنه الرب الإله القادر على كل شيء -سبحانه وتعالى-.
قال: ذَلِكَ: المشار إليه هو خلق الإنسان على هذا النحو من لا شيء من هذه النطفة إلى أن يكون إنسان بكمال العقل وكمال القوة وانظر فعل هذا الإنسان وتدبيره وتفكيره وهو مخلوق من هذا الأمر, وانظر بعد ذلك النبات بثمراته وزهوره من لا شيء من هذه الأرض الجافة ومن هذه البذرة الميتة كان هذا شأنه, ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ: خلق الله -تبارك وتعالى- لهذا الخلق مما يدل كل ذي عقل وكل ذي لب أن الله هو الحق, الله هو الحق؛ لأن هذا لا يفعله إلا الله -سبحانه وتعالى- الله خالق كل شيء فهذا الذي خلق هذا الخلق على هذا النحو وحوَّل هذا الموات وهذا العدم إلى هذا الخلق هو الحق -سبحانه وتعالى- الله هو الخالق -سبحانه وتعالى- فوجوده حق لا بد أن يكون الرب الإله -سبحانه وتعالى- موجودًا لأن هذا لا يمكن أن يكون بغير إله خالق -سبحانه وتعالى-, كذلك أنه هو الحق في أنه هو الذي صور ذلك هو الذي فعل ذلك, إخباره عن هذا الأمر وأنه هو القادر عليه -سبحانه وتعالى-, ذلك بأن الله هو الحق الثابت, وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى: ما دام أنه قادر -سبحانه وتعالى- على هذا الخلق من الأساس من عدم, ثم خلقه على هذا النحو فهو يحيي الموتى -سبحانه وتعالى-؛ لأن من صنع شيء قادر على إعادته -سبحانه وتعالى-, {وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[الحج:6]: لا يعجزه شيء -سبحانه وتعالى-, كل شيء الله -تبارك وتعالى- قادر عليه لأن الذي قدر على أن يخلق الخلق على هذا النحو هو قادر على ما سواه -سبحانه وتعالى- على كل شيء قدير.
وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا: الساعة هي يوم القيامة, سميت بالساعة؛ لأن لها وقت محدد عند الله -تبارك وتعالى- لها وقت لا تتعداه لا يمكن تتأخر ثانية من الوقت ولا تتقدم شيء, وأن الساعة آتية لا ريب فيها بالخبر وبالدليل هذا البرهان, بخبر الله -تبارك وتعالى- أنها آتية مجيئها, وبهذا الدليل البرهان أنه أن الله -تبارك وتعالى- هو القادر على هذا الخلق إذن هو يعيده -سبحانه وتعالى-, {وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ}[الحج:7]: فالله هو الرب الإله القادر -سبحانه وتعالى- فيبعث الذين في القبور من الذين ذابت ذراتهم واختلطت بعضها ببعض يبعثها الله -تبارك وتعالى-؛ لأنه هو القادر الذي خلق هذا الخلق بدايةً -جل وعلا-.
بعد هذا الدليل الواضح البين لكل ذي عقل يخبر -سبحانه وتعالى- أن الكافر هو الكافر قال -جل وعلا-: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ}[الحج:8]: أي هذا هو الكافر مَن يجادل في الله بغير علم, يجادل في الله: يرد كلام الله -تبارك وتعالى-, ويأتي بالقول المناقض لقول الله -تبارك وتعالى- فيقول لا بعث ولا نشور ولا يمكن أن يعيد الله -تبارك وتعالى- هذه الأجساد مرة ثانية فيجادل بغير علم ليس عنده علم في هذا ما عنده إلا الجهل, ولا برهان ولا دليل على قوله بأنه لا بعث ولا نشور ولا هدى: ولا هداية, ولا كتاب منير: كتاب واضح بين من عند الله -سبحانه وتعالى- يرشده ويبين له أنه لن يكون هناك بعث ونشور ما عنده أي أثارة علم, لا علم عنده يحفظه ولا مهدي إلى صراط ولا كتاب واضح بين يستند عليه, وإنما فقط هو اعتماده على جهله وعناده ومصادمته لأمر الله -تبارك وتعالى- وجداله للحق.
ثَانِيَ عِطْفِهِ: عِطف الإنسان هو جانبه, وثنيه: هو رده إلى الجانب الآخر, أي أنه لا يقبل على كلام الله -تبارك وتعالى- عندما يسمعه وإنما يثني نفسه إلى الجانب الآخر أي يحول وجهته عن كلام الرب -تبارك وتعالى- لا يريد أن يسمع الله -عز وجل-, وهذا بيان حالة هذا الإنسان الكافر وإعراضه عن خبر ربه -تبارك وتعالى- وعن كلام الله -عز وجل-, قال: لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ: أي أنه يفعل هذا ليضل عن سبيل الله بغير علم إما قصداً إنه يعلم أن هذا سبيل الله ويريد أن يضل الناس عنه ولا يسير فيه, أو أنه عاقبةً, عاقبة هذا ما عاقبته أن يضل عن سبيل الله, عاقبة هذا الأمر, قال -جل وعلا-: لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ, ما عقوبة هذا الذي يجادل في آيات الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير, وهو الذي ثنى عطفه عن طريق الرب -تبارك وتعالى-, والذي يريد أن يضل الخلق عند دين الله -سبحانه وتعالى- وعن سبيله قال -جل وعلا-: لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ: هذا حكم الرب -جل وعلا- أن يخزيه الله -تبارك وتعالى- بصنوف الخزي إما بعذاب ينزله عليه, أو بعقوبة بإظهار عجزه وجهله كما كل هؤلاء الذين جادلوا في آيات الله بغير علم, انظر كيف ضحدت حجتهم من فرعون, ونمروذ, والأقوام الذين أهلكهم الله -تبارك وتعالى- وأخزاهم الله -تبارك وتعالى- في الدنيا قبل الآخرة بضحد حجتهم, ثم نزول عذاب الله -تبارك وتعالى- بهم في الدنيا, له في الدنيا خزي: يخزى وهو ما يجعله يظهر خسته ودناءته وحقارته فيخزى لذلك, {وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ}[الحج:9]: هذا جزاؤه في الآخرة, الذوق ليس باللسان فقط وإنما بكل الحواس الإنسان يذوق بكل حواسه بمعنى أن الله -تبارك وتعالى- يصليه النار ليذوق حرها بجلده ونفسه وهمومه وغمومه ونذيقه عذاب النار التي تحرقه.
ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ: ذلك هذه العقوبة الإلهية في الدنيا وفي الآخرة بما قدمت يداك من الذنب بهذا العناد والمكابرة والإعراض عن دين الله -تبارك وتعالى- والمجادلة بالباطل فكانت هذه هي العقوبة, ذلك بما قدمت يداك من الذنب, ويقال لكل ما يصنعه الإنسان قدمت يداه؛ لأن اليد هي أكثر جارحة تفعل فسمي كل الفعل الذي يفعله الإنسان ولو بلسانه ولو بعقله ولو بقدمه كله من فعل يده, وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيد[الحج:10]ِ: وأن الله -سبحانه وتعالى- عندما يجازي الكافر المعاند هذا الجزاء في الدنيا والآخرة لا ليس بظلام للعبيد لم يظلم عبيده -سبحانه وتعالى- وخلقه وإنما يجازيهم الجزاء الذي يستحقونه فهذا يستحقها, فهذا الكافر الذي عاقبه الله -عز وجل- هذه العقوبة هو يستحقها والله -تبارك وتعالى- ليس بظلام للعبيد.
ثم قال -جل وعلا-: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ: هذه طائفة أخرى, الطائفة الأولى التي قال الله من الناس هؤلاء كافرين معاندين لأمر الله -تبارك وتعالى- المعادي له والمتبع للشيطان, فيه ناس آخرين هو في الظاهر مؤمن لكنه مؤمن في حال الرخاء فقط يعبد الله قائم بعبادة الله -تبارك وتعالى- لكنه على حرف, حرف الشيء: هو حافته الذي هو نهاية هذا الشيء, فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ: إن أصابه في حال إيمانه خير, أي كانت الأمور أمور رزقه وحياته وميسَّرة أطبق الله -تبارك وتعالى- عليه نعمه في هذه الدنيا, اطمأن بهذا الخير أي طمأنينته ليست بالإيمان, فما دام أنه في راحة وفي أمن وفي سعة وفي رزق وفي عافية من الله -تبارك وتعالى-فخلاص هو مطمئن بما أعطاه الله -تبارك وتعالى- وليس اطمئنانه بالله, فإن المؤمن الحق مطمئن بالله -سبحانه وتعالى- {........ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}[الرعد:28], لكن هذا طمأنينته وسلامه وراحته وبقاؤه في الإيمان إنما هي للخير الذي يلقاه في هذه الدنيا مما أعطاه الله, وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ: الفتنة اختبار, أي اختبره الله -تبارك وتعالى- بشيء من الشر في نفسه في أولاده في من حوله وهذه الفتنة التي هي اختبار يختبر الله -تبارك وتعالى- به أهل الإيمان هو لازم للإيمان قضية الإيمان لا تنفك عنها, {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ}[العنكبوت:2], {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}[العنكبوت:3], هذا أمر أخبر الله وأقسم الله -عز وجل- لابد أن يكون, {الم}[العنكبوت:1], {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ}[العنكبوت:2]: أي يُختبَرون ويُبتَلون ويُمتحَنون؛ ليظهر الصادق من الكاذب, ولقد فتنا الذين من قبلهم فهي سنة الله الجارية, فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين, علم ليس علم يستحدث للرب الله لا يستحدث له علم -سبحانه وتعالى- وإنما علم مما يقوم عليه الحساب وهو أن يوقع هذا العبد ليظهر حقيقة هذا العبد تماماً في هذه الدنيا ليكون الحساب على وفق ذلك, وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه, والحال أنه على الحرف فهو على حافة الشيء فينقلب بسرعة فيصبح هنا خروجه إلى خارج الإيمان سريع؛ لأنه على الحرف كان على الحافة, انقلب على وجهه بالكفر والرد ارتد وخرج من الدين, وشبه الله -تبارك وتعالى- هذا الذي خرج من الدين وارتد بالانقلاب على الوجه؛ لأن هذا حاله كأنه يسير على الحرف فلما جاءته هذه الفتنة فبسرعة خرج من الدين فانقلب على وجهه, قال -جل وعلا-: خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ: خسارة الدنيا بأن ربنا -سبحانه وتعالى- امتحنه بهذا الأمر فلم يصبر عليه فخسر الدنيا بذلك وخسر الآخرة عند الله -تبارك وتعالى-؛ لأنه إن مات على هذا الأمر فلا شك أنه من أهل النار فيخسر الآخرة, خسر الجنة وخسارته ليست خسارة للجنة فقط بل كذلك وجوده في النار, {........ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ}[الزمر:15], قال -جل وعلا-: {ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ}[الحج:11] هذا الخسران بالألف واللام للتعظيم, المبين: البين الواضح الذي لا أوضح منه, فهذا كان في الإيمان ولكنه لم يكن في الإيمان حقًّا وارتد بأول اختبار اختبره الله -تبارك وتعالى- فيه فإنه خسر الكل, خسر الدنيا التي كان فيها, وخسر كذلك الآخرة لا خسران أكبر من هذا وخسارة الآخرة أعظم الخسران, خسران بين؛ لأنه يكون في النار {........ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ}[الزمر:15].
ثم وصف الله -تبارك وتعالى- حال هذا المرتد بعد الفتنة قال: {يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُ وَمَا لا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ}[الحج:12], {يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ}[الحج:13].
وسنعود إن شاء الله إلى هذه الآيات في الحلقة الآتية, أستغفر الله لي ولكم من كل ذنب, -وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد-.