الحمد لله رب العالمين, وأصلي وأسلم على عبد الله ورسوله الأمين, وعلى آله وأصحابه, ومن اهتدى بهديه وعمل بسنته إلى يوم الدين.
وبعد... فيقول الله -تبارك وتعالى-: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ}[الحج:32], هذه الآيات من سورة الحج, وبعد أن ذكر الله -تبارك وتعالى- طائفة من أحكام الحج بدءًا من قوله -تبارك وتعال-: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}[الحج:25]: ذكر الله -تبارك وتعالى- من هذه الأحكام وقال ذلك إشارة إلى ما ذكره الله -تبارك وتعالى- ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب آيات جامعة يخبر -سبحانه وتعالى- أن تعظيم الشأن لهم, معنى تعظيم هذه الشعائر: أي إجلالها وإكبارها وإنزالها منازلها, والعلم بأن كل أمر من هذه الأمور شعائر وهي الأماكن والأعمال التي تشعر بأنها من الله -تبارك وتعالى- أحكامها أقامها الله -تبارك وتعالى- فهي معلمة مشعرة, الإشعار هو الإعلام مشعرة معلمة بالأهمية والحكم والنسبة إنها منسوبة إلى الله -تبارك وتعالى-, وأهمية ذلك وأن الله هو الذي شرعها -سبحانه وتعالى-, فالمؤمن من أعظم شعائر الله -تبارك وتعالى- في الأرض لأنه فرد يقيم أمر الله -تبارك وتعالى- يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله, الكعبة من شعائر الله -تبارك وتعالى-, الآذان من أعظم شعائر الله -تبارك وتعالى-, الصلاة من شعائر الله, الصوم كل أعمال الدين هذه من شعائر الله -تبارك وتعالى-, وشعائر الله -تبارك وتعالى- التي قد أقامها في هذا المكان في الحج أمور عظيمة, الكعبة يجب أن تُعظَّم وتكرَّم, المسجد الحرام والأحكام التي جعلها الله -تبارك وتعالى- له الصفا والمروة كما قال -جل وعلا-: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا ........}[البقرة:158] فتعظيم البدء النهاية هذه الأماكن تعظيم العمل نفسه الذي يقوم به, وأن هذا عمل من أعمال العبادة طواف وسعي ورمي جمار كل هذا من شعائر الله -تبارك وتعالى- يجب أن يعظم ذلك ومن يعظم شعائر الله, كذلك من شعائر الله -تبارك وتعالى- البدن التي تُهدَىْ إلى البيت وأنها تشعر يوضع لها علامة إما بقلادة تقلد بها وكان النبي يقلد الغنم, أو بعلامة من دم في الإبل وتشعر بالدم الإبل يضرب جانب من سنامها بسهم حتى يسيل الدم ثم يلبد الدم على جانب السنام, فإذا رآها من رآها علم أن هذه مهداة لبيت الله -تبارك وتعالى- لتذبح هناك فتصبح من شعائر الله, فالهدي وكذلك الفدية الهدي أيًّا كان مع الحاج أو بغير الحاج, وكان النبي يهدي وغير حاج -صلوات الله والسلام عليه- هذا كله من شعائر الله, {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ}[الحج:32]: إن هذا التعظيم من تقوى القلوب؛ لأنه عندما يعظم هذا فإن هذا نابع من خوف مخافته من الله -تبارك وتعالى- وتعظيمه لأمر الله -عز وجل- فلما كان يعظم الله -تبارك وتعالى- ويعظم فإنه يعظم أمره ويعظم كل ما نسب إلى الله -تبارك وتعالى- هذا من تقوى القلوب والتقوى محلها القلب كما قال النبي -صلوات الله وسلامه عليه-: «التقوى هاهنا التقوى هاهنا التقوى هاهنا يشير إلى صدره ثلاث مرات صلوات الله والسلام عليه», ثم قال -جل وعلا-: {لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ}[الحج:33]: هذا البيت الهدي فهذه أباحها الرب -تبارك وتعالى- أن ينتفع بها أصحابه ومهدوها إلى أجل مسمى هو سوقها حتى تذهب إلى يوم النحر فتذبح فيه كما رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- رجلا يسوق بدنة لا يركبها فقال له النبي: اركبها فقال: يا رسول الله إنها بدنة, فقال له: اركبها فقال: يا رسول الله إنها بدنة فالنبي قال له اركبها لا أم لك فزجره النبي -صلى الله عليه وسلم- وأمره بركوبها, وذلك أن العرب كانت من تعظيمها القديم لأمر الهدي أنهم لا يركبونها ما دام أنها نسبت إلى البيت, فجاء الإسلام وأباح بأن ينتفع بلبنها وينتفع ركوبها هذه المدة لكن فيها منافع إلى أجل مسمى حتى تصل إلى الوقت الذي تذبح فيه, ثم محلها إلى البيت العتيق محلها عندما تذبح ويوزع لحمها بعد ذلك إلى البيت العتيق بيت مكة الكعبة الذي اعتقه الله -تبارك وتعالى- من كل عات وظالم وجبار وحفظه الله -تبارك وتعالى- بحفظه وصونه وظل هذا إلى آخر الزمان, وكذلك هو البيت العتيق القديم الذي أقامه الله, فهذا أول بيت بني لعبادة الرب -تبارك وتعالى- {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ}[آل عمران:96]: أول بيت وضع في الأرض ليعبد فيه الرب -تبارك وتعالى- هو بيت مكة, ثم قال -جل وعلا-: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ ........}[الحج:34]: أن هذه المناسك التي شرعها الله -تبارك وتعالى- لعباده المسلمين على لسان رسوله بالحج ليست هذه المناسك خاصة بهذه الأمة بل إن الله -تبارك وتعالى- شرع كذلك الأمم السابقة مناسك ينسكونها ليذكروا اسم الله -تبارك وتعالى- على ما رزقهم من بهيمة الأنعام, فالتشريع الذبح والقربان لله -تبارك وتعالى- ببهيمة الأنعام أن يذبحها قربة إلى الله -تبارك وتعالى- قد كانت في كل الشرائع السابقة ,كانت في كل الشرائع السابقة جعلها الله -تبارك وتعالى- لهم مناسك على هذا النحو بصور معينة ينسكونها يقدمون قرابين إلى الرب -تبارك وتعالى-, وهكذا أيضًا في شرعة الإسلام الله -تبارك وتعالى- شرع لنا هذا القربان الذي هو الهدي, وهو الفدية يتقرب به إلى الله -تبارك وتعالى-, فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ: إلهكم الذي شرع هذا هو إله واحد إلهكم معبودكم فالإله هو المعبود, إلهكم أيها المسلمون مع الأمم السابقة أمم الهداية النصارى واليهود وغيرهم إله واحد, هو الذي شرع هذا التشريع -سبحانه وتعالى-, فَلَهُ أَسْلِمُوا: لله -تبارك وتعالى- الذي لا إله غيره أسلموا انقادوا وأذعنوا, فالإسلام بمعنى الانقياد والطاعة والإذعان وكذلك ادخلوا في هذا الدين دينه الإسلام الذي بُعِث به محمد -صلوات الله والسلام عليه-, {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ}[الحج:34]: أمر للرسول -صلى الله عليه وسلم- أن يبشر المخبتين, المخبت هو الخاضع الخاشع الذليل لربه؛ لأن الخبوت هو الهبوط والإلتصاق بأرض كل هذا الأرض خبت, ونقول خبت النار بمعنى أنها بعدما كانت مشتعلة وعالية خفت وهبطت إلى الأرض, فالعبد المخبت والعبد الخاضع الذليل الخاشع لربه -سبحانه وتعالى-, فهذا العبد الذي ذل لربه وخضع له واستكان له -سبحانه وتعالى- وقبل أمره ونفذه على النحو الذي يريده -سبحانه وتعالى- هذا هو العبد الحقيقي الخاشع لله -عز وجل- صفة من صفات المؤمن بل هي صفة المنظر العام للمؤمن في أنه دائمًا ذليل لله -تبارك وتعالى- خاضع لأمره منفذ لأحكامه -سبحانه وتعالى- غير متأبل عليه ومستكبر ومستعلي عن أمره -جل وعلا-.
الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ: هذه الصفات هؤلاء المخبتين فالمخبت صفة عامة وكل عبد مؤمن هو مخبت لله -تبارك وتعالى- الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم إذا ذكر الله -تبارك وتعالى-, ذكر الله بالبناء لما لم يسمى فاعله, ذكر الله -تبارك وتعالى- في كتابه على لسان رسوله, وجلت قلوبهم: الوجل الخوف؛ خافت وخشيت قلوبهم من الرب -تبارك وتعالى- وذلك أن الرب -تبارك وتعالى- سريع العقاب شديد العقاب يؤاخذ بالذنب ومن تأبى عليه ورفض أمره عاقبه وعقوبته شديدة, ولا يعذب مثل أحد مثلما يعذب الرب -تبارك وتعالى- {فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ}[الفجر:25], {وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ}[الفجر:26], فالمؤمن من يخاف من ربه -سبحانه وتعالى- ويقدم الخوف على كل شعور آخر يقدم الخوف على الرجاء, ويقدم الخوف على المحبة فإن الله -تبارك وتعالى- من حقه -سبحانه وتعالى- على عباده أن يخافوه أن يتقوه أول شيء , ثم أن يرجوه وأن يطمعوا في إحسانه -سبحانه وتعالى- فهو الرب الغني الكريم المسامح -سبحانه وتعالى-, ثم أن يحبوه لآلائه وأفضاله ولصفاته العليا -سبحانه وتعالى-, لكن خوف مقدم على كل ذلك, {وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}[الحج:35], فهؤلاء العباد هم المخبتون صابرين على ما أصابهم صبر يعرف بأنه حبس النفس عن المكروه دون تململ أو اعتراض, فالصابرين على ما أصابهم ما أصابهم من أمور الشرور المؤلمة سواء كان بمرض, أو بفقد عزيز بموت بفراق بأي نوع هذه الفتن والشرور الأحداث التي تجري عليهم يصبرون لأنهم يعلمون أن هذا من الله -تبارك وتعالى- وأنه اختبار لهم وامتحان لهم فهم صابرون على كل ما أصابهم يصبرون عليه وكذلك ما أصابهم من مشقات الأمر في العبادة تشق عليهم فإنهم كذلك يصبرون على هذه يصبرون على الصيام في الحر الشديد , الجهاد وآلامه وجراحاته وبلائه فأمور كذلك صبر على العبادة, وهذه شهادة من الرب -تبارك وتعالى- بوصف هؤلاء بأنهم مقيمي الصلاة, وإقام الصلاة: أي تعديلها إقامتها على الوجه الأكمل الذي يحبه الله, ولا تكون الصلاة مقامة إلا بتضافر واجتماع كل شروطها التي اشترطت لها كالستر للعورة وأخذ الزينة والطهارة الكاملة ودخول وقتها, وبعد ذلك كذلك خشوع القلب فيها وإخلاص النية لله -تبارك وتعالى- كل هذا من معاني إقامتها, وكذلك من معاني إقامتها أداء أركانها كل ما هو أركانها وعملها فيؤديها بأركانها كما أمرنا أن نصلي صلوا كما رأيتموني أصلي, والمقيمي الصلاة ومما رزقناهم ينفقون هذا من صفات المخبتين كذلك أنهم مما من ما من الذي رزقهم الله -تبارك وتعالى- ينفقون وقال مما رزقناهم وذلك أنهم كل ما يناله العبد من خير هو من الله -تبارك وتعالى- كل هذا الخير رزق, والرزق كل ما ينتفع به العباد, الرزق أعلى هذا المطر النازل من السماء للعباد هذا رزق للبشر كلهم, ثم ما ينبته الله -تبارك وتعالى- من هذه الأرض الأنعام الموجودة هذا طبعًا الرزق الذي هو الرزق للعباد وما خلق الله -تبارك وتعالى- من هذه المنافع العظيمة ثم ما يحصله الإنسان هنا, المقصود هنا ما رزقناهم مما حصله الإنسان وقسمه الله -تبارك وتعالى- له من هذه الأرزاق ينفقون يخرجون بعضها في سبيل الله -تبارك وتعالى- إما بالوجوب كالزكاة التي فرضها الله -تبارك وتعالى-, وإما بالاستحباب كالإنفاق في أبواب الخير, ما قال ما رزقناهم ينفقون وإنما قال مما جزء مما رزقهم الله -تبارك وتعالى- ينفقونه, فهذه الآية فيها جماع صفات هؤلاء العباد المخبتين الذي يحبهم الله -تبارك وتعالى- وهؤلاء هم الذين لهم بشرى, وبشر المخبتين الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم والصابرين على ما أصابهم والمقيمي الصلاة ومما رزقناهم ينفقون هؤلاء الذين اتصفوا بهذه الصفات العظيمة هم الذين لهم هذه البشرى من الله -تبارك وتعالى- وهؤلاء هم الذين يعظمون شعائر الله -تبارك وتعالى- وخاصة في هذه الأماكن العظيمة وهذا المقام العظيم مقام الحج, مقام أمرنا به فيه بتعظيم شعائر الله من مكة الحرام من الكعبة من الصفا والمروة, من الحجاج, من العمار, من الزوار حتى إنه في الحج {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ........}[البقرة:197], فآداب معينة وأحكام معينة ومواقيت معينة, فهذا التزام بمنهج كامل في العبادة ومشاعر كاملة مما يحيط بك يجب أن تعظمها فهذا توجيه من الله -تبارك وتعالى- إلى تعظيم هذه الشرعة {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ}[الحج:32], {لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ}[الحج:33], {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ}[الحج:34], {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}[الحج:35].
ثم ذكر الله -تبارك وتعالى- البدن وهي من شعائر الله وأعطاها الأحكام التي ينبغي أن التي يجب على المسلمين والحجاج أن ينفذوها فيها فقال -جل وعلا-: وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ, البدن جمع بدنة, والبدنة هي الناقة, سميت بدنة؛ لكبر وعظم بدنها قال -جل وعلا-: جَعَلْنَاهَا لَكُمْ: جعل وخلق الله -تبارك وتعالى- وتصير, هذا الأمر من شعائر الله من شعائره -سبحانه وتعالى- أنها هذه علامة من العلامات الدالة وفيها هذه الأحكام الخاصة بهذا الأمر أنها تُهدَى لله -تبارك وتعالى- وتذبح عند بيته وبصفات معينة وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ: أول شيء الخير الذي فيها الذي خلقها الله -تبارك وتعالى- من أجله من ركوبها وشرب لبنها وأكل لحمها والمنافع العظيمة التي فيها والعمل الذي تقوم به نيابة عن الإنسان فيه, فهي من حيوانات الحمل وحيوانات الجر وفيها كل منافع الأنعام منافع الأربعة للأنعام اللحم واللبن والحمل والجر والمنافع الأخرى من جلودها وأوبارها فلكم فيها خير, خير عظيم وكذلك لكم فيها خير الآخرة فإن الله -تبارك وتعالى- جعلها باب من الأبواب أنها تهدى له وتذبح في سبيله -سبحانه وتعالى- ويكون في هذا الخير العظيم لمهديها للرب -تبارك وتعالى- من الثواب الجزيل, وكذلك من نفع الفقراء والمساكين الذين يعطون منها إذًا فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ: اذكروا اسم الله عليها لا تذبح إلا بذكر الله -تبارك وتعالى- اذكروا اسم الله عليها عند الذبح واسم الله أن يقول بسم الله وهذا التبرك بذلك وكذلك أن هذا بإذني وسماحه, فالتسلط على هذا الحيوان وذبحه والانتفاع بلحمه إنما كل هذا باسم الله -تبارك وتعالى- فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ: حال كونها صواف, والصواف أنها تكون واقفة على ثلاثة أرجل معقلة الرابعة تعقل إحدى الأرجل الأمامية منها, ثم تذبح وهي واقفة على هذا النحو يقف الذابح عند جناحها الأيسر ويذبحها بيمنيه بقوله بسم الله فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا: بعد الذبح أو بعد النحر لأن الإبل تنحر من مكان النحر التقاء العنق بالبدن فإذا وجبت جنوبها وقعت بعد ذلك بعد أن ينزل دمها فتقع على الأرض, الوجوب الوقوع والثبوت على الأرض فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ: أمر من الله -تبارك وتعالى- لعباده الذين أهدوا هذه البدن إلى الرب -تبارك وتعالى- أن يأكلوا من ما أهدوه للرب -تبارك وتعالى- فيه إباحة وكذلك فيه تكريم وأن الإنسان يأكل من هديته التي يهديها فتكون هذا معنى أنه قد اختار أفضل ما عنده وأنه يأكل من هذا وليس مستكبر ولا مستعلي أن يأكل من طاعم الفقير, فهذا كذلك يكون من شرف الطعام أن وحسنه أن يأكل منه مهديه, فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر: أطعموا بعد ذلك القانع والمعتر, القانع والمعتر صفتان للفقير فقير قانع لا يسأل أنه قانع بما عنده ولا يسأل الناس وأن كان فقيرا والمعتر فقير, ولكنه يعتر بمعنى أنه يسال ويدور على الناس وقد يطلب هذا وهذا سواء كان رجلًا قانعًا لا يسأل أو يطوف ويسأل فيعطى هذا وهذا قال -جل وعلا-: كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ: كهذا التسخير سخرناها لكن التسخير والتذليل أن جعلها الله -تبارك وتعالى- مع كبر حجمها وقوتها وشدة بأسها ليست وحشًا نافرًا من استغباء إنسان له وتسخير إنسان له بل سخرها الله -تبارك وتعالى- فإنه البعير هذا مع قوته البدنية الهائلة وشدة بأسه لكنه مذلل يأتي الطفل الصغير وينيخه يقول له أخ وينيخه على الصخر فيذل ويركبه ويضربه بعصاه ويسوقه يمنى ويسرى, فهذا المخلوق القوي الشديد الله -تبارك وتعالى- سخر الإنسان يحبسه في المكان ويطعمه ما يشاء ويركبه ويجعله يحمل متاعه الثقيل وينيحه حيث يريد, ويديره في ساقيته وطاحونته تذليل, كذلك سخرناها لكم كهذا التسخير البين الواضح الذي يعرفه كل أحد سخرها الله -تبارك وتعالى- لنا هذا التسخير ولو لم يسخرها الله -تبارك وتعالى- لو جعلها وحش نافرة كسائر الوحوش لما استطاع الإنسان يجتلبها وأن يذللها على هذا النحو بل لما كان للإنسان قدرة على أن يذللها فهذه الأنعام أنظر كيف ذللها الله -تبارك وتعالى- الثور العظيم الكبير كيف ذله لله الله -تبارك وتعالى- كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ: لعلكم أيها العباد تشكروا الله -تبارك وتعالى- أن سخر لكم هذه بهيمة الأنعام على هذا النحو, ومن اشرف هذه بهائم الأنعام الإبل وكيف سخرها الله -تبارك وتعالى- وذللها إذًا اذبحوها لله -تبارك وتعالى- على هذا النحو الذي أمركم به.
ثم قال -جل وعلا-: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ}[الحج:37]: أن الرب -تبارك وتعالى- هو الرب الإله العظيم الغني -سبحانه وتعالى-, وأنه ليس فقيرا إلى أن تنفعوه بلحوم هذه ولا بدماؤها أن تذبح سدى له وإنما الله -تبارك وتعالى- أمركم بما أمركم به بأن تهدوا هذه الهدايا وتذبحوا هذا الذبح يريد منكم تقوى القلوب الذي يريده الله -تبارك وتعالى- هو الامتثال أن يمتثل العبد أمر الله -تبارك وتعالى-, وأن يذعن لأمره -جل وعلا- وينفذ الذي طلبه الله -تبارك وتعالى- منه على النحو الذي أراده الله -تبارك وتعالى-, فتقوى القلوب انقياد القلب لله -تبارك وتعالى- وإذعانه له وفعل هذا الفعل هو هذا الذي يحبه الله -تبارك وتعالى- من العباد, وهو الذي ينال الله -تبارك وتعالى- أخلاق القلوب, وهذه التي هي مراد الرب -تبارك وتعالى- من ذلك وليس مراده أن يتقرب العباد إليه بهذه اللحوم, وهذه الدماء لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم يناله ينال الرب -تبارك وتعالى- أن الله -تبارك وتعالى- يجب منكم-سبحانه وتعالى- أن تتقوا وأن تخافوا {كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ}[الحج:37]: أعاد الله -تبارك وتعالى- التذكير بتسخير هذه الأنعام للعباد كذلك سخرها لكم لتكبروا الله على ما هداكم, التسخير والتذليل حتى تكبروا الله -تبارك وتعالى- وتكبروه تعظموه الله اكبر كلمة عظيمة أن الله اكبر من كل شيء, اكبر من كل مخلوقاته -سبحانه وتعالى- فهو الإله الكبير الذي كل هذه المخلوقات حقيرة وصغيرة بالنسبة إليه, السماوات والأرضين في كف الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم فالله أكبر من كل مخلوقاته -سبحانه وتعالى- فتكبروا الله -تبارك وتعالى- عظموه هذا التعظيم على ما هداكم إلى دينه والى الإسلام وإلى هذه الشرعة إلى أن تذبحوا على هذا النحو وتعبدوه -سبحانه وتعالى- على هذا النحو وبشر المحسنين أيضا بشارة للمحسنين أهل الإحسان, والإحسان هون أن يؤتي الشيء حسنًا على أكمل الوجوه الشيء المحسن هو الذي يؤتى به على أكمل وجوهه كما قال النبي إن الله جدد الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته فالله كتب علينا الإحسان في كل شيء هنا نأتي بكل أعمالنا على أتم وأكمل وجوهها وبشر المحسنين الذين يؤتون بأعمالهم على أتم وجوهها وهذا الإحسان لا يكون إلا بمراقبة الرب -تبارك وتعالى- لما سئل النبي عن الإحسان قال: «أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك», فمن كان يعبد الله -تبارك وتعالى- وكأنه يرى الرب -تبارك وتعالى- أنه يأتي بكل أعماله على أتم الوجوه صلاة صيامًا زكاة حجًا ذبحًا لله -تبارك وتعالى- وقربة يأتي بها على أحسن وجوه وهذا هو الإحسان وبشر المحسنين.
وبهذا تنهي الفقرة من هذه السورة (سورة الحج), ويبدأ فاصل جديد من هذه السورة: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ}[الحج:38], نأتي في الحلقة الآتية إن شاء الله, -وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد-.