الجمعة 29 ربيع الآخر 1446 . 1 نوفمبر 2024

الحلقة (404) - سورة الحج 59-64

الحمد لله رب العالمين، والصلاة، والسلام على عبده، ورسوله الأمين, سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله، وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد؛ فيقول الله -تبارك وتعالى-: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}[الحج:58], {لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ}[الحج:59], {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ}[الحج:60], {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ}[الحج:61], {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}[الحج:62], {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ}[الحج:63], {لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}[الحج:64]: يخبر -سبحانه وتعالى- عن هذه الطائفة من المؤمنين الذين تعرضوا للهجرة من بلدانهم فى سبيل الله بأن لهم كرامة خاصة عن سائر المؤمنين، قال: وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ: انتقلوا من بلدانهم إلى بلدان أخرى فى سبيل الله سواء أن كانت هجرة إلى دار يأمنون فيها على أنفسهم، كما فعل المسلمون الذين خرجوا من مكة إلى الحبشة، أو هاجروا فى سبيل الله إلى الله ورسوله كما هاجر المؤمنون إلى المدينة التى أصبحت دار إسلام، وفيها رسول الله -صلوات الله والسلام عليه- وقاموا لنصرة هذا الدين، والقيام مع النبى -صلوات الله والسلام عليه- هذا كله من معانى الهجرة الصحيحة؛ فإما فرارًا بالدين إلى حيث يأمن على دينه، وإما فرارًا إلى الله -تبارك وتعالى- ورسوله إلى حيث يقوى هذا الإسلام، ويجاهد فى سبيل الله وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا: على أى الحالين قتلوا فى سبيل الله بعد ذلك، أو ماتوا بنهاية آجالهم، وأعمالهم {لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}[الحج:58] لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ بالتأكيد هنا باللام المؤكدة رِزْقًا حَسَنًا فى الجنة، هذا رزق حسن فى الجنة، الجنة قبل الجنة يدخلون الجنة قبل أن يدخلونها عموم المؤمنون، يدخلونها بمجرد الموت، بمجرد ما يموت الله -تبارك وتعالى- يمتعهم فى الجنة كما قال -تبارك وتعالى-: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا........}[آل عمران:169] الآن بَلْ أَحْيَاءٌ الآن {........عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}[آل عمران:169] يرزقون، والرزق طعام، وشراب {فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}[آل عمران:170], فهؤلاء يدخلهم الله الجنة قبل الناس، وقد جاء فى الحديث أن أرواح الشهداء فى حواصل طير خضر تمرح فى ثمار الجنة، وتأوى إلى قناديل معلقة تحت عرش الرب -تبارك وتعالى- {لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}[الحج:58] من يرزق كمن يرزق الله -تبارك وتعالى- إذا رزق الله -تبارك وتعالى- إكرامًا، وعناية منه -سبحانه وتعالى- بعباده المؤمنين هل يستطيع أحد أن يفعل كما يفعل الرب -تبارك وتعالى- الله خير الرازقين، قال -جل وعلا-: لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ: الشهيد عندما يموت تنفتح له بهجة، وفرحة، واستقبال يتمنى به أن يعود مرة ثانية إلى الدنيا ليقتل فى سبيل الله؛ لا أحد ممن كتب الله -تبارك وتعالى- له النجاة، والجنة اذا مات يتمنى أن يعود إلى الدنيا، أى مؤمن إذا مات يتمنى أن يعود إلى الدنيا إلا الشهيد، لكن الشهيد يتمنى أن يعود، يقول يا رب أعدنى مرة ثانية لما يرى من الكرامة، لما يرى من الكرامة الهائلة أنه استقبل هذا الاستقبال الهائل بهذه الكرامة العظيمة؛ فيتمنى أن يعود مرة ثانية ليرجع، ويستقبل هذا الاستقبال العظيم مرة ثانية، كما قال النبى: ما من مؤمن من أهل الجنة يتمنى أن يعود إلى الدنيا مرة ثانية لا عرف إن هذا مصيره الجنة إلا الشهيد لما يلقى من الكرامة، وقد قال النبى -صلى الله عليه وسلم-: ولتمنيت أنى أقتل فى سبيل الله ثم أحيا ثم أقتل ثم أحيا ثم أقتل؛ فالشهيد له هذه المنزلة، يقول ليدخلنهم مدخلًا يرضونه، يرضونه، يرضى عن هذا المدخل الذى يدخله الله -تبارك وتعالى- إياه فى الجنة رضى عظيم جدًا، بل فرح، وسرور هائل جدًا.

{لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ}[الحج:59]: وإن الله -سبحانه وتعالى- لعليم بعباده -سبحانه وتعالى- بمن هاجر فى سبيله، وجاهد فى سبيله، ومات فى سبيله حَلِيمٌ -سبحانه وتعالى- أنه لا يعجل العقوبة هذا بالنسبة لهؤلاء الذين قتلوهم؛ فهؤلاء أولياء الله، والذين هجروهم؛ فالذين هجروهم، وقتلوهم، وأذوهم من حلم الله -تبارك وتعالى- أنه يتركهم أحيانًا، ويمدهم فى الأجل يسامحهم، وقد يتوب عليهم بعد ذلك، ويعودون إلى الدين، والإسلام، وهم كفرة قتلوا أولياء الله -تبارك وتعالى- وأخرجوهم من ديارهم لكن الله -تبارك وتعالى- حليم -سبحانه وتعالى- وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ.

ثم قال -جل وعلا-: ذَلِكَ إشارة إلى كل هذا الذى ذكره الله -تبارك وتعالى- {وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ}[الحج:60]: من عاقب منة أهل الإيمان، وأخذ حقه بمثل عقوبته قتل له قتيل؛ فأخذ قصاصه، اعتدى عليه بضرب فأخذ قصاصه، بمظلمة؛ فأخذ مظلمته ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ: أى من ظلمه بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ: من ذلك الظالم {لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ}[الحج:60]: لأن أخذ الله -تبارك وتعالى- سمح للمؤمن أن يأخذ مظلمته، حقه ممن ظلمه له أن يأخذ المظلمة بما لا يزيد {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا........}[الشورى:40], لكن حبب الله -تبارك وتعالى- العفو، والصفح بقوبه سبحانه وتعالى إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ فذكر الله -تبارك وتعالى- صفتين من صفاته عفو، وغفورر مع قدرته -سبحانه وتعالى- على أن يوقع، وينزل بأسه، وبطشه بكل ظالم، وكل مجرم، وكل معتد؛ فإن الله -تبارك وتعالى- قادر فى نفس اللحظة، ولكن الله -تبارك وتعالى- يعفو، ويغفر، ويصفح، ويمهل الظالم، وإن عاد عن مظلمته، وتاب إلى الله -تبارك وتعالى- قبله الله -تبارك وتعالى- ففى هذا تحبيب من الله -تبارك وتعالى- بالصفح، كما قال -تبارك وتعالى- {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ........}[الشورى:40] فأباح الله -سبحانه وتعالى- لصاحب المظلمة أن يأخذ مظلمته ما يساوى مظلمته، ولكنه حببه فى العفو {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ}[الشورى:43] فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا........}[الشورى:40], فالله -تبارك وتعالى- حبب فى العفو، وحبب -سبحانه وتعالى- بأن يتنازل الإنسان عن مظلمته  ابتغاء ما عند الله -تبارك وتعالى- {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}[فصلت:34], {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}[فصلت:35], {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ}[الحج:60]: الله -تبارك وتعالى- تكفل بنصره هنا لأن الذى فعله هذا بأخذه مظلمته قد أباح الله -تبارك وتعالى- له؛ فأخذ حقه، وهذا لا ينبغى، أما إذا اعتدى عليه بعد ذلك لأنه أخذ حقه؛ فهذا الله -تبارك وتعالى- أخبر بأنه سيكون معًا، سيكون مع هذا المظلوم حتى يقتص من ظالمه لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ -سبحانه وتعالى-.

 {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ}[الحج:61]: هنا بعد ذلك تبدأ طائفة من الآيات التى تبين آيات الله -تبارك وتعالى- المرئية، المنظورة، آياته -سبحانه وتعالى- فى الكون، وهذا تذكير لهؤلاء الذين عموا عن آيات الله -تبارك وتعالى- وكذبوا بآيات الرب -جل وعلا- وتثبيت فى قلوب المؤمنين فى أن يعرفوا ربهم، وإلههم -سبحانه وتعالى- وأن هذه آياته فى الوجود وهذا فعله، وهذه صفاته -سبحانه وتعالى- اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ: الإيلاج هو الإدخال، وإيلاج الليل فى النهار، والنهار فى الليل له معنيان المعنى الأول إيلاج الليل فى وقت النهار؛ فالليل فى الشتاء يمتد؛ فيأكل من النهار يأخذ جزء من وقت النهار إليه، والعكس يكون النهار يمتد فى الصيف؛ فيأخذ جزءًا من وقت الليل إليه؛ فيولج الله تبارك وتعالى الليل، والنهار، أى يدخل هذا فى وقت هذا، وكذلك يولج الليل، والنهار فى المكان؛ فإن النهار يكون فى مكان, ثم يتبعه الليل؛ فيأتى مكانه، ويلج فى مكان النهار, ثم النهار يلج مكان الليل؛ فهذا يطلب هذا، وكلاهما يتبع الليل يتبع النهار، والنهار يتبع الليل كلهم على ظهر هذه الأرض، وهذه قدرة عظيمة -سبحانه وتعالى- الرب الإله -سبحانه وتعالى- الذى ينظم الليل، والنهار على هذا النحو، ويمد فى طول هذا، ويقصر هذا، ويدخل هذا فى مكان هذا، وهذا فى مكان هذا هذه من عظائم قدرته -سبحانه وتعالى- ودلائل قدرته، وقد عرف الناس الآن أن هذا بجريان الليل، والنهار على هذه الأرض بهذه الكرة بمحيطاتها، وبجبالها، وناسها، وما عليها معلقة فى هذا الفضاء تدور دورة حول نفسها على هذا النحو، ودورة أخرى حول الشمس تدور فيها دورة حول الشمس فى هذه السنة الشمسية، ودورة حول نفسها كل أربعة وعشرين ساعة، ومعها قمرها الذى يدور عليها كل هذا فى نظام بديع هائل لا يقدر عليه إلا الله -تبارك وتعالى- لا يقدر عليه أن يمسكه، أن يضبطه {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ}[الرحمن:5] بهذا الحساب الدقيق إلا الرب الإله الذى لا إله إلا هو {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ}[الحج:61] سَمِيعٌ لكل خلقه -سبحانه وتعالى- لا يخفى عليه أى صوت من هذه الأصوات مع كثرتها، واختلافها، وتنافرها، وخروجها فى وقت واحد؛ فالله -تبارك وتعالى- يعلم جميع الأصوات بكل اللغات فى كل الأوقات، ولا يختلط عليه صوت مع صوت، وكلام مع كلام {........يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى}[طه:7] -سبحانه وتعالى- سَمِيعٌ لكل هذا الخلق، وهذا أمر لا شك أنه لا يمكن لعقل أن يستوعبه، ولا يحيطون به علم، ما أحد يحيط علمًا بالله -تبارك وتعالى- إلا الله، كيف وسع -سبحانه وتعالى- هذه الأصوات كلها فى كل هذا الملك الذى لا يعرف البشر له حد، ولا نهاية، ملك الله -تبارك وتعالى- هذا الواسع فى كله، الله سميع بكل خلقه -سبحانه وتعالى- بَصِيرٌ: مبصر؛ فلا يغيب عن بصر الله -تبارك وتعالى- شيء من الخلق قط أى شيء من الخلق لا يغيب، يرى النملة السوداء، وهى سائرة على صفاة ملساء فى ليلة ظلماء يسمع الله دبيبها، ويرى مكانها، ويعلم مستقرها، ومستودعها؛ فما من دابة فى السماوات، والأرض إلا ببصر الله -تبارك وتعالى- لا يغيب عنه -سبحانه وتعالى- شيء من مخلوقاته -جل وعلا-.

 ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ: ذلك اعلموا هذا، إشارة إلى هذا الذى ذكره الله -تبارك وتعالى- من آياته اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ  :هو الحق هو الإله الحق، هو الله الحق؛ فهو الإله حقًا لا إله لكل هذه العوالم، لكل هؤلاء المخلوقين إلا هو -سبحانه وتعالى- فهو إله الجميع لأنه هو ربهم، خالقهم، رازقهم، متصرف شئونهم، هو الذى أخرجهم من العدم، هو الذى يصرفهم كيف يشاء، هم كلهم مسلمون له، خاضعون لكبريائه، وعظمته، وجبروته -سبحانه وتعالى- الله هو الحق، الله هو الإله الحق -سبحانه وتعالى- وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ: يدعونهم من دون الله -عز وجل- يجعلونهم آلهة، يطلبون منهم كل باطل، كل ما يدعى من دون الله -تبارك وتعالى- باطل أنه إله؛ فلا إله إلا هو؛ فكل ما دعيت له الألوهية من دون الله -تبارك وتعالى- باطل دعيت للملائكة، دعيت للرسل دعيت لبشر آخر غير الرسل، دعيت للشجر، لحجر، للشمس، للقمر، دعيت لأشياء كثيرة، كل اتخذ إلهه هواه بالهوى، وبالظن، وبالتخمين نصب له إله، إما من هذه الموجودات، وإما من المتخيلات؛ فأناس تخيلوا أشياء موهومة بأذهانهم المريضة تخيلوها، وعبدوها، وجعلوها آلهة لهم؛ فكل هذه الموجودات ليس فيها إله إلا الله -سبحانه وتعالى- وكل هذه المتخيلات أصلًا باطلة لا وجود لها فى الأساس، وهى باطلة؛ فهى البطلان فيها مركب، بطلان بأن هذه ليست موجودة أصلًا؛ ثم إنها بعد ذلك ليست آلهه، وكل الموجودات التى عبدت من دون الله -تبارك وتعالى- فباطلة، ما فى إله دون الله -تبارك وتعالى- لا ملك، ولا حجر، ولا شجر إله يعبد يصلى له، يسجد له، يطلب منه، يعظم، يقدر، يظن أن له شيء من الأمر، يملك لنفسه دفع، ولا ضر دون الله، ما فى مخلوق قط يملك لنفسه دفعًا، ولا ضرًا إلا ما شاء الله فضلًا عن أن يملكه لغيره، والملائكة لا تملك لنفسها دفع، ولا ضر، والرسل لا يملكون لأنفسهم نفع، ولا ضر, عيسى -عليه السلام- لا يملك لنفسه نفعًا، ولا ضرًا إلا ما شاء الله؛ فالقول أنه إله، وأنه إله حق من إله حق يخلق، ويرزق، ويحي، ويميت أعطوه صفة الرب -جل وعلا- كذب، كذب واضح، كذب لا شك فيه كذبه عيسى بنفسه بكل مقالاته، يكذبه الواقع، يكذبه واقع عيسى {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ}[المائدة:75], فكيف يكون هذا إله، لا إله الله، مع هذا يتبعه الملايين بل المليارات من البشر يتبعون هذه المقالة الكاذبة التى لا مضمون حقيقى، ولا معنى حقيقى لها قط، بل هى من الكذب الواضح {........كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا}[الكهف:5] فلا إله إلا هو، وكل ما يدعى من دون الله -تبارك وتعالى- فباطل {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ}: هو الباطل الزائل، المضبحل، كل ما دعيت له الإلهه من دون الله -تبارك وتعالى- فباطل {وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}[الحج:62]: إن الله هو العلى على كل خلقه -سبحانه وتعالى- علو مكان اولًا؛ فالله -تبارك وتعالى- فوق سبع سماوات، فوق عرشه، والعرش سقف هذه المخلوقات، وعلو مكانة لا أحد أعلى من الله، ولا أجل منه، ولا أعظم منه -سبحانه وتعالى- وكل خلقه دونه -سبحانه وتعالى- الملائكة الذين هم أعظم خلقه -سبحانه وتعالى- {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ}[الأعراف:206], {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ}[غافر:7]: هذا حال هؤلاء {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}[النحل:50], {........وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ}[الأنبياء:28] الملائكة من خشية الرب -تبارك وتعالى- فى غاية الإشفاق، الخوف الشديد يخافون من الله -تبارك وتعالى- ثم من دونهم، من دونهم، من دونهم كل هذه المخلوقات خاضعة إلى ربها، وإلهها -سبحانه وتعالى- فالله هو العلى -سبحانه وتعالى- العلى عن كل خلقه -سبحانه وتعالى- الْكَبِيرُ الذى لا أكبر منه -سبحانه وتعالى- كل مخلوقاته حقيرة، وصغيرة  بالنسبة إليه -سبحانه وتعالى- {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}[الزمر:67] فإذا كانت هذه السماوات العظيمة الذى يقول فيها الله -تبارك وتعالى- {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ}[الواقعة:75], {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ}[الواقعة:76], وقال: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ}[الذاريات:47], بِأَيْدٍ بقوة وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ لكن هذه السماوات العظيمة كلها تجتمع فى يد الرب -سبحانه وتعالى- {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}[الزمر:67]  فالله هو العلى على كل خلقه -سبحانه وتعالى- الكبير.

آية أخرى من آيات الله -تبارك وتعالى- {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ}[الحج:63]: هذه رؤية بصرية، ورؤية علمية كذلك أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً: من السماء من هذا العلو، السحاب السحاب فى السماء، وكل ما علاك سماء مَاءً: هو ماء المطر فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً بسرعة تصير، تاتى تصبح بمعنى تصير، أو تصبح بمعنى أنه إذا نزل فى الليل اخضرت الأرض فى النهار، وهذا فى بعض الأماكن، وفى بعض هذه بسواد الليل تخضر الأرض تصير الأرض بنزول المطر عليها تصبح مخضرة أى بالنبات إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ: إن الله لطيف بعباده؛ فمن لطف الله -تبارك وتعالى- بعباده إنزال هذا المطر الذى فيه حياتهم؛ فبالمطر حياتهم، وكون الله -تبارك وتعالى- يصرفه على هذا النحو؛ فينشره بالسحاب على هذا النحو، وينزله مطرًا على هذا النحو فى هذه العملية لإنزال مطر فيها لطف كثير بالعباد لا يمكن أن يكون هذا بوسيلة أخرى، وهو أن يفجر الله -تبارك وتعالى- هذه المياه فى الأرض يزرعوا فيها بدون أن يسقط المطر من عالى، ويدور بهذه الدورة يسكنه الله -تبارك وتعالى- فى الأرض يجريه أنهارًا؛ ثم بعد ذلك يتبخر هذا الماء يخرج إلى طبقات الجو العليا؛ ثم ينزل مطرًا بعد ذلك هذه الدورة فيها لطف عظيم بالعباد، تجديد لهذا الماء على ظهر هذه الأرض، غسل لكل هذه الأجواء، المطر يسقط ينظف الجو تنظيف ينعش الحياة يغسل الأشجار يغسل الأرض؛ فعملية عظيمة جدًا بهذا، فضلا بعد ذلك ما فى هذا الماء النازل من السماء من الحياة العظيمة  أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الأَرْضُ به إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ بعباده بهذا الإنزال خَبِيرٌ خبرة الخبرة هى أدق العلم؛ فهو عليم علمًا دقيق بكل شيء لا يخفى عليه شيء -سبحانه وتعالى- ومن خبرته -سبحانه وتعالى- أن جعل الماء بهذه الدورة، وبنزوله على هذا النحو لتكون فيه هذه المنافع العظيمة للخلق {لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}[الحج:64]: كل ما فى السماوات من هذه المخلوقات العظيمة كالملائكة، الجنة العظيمة بما زخرها الله -تبارك وتعالى- فيها، عوالم كثيرة قد يكون الله -تبارك وتعالى- قد غيبها عنا؛ فكل ما فى السماوات لله، وكذلك كل ما فى الأرض له -سبحانه وتعالى- الأرض بناسها، وبموجوداتها، وبخيراتها، وبأنعامها، وبأشجارها كل ما عليها إنما هو لله -سبحانه وتعالى- إذ هو خالقه -سبحانه وتعالى- وهو مصرفه وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ: الغنى عن كل خلقه، مستغنى عنهم، لا يحتاج لشيء من خلقه قط لينفعوه، ليزداد بهم شيء؛ فالله هو الغنى عن كل مخلوقاته لا يحتاج -سبحانه وتعالى- إلى أى شيء مما خلقه -جل وعلا- لا يحتاج إلى ملائكته، وإلى عرشه، وإلى كرسيه، إلى الناس، إلى الخلق كل هذه المخلوقات الله غنى عنها -سبحانه وتعالى- وبالتالى كل المخلوقات مفتقرون لله -عز وجل- كل مخلوق إنما هو مفتقر، فقر ذاتى، جبلى، خلقى إلى خالقه، ومولاه -سبحانه وتعالى- فإنه لولا الله ما وجد، ولولا الله ما يبقى، ولا يستمر أى موجود من هذه الموجودات مهما عظم لا ملك، ولا شمس، ولا قمر، ولا جن، ولا إنس هؤلاء لا وجود لهم إلا بالله، ولا بقاء لهم إلا بالله -تبارك وتعالى- والله -تبارك وتعالى- هو الذى يصرفهم كيف يشاء -جل وعلا- والله ليس محتاجًا لشيء من مخلوقاته -سبحانه وتعالى- فى تدبير خلقه، فى خلق شيء؛ فالله هو خالق كل شيء -سبحانه وتعالى- وهو المتوكل بكل شيء {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ}[الزمر:62]: هو المتوكل به -سبحانه وتعالى- ومن أقامه الله -تبارك وتعالى- فى ما أقامه هذا الله -تبارك وتعالى- أعلم بكل ما يقيمه فيه؛ فإذا وكل ملكًا بقبض الأرواح، وكل ملائكة بكتابة الحسنات، والسيئات، ملائكة نقل أعمال العباد الصالحين إليه -سبحانه وتعالى-, وإن فى الأرض ملائكة سيارين يبلغون عن أمتى السلام يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل, وملائكة بالنهار فيصعد الذين باتوا فيكم فيسألهم ربهم وهو أعلم بهم كيف تركتم عبادى يقولون يارب أتيناهم وهم يصلون وتكناهم وهم يصلون فهؤلاء كل هؤلاء الملائكة الذين أقامهم الله تبارك وتعالى فى ما أقامهم فيه من تصريف، وعمل أمور هم يقومون بإقامة الله -تبارك وتعالى- لهم، والله هو القدير على هذا العمل، وإنما أقامهم إن هذا لمن دواعى عظمته، وخلقه -سبحانه وتعالى- وليس احتياجًا منه -سبحانه وتعالى- إلى هذا الخلق، هو الغنى الْحَمِيدُ المحمود -سبحانه وتعالى- المحمود من كل خلقه، كل خلقه يحمدونه إما قالًا، وإما حالًا؛ فكل خلقه -سبحانه وتعالى- حامدون له بالمقال؛ قالسماوات، والأراضين كلها تسبح بحمد الله -تبارك وتعالى- وهى ساجدة له تبارك وتعالى- وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ يسبح ينزهه -سبحانه وتعالى- وهو متلبس بحمده -سبحانه وتعالى- وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ وإن من شئ: أى شئ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ: والذى لا يسبح قالًا كالكافر هو حالا، حالاً مسبح حامد لله -تبارك وتعالى- لأن بوجوده هذا دليل على قدرة الرب -تبارك وتعالى- وعلى إنعامه، وإفضاله؛ فالله له الحمد -سبحانه وتعالى- سواء أن عرفه عرف نعمته العارفون، أو جحدها الجاحدون؛ فهو المحمود -سبحانه وتعالى- ثم لا شك أنه لا أحد يحصى ثناء ً على الله -تبارك وتعالى- كما أثنى الله -عز وجل- على نفسه؛ لأنه لا يعلم الله على الحقيقة إلا الله؛ فالله هو الحميد -سبحانه وتعالى- المحمود حمد نفسه -سبحانه وتعالى- ولا يحمده أحد كما يحمد الله -تبارك وتعالى- نفسه؛ فإن الله لا يعلمه على الحقيقة إلا الله -جل وعلا- فهو الغنى الحميد -سبحانه وتعالى-.

 نسأله -سبحانه وتعالى- أن يوفقنا إلى طاعته، ومرضاته، نقف هنا وإن شاء الله نكمل فى الحلقة الآتية، -وصلى الله وسلم على عبده، ورسوله محمد-.