إن الحمد لله، نحمده
ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله
فلا مضل له، ومن يضلله فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له،
وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد، فإن خير
الكلام؛ كلام الله -تعالى-، وخير الهدي؛ هدي محمد -صلى الله عليه
وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في
النار.
وبعد أيها الإخوة
الكرام، يقول الله -تبارك وتعالى- {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ
أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ
عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا
لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ
كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ
لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ}[البقرة:143]، قد مضى في الحلقة السابقة
أن هذه الآيات لما قال اليهود عند تغيير القبلة من بيت المقدس إلى مكة، الكعبة
البيت الحرام، قالوا مقالتهم إن محمدًا ليس على بينة من أمره، أنه غيَّر قبلته،
وإن تغيير القبلة يعني هدم الدين، وأن النبي لم يكن على بينة في قبلته الأولى، ثم لتحويله
للقبلة الثانية، ثم إنه حوَّل وجهه عن قبلة الأنبياء السابقين، قبلة موسى، وقبلة
عيسى -عليه السلام-، أنزل الله -تبارك وتعالى- قوله {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ
قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا}، قال –جل وعلا- {قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ}، الجهات كلها
لله -سبحانه وتعالى-، {يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}، وقد هدى هذه الأمة إلى صراطه المستقيم -سبحانه
وتعالى-، واختياره للقبلة؛ قبلة البيت الحرام اختيارٌ عظيم، لتستقل هذه الأمة
بقبلتها، وتكون أمة متميزة عن سائر أمم الهداية السابقة، بدءًا من القبلة؛ والقبلة
تمثِّل العلم والشعار الذي يلتف حوله المسلمون من كل مكان، اختار الله -تبارك
وتعالى- للمسلمين صراطهم، شريعتهم، وصراطهم وطريقتهم، وعلمهم الذي يجتمعون حوله.
قال -جل
وعلا- {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا}، عدولا، ثم اختار الله -تبارك وتعالى-
لهم وسط الأرض، مكة مركز العالم، فهي القرية التي تأكل القرى، وهي أول مكانٍ وضع
الله -تبارك وتعالى- فيه بيتًا للعبادة، وهو البيت الذي بناه إبراهيم أبو الأنبياء
-صلوات الله والسلام عليه-، فهذه هي الأصل، وأما تلك القبلة كانت فرعًا، {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا}، أمة عدولا، {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ}، لتشهدوا على الناس جميعًا، ناس زمانهم
والناس بدءًا من بدء الخليقة إلى قيام الساعة، وفسر النبي -صلى الله عليه وسلم-
هذه الشهادة، بأن أمة محمد يوم القيامة تشهد لنوح على قومه، ولهود على قومه،
ولصالح على قومه، ولكل نبي على قومه، فعندما يقول كفار هؤلاء الأقوام كيف تشهدون
ولم تكونوا معنا! يقولوا نشهد بشهادة الله -تبارك وتعالى-، فإن الله -تبارك
وتعالى- أنزل كتابه على هذه الأمة، القرآن فيه خبر كل الأمم، ماذا قال كل رسول
لقومه، وبما رد عليه قومه، فهذه الأمة تشهد بشهادة الله، {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ}، كلهم، {وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}، الرسول شهيد على هذه الأمة -صلوات الله
والسلام عليه-، كما قال -تبارك وتعالى- {فَكَيْفَ إِذَا
جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا}[النساء:41]، {يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ
لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا}[النساء:42]، شهادة النبي -صلوات الله
والسلام عليه- لمن أطاعه بالجنة، ولمن عصاه بالنار -صلوات الله والسلام عليه-.
ثم قال -جل
وعلا- {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ
عَلَيْهَا}، أي القبلة بيت المقدس، {إِلَّا
لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ}،
عندما يحوِّل الله -تبارك وتعالى- هذه القبلة، وهذا سابقٌ في علم الله -تباك
وتعالى-، عندما يحوِّل القبلة من بيت المقدس إلى مكة المكرمة، فعند ذلك يظهر من
يتَّبع الرسول، مَن هو موقنٌ برسول الله، وأنه هو رسول الله حقًا وصدقًا، فلو قال
له توجَّه إلى هذه الجهة في الصلاة يتوجه، ثم قال له لا أمرني الله أن نتوجه إلى
هذه الجهة يتوجه، ويعلم أن النبي صادق ولا يتشكك في أمره، {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ
يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ}، إلى الكفر، والإنقلاب على العقبين المقصود به
الرجوع مرةً ثانية؛ القهقرة إلى الكفر، والعقبين هي مؤخر القدم، {وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى
اللَّهُ}، قال -جل وعلا- {وَإِنْ كَانَتْ
لَكَبِيرَةً}، تحويل القبلة من جهة إلى جهة أخرى، ومن مكان إلى مكان كبيرة،
وذلك أن الشبهة فيها عظيمة، لكن أخبر الله –تبارك وتعالى- قال {إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ}، فالذين هداهم
الله -تبارك وتعالى- مؤمنون مصدقون، موقنون بأن هذا هو رسول الله حقًا وصدقًا،
فإذا أمرهم بما أمرهم به صدَّقوه بأن هذا خبر السماء، وأن هذا من الله -تبارك
وتعالى-.
قال -جل وعلا- {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ
إِيمَانَكُمْ}، أي صلاتكم إلى بيت المقدس، هذه الصلاة الأولى في سنوات
كثيرة، فإن النبي قد أُمر من أول الدعوة أن يصلي إلى بيت المقدس، هذه عشر سنوات
كانت في مكة، ثم سنة وستة عشر شهرًا كانت في المدينة، فهذه مدةً طويلة صلى في
المسلمون هذه الصلاة إلى بيت المقدس، قال مَن قال من هؤلاء السفاء، وظن مَن ظن من
ضعاف الإيمان، أن هذه الصلاة التي صليت إلى بيت المقدس صلاةٌ باطلة، وأنها انتهت
مادام أنه قد غُيِّرت القبلة فإنه كأن هذه الصلاة لم تكن، فقال -جل وعلا- {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ}، لا يمكن
أن يضيع الله -تبارك وتعالى- إيمانكم، صلاتكم؛ فالصلاة من الإيمان، هي شعبة من شعب
الإيمان، وقد صلوا مؤمنين لله -تبارك وتعالى- موقنين به، ومطبقين لأمر الله -تبارك
وتعالى-، فهو الذي أمرهم أن يصلوا إلى هذه القبلة، {وَمَا
كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ
اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ}، فهذا من رأفته ورحمته ألا يضيع
عملهم -سبحانه وتعالى-، مادام أنهم هذا العمل قد أدوه مخلصين لله -تبارك وتعالى-
مطيعين له فيه.
ثم قال -جل وعلا- {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ
فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ
وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ
رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ}[البقرة:144]، {قَدْ نَرَى}، هذا تأكيدٌ وتحقيق، يخبر الله -تبارك
وتعالى- رسوله –صلى الله عليه وسلم- أنه قد رأى تقلُّب وجهه في السماء، وتقلُّب
الوجه في السماء هو تنقله يمينًا ويسارًا في جنبات السماء ينتظر الوحي، ينتظر أنه
يأتيه جبريل من الله -تبارك وتعالى- بالأمر بالتوجه إلى هذه القبلة، فإن النبي قد
كان في نفسه شيء أنه يتوجه إلى هذه القبلة؛ القبلة التي يتوجه إليها كان في الأصل
اليهود ثم النصارى، ولكن النصارى بعد ذلك خالفوا اليهود عنادًا، ووجهوا وجههم إلى
الشرق دائمًا في أي مكان، وكان يحب أن تصبح له شريعته المستقلة –صلوات الله والسلام
عليه-، وقبلته المستقلة انفصالًا عن طريقة وقبلة أهل الكتاب، قال -جل وعلا- {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ}، انتظارًا
للوحي، {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا}،
أي فوالله لنوليَّنك قبلة ترضاها تحبها، وهي أن يتوجه في صلاته إلى البيت الذي
بناه إبراهيم أبو الأنبياء، أبو النبي -صلوات الله والسلام عليه-، ولأول بيت وضعه
الله -تبارك وتعالى- في هذه الأرض، {فَوَلِّ وَجْهَكَ
شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}، {فَوَلِّ وَجْهَكَ}،
أمر من الله -تبارك وتعالى- أن يولي النبي وجهه في الصلاة، وهذا أمرٌ طبعًا لجميع
الأمة، {شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}، شطره
جهته، المسجد الحرام هو أرض مكة، وهي كلها مسجدٌ حرام، وحرام لأن الله -تبارك
وتعالى- حرَّم فيها أشياء تباح في غيرها، منها أنه لا يُعضَلُ شجرها، ولا ينفَّر
صيدها، ولا تلتقط لُقَطَتُها إلا لمنشد، يحرم فيها المطالبة بدم، يحرم فيها الحرب
والقتال، فحرَّمها الله -تبارك وتعالى- فهي بلدٌ حرام، وحرمتها يوم خلق الله
السماوات والأرض حرَّم هذه الأرض، {فَوَلِّ وَجْهَكَ
شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا
كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ}، {وَحَيْثُ
مَا كُنتُمْ}، في أي مكانٍ حيث أي مكانٍ كنتم في الأرض، {فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ}، أي ولُّوا وجهكم
وجهوا وجوهكم شطر المسجد الحرام في أي مكانٍ تكونون في الأرض.
ثم قال -جل وعلا- {وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتَابَ}، اليهود والنصارى،{لَيَعْلَمُونَ
أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ}، ليعلمون أنه؛ أن هذا التوجه أن هذا
النبي ستكون قبلته إلى المسجد الحرام، يعلمون هذا مما أنزل الله -تبارك وتعالى-
على رسلهم، فيعلمون هذا علمًا يقينيًا أنه الحق من ربهم، {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ}، من طمسهم للحقائق
وتبديلهم لها وتغييرهم، وإظهارهم خلاف ما يبطنون، وإخفائهم الحق وإظهارهم الباطل، {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ}، من هذه
الأعمال الخبيثة دفعًا للإسلام، ومحاولة لإطفاء نور الله -تبارك وتعالى-.
ثم قال -جل وعلا- {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ
أُوتُوا الكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ}، {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ}، لئن
جئتهم الذين أوتوا الكتاب اليهود والنصارى، سمُّوا أنهم أتوا الكتاب أي أعطوا
الكتاب، التوراة والإنجيل المنزَّل على موسى وعيسى -صلوات الله والسلام عليهم
أجمعين-، لو جئتهم بكل آية سواء كانت آية مسموعة من الرب -جل وعلا- كهذه الآيات
المنزلة، أو آيات منظورة، براهين كونية، خوارق، معجزات،
{مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ}، لن يتبعوا قبلتك، لن يتركوا قبلتهم ويتبعوا قبلتك، وهم
مأمورون طبعًا باتِّباع النبي الخاتم -صلوات الله والسلام عليه-، واتباع قبلته -صلى
الله عليه وسلم-، قال -جل وعلا- {وَمَا أَنْتَ
بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ}، بتابعٍ قبلة اليهود والنصارى، وذلك أنه الله -تبارك
وتعالى- قد وجهَّهُ هذه الجهة التي يحبها الله، وكذلك يهواها ويريدها النبي -صلوات
الله والسلام عليه، وأحبها النبي -صلوات الله والسلام عليه-، {وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ}، في التوجه إلى بيت المقدس، بعد أن وجهَّك الله -تبارك
وتعالى- إلى مكة، {وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ
قِبْلَةَ بَعْضٍ}، أي لن يتبع اليهود قبلة النصارى، ولن يتبع النصارى قبلة اليهود، قال -جل
وعلا- {........ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ
أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ
الظَّالِمِينَ}[البقرة:145]، هذا وعيد للنبي ولهذه الأمة، فخطاب النبي خطابٌ للأمة، وقد
تخاطب الأمة في شخص النبي -صلوات الله والسلام عليه-، أي قد لا يكون النبي هو داخل
أصلًا في الخطاب، ولكن المراد به أمته -صلوات الله والسلام عليه-، فالمعلوم أن
النبي لن يتبع أهواء أهل الكتاب، ولكن هذا تعليم وتوجيه للأمة كلها، {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ}، أهواء أهل الكتاب،
وسماه الله –تبارك وتعالى- أهواء لأن ما شرَّعوه لأنفسهم إنما هو هوى من أهوائهم،
وليس من شرع الله -تبارك وتعالى-، {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ
أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ
الْعِلْمِ}، أي من بعد هذا الذي جاءك من العلم، وقد جاءه من العلم بأن يوجه
وجهه نحو الكعبة، {إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ}،
لو فعلت ذلك، {إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ}،
لأنه يضع الأمر هنا في غير محله، والظلم هو وضع الشيء في غير محله، فاتِّباع أهل
الكتاب فيما يعصى به الله -تبارك وتعالى- اتباع أهوائهم لا شك أنه أكبر ظلم، يترك
طاعة الله -تبارك وتعالى- إلى طاعة غيره من أهل الأهواء.
ثم قال -تبارك وتعالى- {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ
الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا
مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}[البقرة:146]، {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ}، من اليهود
والنصارى، {يَعْرِفُونَهُ}، محمدًا -صلى الله
عليه وسلم-، {كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ}، الإنسان
طبعًا لا يخفى عليه ابنه، فهو يولد عنده ويعلم صفاته الخَلقية والخُلقية، وذلك أنه
ابن معاشر له، أخبر -تبارك وتعالى- بأن أهل الكتاب يعلمون النبي كما يعلم الإنسان ابنه،
يعلمون النبي بالأوصاف الخَلقية والخُلقية التي وصفه الله -تبارك وتعالى- بها في
التوراة والإنجيل، فقد جاء وصف هذا النبي وصفًا كاملًا، سواءً كانت صفاته
الخَلقية، صفته الخَلقية أو صفاته الخُلقية -صلوات الله والسلام عليه-، هذه الأوصاف
تنطبق على النبي محمد -صلوات الله والسلام عليه-، ولذلك لما جاء حبر اليهود وعالمهم
عبد الله بن سلام لما علم بمجيء النبي إلى قُباء، مهاجرًا من مكة إلى المدينة ونزل
بقباء، على طول جاء إلى النبي -صلوات الله والسلام عليه- ونظره وفتَّشه، ثم قال له
إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي، ثم سأله عن هذه الثلاث، ثم قال له أشهد أن
لا إله إلا الله، وأشهد أنك رسول الله، ثم قال له يا رسول الله إن اليهود قومٌ
بُهت، وأنهم إن علموا بإسلامي بهتوني، ومعنى أنهم بُهت أي كذَّابون، والبهت هو
الكذب الذي إذا أُلقي في وجه من يُلقي يبهت، فلا يستطيع أن يُحير جوابًا من شدته
ومن غلظه، قال له فخبئني عندك، ثم إذا جاء اليهود فسلهم عني، ثم جاءت وفود اليهود
تسأل وتفتش عن هذا القادم الجديد، الذي يدَّعي أنه نبي، فجلسوا مع النبي ساعة
يجادلونه، والنبي يعرض عليهم هذا الدين ويتلو عليهم القرآن ويبين لهم فلم يؤمنوا، ففي
ختام هذا الحِجاج قال لهم النبي -صلوات الله والسلام عليه- ما عبد الله بن سلام
فيكم؟ قالو حبرنا وابن حبرنا، وسيدنا وعالمنا وابن سيدنا، فأخبروا أنه حبرهم أي
عالمهم، وأنه سيدهم بمعنى أنه المرجع الذي يرجعون إليه، فهو الذي يسودهم أي آمرهم؛
مَن يأمرهم وينهاهم، وابن سيدنا، فهو السيادة والعلم كابر عن كابر، فقال لهم النبي
ما رأيكم لو أسلم؟ أي لو أسلم ألا تتبعونه؟ مادام أنه عالمكم وهو حبركم، فلا شك
أنه أعلم منكم، فقالوا أعاذه الله من ذلك، أي كيف يسلم! فخرج عند ذلك عبد الله بن
سلام، وكان مستترًا خلف النبي فقال أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول
الله، فقالوا هو شرنا وابن شرنا، ووقعوا فيه أمام النبي -صلوات الله والسلام
عليه-، فقال عبد الله للنبي -صلى الله عليه وسلم- يا رسول الله ذلك الذي كنت أخاف،
فهذه صورة.
كذلك هذا سلمان الفارسي -رضي الله تعالى عنه- رجل عاش مع عامة رُهبان
النصارى في آخر العهد، مع عالم النصارى ورأسهم في نصِّيبين وفي الحيرة وفي الموصل وفي
أنطاكيا، ثم عند ذلك قال له يا بني لا أعلم أحدًا على هذا الدين بعدي، ولكن هذا
وقتٌ في هذا الزمان قد أظل خروج نبي، ومخرجه في أرض العرب، في قرية ذات نخل بين
حرَّتين، فإن شئت أن تلحق بيه فألحق، فلما قال له ذلك باع بقراته، كان عنده بقرات،
وخرج مع قبيلة من قبائل العرب حتى أتى، للأسف أنهم أخذوا بقراته له قصة طويلة في
هذا، المهم الاختصار لبيان معنى {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ
الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ}، فبيع في خيبر،
ثم باعه صاحب خيبر إلى رجل في المدينة، بقي في المدينة ثم بعد ذلك علم وهو في
النخل عند مالكه اليهودي، جاء وقال له انظر بني قيلة قد اجتمعوا على رجل أتى من
مكة يزعم أنه نبي، وقد سمع هذا الكلام وهو على رأس النخلة فنزل بسرعة وقال ماذا؟!
فلطمه اليهودي على وجهه، قال وما شأنك أنت بذلك، ارجع إلى عملك، ثم في المساء أخذ
تمرات وذهب إلى النبي، كان عنده علامات ثلاثة من صفات هذا النبي، أنه يأكل الهدية
ولا يأكل الصدقة، وأن بين كتفيه خاتم التنبوة، هذا من صفته، فلما تحقق من هذه
الثلاث في قصته الطويلة، جاء إلى النبي أكبَّ عليه وقبَّل ظهره -صلى الله عليه
وسلم-، ثم أخبره خبره في رحلته الطويلة في رحلة الدين، حتى وصولًا إلى النبي
وتعرفه عليه -صلوات الله والسلام عليه-، لما تحقق من أن محمد بن عبد الله -صلوات
الله السلام عليه- هو رسول الله حقًا وصدقًا، أعلن إسلامه وإيمانه، وهذا راهب عظيم
من رهبان النصارى، علم الحق وآمن به.
فالذين آتيناهم الكتاب؛ قصص عن الذين آتيناهم الكتاب من تحققهم اليقيني من
أن هذا النبي هو رسول الله حقًا وصدقًا هذا أمر يطول، وفي التوراة التي بين أيدينا
الآن وفي الإنجيل أكثر من مائة نص، تدل وتصف هذا النبي خُلقًا وخَلقًا، وأنه هو؛
هو محمد بن عبد الله -صلوات الله والسلام عليه-، فيخبر –جل وعلا- أن أهل التوراة
وأهل الإنجيل يعرفونه، يعرفون محمدًا -صلى الله عليه وسلم- كما يعرفون أبناءهم، بل
قال عبد الله بن سلام ((والله يا رسول الله إني لأعرفك أكثر من ابني))، فقد يُشَك
في الابن بصورة من الصور، لكن لا يشك بأن محمد بن عبد الله هذا الذي أرسله الله -تبارك
وتعالى- في مكة، هو رسول الله حقًا وصدقًا المبشَّر به في التوراة والإنجيل.
قال -جل وعلا- {وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ
الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}، {وَإِنَّ فَرِيقًا}،
من هؤلاء الذين أوتوا الكتاب علماء اليهود والنصارى، {لَيَكْتُمُونَ
الْحَقَّ}، وكتمانه أي إخفاؤه وعدم البوح له، {وَهُمْ
يَعْلَمُونَ}، وهم يعلمون الحق ويعلمون صفة النبي، ولكن يقولون ليس هو، ليس
هو النبي الذي أُمرنا بأن نتبعه.
قال -جل وعلا- {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا
تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ}[البقرة:147]، هذا الذي جاءك هو الحق وهو من ربك الله -سبحانه
وتعالى- الذي لا إله إلا هو، {فَلا تَكُونَنَّ مِنَ
الْمُمْتَرِينَ}، أي لا تكونن من الشاكِّين في الأمر الذي أنزل إليك،
والتوجه إلى البيت الحرام أمر الله -تبارك وتعالى-.
ثم قال -جل وعلا- {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ
مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ
اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[البقرة:148]، {وَلِكُلٍّ}، أي من هذه الأمم، {وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا}، في صلاته، اليهود يتوجهون إلى الصخرة في
بيت المقدس، والنصارى أصبحوا الآن يتوجهون إلى الشرق، وأهل الإسلام توجهوا حيث
وجههم الله -تبارك وتعالى- إلى الكعبة، البيت الحرام، قال -جل وعلا- {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ}، استبقوا الخيرات أي
تسابقوا إلى الخيرات، ولا شك أن المسلمون هو السابقون إلى الخيرات، لأنهم قد اتبعوا
النبي الذي ختم الله -تبارك وتعالى- به الرسالات، واتبعوا رضوان الله -تبارك
وتعالى- وأطاعوا الله في هذه الشريعة الخاتمة، {أَيْنَ
مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا}، أين ما تكونوا في أي مكانٍ
تكونون فيه فإن مرجعكم بعد ذلك إلى الله -تبارك وتعالى-، {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}، يأتي بكم الله إلى فصل
القضاء إلى يوم القيامة، {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ}، فالبعث والنشور وإخراج هذه الأمم كلٌ من أجداثها وجمعها
في مكانٍ واحد، هذا الله -تبارك وتعالى- قادرٌ عليه، وفي هذا ترهيب من مخالفة أمره
-سبحانه وتعالى-.
ثم قال -جل وعلا- {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ
وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا
اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}[البقرة:149]، تأكيد بعد ذلك إلى أن كل
مسلم في أي مكانٍ يكون فيه يجب أن يتوجه في صلاته إلى المسجد الحرام، {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ
الْحَرَامِ}، ناحية المسجد الحرام أي في الصلاة، {وَإِنَّهُ}،
أي هذا التوجه، {لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ}، هو
الحق الذي أنزله الله -تبارك وتعالى- عليك من ربك، إلهك ومولاك -سبحانه وتعالى-، {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}، ليس الله
-تبارك وتعالى- بغافل عن أعمالكم، بل هو مطلع عليها صغيرها وكبيرها.
ثم {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ
شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}، تأكيد، {وَمِنْ
حَيْثُ خَرَجْتَ}، من أي مكان تكون في الأرض، {فَوَلِّ
وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}، {وَحَيْثُ
مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ}، وحيث ما كنتم في أي مكان
فولوا وجهكم شطره، قال –جل وعلا- {لِئَلَّا يَكُونَ
لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ}، أي
أكَّد الله -تبارك وتعالى- لكم هذا الأمر، وجعلكم أمة مستقلة وجعل لكم قبلتكم، حتى
لا يكون للناس عليكم حجة، لا يحتج عليكم إنسان بحجة قط، وذلك أنكم اتبعتم أمر الله
–تبارك وتعالى-، وتوجهتم إلى البيت الذي بناه إبراهيم -عليه السلام- قبلة للناس،
مثابة للناس، وأنه هو أول بيت وضعه الله -تبارك وتعالى- في هذه الأرض، قال -جل
وعلا- {إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ}، إلا
الذين ظلموا منهم من أهل الكتاب لا تنفعهم حجة وبرهان، فلابد أن يحتجوا بالباطل
وذلك أن إرادتهم ليست هي وصولًا إلى الحق، وإنما هي صد عن سبيل الله، {إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي}، أي لا تخشوا هؤلاء
الذين يحتجون بالباطل، ويحاولون إبطال دينكم وشريعتكم، {فَلا
تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي}، جعل الخشية وهي الخوف مع التعظيم له وحده -سبحانه
وتعالى-، {وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ
وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}، أي أن جعلكم أمة مستقلة بالقبلة إنما هو من
تمام نعمة الله -تبارك وتعالى- عليكم بالدين والهداية، {وَلِأُتِمَّ
نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}، إلى طريقه -سبحانه
وتعالى- وطاعته -جل وعلا-.
نكتفي اليوم عند هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، وأصلي وأسلم على عبد الله ورسوله محمد.