الجمعة 21 جمادى الأولى 1446 . 22 نوفمبر 2024

الحلقة (405) - سورة الحج 65-71

الحمد لله رب العالمين، والصلاة، والسلام على عبده، ورسوله الأمين, سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله، وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد؛ فيقول الله -تبارك وتعالى-: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ}[الحج:65], {وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ}[الحج:66], {لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلا يُنَازِعُنَّكَ فِي الأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ}[الحج:67], {وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ}[الحج:68], {اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}[الحج:69], هذه الآيات فى سياق، وبيان الله -تبارك وتعالى- لمجموعة عظيمة من آياته الكونية الخلقية يوجه الله -تبارك وتعالى- إليها أنظار الخلائق، ويبين أن هذا الذى صفاته، وهذا خلقه -سبحانه وتعالى- هو نزل هذا التشريع، وهو الآمر بما أمر به -سبحانه وتعالى- وهو الباعث رسوله -صلى الله عليه وسلم- بدأت هذا ذكر هذه من قول الله -تبارك وتعالى-: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ}[الحج:61], {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}[الحج:62], {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ}[الحج:63], {لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}[الحج:64], ثم قال -جل وعلا-: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ: تأكيد، وبيان رؤية علمية، رؤية بصرية أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ التسخير هو التذليل؛ فهى مسخرة فى الخدمة، وفى نفع هذا الإنسان مَا فِي الأَرْضِ كل ما فى الأرض، كل هذه الأنهار المسخرة انظر كيف ينزلها الله -تبارك وتعالى- مطر، ويجريها الله -تبارك وتعالى- فى هذه الأرض؛ فتسير، ويسقى الإنسان منها زرعه، وينتفع بما ينتفع بها من هذه، هذه البحار العظيمة انظر كيف تسخيرها لهذا الإنسان، تذليلها له، تذليلها له أعظم مزرعة لأكبر غذاء للبشر هذه الأسماك التى يربيها الله -تبارك وتعالى- فى هذه البحار الواسعة هو يربيها -سبحانه وتعالى- هو يخلقها، ويصرفها، هداها سبلها بنظام عظيم، معجز، بديع، والإنسان ينتشل منها منها ليلًا، ونهارًا بهذه الملايين من أطنان رزق لهؤلاء العباد، كما قال -جل وعلا-: {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا........}[النحل:14] فهذا البحر من جملة ما هى على هذه الأرض، تسخير هذه الجبال تسخير عظيم جدًا فهذه قد ثبت الله -تبارك وتعالى- بها هذه الأرض جعلها أوتاد، جعلها مصدات للرياح تعلو بها الرياح المحملة ببخار الماء؛ فتتكثف، وتنزل مطر يتساقط الثلوج لأنها هذه مع ارتفاعاتها فى طبقات الجو تكون باردة؛ فيتساقط عليها الثلج، ويبقى عليها؛ ثم عندما يأتيها فصل الصيف تذوب، وتسير أنهارًا بعد ذلك {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا}[المرسلات:25], {أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا}[المرسلات:26], {وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا}[المرسلات:27] رَوَاسِيَ ترسى الأرض، شامخة عالية وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا ماءً فراتًا من هذا الماء الذى يسيل من قمم هذه الجبال يسير بعد ذلك ماء فرات يسير فيها، {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا}[المرسلات:25] تكفتكم أحياءً، وأموتًا؛ فهى أمنا، تحنو علينا، ونحن أحياء على هذه سطحها نسير، وننام، ونبنى، ونكفت فى المساكن، فى الأكنان، وعندما نموت كذلك تحضضننا نحفر الأرض؛ ثم نوضع فيها؛ فتكفتنا كذلك، ولو كان هذه الأرض غير هذه الأرض، وكانت تلفظنا، ولا تقبلنا، لو كان شيء لا يمتص جيفنا بعد ذلك، كيف يكون الحياة؟ لا تكون هناك حياة, أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ: من تسخير ما فى الأرض، الأنعام، انظر كيف سخرها الله -تبارك وتعالى- لنا، وذللها لنا -سبحانه وتعالى- تذليل عظيم، تسخير، تذليل هى فى الخدمة هذه الأنعام، هذه النباتات؛ فكل هذا الذى فى الأرض سخره الله -تبارك وتعالى- وذلله لنا، وخلقه لنا -سبحانه وتعالى- ولا نستطيع أن نخلق ذرة منه ذرة من كل هذا لا يستطيع البشر، ولو اجتمع البشر كلهم على أن يخلقوا حبة قمح، حبة واحدة، حبة أرز واحدة اجتمع كل الخلائق لا يستطيعون، ما يستطيعون، الله خالق كل شيء، لا يمكن أن يخرج شيء من العدم، الله الذى يخلقه {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ}[الواقعة:63], {أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ}[الواقعة:64] فالله الذى يزرعه -سبحانه وتعالى- هو الذى ينبته على هذا النحو {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ}[الواقعة:68], {أَأَنْتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ}[الواقعة:69], {لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلا تَشْكُرُونَ}[الواقعة:70] فهى تسخير كل ما فى السماء، والأرض، الأرض بجبالها، وسهودها، أنهارها، وأشجارها، نباتاتها، وحيواناتها سخرت لهذا الإنسان أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ هذا من التسخير كذلك، هذا من التسخير أن الله -تبارك وتعالى- ذلل لنا هذا البحر على هذا النحو، علمنا كيف نصنع السفن بتعليمنا، ونضعها فى هذا البحر وتطفو على هذا النحو نركب فيها هذه السفن ننتقل من مكان إلى مكان بسهولة، ويسر لأن جريان أى ثقل يجرى على الماء أسهل من جريانه على اليابسة، وأسهل من جريانه فى الهواء؛ فهذا سهل على هذا النحو وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ: بأمره -سبحانه وتعالى- الكونى القدرى أن سخر هذا البحر، لو أن الله لم يسخر هذا البحر، ولم يذلله جعله مغتلمًا ثائرًا فى كل أوقاته، وحالاته ما كان لنا أن نخضع، هل يستطيع الإنسان أن يخضع هذا البحر، ويقول له ذلً للإنسان ليركبك، لا، ما يستطيع, الإنسان أصغر، وأحقر من أن يخضع البحر المغتلم أصغر، وأحقر من هذا، ما يستطيع أن يفعل هذا، هذا تذليل من الله -تبارك وتعالى- وكذلك هذا النظام، قانون هذا الذى يسمونه قانون الطفو تسخير الله، أمر الله تبارك وتعالى الذى جعله على هذا النحو بمشيئته -سبحانه وتعالى- وتسخيره، وتذليله -سبحانه وتعالى- وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ: السماء العلو ما فى هذه السماء من الكواكب، والسيارات، والنجوم، والنيازك، وغير هذا، لو أن شيء منها وقع على الأرض كتلة من هذه الكتل من السماء وقعت على الأرض انتهت لأهلكت كل من فى الأرض؛ فلا تقع إلا بإذنه، والله -تبارك وتعالى- أنه يأذن بهذا بعد ذلك يوم القيامة.

 {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ}[الحاقة:13], {وَحُمِلَتِ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً}[الحاقة:14], {فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ}[الحاقة:15], {وَانشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ}[الحاقة:16], {وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ}[الحاقة:17] أي فى يوم القيامة؛ فالله يمسك السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إلا إذا شاء الله -تبارك وتعالى- وأذن أن يسقط كسف من السماء جزء منها فى وقت ما فهذا له -سبحانه وتعالى- يأذن بهذا، وإلا فإن الله -تبارك وتعالى- حمى لينا هذه الأرض، وهى سقوط شيء عليها من السماء هذا وارد جدًا لكل هذه الأجرام العظيمة التى تطوف، وتسبح فى هذا الفضاء {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ}[الحج:65] إن الله -سبحانه وتعالى- بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ الرأفة شدة الرحمة رَحِيمٌ -سبحانه وتعالى- ومن رحمته أن سخر لهم هذا، سخر لهم كل ما فى الأرض هذا التسخير {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ}[فاطر:27], {وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ........}[فاطر:28] فهذا تنويع، وتسخير كل ما فى هذه الأرض إنما هو من رأفة الله -تبارك وتعالى- ورحمته، وعنايته بخلقه -جل وعلا-.

 ثم قال -جل وعلا-: {وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ}[الحج:66]: وهو الرب الإله -سبحانه وتعالى- الذى هذه صنعته، وهذا فعله -سبحانه وتعالى- وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ كنا عدم، وموات أحيانا الله -تبارك وتعالى- كل إنسان كان عدم لم يكن شيئًا {........وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا}[مريم:9] فكنا أولاً قبل أن نوجد عدم، والعدم ممكن أن يطلق عليه موات {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}[البقرة:28] إما أموات بالعدم، وإما أموات ببداية الخلق؛ فإن الخلق فى الأساس بداية خلق الإنسان لا حياة فيه بمعنى الحياة، وإن كانت حياة الإنسان مثلًا بويضة، وحيوان منوى ثم يكون هذا مجموعة بعد ذلك من الخلايا تتجمع، وتكون مضغة لا حياة فيها إنما حياة، حياة فى داخل هذه الخلية لكن لا حياة فيها هى بمعنى الموات كذلك؛ ثم يحيينا الله تبارك وتعالى بأن ينشئنا، تنفخ الروح يكون هناك خلق آخر بعد ذلك وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ فأوجدكم الله -تبارك وتعالى- وأحياكم، وكنتم فى بداية الخلق أمواتًا؛ فأحياكم الله -تبارك وتعالى- بنفخ الروح ثُمَّ يُمِيتُكُمْ وهذا ظاهر، وهو قبض الروح يعود الإنسان لأن هذا يصبح، يصبح هذا الجسد قطعة لا حراك فيها ميت ثُمَّ يُحْيِيكُمْ يخبر -سبحانه وتعالى- أنه يحيينا -سبحانه وتعالى- إخبار منه -سبحانه وتعالى- وأن هذا وعد عليه، وحق عليه -سبحانه وتعالى- أخبر أن هذا وعد عليه لا بد أن يفعله -سبحانه وتعالى- وهو أن يحيينا، ويرجعنا للحياة مرة ثانية، ليأخذ كل جزاءه؛ ثم قال -جل وعلا- إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ: تأكيد الإنسان الذى هذا ربه، وهذا صنعته به، يخلقه من العدم، ويميته، يميته، وهو يعلم أنه يميته، سيحييه -سبحانه وتعالى- وهمو فى أثناء هذه الحياة هو الذى خلق له كل ما حوله ما تحته، وما فوقه كل الله -تبارك وتعالى- هو الذى خلقه له، وسخره له أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ خلقه على هذا النحو من عدم، وسخر له كل هذا التسخير فيما حوله، ليس له هو أدنى فعل فيه، فى إيجاد شيء من ذلك، وفى تسخير شيء من ذلك فقط يعيش ليتمتع، وليأخذ، ليجمع، وليأكل فقط ومع ذلك يكفر بربه يجحد الله -تبارك وتعالى- والكفر أنواع؛ فمنهم من يكفر الله، يجحد الله، وينسى خالقه هو الذى أوجده إش لون وجدت؟ كيف ما فى رب، وأنت موجود؟ ما تنظر لنفسك؟ أنت موجود كيف يكون ما فى رب؟! وما فيه إله يخلق؟! ويرزق، ويحيي، ويميت، وهو الذى فعل، وصنع كل هذا الذى حولك، أو يضع له رب غير الله -تبارك وتعالى- وينصب له إله غير الله -تبارك وتعالى- والحال أنه هذا الذى ينصبه إله، ومعبود له ما يملك كل شئ لا يملك له نفع، ولا ضر، ولم يتفضل عليه بشيء؛ فإن ادعى أن الملائكة، أو جن، أو إنس، أو بشر، أو غيرهم، أو صنم، أو حجر هو ربه، هو إلهه كيف يكون هذا؟! وهو هذا الذى أنت اتخذته إله لا يملك لنفسه نفع، ولا ضر كيف تعبده من دون الله -عز وجل-؟! وتعطى له ما يجب أن تعطيه لله -تبارك وتعالى- من العبادة، والتقديس، ومن المحبة، والإنابة، ونسبة الخلق له، ونسبة أنه الإله الواحد الذى لا إله إلا هو تجعله لغيره, هنا نقرأ فى هذه كلمات الرب -تبارك وتعالى- بعد أن بين الله -تبارك وتعالى- آياته على هذا النحو يبين أن الإنسان كفور، كفور شديد الكفر فعول هنا صيغة مبالغة  لاسم الفاعل؛ فنقول كافر، ونقول كفور فعول، كفور: شديد الكفر؛ فالإنسان شديد الكفر بربه -تبارك وتعالى- يجحد آياته يجحد إنعامه -سبحانه وتعالى- وإفضاله يقيم لنفسه إله غيره، وهو الله الذى لا إله إلا هو -سبحانه وتعالى- أو يجحده بالكلية، يتبع هواه، يترك ذكر ربه -تبارك وتعالى- يجهل به هذا الجهل، ينساه هذا النسيان {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ}[الانفطار:6], {الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ}[الانفطار:7], {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ}[الانفطار:8], {قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ}[عبس:17], إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ شديد الكفران.

 ثم قال -جل وعلا- بعد ذلك، بعد ان ختم فى هذا الفاصل ذكر الله -تبارك وتعالى- آياته هذه المنظورة، وبين الإنسان كفور يجحد هذه الآيات، قال -جل وعلا- لرسوله: {لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلا يُنَازِعُنَّكَ فِي الأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ}[الحج:67]: المنسك هو العبادة التى ينسكونها، ويتبعونها؛ فلكل أمة التى هداها الله -تبارك وتعالى- إليه كلفها، كلفها بمنسك هُمْ نَاسِكُوهُ يسيروا فيه، كما قال -جل وعلا-: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا فلكل الأمم السابقة من اليهود، والنصارى جعل الله شرعة، ومنهاجا، وهذه الأمة جعل الله -تبارك وتعالى- لها مناسكها الخاصة بها؛ ففى شأن الحج الله -تبارك وتعالى- جعل لنا المناسكة التى نؤديها على هذا النحو الذى بينه الله -تبارك وتعالى- لنا لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلا يُنَازِعُنَّكَ فِي الأَمْرِ: أي إياك أن ينازعك الكفار فى الأمر، وتدخل شيء فى عبادة الرب -تبارك وتعالى- من المناسك غير ما أمرك الله تبارك وتعالى به، وغير ما وصاك الله -تبارك وتعالى- به؛ فمناسكنا فى الحج قد شرعها الله -تبارك وتعالى- لنا، وقد حج النبى -صلى الله عليه وسلم- بأعمال هذا الحج، وقال فى كل عمل من هذه الأعمال خذوا عنى مناسككم لكن المناسك تؤخذ عن النبى -صلى الله عليه وسلم- والنبى قد أمره الله -تبارك وتعالى- بأن يتبع هذا النسك على النحو الذى أمر به فَلا يُنَازِعُنَّكَ فِي الأَمْرِ حاول المشركين أن ينازوعوا الرسول -صلى الله عليه وسلم- مثلًا أنه قرشى، وكانت قريش قد أحدثت فى الحج إحداثات عظيمة، الحج الأول منها أنهم سموا أنفسهم الحمس، وبالتالى قالوا بالحج ما نخرج عن  البيت نحن أهل بيت الله لا نخرج عن الحرم؛ فوقفوا فى عرفة يقفون فى المزدلفة، ولا يذهبون إلى عرفة لأن عرفة خارج الحرم؛ فربنا -سبحانه وتعالى- أمر النبى إنه يخرج مع الناس {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ كلهم ليس لقريش ميزة فى أن تقف وحدها فى مكان كل الأمور التى حاول المشركون، وغيرهم أن يدخلوها فى المناسك، الله -تبارك وتعالى- نسك لنا مناسك أمرنا -سبحانه وتعالى- بأن ننسكها، وأن نتبعها وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ: لا إلى غيره، دعوة النبى كلها إلى الله -تبارك وتعالى- وَادْعُ فى كل دعوتك إِلَى رَبِّكَ بأن يعبده العابدون، يوحده الموحدون، يخافه الخائفون، يتقيه المتقون -سبحانه وتعالى- إلى عبادته، وتأليهه، وتوحيده، وتقواه، ورجائه دعوة إلى الله -تبارك وتعالى- لا إلى غيره، وصراطه المستقيم -سبحانه وتعالى- فكل هذا الدين مرتبط بالله -تبارك وتعالى- لا يدعو إلى نفسه، إلى قرشية، إلى عصبية، كل دعوة النبى إلى ربه، إدع إلى ربك لا سواه إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ: هذا تأكيد من الله -تبارك وتعالى- إلى نبيه أنه على الهدى المستقيم، الطريق القويم، على الطريق القويم هُدًى من الله -تبارك وتعالى- و مُسْتَقِيمٍ منه -سبحانه وتعالى- سواء أن كان فى مسائل الإيمان، ومسائل العمل كلها بهداية الرب -تبارك وتعالى-.

 {وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ}[الحج:68]: هؤلاء المشركون الذين كانوا يجادلون النبى فى الدين، والنصارى جادلوه، واليهود جادلوه كل يريد أن يأخذ من دينهم بشيء، ويعترض على ما عند النبى فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ: فوض الأمر إلى الله -تبارك وتعالى- ولا تجادلهم فى هذا  الله -سبحانه وتعالى- أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ: فيه تهديد، تهديد لهم لهؤلاء المجادلون بالباطل، الله -تبارك وتعالى- عليم بأعمالهم يحاسبهم -سبحانه وتعالى- على ذلك, {اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}[الحج:69]: الله -سبحانه وتعالى- هو الذى له الحكم يوم القيامة فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ: فى الذى تختلفون فيه؛ فالنبى يقول لهم أنا على الهدى، وأنا على طريق ربى -سبحانه وتعالى- وأنا على الإستقامة، وأنتم تقولون بأنكم، لا، لابد أن تأخذ منا، كما كان يقول اليهود {وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}[البقرة:135] والمشركين كذلك أرادوا إدخال إعتقادات دينهم الباطل {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}[الكافرون:1], {لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ}[الكافرون:2], {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ}[الكافرون:3], {وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ}[الكافرون:4], {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ}[الكافرون:5], {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}[الكافرون:6] فهى مفاصلة لهؤلاء المشركين، وإلزام من الله -تبارك وتعالى- لرسوله أن يتمسك بالهدى المستقيم من الله -تبارك وتعالى- وأن يسير عليه، وأن يفوض أمر هؤلاء المختلفين إلى الله -تبارك وتعالى- وأن الله سيحكم يوم القيامة فى هذا الذى يختلفون فيه.

 {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}[الحج:70]: هذا تأكيد من الله -تبارك وتعالى- أن الله -جل وعلا- سيحكم فى عباده فيما كانوا فيه يختلفون، وهو يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لا يخفى عليه شيء من أعمال خلقه -جل وعلا- وبالتالى سيحاسب كل إنسان وفق هذا العلم الإلهى؛ فهو مع العلم الإلهى علم الرب -تبارك وتعالى- القائم بذاته -جل وعلا- فهو كذلك قد كتبه الله -تبارك وتعالى- إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ: وهو اللوح المحفوظ، وهو الذى كتب الله -تبارك وتعالى- فيه كل شيء، كل ما يكون حتى لو سقوط ورقة من شجرة كل هذا مدون فى هذا الكتاب، اللوح المحفوظ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ: هذا عمل عظيم جدًا، وهو كتابة كل ما سيكون منذ بدأ الله -تبارك وتعالى- الخلق، وأن هذا يدون كله فعل حتى النملة تسير فى فعلها ما تأكل، كيف تخفى، وكيف تفعل، ومسارها نملة فى سقع، وفى شق من شقوقها هذه الأرض كتب هذا، الكتاب لم يغفل هذا قط {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}[الأنعام:59]: فكله فى الكتاب المبين هذا ففى اللوح المحفوظ قد دون فيه كل ذلك؛ فقال -جل وعلا- إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ: أي هذا الأمر يسير على الله -تبارك وتعالى- علمه، وكذلك حفظه، وكتابته فى هذا الكتاب كل هذا عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ، أمر سهل ميسور على الله -تبارك وتعالى- فهو لا شك أنه أمر عظيم جدًا على المخلوق، بل تصوره نفسه فيه عسر أن يتصوره المخلوق لكنه فعله على الله -تبارك وتعالى- هذا يسير لأن الله -سبحانه وتعالى- الذى أحاط بكل شيء علما {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ}[الحج:71] هذا بعد استهزاء بهؤلاء المشركين الذين تركوا عبادة الرب الحق، الإله، الواحد الذى لا إله إلا هو، هو الذى هذه صفاته، هو الذى وسع علمه كل شيء، ودون فى الذكر عنده -سبحانه وتعالى- وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا هذا حال المشركين أنهم عبدوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا: ما لم يخبرهم به الله -تبارك وتعالى- ينزل الكتاب إن اعبدوا هذا، كيف يعبد شيء أولًا هو ليس بإله، وكذلك الله -تبارك وتعالى- لم يأمرنا بعبادته، والله لا يأمر -سبحانه وتعالى- بأن يعبد غيره -جل وعلا- هذا أخبر الله -تبارك وتعالى- بأنه لا يكون لأن هذا يكون أمر بالكفر {........أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}[آل عمران:80] كيف يأمر الله -تبارك وتعالى- بأن يعبد غيره -سبحانه وتعالى- الله لا يأمر إلا بأن يعبد إلا  الله {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ........}[الإسراء:23] فلا يعبد إلا الله -تبارك وتعالى- ولم يقم الله -تبارك وتعالى- شيئًا غيره يخلق، يعبد من دونه، ولم يقم الله لا ملك قال اعبدوه، ولا رسول قال اعبدوه، ولا أى شجر، أو حجر، أو شمس، أو قمر قال اعبدوا هذه، هذا أمر عظيم أنا خلقته؛ فاعبدوه، لا، لم يأمر الله -تبارك وتعالى- خلقه بأن يعبدوا غيره -سبحانه وتعالى- فهؤلاء يعبدون مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا: ليس عندهم أى سلطان، وأى كتاب يأمرهم بأن يعبدوا هذا الذى يعبدونه وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ: أمر ما لهم علم فيه بأن هذا يستحق العبادة قط، وإنما فعلوه عن طريق الظن، والتخمين فقط ظن، كيف الملائكة إنهم بنات الله! كيف عرفهم إنهم بنات؟! وأن الله تزوج من الجن، وولد له شنو هذا؟! هذا كذب واضح لا مرية فيه؛ فهذا الأمر، أو أن عيسى ابن الله، او فلان ابن الله، أو أن هذا الإله ينفع، ويضر يدخل الجنة، ويخرج من النار؛ فهذا لا شك أنه لا علم لهم بهذا الأمر قط، وإنما قالوا كل من عبد غير الله -تبارك وتعالى- فإنما قال ما قال عن طريق الظن، وعن طريق التخمين، أو عن طريق الكذب، وافترى، ونصب له إلها دون الله -تبارك وتعالى- وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ.

 ثم قال -جل وعلا-: {........وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ}[الحج:71] فى كل وقت، وفى الآخرة على الخصوص، الظالم الذى ظلم، ووضع العبادة فى غير محلها، وعبد غير الله، هذا الظلم، الشرك هو أعظم ظلم {........إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}[لقمان:13] فهذا الظالم الذى ظلم نفسه بالشرك بالله -تبارك وتعالى- وظالم لأنه وضع الأمر فى غير نصابه، كل من وضع شيئًا فى غير مكانه؛ فهذا ظلم له؛ فهؤلاء الظالمون ليس لهم نصير، ما فى أحد ينصرهم، آلهتهم هذه التى عبدوها لا تنصرهم عند الله -تبارك وتعالى- وليس هناك من ناصر لهم، بل يصيروا مخذولين، ويتخلى عنهم كل من ظنوا فيه النصرة، وخاصة من هذه الآلهة التى زعموها؛ فإنها كلها تتخلى عنهم، وتتبرأ منهم، الملائكة يبرأون من عابديهم، عيسى يتبرأ من عابديه، الشمس، والقمر كل من عبد من دون الله يتبرأ من عابديه {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ}[الأحقاف:5], {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ}[الأحقاف:6], {وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ}[النحل:86], {........لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُمْ مَا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ}[الأنعام:94].

نقف هنا، والحمد لله رب العالمين، وأصلى، وأسلم على عبد الله، ورسوله الأمين.