الجمعة 29 ربيع الآخر 1446 . 1 نوفمبر 2024

الحلقة (408) - سورة المؤمنون 1-9

الحمد لله رب العالمين، والصلاة، والسلام على عبده، ورسوله الأمين, سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله، وأصحابه، ومن اهتدى بهداه، وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد؛ فيقول الله -تبارك وتعالى- بسم الله الرحمن الرحيم {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ}[المؤمنون:1], {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ}[المؤمنون:2], {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ}[المؤمنون:3], {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ}[المؤمنون:4], {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ}[المؤمنون:5]{إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ}[المؤمنون:6]{فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ}[المؤمنون:7], {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ}[المؤمنون:8], {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ}[المؤمنون:9], {أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ}[المؤمنون:10], {الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}[المؤمنون:11], هذه سورة المؤمنون، وقد بدأها الله -تبارك وتعالى- بهذه البداية العظيمة بإعلان فلاح المؤمنين، قال -جل وعلا- {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ}[المؤمنون:1]: إعلان من الله -تبارك وتعالى- وتأكيد أن المؤمنين قد أفلحوا إعلان مِن مَن؟ من الرب الإله الذى لا إله إلا هو منزل هذا القرآن {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا........}[الأنعام:115], قَدْ تحقيقية أَفْلَحَ: الفلاح هو النجاح، وهو الوصول إلى الهدف الأسمى، والأعلى، وحصول الفوز الكبير، وتحقيق أعلى الأمانى، والمطلوبات، وهذا الفلاح هو الذى سيأتى فى قوله -تبارك وتعالى- {الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}[المؤمنون:11] فمن وصل الفردوس، وكان خالدًا فيها جنة الله -تبارك وتعالى- التى جمع الله -تبارك وتعالى- فيها كل أنواع السرور، والحبور لأهلها؛ فهذا المفلح، هذا فلاحه الْمُؤْمِنُونَ: فهؤلاء هم الذين أفلحوا, الْمُؤْمِنُونَ: وصف لهؤلاء العباد، والإيمان معناه تصديق القلب بما أخبر الله -تبارك وتعالى- به، وعمله بهذا التصديق، عمل القلب، وعمل الجوارح بهذا التصديق هذا هو الإيمان الشرعى، والله -تبارك وتعالى- قد أخبرنا عن غيبه -سبحانه وتعالى- أخبرنا عن نفسه -جل وعلا- وعن جنته، وناره، وملائكته، وحكمة خلقه -جل وعلا- وما سيؤل إليه هذه الأمور، وهذا الكون المشاهد كل هذا أخبرنا الله -تبارك وتعالى- عن ذلك؛ فالمؤمنون هم الذين آمنوا بما حدث الله -تبارك وتعالى- به من الغيب الذين غاب عنهم، ولكن الله -تبارك وتعالى- يخبرهم به، ويحدثهم عنه -سبحانه وتعالى- حديث تفصيلى، حديث الرب -سبحانه وتعالى- {........وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا}[النساء:122], فالذين آمنوا بذلك، وعملوا بمقتضى هذا التصديق؛ فمن عمل بمقتضى هذا التصديق؛ فمن صدق بخالق هذا الكون الإله، الرب، القدير، الله -سبحانه وتعالى- الذى يأمر ليطاع، ويؤاخذ بالذنب، خافه -سبحانه وتعالى- واتقى عقوبته -جل وعلا- فالخوف من الله -تبارك وتعالى- هو عمل بمقتضى تصديق الرب -تبارك وتعالى- وكذلك محبة الله -تبارك وتعالى- وكذلك رجاءه؛ فهو عمل بمقتضى هذا التصديق، وكذلك الصلاة، والصيام، وكلها إنما هى ثمرات هذا التصديق، ثمرات الإيمان بالله -تبارك وتعالى-.

ثم وصف الله -تبارك وتعالى- هؤلاء المؤمنين؛ فقال: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ}[المؤمنون:2]: أول وصف يصف الله -تبارك وتعالى- به أهل الإيمان هنا، الصلاة أشرف، وأعلى، وأفضل ما شرع الله -تبارك وتعالى- لعباده من عمل فى هذه الأرض، الصلاة خير موضوع خير ما وضع الله -تبارك وتعالى- لعباده لأن الصلاة ذكر لله -تبارك وتعالى- وتعظيم له، وثناء عليه، وحمد له، وطلب منه، وهى التى تظهر، وتترجم فقر العبد، واحتياجه إلى خالقه، وإلهه، ومولاه، وتعظيمه لأمره، وتسبيحه له -جل وعلا- خَاشِعُونَ: الخشوع هو الخضوع، والتطامن، والتواضع؛ فالخاشع هو المتطامن، المتواضع الذى، وهو غير الكبر، والتعالى، والثورة؛ فالأرض الخشاعة هى الهابطة، الذليلة، والعبد الخاشع الخشوع فى الصلاة يأتى إلى سكون الجوارح، وسكون القلب، واطمئنانه إلى الله -تبارك وتعالى- فسكون الجوارح تكون بمواضعها التى أمر أن يجعل الإنسان جوارحه فيها، قائم بين يدى الله -تبارك وتعالى- ناظر إلى موضع سجوده، واضع يديه على صدره كما كان النبى -صلى الله عليه وسلم- يفعل غير متحرك بحركات خارجة عن معنى هذه الصلاة كما قال النبى: اسكنوا فى الصلاة، اسكنوا فى الصلاة؛ فالخشوع سكون فيها سكون بالجوارح، وكذلك سكون القلب، القلب الخاشع هو الذليل الخاضع لله -تبارك وتعالى- الذى يتفكر، وتخرج منه هذه الكلمات، كلمات الصلاة، وهو يعيها، ويفقه معانيها، ويؤمن بها؛ فهذا كله من معانى الخشوع كلهم فِي صَلاتِهِمْ أى لربهم خَاشِعُونَ .

ثم {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ}[المؤمنون:3]: هذا صفة عليا تدل على أنهم أهل مهمة، وأهل جد وراهم عمل عظيم، ومهمة عظيمة، ولا وقت عندهم لما لا فائدة منه هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ: اللغو هو الكلام الذى لا ثمرة من وراءه، ولا فائدة منه؛ فهو لا يضر، ولا ينفع لا فيه ضرر، ولا فيه نفع، وهذا طبعًا أقل من كلام الإثم، والنهى عن اللغو من باب أولى كلام الإثم كغيبة، ونميمة، وسب، وشتم، ونحو ذلك، لا، وإنما اللغو من كلام الناس الذى لا ثمرة ترجى من وراءه لا نفع فى دين، ولا نفع فى دنيا؛ فهذا اللغو، وقيل أنه مأخوذ من كلام الطير، العرب تقول لغى الطير أنه قال تكلم بكلامه، ما يفهم الإنسان ما يتكلم الطير، وأخذ هذا المعنى لما يتكلم به الناس من كلام لا ثمرة ترجى من وراءه فهم عن هذا اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ: أي معطين عرضهم له لا ينشغلون به، ويدخلون فيه، ولا يشغلون الأوقات به، وهذا مفهوم هذا أنهم أهل جد، وأهل حزم، وأهل دخول دائمًا داخلون، ومشتغلون بما يفيدهم، وما ينفعهم.

ثم قال -جل وعلا-: {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ}[المؤمنون:4]: هذا من صفات هؤلاء المؤمنين الذين قد أفلحوا كما أخبر الله -تبارك وتعالى- أنهم لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ, الزكاة أصلها فى اللغة هى النماء، والطهارة العرب تقول زكى الزرع بمعنى أنه نمى، وترعرع أصبح يانع، ويقولون هذه رائحة زكية أي أنها طيبة، طاهرة غير الرائحة الخبيثة؛ فالزكاة طهارة، ونظافة، ونماء، وخير، ويوصف النفس هذا الزكاة يوصف بها الأمور الحسية، والأمور المعنوية نقول زكى الزرع، وزكت النفس هذا نفس زكية، وهذه نفس خبيثة كما قال -جل وعلا- فى النفوس قال: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا}[الشمس:7], {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا}[الشمس:8]{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا}[الشمس:9] أى من زكى نفسه {وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا}[ الشمس:10] فنفس زكية، وهذه النفس الزكية هذا أمر معنوى، وليس أمرًا حسيًا، والنفس تزكى بالخلق الجميل الطاهر بالسير على منهاج الرب -تبارك وتعالى- فالصادق، الأمين، البار، الراشد هذا زكى النفس، وأما الخؤون، الكذوب، الكفور هذا قذر نجس إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ قد دس نفسه، وقذرها؛ فالزكاة تطلق على الأمور الحسية، وزكاة المال، زكاة المال نماؤه، والمال يطهر بإخراج جزء منه أخرج الإنسان جزء منه زكى المال، وكذلك زكت النفس بإخراج جزء من المال لأن النفس مجبولة على الشح، وحب الخير {إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا}[المعارج:19], {إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا}[المعارج:20], {وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا}[المعارج:21], {إِلَّا الْمُصَلِّينَ}[المعارج:22], يخرج الإنسان عن هذا الهلع، وهو الجمع، والمنع، والجزع فى وقت الشدة يخرج الإنسان عن هذا بالدين فبيت {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ}[المعارج:23], {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ}[المعارج:24], {لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ}[المعارج:25], {وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ}[المعارج:26], {وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ}[المعارج:27], {إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ}[المعارج:28], {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ}[المعارج:29], {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ}[المعارج:30], {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ}[المعارج:31], {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ}[المعارج:32], {وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ}[المعارج:33]: فهذا الذين يتصفون بهذه الصفة هذه تزكو نفوسهم، ويخرجون من هذا الهلع؛ فالزكاة قد تطلق، ويراد بها إخراج جزء من المال هذا الذى يزكى المال، ويزكى نفس صاحبه المخرج، لأنه يخرجه عن الشح، وعن البخل؛ فتزكو نفسه بالكرم، والعطف، وحب المساكين، والاستجابة لأمر الله -تبارك وتعالى- وكذلك هُمْ لِلزَّكَاةِ زكاة نفوسهم؛ فهنا الزكاة تفسر بتفسيرها العام أنهم لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ كل ما يزكى أنفسهم فاعلون، والدين كله زكاة، الدين كله كل ما أمر الله -تبارك وتعالى- به إنما هو فى المؤدى لزكاة هذا النفس، وتطهيرها؛ فالصلاة زكاة، الصوم زكاة لعلكم تتقون، وإخراج جزء من المال زكاة سماه الله -تبارك وتعالى- زكاة، والحج كذلك زكاة للنفس {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى........}[البقرة:197]: فيتزود الإنسان بالتقوى، بمخافة الرب -تبارك وتعالى- عندما يقوم بهذا الأمر بالحج، بر الوالدين زكاة، صدق الحديث زكاة، الإحسان إلى الجار، وهكذا، كل الدين من أوله لآخره إنما هوم طهارة، وإخراج المال من أعظم الزكاة لأنه يخرج الإنسان عن شحه، وعن بخله، وعن منعه حيث يرى أبواب الإنفاق مفتوحة من الفقير، والمسكين، والمحتاج، وهو عنده فهذا قسوة قلب من كان عنده المال، ويحبسه عن المحتاج، وشأن الكافر, {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ}[الماعون:1], {فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ}[الماعون:2], {وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ}[الماعون:3]: قاسى القلب؛ فهذا من نجاسة قلبه؛ فإخراج جزء من المال من أعظم زكاة النفس {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ}[المؤمنون:4]: يفعلونها، الزكاة بالمعنى العام فى أخذ أوامر الدين، والزكاة هنا بالمعنى هذا الخاص الذي هو إخراج جزء من أموالهم فى السبل التى أمرهم الله -تبارك وتعالى- أن تخرج فيها.

ثم قال -جل وعلا-: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ}[المؤمنون:5], {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ}[المؤمنون:6]: صفة أخرى من صفات هؤلاء المؤمنين المفلحين أنهم لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ وقالوا طبعًا اللفظ حفظ الفرج أعم من أن يكون نهى عن الزنا خاصة، بل هو أعم من هذا حفظ هذا عن عدم كشف العورات، عن الزنا الذى هو من أعظم إهدار، وإظهار لهذه الفروج، وعدم حفظ هذه الفروج {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ}[المؤمنون:5], ثم قال -جل وعلا-: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ}[المؤمنون:6] إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ: أي زوجاتهم، والزوج يقال الزوج المفرد الذى له واحد من جنسه؛ فالمرأة زوج، والرجل زوج إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ: أي إلا على زوجاتهم أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ ملك اليمين هى الإماء فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ: فإن الله -تبارك وتعالى- لا يلومهم على هذا الأمر لأن هذا مما أباحه الله -تبارك وتعالى- لهم, ثم قال -جل وعلا-: {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ}[المؤمنون:7]: فَمَنِ ابْتَغَى طلب وَرَاءَ ذَلِكَ من الزنا فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ: أي ما وراء ذلك، ما وراء الزوجة، ملك اليمين، قال -جل وعلا- فَأُوْلَئِكَ: مشار إليهم هم هؤلاء المعتدون هُمُ الْعَادُونَ المعتدى، العادى إلى ما حرم الله -تبارك وتعالى- الذى جاوز ما أباحه الله -تبارك وتعالى- وتعدى هذا الأمر إلى ما حرمه الله -تبارك وتعالى-, ثم قال -جل وعلا-: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ}[المؤمنون:8]: الأمانة، والعهد أعظم ما حرص عليه الدين من وجوب الحفظ، الأمانة تطلق الأمانة على كل ما يؤتمن الإنسان عليه سواء من مال، أو سر، وكلام سواء إن كانت أمانة حسية، أو أمانة معنوية، وسميت هذه الوديعة أمانة لأنها كأنها فى الأمن تعطى لتكون آمنة فى الأمن، ومطمئنة عند من تودع له، عليه، ولا شك أن الأمانة ممكن تكون لله -سبحانه وتعالى- آمانات الله -تبارك وتعالى- عند العبد، وكذلك آمانات العباد بعضهم عند بعض؛ فما استئمننا الله -تبارك وتعالى- عليه كل ما أمرنا الله -تبارك وتعالى- أن نقوم به، وهو من حقه -جل وعلا- وجعله الله -تبارك وتعالى- من حقه، وقد لا يطلع على هذا الأمر إلا هو ممكن الإنسان يخون هذا، ويعمل هذا، ولا يطلع عليه إلا الله -تبارك وتعالى- ولذلك قال بعض السلف غسل الجنابة أمانة، غسل الجنابة أمانة، وذلك أن هذا أمر مستتر ممكن أن الإنسان يجنب، ولا يغتسل من جنابته؛ فهنا قد خان الأمانة لأن الله -تبارك وتعالى- هذا من جملة أوامره -جل وعلا- حيث قال -جل وعلا- وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا: فأمر الجنب بأن يتطهر؛ فهذا من الأمانة؛ فكل ما إئتمن الله -تبارك وتعالى- العبد عليه، وجعله من أوامره؛ فهذه أمانة عند العبد وهو مسئول بها، وكذلك آمانات العباد بعضهم عند بعض كمن يودع عند غيره وديعة تكون أمانة عنده لمدة معينة ليردها إليه؛ فهذه يراعيها، وأن هذا حفظ، والعبد هذا إستئمننى على هذا الأمر لا بد من رد الأمانة كما هى، وعدم التصرف فيها، ومن الأمانة إسناد الأمر إلى أهله؛ فهذه أمانة؛ فالإمارة أساسًا أمانة الله -تبارك وتعالى- عندما يختار، ويقضى بأن يعين حاكم، أو أمير؛ فقد أمنه الله -تبارك وتعالى- على ما تحت يده، ولذلك قال النبى صلى الله عليه وسلم عن الإمارة: «إنها أمانة وإنها يوم القيامة خزى وندامة إلا من أخذها بحقها ووضعها فى حقها»  قال له يا فلان الإمارة أمانة هذا الله أمنك على هؤلاء الذين تحت يدك؛ فإنت تحت يدك هؤلاء الناس قد يكون تحت يدك أموالهم، وعهودهم، ومواثيقهم، وسأتصرف هنا، وهنا؛ فإذا خنت شيئًا من هذا؛ فإنك ستأتى به يوم القيامة، كما قال النبى -صلى الله عليه وسلم- لمن أخذ شيء من مال الزكاة لنفسه، وجاء للنبى -صلى الله عليه وسلم- وقال: هذا لكم، وهذا أهدى لى، قال لهم هذا لكم هذا جمعته من الإبل، وكذا لكم حق الزكاة، وهذا أهدى الناس أهدونى هذا؛ فقال النبى: أفلا جلست فى بيت أبيك، وأمك فتنظر أيهدى إليك أم لا؛ ثم قال: والله لا يأخذ أحد منه شيء إلا وجاء به يوم القيامة, ثم قال لا ألفين أحدكم يأتينى يوم القيامة وعلى رقبته بعير له رغاء؛ فيقول: يا محمد أدركنى؛ فأقول: إليك عنى قد حذرتك إليك عنى ابتعد هذا يوم القيامة يستجير بالنبى -صلى الله عليه وسلم- وعلى رقبته البعير الذى أخذه، وليس له حق فيه؛ فيأتى هذا البعير نفسه، وليس إثم البعير، ولا ذنب هذا الذنب؛ فيأتى هذا البعير نفسه، وليس إثم البعير، ولا ذنب هذا الذنب لا بل البعير نفسه الذى أخذه بدون وجه حق؛ ثم قال النبى لا ألفين أحدكم لا أجدن أحدكم يوم القيامة يأتينى على هذه الصورة وعلى رقبته بقرة لها خوار بقرة حقيقية لها خوار، والبقرة هذا صوت البقرة؛ فيقول: يا محمد أدركنى ينادى النبى -صلى الله عليه وسلم- ويقول له: أدركنى أدركنى مما أنا فيه، وهذا فى الموقف العظيم، والخزى أمام العالمين؛ فيقول له: إليك عنى يقول: فأقول إليك عنى قد حذرتك، أنا حذرتك إرجع؛ فلا يفعل له النبى شيئاً فى هذا الموقف العصيب؛ فهذا كذلك من الأمانة كل ما استئمن الإنسان عليه مما هو تحت يده من حقوق الأخرين هذه أمانة وسيسئل عنها، كما قال النبى: «كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته يوم القيامة», وأيضًا إسناد الأمر إلى أهله أمانة، قال الله -تبارك وتعالى-: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ........}[النساء:58] فهذا أمر للرعية أن يسندوا الحكم إلى أهله من أهل العدل، والإحسان، وممن يستطيع أن يقوم بهذا الأمر؛ فإذا لم يسندوا الأمر إلى أهله، وأسند هذا الأمر إلى أهله يكون هذا شر عليهم، وقد أخبر النبى أن هذا من علامات الساعة قال: «اذا أسند الأمر الى غير أهله فإنتظر الساعة» , وقال: «إذا ضيعت الأمانة فإنتظر الساعة قال وما إضاعتها يا رسول الله كيف تضيع الأمانة؟! قال له إذا أسند الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة» فيوضع الأمر الذي هو أمر الحكم فى غير أهله وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ كذلك العهد، العهد هو الميثاق الذى يقع بين طرفين، يجمع بين طرفين على شروط معينة،وأمور معينة، وهناك عهد بين العباد، وبين ربهم -سبحانه وتعالى- وكل من أسلم دخل فى عهد الرب -تبارك وتعالى- أصبح معاهد لبله -تبارك وتعالى- أن يقوم بهذا الدين وفاءه بهذا يوفى الله -تبارك وتعالى- بعهده مع العبد المؤمن كما قال -تبارك وتعالى-: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ}[البقرة:40]: أوفوا بعهدى معكم؛ فإن الله عهد إليهم -سبحانه وتعالى- أن يؤمنوا به، يصدقوا رسوله، يعزروه، كما قال -جل وعلا-: {لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا........}[المائدة:70]: أخذ الله -تبارك وتعالى- ميثاقهم, أي عهدهم الذى أخذهم الله -تبارك وتعالى- أن يقوموا بهذه الشريعة التى أنزلها الله -تبارك وتعالى- عليهم, ثم قال -جل وعلا-: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ........}[المائدة:13]: أي لما نقضوا عهدهم مع الله -تبارك وتعالى- عاقبهم الله -تبارك وتعالى- هذه العقوبات فى الدنيا؛ فالذين آمنوا بالله -تبارك وتعالى- أصبح بينهم، وبين الله عهد، إن وفوا ما عاهدوا الله -تبارك وتعالى- عليه فعند ذلك يوفى الله -تبارك وتعالى- عهده، وإن نقضوا عهدهم مع الله عاقبهم الله -تبارك وتعالى- {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا}[الأحزاب:23], {لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ........}[الأحزاب:24] الصادقين فى عهدهم، ووعدهم مع الله -تبارك وتعالى- {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ}[المؤمنون:8]: يراعى عهده، وأعظم هذه العهود العهود مع الله -تبارك وتعالى- ثم العهود مع الخلق كذلك أمر الله -تبارك وتعالى- بمراعاة عهودنا مع الخلق سواء مؤمنين مع مؤمنين، أو حتى مؤمنين مع كفار؛ فإن الله -تبارك وتعالى- قد أمر نبيه إذا عاهد قوم من الكفار أن يوفى العهد، قال: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ}[الأنفال:58]: أي لا تخن أبدًا، عاهدتم عهد، ورأيت الخيانة منهم فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ: أي انبذ إليهم العهد على سواء أنت، وهما يكونوا عارفين إنت قد نبذت هذا العهد، أما أن تغافلهم، وتخونهم، وتغدر بهم فلا، فوفاء العهود حتى العهود التى  قطعها النبى مع المشركين الله -تبارك وتعالى- يقول: {إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ}[التوبة:4]: أمرنا -سبحانه وتعالى- أمر المسلمين بأن عهد الناس، عهد المشركين، ولم يغير المشركون من عهدهم؛ فلا يجوز للمسلمين أن يغيروا من عهدهم، وينبغى أن يتموا إليهم عهدهم، ومدتهم التى عاهدوا إليها، وضع الحرب كان النبى قد عاهد بعض الناس، وادعهم إلى سنين معينة بأن يضع الحرب بينه، وبينهم، ويكون بينهم شيء من الأعمال، والشروط؛ فالله -تبارك وتعالى- أمر بأن يوفى بهذا العهد، وأن يؤدى إلى مدته هذه الآية {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ}[المؤمنون:8]: من أشمل، وأعم الآيات فى الأعمال التى تندرج تحتها؛ فإنها يندرج تحتها الدين كله أن العبد يجب أن يوفى بأماناته كلها مع الله، وهو الدين لأن الدين كله عند العبد أمانة، وكذلك هو عهد، الدين عهد بين العبد، وبين الله -تبارك وتعالى- يجب أن يقوم، ويوفى بما أمره الله -تبارك وتعالى- به، وكذلك العهود، والأمانات بين الخلق يجب على المؤمن ألا يخون الأمانة هذا واجب عليه، وأن لا يخلف عهده مع أى أحد مؤمناً كان أو كافرًا.

 ثم قال -جل وعلا-: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ}[المؤمنون:9]: ختم الله -تبارك وتعالى- هذه الصفات، صفات المؤمنين بمثل ما بدأ به؛ فأولًا قال: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ}[المؤمنون:2] وقال هنا: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ}[المؤمنون:9] فبدأ بأول صفة منهم خشوعهم فى الصلاة، وآخر صفة منهم محافظتهم على الصلوات، ومحافظتهم على الصلوات طبعًا الصلوات التى كتبها الله -تبارك وتعالى- لنا خمس صلوات المحافظة عليها تقتضى أولًا آدائها فى وقتها أول وقتها هذا من الحفاظ عليها لأنه أشرف وقت للصلاة هو أول الوقت الصلاة على وقتها كما فى حديث ابن مسعود: «سألت النبى -صلى الله عليه وسلم- أى العمل خير قال الصلاة على وقتها على أول وقتها» فهذه، كذلك استكمال شروط الصلاة، قبل الصلاة لا بد أن تستكمل الشروط، ومن شروطها الطهارة الكاملة، طهارة البدن، طهارة الثوب، طهارة المكان, ثم الوضوء الشرعى لها، أو الغسل الشرعى لها لمن كان جنب هذا من شرائط هذه الصلاة ستر العورة، وأخذ الزينة {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ........}[الأعراف:31], استقبال القبلة فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ دخول الوقت لا بد أن يكون الوقت {........إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا}[النساء:103] استكمال شرائطها، كذلك استكمال أركان الصلاة هو ذكر الله -تبارك وتعالى- الخشوع؛ ثم أركان الصلاة من قيامها، وركوعها، وسجودها، وهيئاتها، وحضور القلب فيها هذا كله داخل أيضًا فى معنى المحافظة على الصلاة، وليس لك من صلاتك إلا ما عقلت {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ}[المؤمنون:9].

 قال -جل وعلا-: أُوْلَئِكَ بالإشارة للبعيد، تعظيمًا لهم {هُمُ الْوَارِثُونَ}[المؤمنون:10], {الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}[المؤمنون:11], وهذا الجزاء العظيم نعود إليه إن شاء الله فى الحلقة الآتية.

أستغفر الله لى، ولكم من كل ذنب -وصلى الله وسلم على عبده، ورسوله محمد-, الحمد لله رب العالمين.