السبت 22 جمادى الأولى 1446 . 23 نوفمبر 2024

الحلقة (407) - سورة الحج 77-87

الحمد لله رب العالمين، والصلاة، والسلام على عبده، ورسوله الأمين, سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله، وأصحابه، ومن اهتدى بهداه، وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد؛ فيقول الله -تبارك وتعالى- وهذا فى ختام سورة الحج {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمُ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[الحج:77], {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ}[الحج:78], جاءت هاتان الآياتان العظيمتان خطاب من الرب -تبارك وتعالى- لعباده المؤمنين فى ختام هذه السورة العظيمة، سورة الحج نادى الله -تبارك وتعالى- عباده المؤمنين بقول لهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمُ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[الحج:77]: نداء من الله -تبارك وتعالى- للعباد المؤمنين بوصفهم بهذا الوصف عندما يناديهم بهذا النداء؛ فهذا فيه حض لهم على هذا الفعل، وتهييج لهم على الفعل يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كما يقال يا إبن الأكرمين إفعل كذا، وكذا, ثم كذلك فيه معنى الإلزام لأن يا أيها المؤمن إفعل كذا، كما قال ابن مسعود إذا سمعت يا أيها الذين آمنوا فأرعه سمعك؛ فإنما الله -تبارك وتعالى- يأمرك بأمر، أو ينهاك عن نهى افهم هذا إن هذا الله هو الذى يأمرك؛ فهذا خطاب الله -تبارك وتعالى- المباشر لأهل الإيمان يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا: بدأ الله تبارك وتعالى بالركوع، والسجود، والركوع، والسجود هيئتان من هيئات الصلاة، وقد أدخلتا كل هذه الهيئة الركوع، والسجود فى الصلاة فى كل ركعة؛ فإن من ركنها الركوع، والسجود، والركوع صورة من صور تعظيم الرب لأنها إظهار لعبودية العبد لربه -سبحانه وتعالى- فإنه يحنى ظهره أمام الرب -تبارك وتعالى- فيظهر ذله، وخضوعه لمولاه، وخالقه -سبحانه وتعالى- المنعم عليه بكل هذه النعم نعمة وجوده، نعمة رزقه كل ما يحيطه {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ........}[النحل:53] فهذا قيام لشكر الله -تبارك وتعالى- وذكره الظهور بهذا المظهر، والسجود هو أكمل هيئات ذل العبد بين يدى إله، وخالقه، ومولاه -سبحانه وتعالى- فإنه يسجد على سبعة أعظم، ويضع أشرف ما عنده، وهو جبهته، وأنفه فى الأرض فى التراب حيث يسير، وفى الحديث «أمرنا أن نسجد على سبعة أعظم» وأشار النبى إلى الجبهة، والأنف هذه واحد، عظم واحد هذا، واليدان، والركبتان، والقدمين، وهذه الهيئة هيئة السجود هذه أكمل هيئة فى بيان خضوع العبد، وذله لإلهه، وخالقه، ومولاه، وهى أشرف شيء له، ولذلك يكرم الله -تبارك وتعالى- العبد الذى يفعل هذا كما جاء فى الحديث: «أقرب ما يكون العبد إلى الله وهو ساجد» فهذا العبد الذى يفعل هذا يكون قد اقترب إلى الله -تبارك وتعالى- وهو القرب المعنوى {كَلَّا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ}[العلق:19], فالسجود أعظم قربة إلى الرب الإله -سبحانه وتعالى- ولذلك أمرنا فيه أن نكثر من الدعاء لأن؛ هنا الإستجابة تكون محققة، كما قال النبى فإنه أن يستجاب لكم الدعاء هنا جدير بأن يستجيب له الله -تبارك وتعالى- لأن العبد يكون على هذه الهيئة المحبوبة عند الله -تبارك وتعالى- الهيئة التى يظهر فيها العبد ذله، وخضوعه بين يدى إله، وربه، ومولاه -سبحانه وتعالى-.

 ثم قال -جل وعلا- وَاعْبُدُوا رَبَّكُمُ: الأمر بالعبادة، والعبادة يدخل فيها الركوع، والسجود هذه أفراض من العبادة، والعبادة أشمل من هذا لأن العبادة تعنى كل ما يحبه الله -تبارك وتعالى- من العبد من الأقوال، والأفعال سواء أن كانت هذه الأفعال فعل القلب الذى هو أشرفها كالخوف من الله -تبارك وتعالى- الخوف، والإنابة، والخشية، والتعظيم، والمحبة أعمال القلب العظيمة {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}[الأنفال:2]{الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ}[الأنفال:3], {أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا........}[الأنفال:4] فعمل القلب، عمل الجوارح،الإنفاق فى سبيله، العابدة المالية، العبادات كل هذه الأعمال، والأقوال التى يحبها الله -تبارك وتعالى- فيدخل فيها الصلاة، والصيام، والزكاة، والحج، ويدخل فيها كل ما أمر الله -تبارك وتعالى- به من القربات التى يتقرب بها إلى الله كالذبح له، النذر له، والطواف ببيته، والحج إلى هذا البيت، وما فى الحج من هذه الأعمال، والمناسك التى نسكها الله -تبارك وتعالى- لعباده كل هذا داخل فى معانى العبادة، وكذلك داخل فى معانى العبادة طاعة الرب -تبارك وتعالى- فيما يأمر به، وينهى عنه فى أن تحل ما أحله، وتحرم ما حرمه، وتنتهى إلى الحدود التى أحدها لك فى كل أمر من الأمور، وفى كل معاملة من المعاملات؛ فهى كذلك من معانى العبادة الذل، والخضوع لله -تبارك وتعالى- بالطاعة المطلقة له مع محبة الآمر -سبحانه وتعالى- وَاعْبُدلُوا رَبَّكُمُ ثم قال هنا أعبدوا من ربكم، ولأنه ربنا فهو مستحق للعبادة رَبَّكُمُ إلهكم، سيدكم، خالقكم، بارئكم هو إله بلوازم الربوبية لأنه ربنا هو إلهنا فالرب بمعانيه أنه الخالق، البارئ، المصور لهذا الإنسان، المتفضل له، سيد الخلق -سبحانه وتعالى- الصمد الذى تصمد الخلائق كلها إليه، وبالتالى هو إلههم -سبحانه وتعالى- وَاعْبُدلُوا رَبَّكُمُ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ كلمة وَافْعَلُوا الْخَيْرَ بالألف، واللام يدخل فيها كل ما هو داخل فى مسمى هذا الخير من ما جاء تفصيله فى يعنى الحديث، كقول النبى -صلى الله عليه وسلم-: «لا يحقرن أحدكم من المعروف شيئاً ولو أن يلقى أخاه بوجه طلق» فطلاقة الوجه هذا من الخير، السلام، إعانة المحتاج، الإحسان إلى الخلق، الإحسان إلى الحيوان هذا من الخير، غرس نبتة كل ما هو خارج عن مفهوم الشر، والفساد؛ فهذا الخير الله يقول: إفعلوا الخير كل الخير، وَافْعَلُوا هنا القول بإفعلوه الفعل هو إيقاعه أوقع هذا الخير وين ما استطعته؛ فإفعله وَافْعَلُوا الْخَيْرَ ثم قال -جل وعلا-: {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[الحج:77] لعل للترجى، وهذه أسبابه هذه أسباب الفلاح؛ فإفعلوا هذه الأسباب لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وجعلت هنا لعل بحسب العبد أنك اذا فعلت هذا لعلك أن تكون من المفلحين، والمفلح هو الذى فاز بمطلوبه الأكبر، ونجح، وحصل بغيته، وهدفه، ونجحه، والفلاح لا شك أنه فى هذه ميزان الرب -تبارك وتعالى- هو الوصول إالى جنة الله -تبارك وتعالى- ورضوانه، وإحسانه، والنجاة من النار؛ فهذا هو الفوز المبين، وهذا هو الفلاح العظيم الفلاح بهذا؛ فسيروا فى هذا لتفلحوا تنالوا مرضاة الرب -تبارك وتعالى- ورضوانه، وإحسانه، ويكون مآلكم بعد ذلك إلى جنته، وينجيكم الله -تبارك وتعالى- من هذه الشرور العظيمة، وأعظم هذه الشرور هى النار.

 ثم قال -جل وعلا-: وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ: هذا أمر عظيم من أوامر الرب -تبارك وتعالى- يحث عباده المؤمنين أن يجاهدوا فى الله حَقَّ جِهَادِهِ الجهاد هو بذل الجهد أى جهد، والجهاد الشرعى بذل الجهد لإعلاء كلمة الله -تبارك وتعالى- فى الأرض، ويكون الجهاد بالنفس فى قتال الأعداء، ويكون بالمال إنفاقًا فى سبيل الله، ويكون بالكلمة نشراً للدين، ودفاعًا عن حوزته بالكلمة، وإبطالًا للباطل، وجهاد الكلمة كما قال النبى -صلى الله عليه وسلم-: «أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر» فجعلها من الجهاد، وقول الله -تبارك وتعالى- فى الجهاد بالقرآن {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا}[الفرقان:51], {فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ}: أى بالقرآن {ِجهَادًا كَبِيرًا}[الفرقان:52] جهاد الكلمة، وهو فى بعض المواطن أشرف الجهاد، وجهاد المال وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إنفاق المال فى سبيل الله لإعلاء كلمة الله -تبارك وتعالى- وأعظمها يكون فى عدة الحرب، والجهاد فى عدة الحرب، والقتال، والجهاد بالنفس، وهو الخروج لقتال الأعداء كل هذا من داخل فى معنى الجهاد وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ جهادكم فى الله تجاهدوا أعداء الله -تبارك وتعالى- فى الله -جل وعلا- بإسمه، ولأجله، لإعلاء كلمته -جل وعلا- فأخلصوا فى هذا حَقَّ جِهَادِهِ كما ينبغى له الجهاد، ولا شك أن هذا أمر عظيم جدًا؛ فإن الذي يستحقه الرب -سبحانه وتعالى- من الجهاد أمر عظيم أن يعطى الإنسان كل ماله، كل جهده، كل وقته للرب -تبارك وتعالى-، ولا شك أنه لن يؤدى حق الله -تبارك وتعالى- كاملًا لكن قد بين الله -تبارك وتعالى- أن الأمر على الاستطاعة، كما جاء فى قول الله -عز وجل-: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ.......}[التغابن:16] لكن هذا حث هنا على أن يبذل غاية الجهد، وغاية البذل لأن الله يستحق ذلك -سبحانه وتعالى- كيف لا يستحق الرب -تبارك وتعالى- أن يجاهد فى سبيله بكل غالٍ، ونفيس، وهو المتفضل على العبد بكل هذا الأمر، الله هو المتفضل على العبد بآياته، بوجوده، بماله، بقدراته كلها من الله -تبارك وتعالى- فعندما يطلبها الله -تبارك وتعالى- أن تبذل هذه فى سبيله، فى إعلاء كلمته؛ فهى حقه -سبحانه وتعالى- وقد بين -سبحانه وتعالى- أنه اشترى هذا، ويعطى عليه هذا العطاء العظيم {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}[التوبة:111], فالله عندما يأخذ هذا من عبده، ويشتريه؛ فإنما يعوضه الخلود فى الجنة؛ فالحياة التى تعطى لله -تبارك وتعالى- يثيب الله -تبارك وتعالى- فاعلها بالحياة الدائمة يعنى الذى يقتل فى سبيل الله لا يقتل إنما يقتل ليحيا، يقتل فى هذه الحياة ليحيا؛ فيقابل الله -تبارك وتعالى- قتله قتل العبد نفسه فى سبيل الله بأن يحييه {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}[آل عمران:169], والمال الذى ينفقه فى سبيل الله، الله -تبارك وتعالى- يعطيه عليه عطاء لا يمكن أن يقاس بأى مال، ولو جمعت الدنيا كلها لتكون مقابل شيء مما يعطيه الله -تبارك وتعالى- فى الجنة فإنها لا تساويه؛ فالدنيا كلها لا تساوى جزء صغير من أجزاء النعيم فى الجنة، يخبر النبى -صلى الله عليه وسلم- بأن نصيف الحورية الواحدة على رأسها، ولا نصيفها على رأسها خير من الدنيا، وما فيها «ولو أن إمرأة من أهل الجنة اطلعت على أهل الأرض لأضاءت ما بين السماء والأرض ولملأته ريحا» ملأت ما بين السماء، والأرض ريحا، ولا نصيفها على رأسها خير من الدنيا، وما فيها؛ فهذا جزء من متاع أهل الجنة لا يقاس، ولا يساويه الدنيا بأسرها عندما يقول الله وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ: أي ما يستحقه الرب -سبحانه وتعالى- فما يستحقه الرب لذاته، وصفاته -سبحانه وتعالى- شيء عظيم جدًا، وكذلك ما يستحقه لإنعامه -سبحانه وتعالى- فيستحق لإنعامه أنك تعطى ما تعطى؛ فتقابل بهذا الإنعام الهائل من الله -تبارك وتعالى- فهذه الآية فيها حث عظيم جدًا على بذل الجهد فى سبيل الله، وأن الله يستحق هذا، وأنه أهل لهذا -سبحانه وتعالى- وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ.

 ثم جاء حث آخر إثر الحث؛ فقال هُوَ اجْتَبَاكُمْ هو الرب الإله -سبحانه وتعالى- الذى يأمركم بهذا هُوَ اجْتَبَاكُمْ إختاركم، اختصكم أنتم؛ إختصكم الله -تبارك وتعالى- من دون العالمين بالهداية إلى دينه، وبالتوفيق، وبإنزال هذه الرسالة على رسوله العربى، الأمى -صلوات الله والسلام عليه- فهو اجْتَبَاكُمْ إختاركم لحمل هذه الرسالة، هو الله -جل وعلا- فعندما يقول الله إجتباك، إختارك، إختصكم بهذا الأمر أمر عظيم جدًا, ثم وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ لم يجعل الله -تبارك وتعالى- عليكم فى الدين كله مِنْ حَرَجٍ: أي أنه قد إختار لكم دينًا، سهلًا، سمحًا، طيبًا لا حرج فيه عليكم بأى وجه من الوجوه حرج من فعله أن يستخزى الإنسان من فعله، ما فى شيء من هذا الدين يخجل قط لأن كله على أسمى درجات السمو، والكمال؛ فكل الأوامر، وكل نواهى الله -تبارك وتعالى- قائمة على العدل، والإحسان {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ........}[النحل:90] كل ما هو مثال فى الخلق، والإستقامة، والطهارة، والنظافة هو الذى أمر الله -تبارك وتعالى- به، بل لو لم يكن هناك ثواب على فعل الطاعة، ولا عقوبة على الترك لكان العاقل كل من له لب، وعقل عليه أن يتبع هذا، عليه أن يأخذ هذا الدين لأن هذا هو الموافق للإستقامة، وللطهارة، وللسمو، وللرفعة، وللخلق القويم؛ فالدين كله خلق قويم؛ فهذا لو أن يقولون الفلسفة إنما هو العمل بالحكمة العليا، وهذه الحكمة، وقد يكون الفيلسوف يعمل الحكمة ولا يبتغى هناك أجر، وثواب على فعله لهذا الأمر، ويتبع الأخلاق لأنها هي الحق، وهو الخير، وهو الإستقامة، والطهارة، والنظافة، ولا يرجو من وراء ذلك ثوابًا الفلاسفة غير الإلهيين الذين كتبوا فى الأخلاق يقولون الفيلسوف يجب أن يعمل الحق لأنه حق دون أن ينظر من وراءه يعنى إحسان من أحد، أقول لو لم يجعل الله -تبارك وتعالى- سبحانه لثوابًا على الإستقامة على أمره بهذا الثواب العظيم الجنة، ولم يجعل عقوبة عليه كفى للإنسان شرفًا، ومكانة لأن يتخلق بهذه الأخلاق، ولو ما ورائها الثواب، والعقاب كيف وراء الإستقامة هذا الثواب العظيم الجزيل من الله -تبارك وتعالى- وكيف إذا كان وراء الخروج عن هذه الطاعة، والإستقامة هذه العقوبة العظيمة التى تنتظر العاصى؛ فالدين لا حرج فيه لأنه لا عيب فيه، ولا نقص فيه {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا}[الكهف:1], قَيِّمًا: قويم, {وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}[المؤمنون:73], {صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ}[الشورى:53] فهو صراط مستقيم كل أوامره نظيفة، طاهرة، حق {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا........}[الأنعام:115] الأمر الآخر أن كل الأوامر التى أمر الله -تبارك وتعالى- بها هى فى مكنة الإنسان، وفى استطاعته؛ فالله جعل كل ما يأمر به عباده -سبحانه وتعالى- فى مكنته، وفى إستطاعته ما فى شئ تكليف ما لا يطاق لم يكلفنا الله -تبارك وتعالى- بأمر هو فوق الطاقة، ويوم أن يكون هذا التكليف على أفراد معينين لا يطيقونه؛ فإنه يأتى التخفيف مباشرة لمرض، لسفر لعدم قدرة على فهم المأمور؛ {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ........}[التوبة:115] وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ فإذا جاء أوقات للضرورة يأتى التسهيل، وإذا جاء أوقات للتخفيف يأتى التخفيف؛ فلا حرج، لا ضيق فى هذه الشريعة السمحة بأى نوع من الضيق النبى يقول: «بعثت بالحنيفية السمحة» كل الآصار، والأغلال التى  أخذعها الله -تبارك وتعالى- من قبلنا لعتوهم كلها رفعها الله -تبارك وتعالى- عن هذه الأمة فإن اليهود مثلًا أخذهم بعض الشدة فى بعض الأحكام عقوبة لهم على هذا، كما قال -جل وعلا-: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ.......}[النساء:160]: هذا تحريم الطيبات عقوبة من الله -تبارك وتعالى- أمر طيب لكن حرم عليه؛ فإذا أكلوه يحاسبون على ذلك؛ فضيق عليهم دائرة الحلال فى بعض الأطعمة هذه عقوبة من الله -تبارك وتعالى- هذا كله رفعه الله -تبارك وتعالى-.

 كما فى قول الله -تبارك وتعالى- فى ختام سورة البقرة {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}[البقرة:286] قال الله: قد فعللت أنزل الله هذا على رسوله، وقال الله -تبارك وتعالى- فى السماء قد فعلت لما قرأها المسلمون قال الله: قد فعلت كل هذا فالله لم يجعل على أهل الإسلام فى الدين، فى الدين الذى شرعه لهم من حرج أى حرج، ومن لتأكيد النفى؛ ثم قال -جل وعلا- مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ هذا حث للعرب المخاطبين بهذا الخطاب على صورة الخصوص قبل العموم، قال: مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ وهى ملة التوحيد، أبو العرب؛ فإن العرب كلهم يرجعوا إلى إسماعيل إبن إبراهيم، وإسماعيل أولاده كلهم القحطانيون، والعدنانيون كلهم من أولاده؛ فالقحطانيون ليسوا هم كما يقال من العرب العاربة الذين هم غير العرب المستعربة أبناء إسماعيل، بل القحطانيون من نسل إسماعيل كما جاء فى الحديث أن النبى -صلى الله وسلم- كان هناك ناس من أهل اليمن، وغيرهم ينتضلون، وهو يتسابقون بالنبل؛ فقال النبى: لهم إرموا بنى إسماعيل؛ فإن أباكم كان راميًا، إرموا بنى إسماعيل، وهم قحطانيون، إرموا بنى إسماعيل؛ فإن أباكم كان رامياً، أباكم أى إسماعيل كان راميً|ا؛ فالله -تبارك وتعالى- يقول: مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ وفى هذا حث أنه كذلك إذا كانت الملة، والشرعة، والدين الذى اختاره الله -تبارك وتعالى- وهو الإسلام، هو الذى كان عليه هذا الأب المعظم، المشرف عند العرب؛ فإن العرب مع شركهم إنهم كانوا يعظمون إبراهيم، ويظنون أنهم على دينه، وعلى ملته، وإن كانوا غيروا دينه، وملته بعد ذلك؛ فإن العرب، العرب غيرت دين إسماعيل بعد مدة غيرته خزاعة؛ فالله يقول هذه مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ هو إبراهيم الصحيح هنا فى رجوع الضمير أنه راجع الى إبراهيم عليه السلام سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ إبراهيم سمى هذه الأمة أمة مسلمة، وذلك عندما دعى الله -تبارك وتعالى- عند البيت بعد أن أتم بناء الكعبة؛ فقالا هو، وإسماعيل {........رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}[البقرة:127], {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}[البقرة:128] فقالا: وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ أى إسماعيل، وإبراهيم وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا ذرية إبراهيم، وإسماعيل، وهما العرب الذين جاؤا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وقد قال النبى -صلى الله عليه وسلم- لما سئِل عن نفسه، وعن دعوته، قال: أنا دعوة أبى إبراهيم، أنا هو محمد -صلى الله عليه وسلم- هو دعوة أبيه إبراهيم لأن إبراهيم دعى بعد ذلك وقال: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[البقرة:129] رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ يعنى فى هذه الأمة المسلمة يعنى {........رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[البقرة:129] فمحمد -صلى الله عليه وسلم- هو تحقيق من الله -تبارك وتعالى- لدعوة إبراهيم عليه السلام الذى دعى بأن توجد هذه الأمة المسلمة، وأن يبعث الله -تبارك وتعالى- فيها هذا الرسول الذى يعلمها الكتاب، والحكمة، ويزكيها، وهذا الذى امتن الله -تبارك وتعالى- به على العرب؛ فقال: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ}[آل عمران:164] فهذا فعل الرب -تبارك وتعالى- فالله يقول للعرب هُوَ إبراهيم سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ.

 ثم قال -جل وعلا- وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وفى هذا يعنى فى قيامكم بهذه الأوامر العظيمة اذا قمتم بهذه الأوامر العظيمة التى يأمركم الله بها لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ أنظر هذه المنزلة العليا التى يهيئ الله -تبارك وتعالى- لها، ويدعو لها أهل الإسلام، هذا الرسول الذى اختاره الله -تبارك وتعالى- ليكون شهيد عليكم، وشهادة النبى -صلى الله عليه وسلم- سيشهد لأهل الإيمان، وشهادته لأهل الإيمان أن فلان، وفلان، وفلان صدقوه، وآمنوا به، وعزروه، وقاموا معه، وجاهدوا معه، وشهادة النبى -صلى الله عليه وسلم- عند الله -تبارك وتعالى- شهادة عظيمة؛ فهذا الرسول يشهد لكم بين يدى ربكم -سبحانه وتعالى- فى هذا أمر عظيم جدًا أن هذا الرسول الذى اخترته سيكون شهيداً عليكم يوم القيامة، وكذلك هو تحذير للمعاندين، والمكذبين فى أن النبى يشهد عليهم يوم القيامة، كما قال -جل وعلا-: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا}[النساء:41], {يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا}[النساء:42] فيا سواد وجوه هؤلاء الذين سيشهد عليهم النبى -صلى الله عليه وسلم- بأنهم عاندوه، وكذبوه، وفعلو، وفعلوا، وفعلوا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ أنتم بهذه الرسالة الخاتمة تشهدوا على الناس كلهم، كما قال النبى -صلى الله عليه وسلم- أنتم شهداء الله -تبارك وتعالى- على خلقه، وقال: إنكم ستشهدون لنوح على قومه، وتشهدون لهود على قومه، وتشهدون لصالح على قومه، قالوا: كيف نشهد؟ قال: تشهدون بهذا القرآنه بشهادة الله -تبارك وتعالى- بما أنزل الله -تبارك وتعالى- على هذه الأمة فهذه الأمة ستشهد على الناس {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا........}[البقرة:143] وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ, ثم ختم الله -تبارك وتعالى- بمجموع هذا الأوامر، قال: فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ: مرة ثانية يكرر الله تبارك وتعالى الأمر بإقامة الصلاة، قال: {........فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ}[الحج:78] فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ أدوها على وجهها وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ والاعتصام به هو التمسك به -سبحانه وتعالى- هُوَ مَوْلاكُمْ الله مولاكم، ناصركم -سبحانه وتعالى- ومحبكم، والذى مولاه الله -تبارك وتعالى- مما يخاف، مما يخشى بعد ذلك الله هو ناصركم، ومحبكم، ومؤيدكم -سبحانه وتعالى- فَنِعْمَ الْمَوْلَى لا مولى أعظم من الرب -تبارك وتعالى- وَنِعْمَ النَّصِيرُ لا نصير ينصر أعظم من الرب -تبارك وتعالى- بهذا الختام العظيم تنتهى سورة الحج.

 أسأل الله -تبارك وتعالى- أن ينفعنا بما فيها من الهدى، والعلم، أستغفر الله لى، ولكم من كل ذنب، -وصلى الله وسلم على عبده، ورسوله محمد-.