الحمد لله رب العالمين، والصلاة، والسلام على عبده، ورسوله الأمين, سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله، وأصحابه، ومن اهتدى بهداه، وعمل بسنته إلى يوم الدين.
وبعد؛ فيقول الله -تبارك وتعالى- بسم الله الرحمن الرحيم {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ}[المؤمنون:1], {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ}[المؤمنون:2], {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ}[المؤمنون:3], {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ}[المؤمنون:4], {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ}[المؤمنون:5], {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ}[المؤمنون:6], {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ}[المؤمنون:7], {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ}[المؤمنون:8], {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ}[المؤمنون:9], {أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ}[المؤمنون:10], {الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}[المؤمنون:11]: هذه الآيات هى افتتاح سورة المؤمنون، وقد افتتحها الله -تبارك وتعالى- بهذا الافتتاح العظيم بإعلانه -سبحانه وتعالى- فلاح المؤمنين {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ}[المؤمنون:1], وهذا الإعلان إعلان من الله -تبارك وتعالى- وإخبار للعالمين، وفلاحهم ما ذكره الله -تبارك وتعالى- هنا أنهم {أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ}[المؤمنون:10], {الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}[المؤمنون:11]: جنة الرب -تبارك وتعالى- والتى يحيون فيها حياة أبدية بلا انقطاع، أعظم المنى، ونهاية المقاصد؛ فهى أعظم الخير، وقد أنجاهم الله -تبارك وتعالى- من أعظم الشرور، وهى النار وصف الله -تبارك وتعالى- هؤلاء المؤمنين، قال: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ}[المؤمنون:2]: أول وصف لهم أنهم خاشعون فى صلاتهم، خشوعهم، سكونهم خشوع القلب، وسكون الجوارح {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ}[المؤمنون:3] الذى لا يفيد من كل ما يفيد من الكلام الذى لا يفيد معرضون عنه؛ فهم جادون {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ}[المؤمنون:4]: الزكاة بمعناها الخاص هو إخراج جزء من المال طهرة له، وطهرة لنفوس أصحابه، والزكاة هو الدين كله لأن الدين الذى بُعِث به النبى كله زكاة النفس {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا}[الشمس:9], {وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا}[ الشمس:10], {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ}[المؤمنون:5], {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ}[المؤمنون:6]؛ فهم أهل عفة، وفروجهم فى كشفها، والاستمتاع بها لا يستمتعون إلا بأزواجهم التى أحل الله -تبارك وتعالى- وملك اليمين، وهى الإماء، والإماء فى الإسلام له ضوابطه، وله شروطه، وله أحكامه، قال -جل وعلا-: فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ وراء الزوجة، وملك اليمين فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ المعتدون, {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ}[المؤمنون:8]: أماناتهم مع الخلق، وأماناتهم مع الخالق -سبحانه وتعالى- أمانة الخالق؛ فإن الله -تبارك وتعالى- كل ما أمر الله -تبارك وتعالى- فالعبد مؤتمن به أمانة عنده لا بد أن يقوم بها، كما ائتمنه الله -تبارك وتعالى- {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا}[الأحزاب:72] وَعَهْدِهِمْ عهودهم كذلك مع الله، وعهودهم مع الخلق أمر الله -تبارك وتعالى- عباده المؤمنين بأن يحافظوا على عهدهم معه -سبحانه وتعالى- وعلى عهودهم التى يعقدونها بعضهم مع بعض حتى كذلك ما يعقده المسلم مع الكافر أمر أنه عند العهد أن يوفى بما عاهد عليه رَاعُونَ: مراعون لهذه العهود {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ}[المؤمنون:9]: ختم الله -تبارك وتعالى- هذه ىالصفات بمثل ما بدأها بالصلاة خشوعًا، وهنالا بالصلاة محافظةً، ولا يكون العبد محافظًا على الصلاة إلا إذا أوقعها فى وقتها بشرائطها، وأركانها المواصفات التى جاءت لههذه الصلاة أوقعها على هذا النحو يكون قد حافظ على الصلاة.
قال -جل وعلا-: أُوْلَئِكَ: بالإشارة للبعيد تعظيمًا لهم، ورفعة لشأنهم هُمُ الْوَارِثُونَ: الوراثة فى الأرض، فى الدنيا هى أن ينال الإنسان مالًا كان لغيره؛ فيقع فى ملكه؛ فيرث الإنسان مثلًا عن آبائه، أو إخوانه، أو أرحامه الوراثة سبب من أسباب الإرث، وهو وفوع المال فى ملك الإنسان بعد أن يموت له ميت ممن يرثه هذا ورثه ناله، ووقع فى ملكه بعد وفاته، وهذا الوقوع وقوع المال، وتحول المال من الميت إلى الحى وراث الحى له هو أعظم أنواع الإنتقال للملك؛ فإن الملك ينتقل بوسائل كثيرة، ينتقل بالبيع الإنسان يشترى؛ فينتقل الملك من البائع إلى المشترى بالهبة، بالصدقة، بالعطية لكن أعظم انتقال، وثبوت للملك من يد إلى يد هو الميراث هذا أعظم شيء لذلك قالوا الميراث يقع فى ملك الإنسان بغير إرادته حتى بدون إرادته يقع فى ملكه إذا مات الميت؛ ولو لم يرد المنتقل إليه المال خلاص أصبح ثابت فى ملكه، هؤلاء المؤمنون يرثون الجنة لا شك أن وراثتهم، وأخذهم للجنة ليس عن أحد كحان يملكها قبلهم؛ ثم ملكهم الله -تبارك وتعالى- إياها، وإنما هى خلق الرب، وعطاءه -سبحانه وتعالى- وإنعامه، وإكباره، ونزله الذى أعده -سبحانه وتعالى- لعباده المؤمنين، وملكهم الله إياه هذا التمليك، تمليك الله -تبارك وتعالى- للجنة لعباده المؤمنين سمى وراثة لأن هذا أعظم أنواع انتقال الملك كأنهم ورثوها خلاص انتقلت إلى ملكهم، وأصبحت ثابتة مستقرة؛ فهذا ملكهم الذى ملكهم الله -تبارك وتعالى- إياه هُمُ الْوَارِثُونَ قال بعض أهل العلم كذلك إن معنى الوراثة أن لكل من خلقه الله -تبارك وتعالى- من البشر؛ فإن الله -تبارك وتعالى- يجعله مكان فى الجنة، ويجعله مكان فى النار؛ فإذا كفر خسر مكانه فى الجنة، وإذا خسر مكانه فى الجنة؛ فإن الله -تبارك وتعالى- يحوله لعباده المؤمنين؛ فيرثون يملكهم الله -تبارك وتعالى- ما كان لهم فى الجنة يملكهم الله -تبارك وتعالى- ملك من كان لو كان آمن كان أخذه، ولكنه لما ذهب إلى النار تحول ملكه، وما كان له فى الجنة تحول إلى عباد الله المؤمنين, على كل حال الله -تبارك وتعالى- يخبر هنا بأن هؤلاء المؤمنين هُمُ الْوَارِثُونَ.
ثم قال: الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ والفردوس وصفها النبى -صلى الله عليه وسلم- كما جاء فى الحديث الصحيح « اذا سألتم الله فاسألوه الفردوس الأعلى فإنه أعلى الجنة ووسطها وفوقه عرش الرحمن ومنه تفجر أنهار الجنة» فوسط الجنة هو الفردوس، وهو أعلى درجة من درجات الجنة، وليس فوقه بعد ذلك إلا عرش الرحمن -سبحانه وتعالى- وأنهار الجنة التى تجرى فيها كلها منابعها فى الفردوس؛ فهو أعلاها؛ فهؤلاء الموصوفون بهذه الصفات المؤمنون الذين اتصفوا بهذه الصفات العالية جدًا بعض هذه الصفات من الصفات المستحبة، كقول الله -تبارك وتعالى-: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ}[المؤمنون:3], فلما كانوا جمعوا هذه الصفات، وجمعوا ما طلبه الله -تبارك وتعالى- من عباده من الأمور الواجبة؛ فالمحافظة على الصلاة أمر واجب، وكذلك حفظ الفرج أمر واجب، وكذلك جمعوا الصفات المستحبة أنهم عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ وقد انشغلوا معنى أنهم عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ أنهم ليسوا مشغولين فى حياتهم إلا بما ينفعهم فى دينهم، ودنياهم فلذلك نالوا هذه الدرجة العالية من درجات الجنة نسأل الله -تبارك وتعالى- أن يجعلنا، وعباده المؤمنين منها، وأن يدخلنا، ويسلكنا -سبحانه وتعالى- معهم {أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ}[المؤمنون:10], {الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}[المؤمنون:11], والفردوس جنة الله -تبارك وتعالى- التى وصفها الله -تبارك وتعالى- لنا وصفًا تفصيليًا فى الكتاب وصف أرضها، وأشجارها، وثمارها، وأنهارها، وحورها، وقصورها، ودورها، ونمارقها، وأثاثها، قال: {عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ}[الواقعة:15]: أي منسوجة من الذهب {مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ}[الواقعة:16] وفرح أهلها، ونعيمهم، وحديثهم، وفرحتهم، وحبهم العظيم لهذه الجنة، وبقاؤهم فيها حب البقاء {........لا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا}[الكهف:108]: لا يريدون أن يتحولوا من هذه الجنة لما أحبوها من كل قلوبهم؛ فهذه الدار الذى خلصها الله -تبارك وتعالى- من كل الشرور لم يجعل فيها شر قط، ولا أدنى شر {لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً}[الغاشية:11] فاللغو، وأى كلام فارغ لا معنى له هذا أدنى الشرور، وهذا منزه، الجنة منزهة عنه، وأما ما فوق ذلك من الشرور كالأمراض، والأسقام، والأوجاع، والمشاغل، والهموم، والغموم كلها أزلها الله -تبارك وتعالى- عن الجنة؛ فليس فيها شيء من هذا ما فيها خصومة، ولا شحناء بين اثنين، ما فى بضغاء بين اثنين، وتشاحن هذا نفسه على هذا؛ فلا تحاسد فيها، ولا تباغض، ولا تدابر، ثم أهلها كلهم مبراءون من كل عيب؛ فلا يبولون، ولا يتغوطون، ولا يمتخطون ما يخرج منهم مخاط من أنوفهم، ولا يبصقون رشحهم المسك فقط لا يخرج من أجسادهم إنما يرشحون عرق، وهذا العرق ينبع طيبًا رشحهم المسك لا تبلى ثيابهم، ولا يفنى شبابهم، الشباب لايبلى الشباب هو واحد يبقون على سن واحدة، جسم واحد، هيئة واحدة كلهم على صورة جميلة، بديعة ليس فيهم أعرج، ولا أعمى، ولا أعرج، ولا كسيح، ولا فيه علة من العلل كلهم على خلق أبيهم آدم إستواءً، ولا هناك منغص من هذه المنغصات؛ فهؤلاء هؤلاء الذين يعلن الله -تبارك وتعالى- فيهم فلاحهم {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ}[المؤمنون:1] هذا الفلاح، الفلاح الحقيقى، والنجح الحقيقى أن هؤلاء ورثوا الفردوس، وصلوا إلى هذا المكان الذى قد جمعت فيه كل الخيرات على هذا النحو، وفوق ذلك رضوان الله -تبارك وتعالى- رضوان الله الذى هو أعلى من كل هذه المتع الحسية، والمعنوية أعظم معنى يتمتعون به أنهم يحسون رضوان الله -تبارك وتعالى- إليهم، يقول لهم الله -تبارك وتعالى- عندما يقول لهم يا أهل الجنة هل تريدون شيئًا أزديكم؟ فيقول ربى وماذا نريد؟ قد أدلتنا الجنة، وأعطيتنا ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر؛ فيقول لهم الله -تبارك وتعالى- أحلل عليكم رضوانى فلا أسخط عليكم بعده أبدًا فأن يحل عليهم رضوان الله -تبارك وتعال- ويشعرون، ويؤمنون، ويحسون بأن الله -تبارك وتعالى- لا يسخط عليهم بعد ذلك أبدًا، وليس هناك مجال لأن يحصل منهم شيء يسخط الرب -تبارك وتعالى- وأنهم مبراءون من هذا فهذا أمر يفوق الوصف هذا أعلى، وأكمل من كل ما أعطوه فى هذه الجنة {أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ}[المؤمنون:10], {الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}[المؤمنون:11], بعد هذه المقدمة العظيمة لهذه السورة شرع الله -تبارك وتعالى- يذكر الإنسان بخلقه، وتكليفه؛ ثم ذكر الله -تبارك وتعالى- بعد ذلك فى السورة نماذج من الأمم التى كذبت، كيف كان مآلها، ونهايتها؛ ثم بيان لدعوة الله -تبارك وتعالى- عباده ما الذى يدعو إليه عباده؛ ثم مناقشة هؤلاء المكذبين فى عقائدهم الباطلة التى اعتقدوها من جعلهم إله لهم مع الله -تبارك وتعالى- واستهزائهم بعد ذلك بالرسل بعد ذلك فى آخر السورة يختمها الله تبارك وتعالى بختام عظيم جدًا مؤثر من كلامه هو -سبحانه وتعالى- إلى أهل النار، من أعظم الأمور تأثيرًا فى النفوس عندما يخاطب الله تبارك وتعالى بعد ذلك أهل النار؛ فيقول فيقول لهم الله -تبارك وتعالى- عندما يستغيثون به، ويقولون: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ}[المؤمنون:107], {قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ}[المؤمنون:108], {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ}[المؤمنون:109], {فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ}[المؤمنون:110], {إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ}[المؤمنون:111], ثم يقول لهم الله: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ}[المؤمنون:112] هذا الذى من أجله، الدنيا التى من أجلها التى أحبوها من أجلها رفضوا كلام الرسل، وكذبوه، وردوه {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ}[المؤمنون:112], {قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ}[المؤمنون:113], {قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}[المؤمنون:114], {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا}: سدىً لا تؤمرون، ولا تنهون {وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ}[المؤمنون:115], {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ}[المؤمنون:116], {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ}[المؤمنون:117], {وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ}[المؤمنون:118] يختمها الله -تبارك وتعالى- بهذا الختام العظيم، وبيان القضية عنده، والأساس عنده هو أنه هذا حكمه -سبحانه وتعالى- وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ سيحاسب على هذه الجريمة عند من؟ عند رب الذى خلقه إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ الكافر لا يفلح كما بدأ الله -تبارك وتعالى- السورة هنا بفلاح المؤمنين، إعلان فلا المؤمنين {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ}[المؤمنون:1] فإنه ختمها ببيان أن الكافر لا يفلح إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ.
ثم توجيهه {وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ}[المؤمنون:118] فالله -سبحانه وتعالى- شرع بعد هذه المقدمة التى أعلن فيها فلاح المؤمنين وصف المؤمنين، ونوع فلاحهم هم الذين يرثون الفردوس بدا شرعه -سبحانه وتعالى- يبين لعباده بداية خلقه، وكيف خلقهم -سبحانه وتعالى- قال -جل وعلا-: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ}[المؤمنون:12], {ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ}[المؤمنون:13], {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ}[المؤمنون:14], {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ}[المؤمنون:15], {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ}[المؤمنون:16] وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ: هذا جنس الإنسان مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ: أبوه أصل الإنسان، وهو آدم عليه السلام خلقه الله من سلالة من طين هذه الأرض التى نعيش عليها، من سلالة مجموعة من طين الأرض، سلت منها أخذت منها، وقد جاء فى الحديث أن الله -تبارك وتعالى- لما أراد خلق آدم أرسل جبريل إلى الأرض أن يأتى له من ترابها من طينها؛ فأخذ من سهلها، وحزنها من كل أنواع التربة، والأرض الموجودة أمور من الحزن وهو المرتفعات، وأمور من السهل، من سهلها، وحزنها مجموعة ألوان تربتها، وأن هذا خمر فى السماء كما قال -جل وعلا-: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ}[الحجر:26] حمأ الطين الذى له مسنون له رائحة، ومسنون، صلصال له صوت بعد ذلك يصير عندما ييبس يخرج صوتًا عند الدق عليه صور الله -تبارك وتعال- آدم، وخلق آدم على هذا النحو، والله -تبارك وتعالى- خلقه بيديه -سبحانه وتعالى- كما جاء فى قول الله -تبارك وتعالى- عندما يقول لإبليس: {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ}[ص:75]، خلق الله تبارك وتعالى آدم من طين هذه الأرض، ونفخ فيه -سبحانه وتعالى- من روحه؛ فكان بشرًا سويًا، وخلقه فى السماء {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ}[المؤمنون:12] والله سمى الإنسان جنس الإنسان أبوهم الذى خلقه الله من الطين.
{ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ}[المؤمنون:13]: سائر الذرية، سائر ذرية هذا الإنسان خلقه الله من نطفة فِي قَرَارٍ مَكِينٍ نطفة وهى نقطة المنى يفرزها الرجل فِي قَرَارٍ مَكِينٍ القرار المكان المستقر مَكِينٍ ممكن، وهو رحم المرأة؛ فإن الله -تبارك وتعالى- جعل مستقر النطفة فى محتوى تستقر فيه هذه النطفة، وهى نطفة كقطرة الماء كالنخامة، كالبصاقة لا استقرار لها ليست شيئًا ثابتًا؛ فالله -تبارك وتعالى- جعل هناك هذا القرار المكين الذى يحتضنها، وهو الرحم، والله جعله مكين فى مكان ممكن؛ فإن الله -تبارك وتعالى- قد أحاط الرحم بعظام الحوض التى يقول الأطباء الآن أقسى عظام موجودة فى الجسد هى عظام الحوض؛ فمكنه الله -تبارك وتعالى- ممكن أصبح مثل العش الهادئ الذى مكن بهذه العظام حوله على هذا النحو ليكون خلق الإنسان فى هذا المكان {ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ}[المؤمنون:13], ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً: يبين الله كيف أن هذه النطفة التى هى بذرة الأرض هذه كيف طورها الله -تبارك وتعالى- من طور إلى طور عَلَقَةً كالعلق هذا علق الماء الذى تعلق عندما تتقلح بويضة الأنثى بهذه النطفة بالحيوان الذكرى؛ فإنها تجمع خلية؛ ثم إنها بعد ذلك تعلق فى الرحم، والعلوق هو أنها تنغرس فى الرحم، وتعلق فيه حتى لا تسقط، وتخرج مع ما يخرج من الرحم ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً العلقة بعد ذلك تتكاثر، وتصبح قطعة من اللحم قدر ما يمضغه الماضغ، مضغة سميت مضغة؛ لأنها كقطعة اللحم التى يمضغها الماضغ، وكذلك فى التعبير على أنها مضغة هى بالفعل صورة المضغة لأنها تكون غير مستوية ليست مستديرة، أو مستطيلة، وإنما تكون كما لها أهداب، وأطراف كأشكال المضغة التى يمضغها الماضغ فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا هذه المضغة بعد ذلك يخلق فيها العظام، وتبدأ تظهر أطراف الإنسان هذا المخلوق فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثم إن هذه الأطراف عندما يخرج لهذا الجنين العمود الفقرى فى الظهر، ويخرج اليدين، والرجلين، وجمجمة الرأس العظام يكسو الله -تبارك وتعالى- هذه العظام فى هذه الأثناء باللحم فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ أنشأناه بعد ذلك خلقًا آخر، مصور، طفل مكتملف يتصور فى أكمل صورة التي هى صورة الإنسان، وينفخ فيه الروح عند بداية هذا الخلق، كما جاء فى الحديث: «إذا مر على النطفة اثنتان وأربعون ليلة أتاها ملك فقال أى ربى ما رزقه؟ ما عمله؟ ما أجله؟ شقى أم سعيد؟ ذكر أو أنثى؟» يتشكل تكتب مقاديره عند هذا الوقت، وينفخ فيها الروح، ينفخ فيها الروح عند هذا، وينشئ الله -تبارك وتعالى- هذا الخلق الذى كان بغير صورة، مضغة: قطعة لحم غير متناسقة فى أطرافها، وأشكالها إذا بالله -تبارك وتعالى- ينشئها خلق آخر تمام غير الخلق السابق غير صورة النطفة، وغير صورة العلقة، وصورة المضغة؛ فإذا بها تنشأ طفل آخر يشق الله -تبارك وتعالى- العيون، ويوجد الأنف، وتوجد الفم يشق الفم، الأذنين إنشاء خلق آخر وهو أفضل تقويم، كما قال -جل وعلا-: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ}[التين:4] لا أكمل من صورة الإنسان فى كل المخلوقات الموجودة كل المخلوقات الموجودة على هذه الأرض لا شك أن أكملها، وأعلاها، وأنسبها هو الإنسان الذى جعله الله بشر ليس مغطىً بالشعر، والوبر، والصوف كبقية الحيوانات، ولا يسير على أربع مثلها، ولا ريش كبقية الطير إنما جعله بشر تظهر بشرته، وجعله متناسق يسير على رجلين على هذا النحو {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ}[التين:4], ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ الرب الإله الذى لا إله إلا هو -سبحانه وتعالى- كل هذا فعل الرب خَلْقًا آخَرَ.
ثم قال -جل وعلا-: {........فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ}[المؤمنون:14] تبارك الله عظم خيره، عظمت بركته -سبحانه وتعالى- وإحسانه أن تفضل على الإنسان أن خلقه من هذه المواد المهينة؛ ثم رقاه إلى أن ينشئه هذه النشأة، ويعطيه هذه القوة، والإدراكات العقل المدرك، البصر النافذ، السمع الذى يسمع به، القلب الذى يعقل به أمر عظيم جدًا، والقدرات العظيمة بعد ذلك خلق آخر أن خلق بداية من الطين؛ ثم سيرًا فى النطفة إلى يتحول هذا الخلق بعد ذلك الذى كانت بدايته من الطين؛ ثم فى آدم، وأصبح آدم فى خلقه، وأوصافه؛ ثم سائر الإنسان من النطفة المهينة من ماء المهين إلى أن يصبح إنسان فى صفاته، وشكله، وقدراته لا شك هذا نقلة بعيدة جدًا، لا يقدر على هذا الخلق إلا الله -سبحانه وتعالى- {........فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ}[المؤمنون:14] الخلق هو التقدير يسمى ممكن الإنسان يقول أنا خلقت حقيبة، أو خلقت جرة، أو خلقت كذا؛ فالخلق هو التقدير، والإنسان يخلق من هذه الجمادات يخرج أشياء من هذه الأشياء يخلق ثوب يخلق كذا من الطين قماش من غيره لكن الرب -تبارك وتعالى- أحسن الخالقين إذ يخلق خلق من هذا الأمر الذى هو على هذه الصفة من الطين يصبح الإنسان؛ فهذا نقلة بعيدة جدًا لا يمكن أن يخلق كهذا الخلق إلا الرب -سبحانه وتعالى- فالله خالق كل شيء -سبحانه وتعالى-.
ثم ذكر الله -تبارك وتعالى- الإنسان بعد أن ذكره بخلقه، ونشأته على هذا النحو، قال: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ}[المؤمنون:15] وهذا أمر يعلمه الجميع؛ فإن الجميع يعلمون مؤمنهم، وكافرهم أن الموت هو نهاية كل حى, ولكن هذا تذكير، تذكير للجميع أن نهاية هذه الحياة هى الموت؛ ثم تذكير بعد ذلك {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ}[المؤمنون:16] ثُمَّ إِنَّكُمْ أيها المخاطبون يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ وأتى الله -تبارك وتعالى- بهذا بصورة الخبر، ولا شك أن هذا الخبر يحمل دليل هذا الذى خلق أى إنسان عنده عقل، وفكر أن الذى خلقه، وطوره طور خلقه من هذه النطفة، وقدر عليه أن يميته يستطيع أن يعيده -سبحانه وتعالى- فيكفى الخبر فى هذا لمن يعى {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ}[المؤمنون:16]: إخبار من الله -تبارك وتعالى- ولا شك أن هذا حق، وصدق، ولا بد أن يكون, ثم ذكر الله -تبارك وتعالى- هذا الإنسان بعظيم خلقه -سبحانه وتعالى- فيمن حوله، قال: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ}[المؤمنون:17], وَلَقَدْ خَلَقْنَا: الرب الإله الذى لا إله إلا هو الخالق -سبحانه وتعالى- فوقكم أيها الناس سَبْعَ طَرَائِقَ: طرائق سماوات سماها الله طرائق لأنها مبسوطة تغطى هذا الخلق فوقهم، كما قال -تبارك وتعالى-: {وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا}[النبأ:12]: سبع سماوات شدها الله -تبارك وتعالى- وقواها، ومتنها، وقال: {........فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ}[الملك:3] فى تشقق؟ {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ}[الملك:4], ثم قال -جل وعلا-: وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ أنه خلق هذه السبع سماوات، وهو -سبحانه وتعالى- ليس بغافل عن الخلق، فمع ارتفاع هذه السماوات العلى، والله -تبارك وتعالى- فوق ذلك إلا أن هذا الخلق موجود على هذه الأرض الله تبارك وتعالى ليس بغافل عنه بل يعلم كل ذرة كل صغير، وكبير من أعمال خلقه يعلمه الله -تبارك وتعالى- فهو العليم بكل شئون خلقه، نقف عند هذا إن شاء الله، ونكمل فى الحلقة الآتية.
أستغفر الله لى، ولكم من كل ذنب، -وصلى الله على عبده، ورسوله محمد.