الجمعة 29 ربيع الآخر 1446 . 1 نوفمبر 2024

الحلقة (397) - سورة الحج 18-25

الحمد لله رب العالمين, وأصلي وأسلم على عبد الله ورسوله الأمين, وعلى آله وأصحابه, ومن اهتدى بهديه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد... فيقول الله -تبارك وتعالى-: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ }[الحج:19-24], بعد أن ذكر الله -تبارك وتعالى- أن هذا كل هذه الموجودات في هذا الكون سجدت لله -تبارك وتعالى- خاضعة له وأن منها من يسجد طوعًا وهم أهل الإيمان, ومنها من لا يسجد وهؤلاء هم أهل الكفران قال -تبارك وتعالى-: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ}[الحج:18] كثير من هذه حق عليها عذاب الرب -تبارك وتعالى-؛ لأنها لا تسجد لله عن طواعية, أهان الله -تبارك وتعالى- وطردها من رحمته, إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ: إن الله يفعل ما يشاء في خلقه -سبحانه وتعالى- فيكرم من يشاء -سبحانه وتعالى- بالإيمان به والعبودية له والإذعان له, ويهين من يشاء -سبحانه وتعالى- فيطرده ويبعده عن عن رحمته وعن عبادته إذا طرد عن عبادة الرب -تبارك وتعالى- طرد عن رحمته, ثم ذكر الله -تبارك وتعالى- مثال انظر هذه المشيئة الإلهية والإرادة الإلهية ماذا أثرها بعد ذلك في الخلق؟ قال هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ: أي انظروا إشارة من الله -تبارك وتعالى- إلى خصمان اثنين متخاصمين وخصومتهم في الله -تبارك وتعالى- مؤمن بالله -تبارك وتعالى- مؤمن برسالاته, كافر بالله -تبارك وتعالى- راد لهذا الحق الذي جاءه من الله -تبارك وتعالى-, فَالَّذِينَ كَفَرُوا: ثم شرع الله -تبارك وتعالى- يبين عقوبة أهل الكفر وصنيعه -سبحانه وتعالى- بهم في الآخرة, ثم جزاؤه وإنعامه وإفضاله -سبحانه وتعالى- على أهل الطاعة, قال أهل العلم بالتفسير بأن هذه الآية نزلت في المتخاصمين يوم بدر أول لقاء للحرب بين جند الله -تبارك وتعالى- مع النبي -صلى الله عليه وسلم- وبين جند الكفر وعلى رأسهم أبو جهل وصناديد قريش, أول معركة بدر أرسل الكفار للنبي وقالوا له: أخرج لنا أكفاءنا من قومنا ليكون هناك مبارزة على عادة العرب في الحرب, فإنهم قبل التحام الجيوش يرسلون شخص أو أكثر ليتبارزا مبارزة في الساحة التي بين الجيشين, وهذه المبارزة منها لكل يريد أن يظهر قوته ويرى طبعًا من يموت فيقتل فارسه في هذا يفت في عضد الآخرين أو ليحمى الآخرين, لما انتدب النبي من يخرج أول من خرج ثلاثة من المشركين خرج عتبة بن ربيعة والشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة أخوان منهم وواحد هو الوليد بن عتبة, ولما انتدب النبي لمن يخرج لهم خرج مجموعة من الأنصار فردوهم وقالوا: يا محمد أرسل لنا أكفاءنا من قومنا, أي بناس أكفأ لأنه عندهم أنه لو قتل من دونه ما يعتبر أنه قد ظهرت قيمته وظهر بأسه, فالنبي -صلى الله عليه وسلم- انتدب لهم ثلاثة من فرسان أشداء المسلمين قال: قم يا حمزة, قم يا علي, قم يا حارث , قم يا عبيدة بن حارث بن عبد المطلب وهؤلاء كلهم من بني هاشم وأولئك من عبد شمس, وهؤلاء قرشيون وهؤلاء من قريش كلهم يرجعون إلى قصي هؤلاء قرشيون وهم أبناء عمومة في الأساس, لكن هؤلاء في صف الكفر وهؤلاء في صف الإيمان, التقوا ثلاثة وتبارزوا كل فارس أمام قرنه, فحمزة -رضي الله تعالى عنه- لم يمهل قرنه حتى قتله, وكذلك علي بن أبي طالب كان أمام الوليد بن عتبة قتل قرنه, وبقي شيبة بن ربيعة وعبيدة بن الحارث اختلف ضربتين كسرت رجل عبيدة ثم كر علي بن أبي طالب -رضي الله تعالى عنه- وحمزة على شيبة فقتله فأصبحت المحصلة في النهاية قتل المشركون الثلاثة وسلم المسلمون الثلاثة بجراحة فقط لعبيدة, يقول علي بني أبي طالب -رضي الله تعالى عنه- أنا من أول من يجلس أمام الرب في الدماء هذا أول دم يسال بالقتل في الإسلام, هذان خصمان اختصموا في ربهم الله -تبارك وتعالى- يشير إلى انظروا هذه الخصومة؛ خصومة هؤلاء أين هؤلاء ولاد عم وهؤلاء قبيلة واحدة وكانوا مجموعة واحدة لكن اختصموا في الله -تبارك وتعالى- هؤلاء آمنوا بالرسول -صلوات الله والسلام عليه- وآمنوا بالحق من الله -تبارك وتعالى-, وهؤلاء كفروا وعاندوا, هذان خصمان اختصموا في ربهم خصومتهم في الله, أنظر بعد ذلك أثر هذه الخصومة التي كانت في الله , قال -جلا وعلا-: {فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ}[الحج:19]: هذه عقوبة الرب -تبارك وتعالى- لهؤلاء الذين كفروا بالله -تبارك وتعالى- كان هؤلاء العرب منكرين البعث, ثم بعد ذلك أتاهم الرسول بهذه البينات عاندوا دفعوا هذا ثم حتى خرجوا بعد ذلك لقتاله, فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار على أجسادهم ليلبسوها, قطع الله -تبارك وتعالى- لهم ثياب من نار وهذه الثياب من نار أخبر الله -تبارك وتعالى- أنها تكون أحيانًا من القطران, قال: {سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ}[إبراهيم:50]: فيسربلوا سرابيل من قطران, والسربال هو القميص وتغشى وجوههم النار, قطع من النار يلبسونها فلباسه وقميصه من نار قطعت لهم ثياب من نار يصب من فوق رؤوسهم ولحامهم من العذاب, كذلك أن الحميم يصب فوق رأسه, والحميم هو الماء الذي بلغ حده في الحرارة , كما قال -جلا وعلا-: حَمِيمٍ آنٍ, وقال {خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ }[الدخان:47-49], وهذا الحميم هو الماء الحار ماء ليس كماء الدنيا وإنما كالمهل قال: وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ: أي كالمعدن المذاب يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا.

 {يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ}[الحج:20]: أي أن هذا الحميم الذي يصب على رأسه كذلك إذا شربه صهر أمعاءه, ما في بطونهم: كل ما في بطونهم من أمعاء من شحوم من غيرها يصهرها ويصهر جلده كذلك إذا صب هذا الحميم على جلده فإنه يصهره ومعنى يصهره أنه ينماع ويذوب, {وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ}[الحج:21]: هذه كذلك صورة من صور هذا العذاب مقامع, المقمعة هي مثل المجحن المرزبة أو العصا التي يكون في طرفها ثقل كهذه المقمعة الصغيرة التي تكون بيد من يقود الفيل فإنه لابد أن يضربه بشيء من هذا المقمع, ولكن هذه المقامع المرازيب يخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أنها لو أسقطت على جبل لهدته لو أن هذه المرزبة التي بيد الملك إذا ضربها بجبل هدته, ثم قال الله -تبارك وتعالى- أنها من حديد فهي ليست عصا من خيرزان أو من جريد بل من حديد, كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا: كلما أراد هؤلاء المعذبون هؤلاء الكفار أن يخرجوا من النار من غم الغم هو شدة هذا الكرب والضيق الذي يعصر قلوبهم, فيحاول إنه يخرج بأي طريق أعيدوا فيها أتاه الملك فهو يصعد الكافر بطرق ليبحث عن مخرج فيأتي الملك ويضربه بمقمعته فيعيده مرة ثانية إلى أسفل النار عياذا بالله, كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها بهذه الطريقة بهذا الزجر الشديد بالمقامع, {وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ}[الحج:22]: قاسوا عذاب الحريق إذًا هذه كل صور العذاب تجتمع على هذا المُعَذَّب عياذا بالله فلباسه نار ويصب من فوق رؤوسه الحميم ويشرب الحميم فيصهر أمعاءه, ويضرب بمقامع الحديد ما حوله من هذا السجن العظيم يشتعل ناراً كما قال الله: وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وما هو ببعيد, فهذا حال هؤلاء الذين أنكروا وجحدوا الإيمان وكان هذا صنيعهم, وخاصموا أهل الإيمان, وحاربوهم على هذا النحو, وافتخروا بقوتهم, انظر المآل الذي صاروا إليه في النهاية.

 ثم قال الله -تبارك وتعالى-: إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ: هذا صنيع الرب -سبحانه وتعالى- في أهل طاعته الله هو الذي يدخلهم, فالله -سبحانه وتعالى- يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات قال الله -تبارك وتعالى- دايما يدخل الله -تبارك وتعالى- بين الإيمان والعمل الصالح هذا شرط النجاة وإذا اقترن الإيمان بالعمل الصالح فالإيمان ينصرف على أعمال القلوب صدقوا وأذعنوا لله -تبارك وتعالى- وخشعت قلوبهم لله أحبوا الله -تبارك وتعالى- خافوه خشوه طلبوا ما عنده -سبحانه وتعالى- عظموه سبحوه ونزهوه, ثم بعد ذلك عملوا الصالحات التي أمرهم الله -تبارك وتعالى- بها من صلاة من صيام من زكاة من حج فعل الأعمال الصالحة, جَنَّاتٍ بساتين, تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ: تجري من تحت هذه البساتين والقصور الأنهار مختلفة الخواص, يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ: الحلية أمر يجمل, يجملهم الله -تبارك وتعالى- على ما هم فيه من الحسن والجمال بحلية كذلك ظاهرة في الأيادي وفي الأطواق, السوار جمعها أساور والسوار هو أن هذه الطوق الحلقة التي يحلى بها اليد, وهذه الأساور من ذهب وليس الذهب كالذهب ذهب الجنة ولؤلؤ ثم إن فيها كذلك لؤلؤ, واللؤلؤ هو المعدن الثمين الخارج من أصداف من البحر ذو اللمعان والبهاء ولكن هذا لؤلؤ الجنة, {وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ}[الحج:23]: الذي يلبسونه في الجنة إنما هو لباس من حرير, وحرير ليس كحرير دودة القز لكن هذا ذاك حرير الجنة ولا شك أن حريرها غير حرير هذا لكنه حرير لائق بهذه الجنة, فانظر إتحاف الرب وإكرامه -سبحانه وتعالى- لأهل هؤلاء الطاعة لأهل طاعته أنه ينعم عليهم بهذه النعم أنهم في هذه الجنات البساتين الملتفة وتجري من تحتها الأنهار المختلفة ويجملون ويحلون بهذه بأساور الذهب واللؤلؤ ولباسهم فيها حرير, وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ: هذا أمر بالبناء للمجهول, أي هداهم الله -تبارك وتعالى- إلهام وتوفيق وعناية يصبح هذا هو مثيله في الجنة لا يخرج منهم وهم في هذه الجنة قول بذئ ولا قول فاحش ولا سب ولا شتم ولا غمزة ولا لمزة بل كل طيب القول يقولونه وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ, لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا}[الواقعة:25], {إِلَّا قِيلًا سَلامًا سَلامًا}[الواقعة:26], فكل كلامهم خير وطيب وسلم ولا حرب في كلامهم ما في واحد يسب ولا يسب أبيه ولا يعيره ولا يشتمه كل هذا ممنوع, وهدوا إلى الطيب من القول في الجنة, {وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ}[الحج:24]: هداهم الله -تبارك وتعالى- إلى صراط الرب الحميد المحمود -سبحانه وتعالى- الذي أوصلهم إلى هذا المكان, وجه ثاني من التفسير في هذه الآية الأخيرة {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ}[الحج:24]: هذا في الدنيا أن هذا صنيع الله -تبارك وتعالي- بأهل الإيمان في الدنيا أن الله -تبارك وتعالى- هداهم إلى الأقوال الطيبة شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله لا قول أطيب من هذا ولا أحسن منه, وتسبيح الله وتحميده وذكره ودعاءه, وكذلك الأقوال الطيبة من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الإحسان فهداهم الله -تبارك وتعالى- إلى الأقوال الطيب {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ}[إبراهيم:24], الكلمة الطيبة الكلام الطيب الذي يقوله أهل الإيمان في هذه الدنيا الذي علمه الله -تبارك وتعالى- لهم وأطيب كلمة وأشرف كلمة كلمة التوحيد لا اله إلا الله, هداهم الله -تبارك وتعالى- إلى صراط الرب الرحمن -سبحانه وتعالى-, وصراط الرب هو طريقه هي منارته الصلاة والصيام والزكاة والحج, هذه طريق الرب سلكوا طريق الرب -تبارك وتعالى-, وهدوا إلى الطيب من القول يكون هذا للدنيا والآخرة وهدوا إلى صراط الحميد في الدنيا والآخرة.

ثم قال -جلا وعلا-:  {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}[الحج:25]: هذا ذكر كذلك لكفر هؤلاء الكفار الذين عاقبهم الله -تبارك وتعالى- هذه العقوبة, هذا كفر على كفر وذلك أن كفار مكة من القرشين الذين حاربوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-, وأخرجوه من عندهم وبدأوا بحرب على هذا النحو, خرجوا له في أحد ليحاربوه خرجوا له في الخندق, ثم إنهم صدوا هذا النبي عن المسجد الحرام أخرجوهم من مكة وكانوا كذلك لا يسمحوا لهم أن يأتوا إلى البلد الحرام بيت الله -تبارك وتعالى- الذي أقامه الله -تبارك وتعالى- منارة ليعبد فيها -سبحانه وتعالى- قال -جلا وعلا-: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ, فهم جمعوا بين الكفر بآيات الله -تبارك وتعالى-, وكذلك الصد عن سبيل الله, الصد: المنع؛ يمنعون يصدون يأتي صد باللازم نفسه يقول صد عن طريق الله, أي ابتعد عنه, ويأتي كذلك متعدي لهذا الفعل, صد غيره عن طريق الله منع غيره ويصدون عن سبيل الله بأنفسهم, وكذلك يصدون الناس عن سبيل الله عن طريق الله -تبارك وتعالى-, وطبعًا هذا بالشبهات التي يلقونها بالأكاذيب بسب النبي -صلى الله عليه وسلم- باتهامه أنه هذا السحر هذا كان يقوله الكفار في هذا, وكذلك تخويفهم كل من يؤمن بالله -تبارك وتعالى- أي أقاموا عليه النكير والتعذيب وبهذا يمنع الناس أن يدخلوا في دين الله ويصدون عن سبيل الله بأقوالهم وأفعالهم, وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ: يصدون عن المسجد الحرام يمنعون أهل الإيمان من أن يعبدوا الله -تبارك وتعالى- ويقدسوه عند المسجد الحرام المسجد الحرام أرض مكة أرض مكة كلها التي حرمها الله -تبارك وتعالى- وجعلها مسجدًا له -جلا وعلا- حرام: حرمه الله وحرمة مكة منذ الخليقة يوم خلق الله السماوات والأرض حرم أرض مكة جعل هذا المنطقة حرام ليبنى فيها بيته ولتكون منارة, جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ: جعلها الله -تبارك وتعالى- ليقيم الله -تبارك وتعالى- الناس على الدين بها, فتكون رمز لهم مكان لهم مثابة لهم مكان ثواب مكان يلتقون فيه منافع عظيمة منذ أن خلق الله -تبارك وتعالى- السماوات والأرض, ثم أقام إبراهيم هذا البيت وأمره الله أن يدعو الناس جميعا إلى حج بيت الله -تبارك وتعالى-, ثم كان النبي الخاتم -صلوات الله والسلام عليه- الذي أنشأه الله وبعثه الله -تبارك وتعالى- في هذا البلد أم القرى لتكون هي منبع دعوته إلى الله -تبارك وتعالى-, وكذلك ليكون هذا المكان هو المكان يتوب ويرجع الناس إليه من كل مكان ويثوبون إليه, ومكان ليثيبهم الله -تبارك وتعالى- الأعمال العظيمة من المناسك التي شرعها الله -تبارك وتعالى- لعباده فيه, فهذا المسجد الحرام المشرف المكرم عند الله -تبارك وتعالى- الذي حرم الله -تبارك وتعالى- فيه أمور هي حلال في غيره كأن يختل خلاؤه يصاد صيده يطلب فيه بدم يفعل فيه إثم برأه الله كذلك من هذا حرمه الله -تبارك وتعالى- حرم حتى عن تلتقط لقطته, قال -جلا وعلا-: الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ: أي هذا حكم الله -تبارك وتعالى- الشرعي في أن يجعل الله -تبارك وتعالى- للناس سواء العاكف فيه والباد, والعاكف فيه: الباقي فيه من أهله, والبادِ: الذي يأتي من خارجه من بادية الأرض فكل هذا المسجد ليس ملكًا لأحد وإنما هذا جعله الله -تبارك وتعالى- للناس كلهم كل الناس يكونوا فيه سواء لهم حق في أن يعبدوا الله -تبارك وتعالى- فيه, وأن يزوروه وأن يحجوه وأن يأتوا إليه, والاثنين سواء العاكف فيه الباقي فيه والقائم فيه والبادِ الذي يأتي من خارج فيه سواء العاكف فيه, والباد إقامته وأمنه وسلمه يجب أن يكون للجميع, ثم قال -جلا وعلا-: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}[الحج:25]: يفكر ينوي إرادة بإلحاد عن أمر الله -تبارك وتعالى- الإلحاد: هو الميل وأصل اللحد هو الميل ومنه يسمى هذا اللحد الذي يشق في الأرض ثم يحفر بالميل هذا يسمى لحد يلحد بإلحاد بأي ميل عن طريق الحق عن الإيمان, الحاد, بظلم: أي ظلم يظلم من يأتيه أو من يأويه أو يظلم أهله بأي ظلم, أو يظلم نفسه بمعاصي الرب -تبارك وتعالى- قال -جلا وعلا-: نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ: لابد يقاسي يذوق هذا, ويقول الله هنا نذقه أنه سيقاسيه من عذاب أليم وهذه صور العذاب قد مرت بنا قد مر الله -تبارك وتعالى- بنا صور العذاب في الذين كفروا {........ قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ}[الحج:19-22]: هذه صور العذاب المؤلم, فهذا حكم من يكفر بالله -تبارك وتعالى- ويصد عن سبيل الله وعن هذا المسجد الحرام فارتكب هذه الجرائم فالصد عن سبيل الله والمسجد الحرام هذا الله -تبارك وتعالى- يتهدد فاعله بهذا الوعيد الشديد , ثم شرع الله -تبارك وتعالى- يبين مكانة هذا البيت وتاريخه فقال -جلا وعلا-: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ}[الحج:26-29]: يبين الله -تبارك وتعالى- كيف أن الله -تبارك وتعالى- قد أقام هذا البيت ليكون هو المنارة والهادي للناس قال -جلا وعلا-: وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ: بوأناه أظهرناه أظهر الله -تبارك وتعالى- وهيأ له مكان البيت ليبينه على أصوله التي بني عليها في بداية الخلق, وقيل إن أول من بناه هم الملائكة بنوه وأن إبراهيم -عليه السلام- هو أول من أقام بعد ذلك من البشر هذا البناء على هذه الأسس التي كانت الملائكة قد بنته بعد نزول آدم -عليه السلام- وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أظهرناه له وعلمناه أين يبني بيت الله تبارك وتعالى, وهيأه الله -تبارك وتعالى- له ومكنه الله -تبارك وتعالى- من ذلك وهذه كل بوأك الله -تبارك وتعالى- أنزلك الله -تبارك وتعالى- هذه المنزلة ومكنك من هذا تمكين فالله -تبارك وتعالى- مكن إبراهيم وهيأ له -سبحانه وتعالى- أن يبني البيت في هذا المكان الذي بني فيه وإبراهيم أبو الأنبياء -عليه الصلاة والسلام- أبو إسماعيل, وأبو اسحاق وهو كل الأنبياء الذي جاءوا من بعده من نسله -صلى الله عليه وسلم-, البيت: بيت الله -تبارك وتعالى- الكعبة التي تكون الشعار والمنار للناس ليصلوا إليها, أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا: كان الأمر أن يكون هذا البيت يبنى لله لا لغيره فلا شرط عندما بني هذا البيت بناه إبراهيم خالصًا لله -تبارك وتعالى- لم يكن ثمة صنم ولا ثمة شريك شركة في هذا البيت لا وإنما بناه ليعبد الله -تبارك وتعالى- وحده لا شريك له فلا ينسب البيت و يقال بيت الله فهذا بيت الله ولا ذكر لأحد مع الله -تبارك وتعالى- في هذا البيت, {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ}[الحج:26]: طهارة بمعنى النظافة, وهنا طهارة حسية وطهارة معنوية يطهر من كل الأدران الحسية فيمنع عنه النجاسات والقاذورات يبقى مكان نظيف طاهر لعبادة الرب -تبارك وتعالى-, للطائفين حول هذا البيت حول هذه الكعبة شرع الله -تبارك وتعالى- لعباده أن يعبدوه بالطواف حول بيته هذا الطواف المعروف والطواف هذا دوران حول هذه البنية, للقائمين في الصلاة الذين يقومون في الصلاة ووجهتهم هذا البيت, الركع السجود الركع الراكعين القائمين بالركوع والسجود هذا فكأن هذا البيت أقيم لهذه العبادة لمن يطوف يعبد الله -تبارك وتعالى- طائفا, ويعبده قائمًا وراكعًا وساجدًا انظر هذا البيت العظيم الذي جعله الله -تبارك وتعالى- بيتاً له ليأتي العباد إلى هذا المكان ويعبدوا الله -تبارك وتعالى- بهذه العبادات العظيمة الطواف بهذا البيت الذي يدل على خضوع العباد لإلههم وخالقهم ومولاهم -سبحانه وتعالى-, فإن الطواف هذا دليل الذل والخضوع والاستجابة لأمر الله -تبارك وتعالى- وكذلك القيام تعظيمًا والركوع والسجود كلها صور للخضوع والذل وهذه هي حقيقة العبادة للرب الإله -سبحانه وتعالى-, {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ}: كل هذا رد على هؤلاء المشركين الصادين عن بيت الله -تبارك وتعالى- الذين حولوه بعد ذلك بيت للأوثان والأصنام فأدخلوا الأصنام إلى داخل الكعبة كان في داخل البيت ووضعوا الأصنام فوق سقف البيت 360 صنم كانوا فوق سقف البيت حطمها النبي -صلى الله عليه وسلم- عندما دخل مكة فاتحًا, وكذلك وضعوا الأصنام حول البيت اوساف هنا على الصفا, ونائلة هناك على المروة فجعلوه بيت للشرك وبيتًا للكفر بعد أن كان هذا بناءه وهذا أصل بناءه أن الله -تبارك وتعالى- إنما بناه ليكون بيتًا له -سبحانه وتعالى- ألا تشرك بي شيئا ويكون طاهر من كل الأدناس والأقذار الحسية وكذلك المعنوية وأكبر دنس معنوي هو وجود الكافر عنده ودخول أصنامه إليه.

نقف إن شاء الله عند هذا, ونكمل في الحلقة الآتية, أسغفر الله لي ولكم من كل ذنب, -وصلى الله وسلم عبد الله ورسوله محمد-.