الحمد لله رب العالمين, وأصلي وأسلم على عبد الله ورسوله الأمين, وعلى آله وأصحابه, ومن اهتدى بهديه وعمل بسنته إلى يوم الدين.
وبعد؛ فيقول الله -تبارك وتعالى-: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُ وَمَا لا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ }[الحج:11-14]: يخبر -سبحانه وتعالى- أن من الناس ناسًا يكونون في الإيمان على هذا النحو من يعبد الله على حرف يؤمن بالله -تبارك وتعالى- ويعبده ولكنه كأنه على حافة الأمر, الحرف هو الحافة حافة الأمر, فإن أصابه خير في هذه الدنيا سلم وعافية وآمن ورزق واطمأن قلبه بهذا الخير وركن إلى هذا الأمر وهو في الإيمان طالما هذا الخير الدنيوي موجود, وإن أصابته فتنة اختبره الله -تبارك وتعالى- أخذه بشيء من الشدة وابتلاه الله -تبارك وتعالى- وهذه الفتنة والاختبار لازمة للإيمان {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}[البقرة:155-156], هذا لابد ومن يريد الله به خيرًا يصب منه {الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ }[العنكبوت:1-3]: فهذا إذا أصيب بهذه الفتنة قال -جل وعلا- انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ: لا خسران أظهر وألين من هذا, يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُ وَمَا لا يَنْفَعُهُ: يتحول من إيمانه بالله -تبارك وتعالى- واعتصامه به وتمسكه به إلى أن يدعو من دون الله آلهة أخرى ما لا يضره ومال لا ينفعه, وكل من يدعى ويتخذ إله من دون الله لا يضره عابده ولا ينفعه لا فيه ضرر ولا فيه نفع, لأنه لا يملك أصلاً نفسه نفع ولا ضر إلا بمشيئة إلهه وخالقه ومولاه -سبحانه وتعالى-, ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ: لا ضلال أضل من هذا وهو أن يذهب الإنسان ويطلب من موجود وهذا الموجود لا ينفعه بشيء ولا يضره لا ينفعه إن دعا ولا يضره إن تركه, {يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ}[الحج:13]: فقد يبذل هو في سبيل إلهه هذا مهجته وبعض النفقات في الدنيا ويفعل ويكد له ويشقى له {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ}[يس:74], {لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مُحْضَرُونَ}[يس:75]: أي في خدمة لهذا إلهه الذي يعبده وقد يضيع منه شيء من ماله ومن جهده ومن وقته في سبيل هذا, فضرره أقرب من نفعه لا هو يجيب نفع لكن ضرر ما يدعوه من هذه الآلهة الباطلة أقرب من نفعها؛ لأنه ينفق وقت من وقته وجهد من جهده وشيء من ماله في سبيل هذا الإله الباطل, ولا مردود يرد عليه من هذا لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ: لبئس هذا المولى الناصر فهذا الناصر الذي انت ذهبت له لينصرك وليرزقك وليحميك وليكون معك ولينفعك إذا بأنت الذي تبذل له وهو لا يفيدك بشيء ويضرك بما تنفق في سبيله بهذا مولى سيء جدا, لبئس المولى ولبئس العشير المعاشر الذي تعاشره فحتى العشير لو كان لك عشير تعاشره كزوجة ولا أخ ولا غير هذا ممن تعاشرهم لكنهم لا ينفعونك بشيء وضررهم أقرب من نفعهم, هذا المعاشر الذي على هذا النحو هذا سيء العشرة فيقول الله -تبارك وتعالى- هذا الذي يدعوه من دون الله له مولى على الحقيقة حسن ولا هو عشير حسن, فهذا بئس المولى ولبئس العشير فانظر كيف استبدل هذا الضال ولاية الله -تبارك وتعالى- والإيمان به الذي بيده الله الذي بيده كل الخير بيده الخير كله وهو الذي يرفع الضر -سبحانه وتعالى- فلا يرفع الضر والشر إلا هو ولا يأتي بالخير إلا هو تركوا ولاية الرب -تبارك وتعالى- ووالى هذا الذي لا ينفعه ولا يضره بل ضرره عليه أكثر من نفعه, وهذا حال كل من استبدل بعبادته وأولوهيته إلى الرب -تبارك وتعالى- إلها آخر.
ثم قال -جل وعلا-: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ}[الحج:14]: هذه كرامة الرب -تبارك وتعالى- وإحسانه في أهل الإيمان الذين آمنوا وثبتوا على هذا الإيمان وعملوا الصالحات, الصالحات: كل عمل أمر الله -تبارك وتعالى- به ولا يأمر الله -تبارك وتعالى- إلا بالأمر الصالح, فهذه الصالحات في الدنيا وأشرفها وأعلاها الصلاة والصيام والزكاة والحج وبر الوالدين وصدق الحديث بهذه الصالحات وهذه لا شك أنها هي الترجمة العملية للإيمان, فالإيمان هذه ثمراته, جَنَّاتٍ: بساتين, جنات جمع جنة والجنة هي البستان, العرب تسمي البستان جنة لأنه بأشجاره الملتفة وأغصانه وقصوره من دخله يجنه, فهي ليست أرض فراغ وإنما هي جنات بساتين, من دخلها استتر فيها تجنه تستره جنات الرب بستان الرب العظيم الذي عرضه كعرض السماوات والأرض تجري من تحتها الأنهار: تجري من تحت هذه الجنات من تحت هذه الأشجار ذوات الأغصان الملتفة, الأنهار وهذه الأنهار مختلفة الخواص والطعوم {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ ........}[محمد:15]: فهي أنهار مختلفة ليست أنهار ماء فقط وإنما أنهار ماء وخمر ولبن وعسل, ثم قال -جل وعلا-: إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ: هذا الله -تبارك وتعالى- يفعل الذي يريده فكل ما يريده الله -تبارك وتعالى- لابد أن يكون لأنه هو الإله القوي الذي بيده الأمر كله وبيده الفعل كله -سبحانه وتعالى-, فقدرة الرب -تبارك وتعالى- على إدخال أهل هؤلاء الإيمان في هذه الجنة المستقرة لأن هذه إرادة الرب -تبارك وتعالى-, وكذلك -سبحانه وتعالى- في ضلال من ضل عن طريقه.
ثم قال -جل وعلا-: {مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ}[الحج:15]: قال أهل العلم تفسير من كان يظن أن الله لن ينصر عبده ورسوله محمد -صلى الله عليه وسلم- في الدنيا على أعداءه وفي الآخرة بإدخاله جنته -سبحانه وتعالى- ورضوانه فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ: أي فليأتي هذا الذي يظن أن الله -تبارك وتعالى- غير ناصر رسوله فليذهب بأي سبب, فَلْيَرْتَقُوا فِي الأَسْبَابِ, يذهب بسبب إلى السماء, ثم ليقطع أسباب النصر عن هذا النبي -صلوات الله والسلام عليه- فإن أسباب نصر النبي إنما تأتي من السماء من عند الله -تبارك وتعالى- نزول الأمر الإلهي ملائكة الرب -تبارك وتعالى- المؤيدين له فإذا استطاع هذا المعادي والشانئ للنبي والذي يظن أنه لن ينصره الله وأنه لن يمر فليمدد بسبب إلى السماء هذا ثم ليقطع أسباب النصر عن النبي -صلوات الله والسلام عليه- فلينظر هل يذهبن كيدهن ما يغيظ هل يذهبن كيده في هذا, كيده للنبي أن النبي أسباب نصره ليست في الأرض ليس في ليس فقط فيمن حوله من أهل الإيمان وفي الأسباب التي جعلها الله لنصره, لا بل كذلك أسباب نصر النبي -صلى الله عليه وسلم- تأتي من السماء, فإن كان هذا فليظن هذا فليذهب يقطع أسباب النصر في السماء عن النبي, وينظر بعد ذلك هل يذهبن كيده ما يغيظ كيده هذا الذي كاد به النبي هل يذهب ما في نفسه من الغيظ والإحنة والشحناء على النبي -صلوات الله والسلام عليه-, الوجه الثاني: من أوجه التفسير مما قال به أهل العلم في هذه الآية من كان يظن منكم أيها الكفار المعاندين للنبي أن الله -تبارك وتعالى- لن ينصر عبده ورسوله محمد في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب حبل والحبل يسمى إلى السماء إلصاق بيته أي يعلق حبلا في سقف بيته ثم ليقطع رقبته يشنق نفسه فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ, بهذا هل يذهب هذا الأمر ما يغيظه من الكيد للنبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قل موتوا بغيظكم كما قال الله -تبارك وتعالى- عن هؤلاء الكفار بأنهم كانوا رأوا النبي عضوا أصابعهم من الغيظ على النبي -صلى الله عليه وسلم- قال -جل وعلا-: مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ: أي موتوا بهذا الغيظ خلي هذا الغيظ يزداد بكم حتى يقتلكم, فإن الله -تبارك وتعالى- منفذ وعده بهذا النبي -صلوات الله والسلام عليه-, فهذا الوجه الثاني من أوجه التفسير أن يقتل نفسه فليشنق هذا الشانئ والمعادي للنبي نفسه ولينظر هل هذا هو السبيل لأن يذهب غيظه وكمده من هذا النبي -صلوات الله والسلام عليه-.
قال -جل وعلا-: {وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ}[الحج:16]: وكذلك كهذا الإنزال للقرآن بهذا التفصيل وبهذا البيان وبهذا الوضوح انظر من أول هذه السورة موعظة الله -تبارك وتعالى- للعالمين أن يوم القيامة ثم ضربه الأمثال للبعث, ضربه الأمثال بخلق الإنسان, خلق النبات, ثم تدليله عن أحوال الناس تجاه هذا الدين مجرم معاند لآيات الله -تبارك وتعالى- يتبع كل شيطان مريد وثاني عطفه عن أمر الله -تبارك وتعالى- أو تافه حقير يعبد الله -تبارك وتعالى- على حرف فإن كان هناك خير اطمأن به, وإن كانت هناك فتنة انقلب على وجهه ثم راسخ في الإيمان وثابت فيه وهذا مكافأة الله -تبارك وتعالى- له, ثم تحدي الله -تبارك وتعالى- للذين يظنون بأن الله -تبارك وتعالى- لم ينصر رسوله أنهم لن يستطيعوا بأي كيد أن يكيدوا هذا النبي؛ لأن الله -تبارك وتعالى- قد كتب نصره وكتب رفعة الدين وأنه لابد أن ينصره قال -جل وعلا-: أنزلناه هذا القرآن آيات بينات وأن الله يهدي من يريد: مع بيان هذه الآيات ووضوحها والحجة ساطعة نيرة من الله -تبارك وتعالى- وهي آيات من الله بينة واضحة لكن لا يهدي الله -تبارك وتعالى- لطريقه ودينه إلا من يريد الله -تبارك وتعالى- هدايته فالأمر إليه -سبحانه وتعالى- في الهداية, فانظر وضوح الحجة ووضوح البيان ولكن كفر الكافر وظلمة قلبه ورده لهذه الآيات الواضحات وجريه وركضه خلف الشبهات والشكوك والجهل واتباعه لأعدى أعداءه الشيطان يتبعه ويترك الأمر الواضح مما يدلك على أن الله -تبارك وتعالى- يهدي من يريد أن الهدى هداه -سبحانه وتعالى- وأنه يهدي من يريد, فمهما وضحت الآيات دون أن يكون الرب -تبارك وتعالى- قد كتب الهداية لهذا العبد فإنه لا يهتدي.
ثم قال -جل وعلا-: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}[الحج:17]: ذكر الله -تبارك وتعالى- هنا الأمم كلها على اختلافها إن الذين آمنوا وهم هذا أصبح علم على من آمن بالنبي محمد -صلوات الله والسلام عليه- أهل الإسلام والإيمان وأهل هذه الملة والأمة الخاتمة للأمم, إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا: بدأ الله -تبارك وتعالى- بهم لعظمهم وشرفهم, وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ: أمة من الأمم كانوا من عُبَّاد الأوثان, والأصنام عُبَّاد النجوم وهم من بعث فيهم إبراهيم ودعاهم إلى الله -تبارك وتعالى- والنصارى الذين قالوا إنا نصارى أتباع عيسى بن مريم, والذين كذلك ضلوا عن طريقه, والمجوس أمم هؤلاء الكفار من الفرس والهنادك وغيرهم, والذين أشركوا: العرب المشركين وكل أمم الشرك عبدوا الله -تبارك وتعالى- كانوا يؤمنون بالله لكنهم يشركون مع الله -تبارك وتعالى- آلهة أخرى قال -جل وعلا-: إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: هذه الأمم على اختلافها الفصل بينها أي الحكم أن الحكم عليها إنما هو لله -تبارك وتعالى-, إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ: لا يغيب عنه -سبحانه وتعالى- فكل الخلق هو الشهادة عند الله -تبارك وتعالى- الله لا غيب عليه ولا ذرة تغيب عن الرب -تبارك وتعالى- {........ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}[يونس:61], فالله شاهد على كل شيء -سبحانه وتعالى- لا غيب عنه, وبالتالي فهو العليم -سبحانه وتعالى- والمُشَاهِد لحال هذه الأمم وما قالت وما اعتقدت وما فعلت وكل هذه الأمور سيحكم الله -تبارك وتعالى- فيها على أهلها يوم القيامة.
ثم قال -جل وعلا-: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ}[الحج:18]: قد علمت أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ السجود بالنسبة للإنسان معلوم هو السجود الذي أمرنا أن نسجده بينه النبي -صلى الله عليه وسلم- وقال أمرنا أن نسجد على سبعة أعظم وأشار -صلى الله عليه وسلم- إلى جبهته, والكفين, والركبتين, وأطراف القدمين, وضع هذه مواضع السجود التي تقع في الأرض كيفية سجود الإنسان يخبر -سبحانه وتعالى- بأن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض من في السماوات من خلقهم الله -تبارك وتعالى- من العوالم التي خلقها الله, وقد أخبرنا الله -تبارك وتعالى- بالملائكة الذين يسكنون السماء, وأنهم في كل السماوات بدءًا بحملة عرش الله -تبارك وتعالى- إلى العنان السماء الدنيا ومن في الأرض: كل من في الأرض من هذه الموجودات قال -جل وعلا- والشمس هذا النجم العظيم المعلوم لكل البشر والشمس والقمر كوكبنا والنجوم هذه التي نثرها الله -تبارك وتعالى- في هذه السماء وزين بها السماء الدنيا التي تلي الأرض والجبال والشجر كل نبت له ساق والدواب كل ما يدب كل ما يدب على الأرض دابة من النملة الصغيرة إلى الفيل الكبير هذه دواب, ثم قال -جل وعلا-: وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: كثير من الناس كذلك أخبر -تبارك وتعالى- أنهم يسجدون لله, ثم قال -جل وعلا - وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ: أي كثير من الناس حق عليه العذاب, أي فلا يسجد لله -تبارك وتعالى- طوعا, ثم عقب الله -تبارك وتعالى- عن هؤلاء الذين لا يسجدون وحق عليهم العذاب قال وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ: أن الذين سجدوا لله -تبارك وتعالى- طواعية فأولئك أكرمهم الله -تبارك وتعالى- له لأن هذا تشريف لهم السجود تسجد هذه المخلوقات لخالقها وبارئها -سبحانه وتعالى- فهذا الرب الذي خلقها فالسجود المخلوق لخالقه هذا تشريف للمخلوق وتكريم له, كما كان النبي يقول في سجوده سجد وجهي للذي خلقه وشق سمعه وبصره فتبارك الله أحسن الخالقين فالسجود الوجه لمن خلقه تشريف لهذا الوجه أنه عرف إلهه وخالقه ومولاه, والسجود له على هذا النحو رفعة له من الله -تبارك وتعالى- فقد أكرمه الله فالوجه الذي يسجد لله هذا قد أكرمه الله, وأما الوجه الذي لم يسجد لله -تبارك وتعالى- فقد أهانه لأنه أبعده ونفاه عن تكريم الرب -تبارك وتعالى-, والنسبة إلى الله -تبارك وتعالى- وعبادة الرب -جل وعلا- فهو مهان كما هان الله -تبارك وتعالى- إبليس وطرده من رحمته, إن الله يفعل ما يشاء هذا السجود الله -تبارك وتعالى- نسب السجود هنا إلى كل هذه الموجودات في السماوات وفي الأرض, وهذه الموجودات فيها موجودات عاقلة كالملائكة والإنس والجن وفيها جمادات كالجبال والشجر, وفيها عجموات كالدواب سائر الدواب, ما حقيقة هذا السجود الله -تبارك وتعالى- نسب إلى كل هذه الموجودات أمرين السجود والتسبيح فكل الموجودات تسبح لله -تبارك وتعالى- منها التسبيح إنما هو التنزيه والتسبيح يكون باللسان, والسجود فعل بالأركان هناك أمر آخر غير فعل اللسان وفعل الأركان وهو الحال, فأولاً كل هذه الموجودات تسجد وتسبح لله بوجوده مسبحة لله -تبارك وتعالى- لأنها شاهدة, كل مخلوق شاهد على أن له إلها ربًا خالقًا هو الذي أوجده وهو الذي أقامه على هذا النحو, فهذه شهادة الحال؛ حال هذا المخلوق بهذا النحو يشهد, فالشمس بوجودها, والقمر بوجوده, والشجر بوجوده وكل موجود حتى الكافر الإنسان بوجوده شاهد على أن له إلها وربا وخالقا لأنه لو يوجد نفسه فهو شهادة الحال على هذا الأمر وهذه الموجودات كلها شاهدة بالحال, أما الشهادة اللسان وفعل الأركان فإن هذه قد أخر الله -تبارك وتعالى- أنها تأتي من كل هذه الذين يظنها أنها عجموات أو جمادات لا إشكال عندنا في الفهم في أن المخلوقات العاقلة التي لها إرادات تسبح لله -تبارك وتعالى- فالملائكة مثلا والذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون فالتسبيح باللسان مقالي, وكذلك السجود هو بالأركان تفعله الملائكة لأنها مخلوقات عاقلة مريدة وكذلك حال المؤمنين, أما تسبيح وسجود الموجودات التي هي نقول بأنها عجموات وجمادات فهذه لا شك أن لهذه إداركات فالله -تبارك وتعالى- أخبر بأن لها إدراك قال: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ: ما في من شيء إلا ويسبح بحمد الله, ثم قال -جل وعلا-: وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ: لا تفقه أنت أيها الإنسان تفقيهات قال -جل وعلا-: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ........}[النور:42], وقال -جل وعلا -: وَالأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ: كل من الطير علم الله -تبارك وتعالى- صلاته وتسبيحه, فهو يصلى ويسبح وصلاته فيها ركوع وسجود ويسبح, والتسبيح فعل مقالي ولكن هذا قد علم الله -تبارك وتعالى- أو علمه الله -تبارك وتعالى- كيف يسبح ويصلى فهذه الأفعال أفعال تنزيه الرب -تبارك وتعالى- تسبيحه قال وكذلك في فعالًا بالسجود لأن شك أن هذه الموجودات تسجد لله -تبارك وتعالى- وإن كانت الهيئات غير معلومة لنا فكيف يسجد الشجر, وكيف تسجد الشمس, وكيف يسجد القمر, لاشك أنه يسجد لكن بالهيئات غير معلومة, أما كيف تسبح فإن الله -تبارك وتعالى- يعلم تسبيحها {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ}[الحج:18]: أي أصبح العذاب حقا عليه؛ وهذا لأنه لا يسجد لله -تبارك وتعالى- كما أمره الله -تبارك وتعالى- بالفعل الإرادي الاختياري وأن كان يسجد إجباري كما قال -تبارك وتعالى- عن هؤلاء الكفار وظلالهم بالغدو والآصال فهم يسجدون لله -تبارك وتعالى- وتسجد ظلالهم هذا رغمًا عنهم بالخلق فهذا السجود ذل وخضوع غير إرادي, وأما المؤمنون فإنهم يسجدون ويسبحون لله -تبارك وتعالى- بإرادتهم هم مريدون لهذا الأمر والذي له التكريم وله المنزلة عند الله وله الثواب عند الله, {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ}[الحج:18]: للخلق فيكرم هذا ويهين هذا فهذا إذا أكرمه الله -تبارك وتعالى- فهذا المُكْرَم من الله -تبارك وتعالى- وهذا المهان من الله -تبارك وتعالى- أن الله يفعل ما يشاء له الفعل وحده وله المشيئة وحدة -سبحانه وتعالى-.
ثم في بيان نفاذ مشيئة الرب -تبارك وتعالى- في خلقه وانقسامهم إلى مؤمن وكافر على هذا النحو قال -جل وعلا-: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ }[الحج:19-23]: هذه ترجمة وبيان لأن الله -تبارك وتعالى- يفعل ما يشاء ضرب الله -تبارك وتعالى- مثل بأهل الإيمان والكفر قال هذان خصمان اختصموا سيأتي في هذا أنه خصمان كانوا من أبناء العمومة ولكن لما اختصموا في ربهم كيف كان صنيع الرب -تبارك وتعالى- في أهل الإيمان وصنيعه -سبحانه وتعالى-في أهل الكفران.
نعود لهذه الآيات إن شاء الله في الحلقة الآتية, أستغفر الله لي ولكم من كل ذنب, -وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد.-