الحمد لله رب العالمين، والصلاة، والسلام على عبده، ورسوله الأمين, سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله، وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، وعمل بسنته إلى يوم الدين.
وبعد؛ فيقول الله -تبارك وتعالى-: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ}[الحج:71], {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}[الحج:72], {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ}[الحج:73], {مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}[الحج:74]: هذه الآيات فى سورة الحج فى سياق بيان الله -تبارك وتعالى- لسقوط هؤلاء الكفار، وتفاهة اعتقادهم، وتعلقهم بالأوهام، والظنون الكاذبة، قال -جل وعلا-: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا: هؤلاء المشركون يعبدون من دون الله مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا, فإن الله -تبارك وتعالى- لم يأمر فى كتاب قط، ولم يرسل رسولًا قط بأن يعبد غيره -سبحانه وتعالى- إلا الرب الإله الذى لا إله إلا هو قد قضى أن لا يعبد إلا إياه، وهذه كلمته -سبحانه وتعالى- إلى جميع أنبياءه، ورسله أن لا يعبد إلا الله -تبارك وتعالى- {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ........}[النحل:36]: وهذه رسالته كلها -سبحانه وتعالى- إلى أنبياءه، ورسله، دعوة الناس جميعًا إلى عبادة الإله الواحد الذى لا إله إلا هو رب العالمين، خالق السماوات، والأرض -سبحانه وتعالى- الذى له الملك كله، وإليه يرجع الأمر كله، والجميع فى قبضته، وتحت أمره -سبحانه وتعالى- وليس له نظير، ولا شبيه، ولا مكافئ من خلقه -جل وعلا- ولا يستحق العبادة إلا هو -جل وعلا- فهؤلاء يعبدون مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا عليهم، ويخبرهم بأنه اعبدوا هذا، واتخذوا هذا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ: ما عندهم أى نوع من العلم بأن هذا إله يستحق أن يعبد من دون الله -تبارك وتعالى- وإنما هى ظنون، وأوهام، واختلاق، وكذب؛ فكل الذين ادعوا إلهًا لهم غير الله -تبارك وتعالى- من كل الأمم، والطوائف، كل المشركين على اختلاف أصنافهم، وألوانهم لا دليل عندهم، ولا سلطان عندهم، ولا علم عندهم فى عبادة ما يعبدون من عبدوا الشمس، من عبدوا القمر، من عبدوا النجوم، من عبدوا الأشخاص من الناس، من عبدوا الأنبياء، من عبدوا الرسل، من عبدوا الملائكة لا علم لهم بأن هذه آلهة تستحق العبادة، وإنما هذه تخيلاتهم، وظنونهم، وافترائهم، وكذبهم على أنفسهم وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ قال -جل وعلا- {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ}[الحج:71]: الظالم الذى وضع العبادة، وهى أشرف الأعمال فى غير مكانها بدلاًا من أن يتجه بالعبادة إلى من يستحق العبادة الرب، الإله الذى لا إله إلا هو خالق السماوات، والأرض {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[البقرة:21], {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}[البقرة:22]: هذا هو الرب الذى يستحق وحده -سبحانه وتعالى- العبادة هذا فعله، وهذا صنيعه -سبحانه وتعالى- غيره لا يصنع شيئًا من ذلك، ولا يفعل شيئًا من ذلك إنما هو مخلوق، مربوب، محتاج، فقير إلى إلههه، وخالقه، ومولاه -سبحانه وتعالى- الملائكة فقراء إلى الله، عيسى فقير إلى الله -تبارك وتعالى- كل الأنبياء، والرسل، كل هذه الموجودات فقيرة إلى الله -تبارك وتعالى- محتاجة إليه، وفى وجودها، وبقاءها، واستمرارها، والله هو الذى له المن، والإحسان فى وجود هذه الموجودات، وفى تصريفها، وفى تسييرها -سبحانه وتعالى- فهذا الظالم الذى وضع العبادة فى غير محلها؛ فعبدها غير الله -تبارك وتعالى- ليس له من نصير، لا يجعل الله -تبارك وتعالى- له نصيرًا له ينصره من الله -تبارك وتعالى- سينال عقوبته، وعذابه عند الله -تبارك وتعالى- ولن يجد من ينصره، بل سيكون أعدى أعدائه هم هؤلاء أولياؤه الذين وآلاهم من دون الله -تبارك وتعالى- وحبهم، وعبدهم هؤلاء سينقلبون عليه {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًايُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ}[البقرة:165], {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ}[البقرة:166]: كل الأسباب، والصلات التى كانت بين هؤلاء العباد، أو الأتباع، وبين متبوعيهم كلها تتقطع, {وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ}[البقرة:167], فليس للظالمين عند الله -تبارك وتعالى- من نصير؛ ثم بين الله كراهيتهم للحق، شدة كراهية هؤلاء المشركين للحق.
قال -جل وعلا-: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}[الحج:72]: على هؤلاء المشركين آيَاتُنَا: آيات الله -تبارك وتعالى- تقرأ عليهم آيات الله حال كونها بَيِّنَاتٍ: واضحات موضحة للحق، مبينة له؛ فآيات الله -تبارك وتعالى- تبين الحق بيانًا، كاملًا فى تعريف العباد بإلههم الحق ربهم -سبحانه وتعالى- والطريق إليه، وما شرعه -سبحانه وتعالى- لعباده، وأنه وحده المستحق العبادة، وبيان بطلان كل ما يعبد من دونه سبحانه وتعالى آيات، بينات، واضحات تقيم الحجة، والبرهان على هذا الأمر بحيث يلمسه كل، ويعقله كل متعقل، ويلمسه كل متلمس للحق، قال -جل وعلا- تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ: أي يظهر على وجوه هؤلاء المنكر، إنكارهم لهذا الحق حتى أنه يظهر فى وجوههم، قال -جل وعلا- {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ}[الزمر:45]: فتشمئز قلوبهم، ويظهر هذا على وجوههم أنهم منكرون لأمر توحيد الله -تبارك وتعالى- لعبادة الله وحده لا شريك له أشد الإنكار، ويرفضون هذا أشد الرفض؛ ثم يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا: أي أن يتسلطوا، وأن يقوموا بكل ما عندهم من قوة ليفتكوا، ويقتلوا الذين يتلون عليهم آيات الله -تبارك وتعالى- قال -جل وعلا-: قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ: قل لهم أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ هذا الحال الذي أنتم عليه من كراهية هذا الدين، ومحاولتكم قتل، وإزالة، وأذى من يتلوا عليكم آيات الله -تبارك وتعالى- ويدعوكم إلى الله -جل وعلا- النَّارُ كأنه لا علاج لكم، ولا مصير لكم إلا النار النَّارُ نار الآخرة {وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}[الحج:72]: هذا هو طبعًا النار أم الشرور، أعظم الشرور، جمع الله -تبارك وتعالى- فيها كل الشرور لأهلها من الغم، والهم، والعذاب المؤلم، والعذاب المهين، وإتيان أسباب الموت من كل طريق على المعذب؛ فهذه النار النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وهذا وعد لا بد أن يتحقق أخبر الله أنه متحقق لا بد كل كافر من يأتى الله -تبارك وتعالى- كافر فليس له عند الله -تبارك وتعالى- إلا النار {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا}[طه:74], لا مصير أشد بؤسًا، وأشد نكرًا من هذا المصير، أن يكون مصير الإنسان نهايته، ومآله، وخاتمته وأمره فى أن يبقى فى النار هذا البقاء السرمدى الذى لا ينقطع, ثم خاطب الله تبارك وتعالى فى ختام هذه السورة الناس المكذبين بوحدانية الرب -تبارك وتعالى- والذين يعبدون غيره -سبحانه وتعالى- ثم بين هوان، هوان كل ما يعبد من دونه -تبارك وتعالى- وأنه ضعيف، ومهين إلى درجة بعيدة، وأنه لا مجال لأن يقاس هذه الآلهة المدعاة بالرب الإله الذى لا إله إلا هو -جل وعلا-.
قال -جل وعلا-: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ}[الحج:73]: خطاب، ونداء من الله -تبارك وتعالى- لكل الناس, والله -تبارك وتعالى- ضرب هذا المثل هنا بصيغة البناء بما لم يسمى فاعله، الله هو الذى ضرب هذا المثل لعباده, وجاء البناء بالمجهول ليستمعوا للمثل، ولو قال ضرب الله مثل، وهم فى الأساس كارهين لمسمى الرب -تبارك وتعالى- ولوحدانيته؛ فيقول لهم ضرب مثل, إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ: إن بالتأكيد الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ: تدعونهم من دون الله، وتدعون أنهم آلهة من دون الله، تعبدونهم، وتعطونهم ما لا يصح أن يعطى إلا لله -سبحانه وتعالى- من العبادة، من التقديس، والتعظيم، والتبجيل، والطلب ما توابع هذا العبادة من الركوع، والسجود، والطواف، والذبح، والنذر هذه العبادات، الأعمال الشريفة التى لا يجوز بتاتًا أن تعطى إلا لله، الرب، الإله، الخالق الذى لا إله إلا هو -سبحانه وتعالى- كيف تعطى هذه الأعمال الشريفة لغيره، وهو لا يستحقها؛ فهؤلاء الذين تدعونهم من دون الله تطلبون منهم النفع، والضر، والنصر، وغير ذلك أن ينفعونكم، أن يصرفوا الضر عنكم، أن ينصرونكم فى حروبكم أن الذي هو دعاء المشرك لإلهه لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ: انظر هوانهم، وضعف، وقلة حيلة، وعجز هذه الآلهة المدعاة الذباب هذا من أحقر الحشرات، وأصغرها، والكل يتقذره، ويكرهه؛ فهذه الحشرة المكروهه، الصغيرة، الذباب لو اجتمع له كل هؤلاء الآلهة ليخلقوه ويوجدوه من العدم؛ فإنهم لن يفعلوا ذلك لن يستطيعوا هذا؛ فإنما الخلق إنما هو فعل الرب وحده -سبحانه وتعالى- ولا يستطيع على هذا الخلق إلا هو -جل وعلا- فلا يستطيع غيره أن يخلق شيئًا، ولو ذرة واحدة يستطيع أن يخرج ذرة من العدم إلى الوجود مهما كان هذا الذى أدعيت له الألوهية لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ: أي لو اجتمع هؤلاء الآلهة له، وتعاونوا، وتظاهروا فيما بينهم؛ فإنهم لن يفعلوا ذلك، بل ما هو أقل من هذا، وأحقر من هذا, وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ: هذا الذباب المخلوق الصغير، الضعيف لو تسلط على هؤلاء فسلبهم شيئًا، أخذ شيئًا من هؤلاء الآلهة المدعاة؛ فإنهم لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ: لا يستطيعون استنقاذه، واستخلاصه منه لضعفهم كذلك، وصورة هذا أن بعض هذه الآلهة أصنام فلو الذباب أخذ منهم شيئًا، ونقل منهم شيئًا؛ فإنهم لا يستطيعون طبعًا لأنهم أصنام، وجمادات أن تستعيد شيئًا من ذلك، وكذلك إذا نقل الذباب شيء من المرض، أو العدوى لهؤلاء الآلهة المدعاة من البشر، أو من غيرهم؛ فإنهم لا يستطيعون أن ينتقموا من هذا الذباب، وأن يستنقذوا ما أخذه الذباب منه، وهذه أمة مع ضعفها أمة الذباب إلا أن هذا العالم كله يحاربها، ويقاتلها منذ وجد، وهى ما زالت موجودة، وتسلب من الناس تسلب كثيرًا من حياة البشر، تقتلهم، تقتل بالعدوى، والمرض الذى تؤديه تسلب حياتهم منهم بهذه، ومع ذلك لا يتغلبون عليه، على هذا المخلوق الضعيف {ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ}[الحج:73] ضَعُفَ الطَّالِبُ: هذا الإنسان الذى يدعى الألوهية، والربوبية، وَالْمَطْلُوبُ: هذا الذباب الضعيف؛ فهذا ضعيف، وهذا ضعيف كلها مخلوقات ضعيفة، وقدراتها محدودة، والله -سبحانه وتعالى- هو القوى العزيز وحده -سبحانه وتعالى-.
{مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ}: بيان لهؤلاء أنهم ما عظموا الله -تبارك وتعالى- حق تعظيمه، القدر هو المقدار، والعظمة؛ ما عظم هؤلاء الناس الذين أشركوا بالله -تبارك وتعالى- وعبدوا غيره ما عظموه حق تعظيمه، ولا كبروا الله -تبارك وتعالى- كما ينبغى له، ولا عرفوه كما ينبغى له المعرفة -سبحانه وتعالى- كما الله -جل وعلا-: {مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}[الحج:74]: قوى، وقوته -سبحانه وتعالى- تعرف بآثار هذه القوة فى الخلق؛ فإن الذى رفع هذه السماء، ووضع هذه الأرض، ووضع كل جرم من هذا السماء فى مكانه لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ: لا شك أنه من القوة بمكان، رفع العرش، ورفع الكرسى، رفع السماوات، ورفع الأرض، ووضع هذا الكون العظيم، الفسيح لا يعرف البشر له حدًا ينتهى إليه، قوى -سبحانه وتعالى- فالخالق الذى خلق هذا، وأتقنه على هذا النحو، وبناه هذا البناء لا شك أنه قوى -سبحانه وتعالى- عَزِيزٌ: غالب لا يغلبه أحد، ممتنع يمتنع عن كل أحد أن يغلبه -سبحانه وتعالى- وأن ينال جانبه -جل وعلا- فكيف يقارن هذا الرب الإله -سبحانه وتعالى- بهذه المعبودات الضعيفة التى لا تستطيع أن تخلق ذبابًا، بل ولا تستطيع أن تأخذ من الذباب ما يسلبه الذباب منه؛ يا ضعف هذه الآلهة! كيف تعبد آلهة على هذا النحو لا تستطيع أن تخلق ذباب، وما الذباب بجوار خلق هذه السماوات، والأرض -سبحانه وتعالى- وما هذا الجند الذباب من جند الله -تبارك وتعالى- فهذا إذا كان المخلوق لا يستطيع أن يتغلب على هذا المخلوق الضعيف كل هذه الآلهة لا تستطيع أن تتغلب على هذا المخلوق الضعيف، الذى يقتل من البشر ما يقتل، ومع ذلك لا يستطيعون التغلب عليه كيف يعبد هؤلاء من دون الله! -تبارك وتعالى-.
ثم قال -جل وعلا- {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ}[الحج:75]: هذا بيان أن هذا الرب الإله، العزيز القوى -سبحانه وتعالى- من حكمته، ومن سنته -سبحانه وتعالى- أنه يَصْطَفِي: يختار رسل من الملائكة، ومن الناس يرسلهم الله -تبارك وتعالى- يرسل الملائكة فى رسالاته -جل وعلا- كما جبريل -عليه السلام- رسول الله -تبارك وتعالى- يرسله الله -تبارك وتعالى- بالوحى إلى من يختارهم الله -تبارك وتعالى- من الرسل، والبشر؛ فهذا اصطفاء، واختبار، وليس هذا لضعف الرب -تبارك وتعالى- ولإحتياجه إلى من يرسله لكن هذا اصطفاءه، واختياره، وهذا تنظيم ملكه، وعمله -سبحانه وتعالى- وليس هذا عن احتياج لهؤلاء الرسل سواء أن كانوا من الملائكة، أو من البشر اللَّهُ يَصْطَفِي: يختار مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ وقد يدخل فى اصطفاء الله مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا؛ لأن الملائكة الذين يرسلهم الله -تبارك وتعالى- فيما يرسلهم به من مهام غير إنزال الوحى؛ فإن جبريل هو الموكل بوحى الله -تبارك وتعالى- ويرسل الله -تبارك وتعالى- ملائكته فى شئون كثيرة من شئون خلقه -سبحانه وتعالى- كالملك الموكل بقبض الروح، والملك الموكل بالمطر، والملك الموكل بالأرحام، كما فى الحديث «إذا مر على النطفة اثنتى وأربعون يومًا أرسل الله لها ملك فقال أى يا ربى ما عمله ما رزقه ما أجله ذكر أم أنثى شقى أم سعيد» فيكتب هذه الأربعة كلمات، ولا يجاوزها؛ فهذا الملك موكل بهذا، وكله الله -تبارك وتعالى- بهذا العمل، ملائكة موكلة بالجبال، ملائكة لله -تبارك وتعالى- يوكلهم الله -تبارك وتعالى- بتتبع حلقات الذكر، وزيارة المؤمنين الصالحين فى الأرض، كما فى الحديث «يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل، وملائكة بالنهار فيعرج الذين باتوا فيكم يسألهم ربهم وهو أعلم بهم كيف تركتم عبادى؟ فيقولون يارب آتيناهم وهم يصلون وتركناهم وهم يصلون», فهؤلاء رسل يرسلهم الله -تبارك وتعالى- فى هذا الشأن، وأحيانًا يخاطبهم الله -تبارك وتعالى- عندما يعودون؛ فيقول هؤلاء الذين جلسوا فى بيت من بيوت الله -تبارك وتعالى- تأتى الملائكة تحفهم، وتنزل عليهم السكينة؛ ثم يقول لهم الله -تبارك وتعالى- ما جلس هؤلاء؟ يقولوا يا رب جلسوا يسبحونك، ويحمدونك، ويستغفرونك، ويسألونك الجنة؛ فيقول لهم الرب -تبارك وتعالى- قد رأوها؟ قال لا يا رب، لم يروها، وإنما سمعوا بها؛ فقال كيف لو رأوها؟ فقال يكونون أشد طلبًا لها؛ ثم يقول يا رب، ويستعوذون بك من النار؛ فيقول الرب قد رأوها؟ رأو النار الذى يخافون منها، ويتستعوذون منها؛ فيقولون لا يا رب، وإنما سمعوا ذلك بالوحى، فيقول الرب -تبارك وتعالى- كيف ولو رأوها؟ فيقولون يكونون أشد خوفًا منها، وأشد استعاذةً لها؛ فهؤلاء رسل يرسلهم الله -تبارك وتعالى- الملائكة يرسلهم الله -تبارك وتعالى- فى هذه الشئون العظيمة، وهو أعلم -سبحانه وتعالى- منهم بالخلق -جل وعلا- ومن الناس يصطفى الله -تبارك وتعالى- رسل فقد اصطفى الله -تبارك وتعالى- {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ}[آل عمران:33], {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ........}[آل عمران:34], اصطفاهم الله -تبارك وتعالى- اصطفى الرسل بأن اختارهم -سبحانه وتعالى- وأرسل لهم رسالاته أن ادعوا الناس إلى عبادة الرب -تبارك وتعالى- ولا شك أن الله قادر -سبحانه وتعالى- أن يبلغ رسالته إلى العالمين دون هذه الرسل لكنه الله اختار هذا الأمر- جل وعلا- {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ}[الحج:75]: بكل خلقه سَمِيعٌ لكل خلقه -سبحانه وتعالى- لا يغيب عنه صوت، وكلام، ولفظ أى مخلوق من مخلوقاته -سبحانه وتعالى- فكل الأصوات على اختلاف اللغات فى كل الأوقات الله -تبارك وتعالى- سميع بها حال كونها قائمة {........أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}[فصلت:53], {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}[يونس:61], {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}[الأنعام:59], سَمِيعٌ لكل خلقه بَصِيرٌ بكل خلقه -سبحانه وتعالى- بأنه شاهد عليهم بسمعه، وبصره {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}[المجادلة:7], فالله قد أحاط علمه بكل شئ فى كل أوقاته، وأحاط سمعه، وبصره بكل مسموعات، وبكل مبصرات؛ فلا يعذب عنه شيء -سبحانه وتعالى- قط.
{يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ}[الحج:76]: هؤلاء الرسل الذين يصطفيهم الله -تبارك وتعالى- من الملائكة، والرسل يعلم الله -تبارك وتعالى- مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ مستقبل كل الأمور التى بين أيديهم من مستقبل أحوالهم يعلمه الله وَمَا خَلْفَهُمْ -سبحانه وتعالى- كل أيضًا ما فعلوه، وما خلفوه وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ فى نهاية الأمر، والمطاف ليحكم -سبحانه وتعالى- بين عباده إلى الله لا الى غيره، ما قال ترجع الأمور إلى الله، وإنما قدم هنا المعمول، قال إلى الله ترجع الأمور، وهذا يفيد الحصر إلى الله لا إلى غيره تُرْجَعُ الأُمُورُ فى الآخرة ليحكم فيها -سبحانه وتعالى- بعلمه التام، الشامل الذى قد علم كل شيء -سبحانه وتعالى- فمرد الأمور فى النهاية إلى الرب الإله الذى لا إله إلا هو -سبحانه وتعالى- لا شك أن هذا الإله الذى هذه صفته هو الذى يستحق أن يعبد وحده -جل وعلا- وأما ما دونه مما لا يملك من ذلك شيء؛ فكيف يعبد من دون الله -تبارك وتعالى-؟!, ثم فى ختام السورة وجه الله -تبارك وتعالى- نداؤه، وأمره إلى المؤمنين بهذه الأوامر العظيمة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمُ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[الحج:77]: نداء من الله -تبارك وتعالى- ودائمًا ينادى الله -تبارك وتعالى- عباده المؤمنين بهذا الاسم (الإيمان) الذى هو أحب، وأفضل، وأشرف الأسماء؛ فهذا أشرف الأسماء يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لأن الإيمان هو أعلى، وأعظم صفات العبد المؤمن بالله -تبارك وتعالى- هو المهتدى، هو المفلح، هو السائر على الصراط المستقيم؛ فيناديهم الله -تبارك وتعالى- بهذا النداء، وفى نداء الله -تبارك وتعالى- المؤمنين بهذا الوصف يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أولًا حض على العمل، عندما يقال يا أيها المؤمن افعل كذا فهذا حض له؛ لأن هذا تكريم له، ووصف له بهذه الصفة الكريمة، وكذلك يتضمن الإلزام يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا يا من آمنت، شهدت أن لا إله إلا الله، وصدقت، وآمنت بالرسول إذًا جاءك الأمر بعد هذا؛ فالتزم بهذا الأمر لأن هذا من مقتضى، ومن لوازم الإيمان {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمُ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[الحج:77]: أمر بالركوع، والسجود، الركوع هيئة جعلها الله -تبارك وتعالى- من هيئة الصلاة، والسجود هى هيئة من هيئات الصلاة، هى أكمل هذه الهيئات؛ فأمر بالركوع، أمر أن نركع -سبحانه وتعالى- وأن نسجد له، وقد شرع لنا صفة الصلاة ذات الركوع، وذات السجود بهيئتها، وعلمنا النبى -صلى الله عليه وسلم- صفة الركوع كيف تكون، وكذلك صفة السجود كيف تكون وَاعْبُدُوا رَبَّكُمُ: فدعا إلى هذا الأمر الذي هو المفرد هذا, ثم دعا بالعموم، خص الركوع، والسجود؛ ثم أتى بلفظ عام الذي هو وَاعْبُدُوا رَبَّكُمُ: العبادة التى معناها الذل لله -تبارك وتعالى- والخضوع، وطاعة مع تعظيم، ومع محبة هذا مفهوم العبادة أن تكون طاعة مع التعظيم، ومع المحبة لهذا الآمر فاعبدوا ربكم، ذلوا له، واخضعوا له، وأطيعوه -سبحانه وتعالى- رَبَّكُمُ؛ لأنه ربكم -سبحانه وتعالى- خالقكم، وبارئكم وَافْعَلُوا الْخَيْرَ: بعد هذا جاء اللفظ أعم من هذا فعل الخير وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وكلمة وَافْعَلُوا الْخَيْرَ كلمة عامة تشمل كل هذا العموم لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ.
وسنعود إن شاء الله إلى هذه الآية مرة ثانية فى الحلقة الآتية.
أصلى، وأسلم على عبده، ورسوله محمد، والحمد لله رب العالمين.