الحمد لله رب العالمين، وأصلى وأسلم على عبدالله ورسوله الأمين, سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، وعمل بسنته إلى يوم الدين.
وبعد, فيقول الله -تبارك وتعالى-: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ}[الحج:38], {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ}[الحج:39], {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}[الحج:40], {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ}[الحج:41], هذا فاصل جديد من هذه السورة العظيمة (سورة الحج)، وفيها طائفة من أحكام القتال، بل هذه هى أول آيات أنزلها الله -تبارك وتعالى- فى حكم القتال، والسماح للمسلمين بأن يقاتلوا، وأن يدافعوا عن أنفسهم.
أول هذه الآيات فى شأن القتال، وتشريعه جاء فى قول الله -تبارك وتعالى-: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ}[الحج:38]: إعلان من الله -تبارك وتعالى- وتأكيد أنه -سبحانه وتعالى- يدافع عن الذين آمنوا؛ فأهل الإيمان هم أهل الله -تبارك وتعالى- وهم صفوته، والمنتسبون إليه، وهو وليهم -سبحانه وتعالى- وبالتالى يدافع عنهم، وكون الله -تبارك وتعالى- يدافع عنهم، ويعلن هذا -سبحانه وتعالى- وهذا الشأن فى الرب -تبارك وتعالى- والشأن دائماً أن يكون أهل الإيمان فى كل الأزمان، وفى كل الأمم هم قلة، وقد تكفل الله -تبارك وتعالى- بأن يدافع عنهم -سبحانه وتعالى- فمنذ وجد الإيمان، ووجد الظلم لأهله، والعدوان عليهم، والتسخط منهم، ومحاولة إزالتهم من الأرض، وإستئصالهم، وكان شأن الرب -تبارك وتعالى- معهم أن يدافع عنهم ويحميهم -سبحانه وتعالى- من أعدائهم، بل وأن يهلك عدوهم -سبحانه وتعالى- ويستئصله، ويزيله من ظاهر هذه الأرض كما فعل الله -تبارك وتعالى- بقوم نوح، وعاد، وثمود، وقوم لوط، وأصحاب مدين، وكذلك بعد ذلك فى الأمم التى شرع الله -تبارك وتعالى- فيها القتال كبنى إسرائيل؛ فإن الله -تبارك وتعالى- قد حماهم، ودافع عنهم، ونصرهم -سبحانه وتعالى- على أعدائهم إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا: هذا شأن الرب -تبارك وتعالى- وهذا عمله -سبحانه وتعالى- فى أهل الإيمان أنه يدافع عنهم -جل وعلا- فيدفع عنهم شرور وعدوان المعتدين الظالمين, ثم قال -جل وعلا-: إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ: الله لا يحب كل خَوَّانٍ خوان صاحب خيانة، وهذا شأن الكفار دائماً مع أهل الإيمان, فإنهم دائماً قد يكيدون لهم، ويخونونهم، ويحاولوا فى كل عصر، ومصر، وكل أمة أن ينزلوا بهم نقمتهم كَفُورٍ: شديد الكفر, فكل كفور بالله -تبارك وتعالى- وكل نعمه الله -تبارك وتعالى- يبغضه، ومن أجل ذلك فان الله -تبارك وتعالى- يحمى، ويدافع عن عباده المؤمنين -سبحانه وتعالى- {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ}[الحج:38], ثم قال -جل وعلا-: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ}[الحج:39]: الإذن هو السماح، ورفع الإثم والحرج، ورفع المنع، والآذن هو الله -تبارك وتعالى- لا شك أن الذى أذن بذلك هو الله -تبارك وتعالى- أُذِنَ بالبناء لما لم يسمى فاعله لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا: للذين يقاتلون عباد الله -تبارك وتعالى- المؤمنين، وقد قوتِلوا، ظلموا، وأخرجوا من ديارهم، وقاتلهم هؤلاء الكفار بأنهم ظلموا: لأنهم ظلموا بأن هؤلاء عباد الله -تبارك وتعالى- منهم ظلموا فقد بدأ الإسلام ينتشر فى مكة، وقامت قيامة الكفار فى وجه المسلمين وصاحوا بهم تعذيبًا لمن عذبوه، قتلاً لمن قتلوه كسمية -رضى الله تعالى عنها- تفريقاً فى الأرض، وإخراجاً من مكة إلى أن ينتشر المسلمون فى الأرض يذهب منهم من ذهب إلى الحبشة، ومنهم من ذهب إلى هنا، ومنهم من ذهب إلى هناك، والذين استخفوا بإسلامهم فى قبائلهم فقد صاحوا بهم من كل مكان أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا, قال -جل وعلا-: وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ: بيان، وتأكيد أن الله -تبارك وتعالى- قادر -سبحانه وتعالى- قدير هذه فعل معنى أنه فاعل قادر -سبحانه وتعالى- وهذه صيغة مبالغة من القدرة على نصر هؤلاء أى على نصرهم على عدوهم، وتمكينهم، وغلبة عدوهم لقدير الله -تبارك وتعالى- قادر على ذلك -سبحانه وتعالى- وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ, ثم وصف الله -تبارك وتعالى- حال هؤلاء المؤمنين فقال: الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ: الذين أخرجوا من ديارهم فى مكة أول الأمر، أول دار كانت للإيمان مكة بِغَيْرِ حَقٍّ: إنما بالظلم فلم يكن هناك حق مع الذين أخرجوهم من أن يخرجوا من ديارهم، ومن أموالهم، ومن وطنهم فى مكة قائمين فيه، وهم أهل بيت الله -تبارك وتعالى- وما كان عندهم من جريمة ارتكبوها ضد الكفار إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ, فلم يعتدوا عليهم، لم يأخذوا شئ من أموالهم، لم يقاتلوهم، لم يضيقوا عليهم، لم يفعلوا لهم أى شيء مما فيه عدوان، أو فيه ظلم لهم، ولكن فقط إيمانهم بالله -تبارك وتعالى- هذا هو الذى نغص على الكفار عيشهم، ولم يطيقوا أن يجدوا معهم، وفى أوساطهم من يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأن يفارق دينهم الذى هم عليه إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ: هذه جريمتهم، وقولهم رَبُّنَا اللَّهُ ماذا فيها؟ هذا حق لا شك ان الله هو رب العباد -سبحانه وتعالى- وهو رب الجميع -سبحانه وتعالى- فهذه ليست جريمة، لكن اعتبرها الكفار جريمة، كيف يخرجوا، ويقولوا الله ربنا وحده، ويعبدون الله وحده، وهم يعبدون هذه الخرافات، وهذه الأصنام، وهذه، ولهم شرعة، ودين، ومنهاج قد اتخذوا بأنفسهم كيف يفارقونهم، واتخذوا لهم دين غير دينهم, ثم علل الله -تبارك وتعالى- وبرر لماذا يدافع عن الذين آمنوا، ويحميهم -سبحانه وتعالى- من أعدائهم، قال: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ ولماذا أباح للمسلمين أن يقاتلوا؟ قال: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}[الحج:40]: لولا أن الله -تبارك وتعالى- يدفع الكفار بالمؤمنين، يدفع هؤلاء بهؤلاء، يدفع الناس بعضهم ببعض, فيدفع الكفار بعباده المؤمنين يأمر عباده المؤمنين بأن يدافعوا عن أنفسهم أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ويدفع بهم أذى الكفار عنهم لما بقى بيت يُعبَد فيه الرب -تبارك وتعالى- لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وبدأ بالصوامع؛ لأنها بيوت العبادة التى أصلاَ لا تؤذى أحد حتى بمرآها؛ فإن الصومعة إنما هو بناء يكون مدبب الرأس، وغالباً ما يتخذ أهل الصوامع صوامعهم بعيدة عن العمران فى أماكن نائية يبنونها، ويتعبدون وحدهم لله -تبارك وتعالى- حتى ليست بصورة جماعية، وإنما بصورة فردية, فحتى هذه الصومعة التي هي مكان عبادة للرب -تبارك وتعالى- يأتى فيها راهب فيعبد الله -تبارك وتعالى- يقصدها الكافر هى غيظ عند الكافر، ويقصدها الكافر لهدمها، ولا يريد أن تبقى حتى الكفار لا يريدون أن يبقى هؤلاء المؤمنون يعبدوا الله -تبارك وتعالى- ولو أفراد متناثرون فى البرارى، والقفار صَوَامِعُ وَبِيَعٌ البيع: جمع بيعة، والبيعة كذلك مكان يؤدَّى لعبادة الرب -تبارك وتعالى- وَصَلَوَاتٌ: كذلك بناء يسمى صلاة سمى باسم لما يقام فيه من الصديق وَمَسَاجِدُ هذه هى دور العبادة عند المسلمين؛ فالصوامع، والبيع الصوامع عند النصارى، والبيع عند اليهود، والصلوات كذلك عند النصارى، واليهود وَمَسَاجِدُ هذه بيوت أهل الإسلام جمع مسجد سمى بأنه بفعل من بفعل الصلاة وهو السجود وَمَسَاجِدُ: أماكن يسجد فيها للرب -تبارك وتعالى- يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا: أي كل هذه الدور التى بنيت لعبادة الرب -تبارك وتعالى- يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وهذا شأن عظيم؛ فذكر الله -تبارك وتعالى- الله خالق السماوات، والأرض رب الجميع، رب العالمين كيف لا يذكر اسمه؛ فذكر اسمه -سبحانه وتعالى- إقامة حق، وإقامة صدق، وشكر للرب -تبارك وتعالى- والثناء عليه بما هو أهله، بل لا نقول من أشرف الأعمال، بل هو من أشرف الأعمال، أشرف عمل ممكن أن يقوم به المخلوق أن يذكر ربه، وخالقه -سبحانه وتعالى- يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا, ثم قال -جل وعلا-: وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ: إخبار، وحكم، وبشرى من الله -تبارك وتعالى- أنه سينصر من ينصره، كل من ينصر الرب -تبارك وتعالى- فيعمل لتثبيت دينه فى الأرض، وإعلاء كلمته -سبحانه وتعالى- وإقامة الحق الذى أحقه الله -تبارك وتعالى- وأنزله الله -تبارك وتعالى- فهذا نصر الله -تبارك وتعالى- الله سينصره بكل أنواع النصر، تأييد بأن يقوى قلبه، وينزل الملائكة له يشجعه، يضرب عدوه بصنوف العقوبات، إما بتسليط الملائكة عليهم، إما بصواعق تنزل عليهم من عالٍ وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ إما ببث الرعب فى قلوبهم أمور عظيمة, فينصر الله -تبارك وتعالى- عباده المؤمنين بما شاء -سبحانه وتعالى- من أسباب النصر لهم، وكذلك أسباب الهزيمة فى عدوهم وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ: كل من ينصر الله -تبارك وتعالى- فإن الله اشترط نصره, إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ: عقب الله بهذا؛ ليبين أن الله -تبارك وتعالى- لا ينتصر بعباده من ضعف، ومن حاجة الى أن ينصره -سبحانه وتعالى- بل الله هو القوى -سبحانه وتعالى- الذى له القوة جميعًا -سبحانه وتعالى-, عَزِيزٌ: غالب لا يغلبه أحد -سبحانه وتعالى- ولكن إنما هذا نوع من التكليف، وإبتلاء الرب -تبارك وتعالى- بأن يقوم المؤمنون بأمره -جل وعلا- هذه الآية تبين أولاً الهدف الأول من أهداف تشريع القتال فى الإسلام، وهو أنه يحمى الله -تبارك وتعالى- عباده المؤمنين الذين إن لم يدافعوا عن أنفسهم، وعند دينهم لم يبقى بيت لله -تبارك وتعالى- يعبد فيه إلا وهُدِّم، قبل طبعاً هذه الآية آية السيف هى الآية الأولى التى أذن للمسلمين فيها أن يحملوا سيوف ليدافعوا عن دينهم، ويقاتلوا أهل الكفر الذين يقاتلونهم، وقبل هذا كان القتال عليهم محرما, فإن الله -تبارك وتعالى- فى مكة أمرهم أن يكفوا أيديهم عن الكفار، وأن لا يقاتلوهم، وإن قاتلوهم، وأن لا ينتصروا لأنفسهم، وقال: {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا}[المزمل:11], وقال: {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ}[القلم:44]{وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ}[القلم:45], وأمرنا النبى بالإعراض عن أذى الكفار وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ, وقيل كذلك للمؤمنين لا تدافعوا عن أنفسكم، قال -جل وعلا-: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا}[النساء:77]: هذا الأمر الإلهى قيل لأهل الإيمان كفوا ايديكم عن الكفار، واصبروا على آذاهم إلى أن يشاء الله -تبارك وتعالى- النصر لعباده المؤمنين، وفى الحديث حديث خباب ابن الأرت، يقول: أتيت النبى -صلى الله عليه وسلم- متوسدا بردةً له فى ظل الكعبة كان هذا فى مكة, فقلت له: يا رسول الله ألا تستنصر لنا، ألا تدعو لنا، قال فجلس النبى -صلى الله عليه وسلم- وقال: إن من كان قبلكم كان يؤتى أحدهم بالمنشار, فيوضع فى مفرق رأسه حتى يقع فلقتين، ويمشط بأمشاط الحديد ما بين عظمه، ولحمه لا يرده هذا عن دينه، والله لتسافرن الظعينة من بصر الشام الى صنعاء اليمن لا تخاف إلا الله، ولكنكم قوم تستعجلون, فأجاب النبى خباب بأن الذين كانوا قبل المسلمين قد تعرضوا لأنواع من االفتن، والإبتلائات أشد، وأكثر مما تعرض له المسلمون فى مكة؛ فالمسلمون، وإن كانوا تعرضوا للضرب، والإهانة، والتشريد من بلدانهم، والحرق بالنار، والإلقاء فى جمر مكة، وضع الصخرة العظيمة على صدره كما كان يصدح ببلال، وضع الحبال فى رقابهم، والطواف بهم فى الشوارع، وضربهم، وإهانتهم، وطبعًاً تسفيههم، وإحتقارهم, ثم بعد ذلك مثل قتل سمية -رضى الله تعالى عنها- بحربة محمية فى النار لكن كل هذا كان أيضًا أقل من الفتنة، والبلاء، والتعذيب الذى تعرض له أُناس من أهل الإيمان قبل أهل الإسلام، قال النبى -صلى الله عليه وسلم- إن من كان قبلكم يؤتى أحدهم بالمنشار فيوضع فى مفرق رأسه حتى يقع فلقتين, أي ينشرونه وهو حى هكذا حتى يقسمونه قسمين، ويؤتى بأمشاط الحديد فيمشط ما بين عظمه ولحمه, أي كل الذى هذا لحمه ينتف بأعصابه، وهكذا حتى يبقى هيكل عظمى، ويفنى على هذا النحو، ولا يرده ذلك عن دينه، وما كان مطلوب منه، ولا مسموح له أن يقول كلمة الكفر, فكان القتال، كان دفاع المسلمين عن أنفسهم فى مكة حراماً, ثم إن الله -تبارك وتعالى- لما هيأ لنبيه -صلى الله عليه وسلم- الهجرة إلى المدينة، وهيأ له -سبحانه وتعالى- من يقف معه، وينصره من الأوس، والخزرج الأنصار وهم أهل حرب، وأهل شدة، وأهل بأس عند ذلك أمر الله -تبارك وتعالى- كتب عليهم القتال, فقال: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ}[الحج:38]{أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ}[الحج:39]{الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}[الحج:40].
ثم مدح الله -تبارك وتعالى- هؤلاء الذين ينصرهم الله -تبارك وتعالى-, وبيَّن أنه ينصرهم ليحققوا مراد الرب، وعبادة الرب -تبارك وتعالى- قال: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ}[الحج:41]: هذه بشرى من الله -تبارك وتعالى- ومدح لهؤلاء المؤمنين، وما سيستقبل من عملهم، قال: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ: هؤلاء الذين ينصرهم الله -تبارك وتعالى- ويدافع عنهم، و مَكَّنَّاهُمْ: التمكين فى الأرض أن يكون لهم الثبات فيها، واستقرار فيها لا ينازعهم منازع، ولا يتخطفهم متخطف كما كان الشأن فى المؤمنين، وهم فى مكة؛ فإنهم غير ممكنين الزعازع، والزلازل تنتابهم من كل مكان, فهو غير مستقر فى عمله، ولا فى بلده مهدد بالإخراج، ومتوعد، وأما التمكين فإنه يكون له مكنة فى المكان استقراره فيه، وبقاءه فيه، وليس هناك ما يزعزعه ويخرجه، ويزعجه من تسلط كافرًا عليه الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ: أي جعلناهم مستقريين، متمكنين فيها لهم السيادة، ولهم القوة فيها, أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ: فهنا يقيمون عبادة الرب -تبارك وتعالى- وأعظم هذه العبادات بدأ الله -تبارك وتعالى- بها أَقَامُوا الصَّلاةَ التى هى أشرف الأعمال أشرف ما وضع الله -تبارك وتعالى- للأرض أن يصلوا له -سبحانه وتعالى- الصلاة لله -تبارك وتعالى-, أَقَامُوا الصَّلاةَ: أقاموها أدوها على وجهها الأكمل، الصلاة التى وضعت لعبادة الرب، وذكر الرب -تبارك وتعالى-, وَآتَوُا الزَّكَاةَ أعطوا الزكاة الزَّكَاةَ: هنا حق الله -تبارك وتعالى- فى مال المؤمن الذى يعطى فى مصارفه التى بينها الله -تبارك وتعالى-, وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ: المعروف هو كل الخير، والبر من شرائع الدين الذى عرفها الله -تبارك وتعالى- لنا، وأمرنا بها -سبحانه وتعالى- وجعلها معروفة ومعلومة، محببة إلى قلب المؤم فهو أمر معروف، والمنكر: هو كل ما بغضه الله -تبارك وتعالى- ونهى عنه من الأمور السيئة، وسمى منكر؛ لأن الله -تبارك وتعالى- نكره، وجعله أمر مبغض أيضًا فى فطر وفى قلوب عباده المؤمنين, فأمروا بالمعروف طبعًا يدخل فى هذا الأمر أنهم علمُّوه، ودعوا إليه، وحاطوه، وزجروا عن تضييعه، وكذلك النهى عن المنكر بكل معانى النهى، النهى عنه تعليماً للناس بأن هذا منكر، زجراً عنه، عقوبة على فاعله, كل هذا داخل فى معنى النهى عن المنكر, وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ: لله لا لغيره -سبحانه وتعالى-, عَاقِبَةُ الأُمُورِ: نهايتها وخواتيمها، العاقبة هي نهاية الأمر من العقب, فعاقبة الأمور كلها ترجع إلى الله -تبارك وتعالى- مصائر كل أمر، ومصيره الى الله -تبارك وتعالى- فبشرى منه -سبحانه وتعالى- بأنه سيمكن هؤلاء، الذين أذن لهم بأن يقاتلوا، ويدافعوا عن أنفسهم، أنه سيمكنهم -سبحانه وتعالى- وأنه إن مكنهم فى الأرض أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ: قد تحقق كلام الرب -تبارك وتعالى- أبدًا كما أخبر الله -تبارك وتعالى- به, فإن هؤلاء الفئة المستضعفة التى طوردت فى مكة، وعُذِّبت، وأُهينت، وشُرِدت فى كل مكان قد آواها الله -تبارك وتعالى- وقد حماها، وقد أقامها، وقد خذل عدوها فى نهاية المطاف، وأزاحه عن الأرض، ومكَّن الله -تبارك وتعالى- دينها فأُقيمت المساجد، أقام المسلمون عبادة الرب -تبارك وتعالى- جهرةً، وجهاراً، وألفت الجيوش المقاتلة فى سبيل الله ضاربة فى كل مكان فى الأرض خلاص مكنها الله -تبارك وتعالى- فأمروا بالمعروف, وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ, هذا الكلام ينزل إلى النبى -صلى الله عليه وسلم- فى السنة الثانية من هجرته، والوقت الذى فيه ما زال أمر فى غاية الضعف أين المسلمين؟ وأين قريش؟ وأين غيرهم؟ ويقول الرب -تبارك وتعالى-: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}[الأنفال:26], فهذا تحقق مراد الرب -تبارك وتعالى- تحقيق مراد الرب: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ}[الحج:41].
ثم قال -جل وعلا-: {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ}[الحج:42], {وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ}[الحج:43], {وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ}[الحج:44], تذكير من الرب -تبارك وتعالى- بمصارهع هؤلاء الغابرين الذين كذبوا رسلهم، وأنظر كيف كانت نهايتهم وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ: خطاب للنبى محمد -صلوات الله والسلام عليه- والذين كذبوهم هؤلاء العرب المشركون، وكذلك اليهود الذين كانوا فى الجزيرة، والنصارى الذين كانوا فى الجزيرة، والخارجون عن هذه الجزيرة فقد كذبوا النبى -صلى الله عليه وسلم- واتهموه {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ}[الحج:42]: هذه أمم كذبت رسلها، وانظر كيف كانت النهاية، قوم نوح النبى، وعاد قبيلة عاد العربية، وثمود العربية وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ كذبوه وَقَوْمُ لُوطٍ كذلك هؤلاء كانوا من المكذبين, وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ: هم المؤتفكات, وَكُذِّبَ مُوسَى: كذب موسى جاء بالبناء بالمجهول، والذى كذبه فرعون، وهامان، وقارون، وقومهم، والملأ منهم، قال -جل وعلا-: فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ: أمهلت، وجعلت للكافرين مُهلة فى أن يفجروا، ويفسقوا، يعاندوا رسولهم أعطاهم الله -تبارك وتعالى- مهلة، وأمهلهم، ومد لهم فى عملهم القبيح هذا، وعملهم الشنيع، وكفرهم، وعنادهم, ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ: ثم فى النهاية أخذهم الله، والأخذ هنا بالعذاب، أخذهم الله -تبارك وتعالى- بعد هذا الإمهال بالعذاب, فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ: سؤال كيف كان إنكارى عليهم؟ هذا سؤال يراد به التعظيم، والتهويل، وأن إنكار الله -تبارك وتعالى- بهم قد كان شديد، أنظر هذه الأمم العظيمة، الكبيرة أنظر كيف كذبت رسلها، وكيف أمهلهم الله -تبارك وتعالى- ثم آتاهم العذاب فاستئصلهم الله, فهذا قوم نوح قد أغرقهم الله -تبارك وتعالى- جميعًا ما أبقى منهم أحد، وعاد أهلك الله -تبارك وتعالى- القبيلة عن بكرة أبيها، وثمود أهلكها فما أبقى أحداً منها، وقوم إبراهيم أهلكهم الله -تبارك وتعالى- بصنوف الإهلاك، وقوم لوط دمر الله -تبارك وتعالى- عليهم قُراهم، وأصحاب مدين كذلك بيوم الظلة خنقهم الله -تبارك وتعالى- فماتوا فى أماكنهم، وكذب موسى؛ فأهلك الله -تبارك وتعالى- فرعون وجنوده، قال -جل وعلا-: {فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ}[الحج:44], ثم قال -جل وعلا-: {فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ}[الحج:45] فَكَأَيِّنْ: كثير مِنْ قَرْيَةٍ: من هذه القرى, أَهْلَكْنَاهَا: نسب الله -تبارك وتعالى- الإهلاك لنفسه أن الله هو الذى أهلكها, وَهِيَ ظَالِمَةٌ: لا يهلك الله -تبارك وتعالى- القرى إلا وهى ظالمة حال كونها ظالمة، ظالمة هنا لنفسها بكفرها بالله -تبارك وتعالى- وعنادها، وردها رسالة الرسول، وعدم إذعانها لأمر الله، قال -جل وعلا-: فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا: خاوية ما فى أحد خراب يباب عَلَى عُرُوشِهَا: أي سقطت العروش، السقوف سقطت وسقطت على العروش كذلك الجدران بعد ذلك تسقط فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ: تركوا البئر التى كانوا يسقون فيها، ويتزاحمون عليها، كام من الأمم كانت تتزاحم بنات القرية، والإبل، وغيرها، فهى معطلة باقية بئر كما هى معطلة, وَقَصْرٍ مَشِيدٍ: ليس فيه أحد، قصر كان مشيد تشييد عظيم جداً، وبقى خاوى ليس فيه أحد بعد أن أهلكه الله -تبارك وتعالى- وأخذ أهله، وأصحابه.
ثم قال -جل وعلا- مخاطباً هؤلاء: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}[الحج:46].
نقف هنا، ونعود إلى هذه الآيات فى الحلقة الآتية, أستغفر الله لى ولكم من كل ذنب، -وصلى الله وسلم على عبده، ورسوله محمد-.