الحمد
لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على عبد الله والرسول الأمين، وعلى آله وأصحابه، ومن
اهتدى بهديه، وعمل بسنته إلى يوم الدين.
وبعد أيها الإخوة الكرام، يقول الله -تبارك وتعالى- {وَمِنْ حَيْثُ
خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ
فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ
إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ
نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}[البقرة:150]، {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو
عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ
وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ}[البقرة:151]، تأكيدٌ من الله -تبارك وتعالى- إثر تأكيد بأن يوجه
النبي -صلى الله عليه وسلم- والمؤمنون وجوههم إلى المسجد الحرام في صلاتهم، إذا
خرجوا للصلاة وإذا توجهوا للصلاة من أي مكانٍ يكونون في الأرض، {وَمِنْ حَيْثُ
خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}، حيث خرجت إلى
صلاتك، {وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ}، في أي مكان في
الأرض، {فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ}، قال -جل
وعلا-: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ}،
أكد الله -تبارك وتعالى- هذا الأمر مرةً بعد مرة، ليخبر -سبحانه وتعالى- أن هذا
أمره -جل وعلا-، ولا يحتج محتجٌ بعد ذلك على أهل الإسلام، إلا أهل الباطل من الناس,
الذين لا تنفعهم حجة ولا يؤمنون ببرهان، فإنهم لهم هدفٌ في إبطال الدين، فسيظلون
يلوكون هذا الأمر وهو تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا
الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ}، الذين ظلموا من الناس، قال -جل وعلا-: {فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي}، مهما أثاروا من
الباطل, وأثاروا من الزوابع فإنها لن تضر أهل الإسلام، إن الله -تبارك وتعالى-
مثبتٌ دينه ومقيمٌ شريعته, ومؤيدٌ هذه الأمة, ورافع علمها، وجاعلٌ قبلتها هي
القبلة لأهل الإيمان أجمع منذ ذلك الوقت وإلى قيام الساعة، {فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي}، اجعلوا خشيتكم لله -تبارك
وتعالى- وحده، ولا تخشوا هؤلاء المبطلين، {وَلِأُتِمَّ
نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ}، هذا من إكمال نعمة الله -تبارك وتعالى- على هذه
الأمة، أن يجعل لها قبلتها المستقلة عن قبلة الأمم السابقة، وأن يجعلها في هذا
المكان بيته في مكة المكرمة، التي حرَّمها الله -تبارك وتعالى- يوم خلق السماوات
والأرض، وللبيت العتيق الذي أعتقه الله -تبارك وتعالى- أن يتسلَّط عليه الجبارون، فهذا
من نعمة الله، {وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ}،
باختيار هذه القبلة لتكون قبلة مستقلة لكم، {وَلَعَلَّكُمْ
تَهْتَدُونَ}، إلى طريق الرب -تبارك وتعالى- فتسيرون فيه، لعل أصلها للترجي؛
والترجي هنا بحسب العباد, وليس بحسب الله -تبارك وتعالى-، فإن الله -تبارك وتعالى-
قد أرسى للمسلمين كل أسباب الهداية، فمَن سلكها اهتدى إلى طريق الله -تبارك
وتعالى-، لعلكم تسلكوا سبل الهداية فيهديكم الله -تبارك وتعالى-.
ثم ذكَّر الله -تبارك وتعالى- عباده المؤمنين
بما أنعم عليهم -سبحانه وتعالى- بتمام نعمته، قال {كَمَا
أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ}، فهذا كذلك من تمام النعمة أنه
أرسل فيكم معشر العرب، معشر المسلمين رسولًا منكم -عربيٌ منكم-، فهذه نعمة أخرى،
فأصبحت القبلة في بلدكم والنبي قد كان منكم قبل ذلك، {كَمَا
أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ}، وهذا الرسول {يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا}، رسول اختاره الله -تبارك
وتعالى- يقوم بقراءة آياتٍ، لا يتلو.. يقرأ كلام الله -تبارك وتعالى-، آيات الله
المنزلة، أي عليه -صلوات الله والسلام
عليه- وهذا تشريفٌ عظيم، أنه يقرأ كلام الله وآيات الله -تبارك وتعالى-، {وَيُزَكِّيكُمْ}، يقوم بتزكيتكم، وغاية الدين هي زكاة
النفوس، والدين نزل لهذا، لإيجاد المؤمن الصالح؛ العبد الصالح، والنبي كانت هذه
مهمته، الله -تبارك وتعالى- كلفَّه بهذا، فقد كان معلمًا، مؤدِّبًا -صلوات الله
والسلام عليه-، مربيًا بكل معاني التربية لمن حوله، مربيًا بفعله وأنه أُسوة،
مربيًا بكلماته -صلى الله عليه وسلم- بكل وسائل التربية، من التوجيه، من التعويد،
من الموعظة، من الزجر عن المعصية، من التقويم، من بعث الهمة والنشاط، كل وسائل
التربية اجتمعت في النبي -صلوات الله عليه وسلم- ليزَكي النفوس، ولذلك كانت الساعة
معه بسنين مع غيره -صلوات الله والسلام عليه-، كان يأتي الأعرابي الجلف الجاهل
فيجالس النبي ساعة، فيخرج عالمًا بالله -تبارك وتعالى-، عارفًا بدينه، متخلقًا
بالأخلاق الكاملة، مؤتسيًا بالنبي -صلوات الله والسلام عليه، يتأثر تأثر سحر، يحصل
في حياته انقلاب كامل بساعة من صحبة النبي -صلوات الله والسلام عليه-، فهذا فضل
الله -تبارك وتعالى- في اختيار هذا النبي المربي المعلم المزكي -صلوات الله
والسلام عليه-.
{كَمَا أَرْسَلْنَا
فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ}، نختار رسولًا عربيًا ما هو رسولا أجنبيا من
قومٍ آخرين، بل رسولا منكم أنتم العرب، {........ يَتْلُو
عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ
وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ}[البقرة:151]، {وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ}، القرآن المنزَل، {وَالْحِكْمَةَ}، السنَّة أو العلم الكامل الموحى إليه
من الله -تبارك وتعالى-، الذي يجعل صاحبه ذا حكمة، حكيم؛ والحكيم هو العالم الذي
يضع كل أمرٍ في نصابه، كل أمر كل قول عنده يجري مجراه الحق، فهو الذي يضع كل أمر
في نصابه، والحكمة علم يُحكِم سلوك الإنسان، ولا شك أنه لا يكون الإنسان حكيمًا
إلا بالعلم المنزل من الله -تبارك وتعالى-، فإنه هو العلم الذي يضبط أقوال الإنسان
وأعماله في هذه الحياة، {وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ
وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ}، علوم
عظيمة جدًا من علوم الأولين والآخرين، السماوات والأراضين، والخَلق فيما حولكم،
هذه العلوم ما كان للعرب عهد بها ولا علم
بها، جاء بها النبي -صلوات الله عليه وسلم- معلمًا، كما قال أبو ذر: ((ما مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفي الأرض من طائر
يطير بجناحيه إلا وعندنا علمٌ منه))، أي أن النبي لم يمت حتى علِمنا كل ما حولنا، علموا
ما قبلهم من بداية الخَلق كيف كان الأمر، بل بداية ما خلق الله -تبارك تعالى-
العالم وإلى نهاية الأمر، الغيوب كلها التي خلقها الله -تبارك وتعالى-، من الجنة
والنار والملائكة والحساب والصراط، الغيوب السابقة والغيوب اللاحقة، أصول العلم،
أصول الحكمة، أصول التعامل، كيف تنشأ أمة عظيمة، الهدى والضلال، فهذه العلوم كلها
التي جاء بها النبي، العلوم النافعة، العلم النافع، الذي يؤدي في النهاية إلى النُجْح
والفلاح في الدنيا والآخرة، يؤدي إلى السعادة في الدنيا، الحياة الطيبة الصحيحة،
ثم الفوز برضوان الله -تبارك وتعالى-، فيخبر الله –تبارك وتعالى- أن هذا من تمام
النعمة، اختيار القبلة في مكة في أرض العرب نعمة من الله -تبارك وتعالى-، واختيار
النبي المعلِّم المربِّي هذا كذلك من نعمته -سبحانه وتعالى-.
{كَمَا أَرْسَلْنَا
فِيكُمْ}، أي أن هذه نعمة بعد نعمة، {........
رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ
الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ}[البقرة:151]، {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ}،
إذن في مقابل هذه النعم العظيمة التي تفضَّل الله -تبارك وتعالى- بها على أمة
الإسلام، وعلى العرب منهم خاصة الذي بعث فيهم النبي محمد -صلوات الله والسلام
عليه- يجب عليهم أن يذكروا الله –تبارك وتعالى- لهذا، أن يذكروه بذكر آلائه
وإنعامه وإفضاله -سبحانه وتعالى-، إذا ذكروه بهذا قدَّروا نعمته -سبحانه وتعالى-،
شكروه على ما أنعم، علموا أنه الرب الإله الكريم المتفضل -سبحانه وتعالى- الرحمن
الرحيم، {فَاذْكُرُونِي
أَذْكُرْكُمْ}، أي إن ذكرتم الله -تبارك وتعالى- بمعرفة نعمائه العظيمة
عليكم ذكركم الله –جل وعلا-، {أَذْكُرْكُمْ}،
في نفسه في الملأ، أُعلي ذكركم في العالمين، {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ}، وذكر الله -تبارك وتعالى- إذا ذكر الله
-تبارك وتعالى- عبد هذه أعظم الرفعة والعلو، كما جاء في الحديث «مَن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، ومَن ذكرني في ملأ ذكرته
في ملأٍ خيرٍ منه»، {........ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ}[البقرة:152]، {وَاشْكُرُوا لِي}، الشكر لله -تبارك وتعالى- هو مقابلة نعمة الله -تبارك
وتعالى- بما يناسبها، أولًا الاعتراف بها أنها من الله، اعتراف القلب بأن هذه نعمة
من الله -تبارك وتعالى-، القيام بشكرها بعد اعتراف القلب اعتراف باللسان، القيام
بشكر هذه النعمة بطاعة الرب -تبارك وتعالى-، والسير في مرضاته -جل وعلا-، {وَلا تَكْفُرُونِ}، الكفر
هنا تغطية هذه النعمة وسترها وجحودها وعدم النظر إليها، فهذا وعظٌ من الله -تبارك
وتعالى- وتذكيرٌ منه، أن على أهل الإسلام أن يذكروا نعم الله العظيمة عليهم، فيما
أنعم بها عليهم من إرسال الرسول، ومن جعل قبلة خاصة لهم منفصلة عن قبلة الأمم
السابقة.
هذا إرساء لأول أمر هام من أمور المسلمين، وهو
القبلة، عرفنا أن هذه السورة تدرجت على النحو التالي، أولًا استفتح الله سورة
البقرة بالحروف المقطعة، نوَّه الله بذكر هذا القرآن، بيَّن مواقف الناس إزاء هذا
القرآن، بيَّن نداء عام للناس جميعًا أن يعبدوه وحده لا شريك له، {يَا أَيُّهَا
النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ
لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[البقرة:21]، بيان أن النبي محمدًا هو رسوله -صلوات
الله والسلام عليه-، التحذير من مخالفته وبيان أن معه آية ومعجزة باقية أبد الدهر
وهو هذا القرآن الذي لا يمكن معارضته، ثم بيان ما ينتظر الناس، أهل الإيمان منهم
وأهل الكفر، ثم بعد ذلك بيان أسلوب الله -تبارك وتعالى- في هذا القرآن، وهو البيان
وضرب الأمثال، وأن الله لا يستحي أن يضرب مثلًا ما، ثم بيان أساس الخَلق، كيف خُلق
الإنسان بدءًا بآدم، ثم بعد ذلك توجيه الخطاب إلى اليهود خاصة للإيمان بالنبي محمد
-صلوات الله والسلام عليه-، وقد استمر هذا نحو مئة آية كلها خطاب مع اليهود، ثم
لما انتهى وقطعت كل حججهم التي احتجوا بها وأعذر الله -تبارك وتعالى- إليهم في
البيان والبلاغ، أن يتبعوا هذا النبي محمدًا -صلوات الله والسلام عليه-، بدأ الله –تبارك
وتعالى- في هذه السورة بالتشريع لهذه الأمة، فأول شريعة أقرها في هذه السورة شريعة
القبلة، وبيَّن الله -تبارك وتعالى- فضله وإحسانه على هذه الأمة، بأن اختار لها
الكعبة البيت الحرام في مكة المكرمة لتكون القبلة، ثم دحض الله -تبارك وتعالى- كل
الشبهات، السفاء من الناس الذين أشاعوا وأثاروا في توجه النبي إلى الكعبة البيت
الحرام ما أثاروا، ثم بعد ذلك ذكَّر الله -تبارك وتعالى- عباده بنعمته، في اختيار
القبلة لهم كشيء مستقل، ثم باختيار هذا النبي الكريم محمد -صلوات الله والسلام
عليه-.
الآن دخلت السورة في بيان الشريعة التي اختارها
الله -تبارك وتعالى- لهذه الأمة الإسلامية، الخطاب الآن مع أهل الإسلام بعد أن كان
خطابًا سابقًا مع اليهود، فأول هذا الخطاب بعد إرساء القبلة، قال -تبارك وتعالى- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ
وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}[البقرة:153]، {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ
بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ}[البقرة:154]، {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ
وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ}[البقرة:155]، {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا
لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}[البقرة:156]، {أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ
وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}[البقرة:157].
هذا أول أمر هنا لأهل الإيمان فيه تشريع،
قال -جل وعلا-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}[البقرة:153]، ينادي الله -تبارك وتعالى-
أهل الإيمان وهم الذي آمنوا بالله، وآمنوا بنبيه محمد -صلوات الله والسلام عليه-،
شهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، بألسنتهم وأقروا هذا بقلوبهم، فهؤلاء
هم المؤمنون، قول الله -تبارك وتعالى- لهم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}، هو نداءٌ لهم بأحسن
الأوصاف وبأحب الأسماء، فإن الإيمان أشرف وصف، وأعلى وصف يصله الإنسان أن يكون
مؤمن، وفي هذا كون ينادون بأكرم الأوصاف يكون هذا فيه تهييج وتوجيه للامتثال، كما
تقول مثلًا لشخص تريد أن تشجعه للامتثال يا بن الأكرمين افعل كذا وكذا، أو يا أيها
الكريم افعل كذا وكذا، فهذا وصفك له بالكرم تشجيعٌ له وحثٌّ له أن يفعل الخير، فقول
الله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}، هذا
إشادةٌ بهم، وصفٌ لهم بأحسن الأوصاف، وفي هذا حضٌّ على الامتثال لأمر الله -تبارك
وتعالى-، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا
بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}[البقرة:153]، هذه آيةٌ جامعة تجمع كل الدين،
وذلك أن هذا الدين طريق إلى الله -تبارك وتعالى-، صبرٌ وصلاة، فأما الصبر أصل
الصبر في اللغة هو حبس النفس عن المكروه دون تضجُّر ودون تأفف، فمن حبس نفسه عن
المكروه -أمر مكروه له ولكن حبس نفسه عليه ولم يتضجر ولم يتأفف- هذا الصبر، والصبر
هو المادة والأمر الذي يحتاجه المؤمن في كل أعمال الدين، وفي كل مراحل الحياة، هذا
الدين يحتاج إلى صبر، فالطاعة تحتاج صبر، أي تنفيذ الأمر -أمر الله -تبارك وتعالى-
يحتاج إلى صبر، لأن التشريعات تأتي على خلاف هوى النفوس، وليست على هوى النفوس،
فالدين على خلاف هوى النفس، الدين التزام، النفس هواها لا تحب التزاما ولا تحب
تكليفًا، تحب أن تتقضى من الأمر، وأن تفعل ما يحلو لها وتترك ما يحلو لها، أما
الدين فالتزام، فالصلاة والزكاة والصوم والحج هذه أعمال العبادة العظيمة كلها التزام،
الصلاة التزام بأوقات معينة، وبشروط معينة من طهارة خاصة، من شروط خاصة، توجه إلى
جهة معينة، التزام بستر عورة، ثم قيام بين يدي الرب بخشوع وسكون وعدم كلام إلا في
كلام الصلاة، ثم هيئات مختصة من قيامٍ وركوع واعتدال وسجود، ثم محافظة على أوقات
معينة، كل صلاة لابد أن توقع في وقت بدايته كذا ونهايته كذا، {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا
مَوْقُوتًا}[البقرة:103]، وكثيرٌ من هذه
الأوقات قد يكون في أوقات الراحة أو أوقات اللهو واللعب، كصلاة الفجر، صلاة
العشاء، صلاة العصر وقت أسواق بعد استراحة، التزام، الصوم حبسٌ للنفس عن شهواتها،
عن الطعام والشراب والشهوة، الحج سفرٌ وانتقال وزحامٌ وامتثال وهكذا، ثم الخلق الذي
يحبه الله من عباده كالصدق والأمانة والصلة والعفاف والشجاعة، هذه أمور لا شك أنه لا يمكن فعلها على وجهها الصحيح
إلا بصبر، أن يصبر عليها، فهذا باب، كل باب الطاعة لابد فيه من الصبر، الصبر عنصر
أساسي فيه، حتى يؤدَى على الوجه الأكمل.
كذلك المعصية،
المعاصي غالبًا شهوات، فشرب الخمر، والزنا، وأكل ما يشتهيه الإنسان، ولبس ما يشاء،
الربا والميسر والمقامرة شهوات، ولا يمكن منع النفس عن الحرام إلا بالصبر على ذلك،
فلابد أن يصبر عن الحرام، لو اشتهته نفسه، لو دعاه قرينه وشيطانه من الإنس أو الجن،
لابد من حبس النفس عن هذا الأمر، وفطم النفس عن الحرام، وهذا يحتاج إلى صبر،
الأحداث الله -تبارك وتعالى- يبتلي عباده بالخير وبالشر، {........ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا
تُرْجَعُونَ}[الأنبياء:35]،
حصول الفتنة بالشر والمصائب والتي لابد أن تعتور حياة الإنسان مهما كان، هذه تحتاج
إلى صبر، عدم تضجر وتأفف وعدم سخط على الرب الإله -سبحانه وتعالى-، فأيضًا هذا
عنصر الصبر أساسيٌ فيه، المدى الطويل هذا الدين ليس ليوم أو ليومين ولا لثلاثة،
إنما هو عمر، لابد أن يبقى الإنسان ملتزمًا بهذه الشريعة وبالسير في هذه الصراط
تعلمًا قبل التكليف، وامتثالًا بعد التكليف، وسن التكليف سن البلوغ وإلى الموت، {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ}[الحجر:99]، أي الموت، فليس والتزام سنة
أو سنتين ثم بعد ذلك ينتهي التكليف وينتهي التشريع لا، إنما التكليف إلى الموت،
إلى اللحظة الأخيرة من حياة الإنسان طالما هو أهل للتكليف وفيه عقل يدرك فهو
مكلَّف، إذن هذا يحتاج إلى صبر، هذا يحتاج إلى صبر للمواصلة، فالصبر عنصر أساس في
القيام بالتكليف، لا يمكن القيام بالتكليف الشرعي إلا إذا اتصف المسلم بالصبر، لذلك
كان هذا أول أمر في القرآن بالنسبة لأهل الإيمان أن يفعلوا هذا، قال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ
وَالصَّلاةِ ........}[البقرة:153].
وإذا رجعنا إلى بدء السورة نجد أن الله -تبارك
وتعالى- وجَّه اليهود إلى هذا في خطابه لهم، قال {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا
لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ}[البقرة:45]، لأن لا يمكن أن يهتدوا إلى
طريق الحق ويثبتوا عليه، إلا أن يستعينوا بالصبر والصلاة، فهنا في خطاب الله –تبارك
وتعالى- لأهل الإيمان من أتباع النبي محمد -صلوات الله والسلام عليه- كان أول ما
أمرهم به، قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ ........}[البقرة:153]، عطف الصلاة على الصبر على
كل حال هي من عطف الخاص على العام، فلا شك أن القيام بالصلاة وهي جزء من التكاليف
تحتاج إلى صبر، كما قال -جل وعلا- في خطابه لليهود {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ}، وإنها أي الصلاة،
لكبيرة أي كبيرةٌ على النفس، عظيمة
فيها شيء من المشاق على خلاف هوى النفوس، {إِلَّا عَلَى
الْخَاشِعِينَ}، فأهل الخشوع لله -تبارك وتعالى- تصبح الصلاة عندهم سهلة،
وإذا ارتقوا في العبادة تصبح متعة، وإذا بلغوا القمة تصبح أعلى المتع، كما في حديث
النبي -صلوات الله والسلام عليه-، «حُبِّب إليَّ من
دنياكم الطيب والنساء، وجُعِلَت قرَّة عيني في الصلاة»، فحبب إلي من الأمور
التي حببت للنبي -صلى الله عليه وسلم-، حبب لنفسه والله هو الفاعل -سبحانه وتعالى-
المحبِّب، الطيب والنساء كأطيب ما في هذا الحياة، ثم قال النبي وجعلت قرة عيني؛
وقرة العين هي نهاية المنى وراحة البال، فالعين تقر، ومعنى تقر إما تقر من
الاستقرار، وإما تقر من القر وهو البرودة، وعين السعيد باردة، وعين الحزين حارَّة،
كما يقال في الأمثال ((أحرُّ من دمع المقلاة))، والمقلاة هي قليلة الولد، إذا مات
وليدها الوحيد فإن دمعتها تكون حارَّة، فقرار العين راحتها، برودتها، استقرارها،
إنما تكون بأن ينال الإنسان مطلوبة الأكبر، فكأن النبي يقول المطلوب الأكبر ومنتهى
السعادة أن أكون في الصلاة، فهذه الصلاة، لكن بدءها عند من يقوم بها لا شك أنها
شاقة، والنبي كانت سعادته في الصلاة، ولكنه كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه
-صلوات الله والسلام عليه-، ولا شك أن هذا من الصبر، وهذا يحتاج إلى صبر طويل، وقد
قام مع النبي –صلوات الله والسلام عليه- كثير من أصحابه ولم يتحملوا قيامه الطويل
في الصلاة، كما قال عبد الله بن مسعود -رضي الله
تعالى عنه- ((قمت مع النبي -صلى الله عليه وسلم- ليلة حتى هممت بأمر سوء، قيل وما
هممت به؟ قال هممت أن أدعه))، أن أتركه وأجلس، يقول هممت أن أترك النبي -صلى
الله عليه وسلم-، من طول صلاته -صلوات الله والسلام عليه-.
فالصلاة على كل حال
القيام بها والتزامها هي كبيرة وتحتاج إلى صبر، فيكون هنا من باب عطف الخاص على
العام، وإن كان عطف تغاير فإن الصلاة لا شك أنها بابٌ عظيم، يستعان به على الدين
هدايةً وطاعةً، فالهداية والطاعة الصلاة طريقها، كما قال -جل وعلا- {........ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ
الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا
تَصْنَعُونَ}[العنكبوت:45]،
ثم قال -جل وعلا- {إِنَّ اللَّهَ مَعَ
الصَّابِرِينَ}، معهم معية الله -تبارك وتعالى- هنا للصابرين معية نصر
وتأييد وتوفيق وإعانة، أي أنه معينهم، راحمهم، مؤيدهم، محبهم -سبحانه وتعالى-، كل
أنواع المعية التي هي من الله للعبد الصالح المؤمن، {إِنَّ
اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}، مؤيدٌ لهم، ومقوٍ لهم -سبحانه وتعالى-، ومضيءٌ
لهم طريقهم، وهاديهم إلى طريقه -سبحانه وتعالى-، مرة ثانية نقول هذا أول نداء من
الرب -تبارك وتعالى- إلى أهل الإيمان، وقد جاء شاملًا في الأمر الذي يحتاجونه في
كل المسيرة، في كل مسيرة الدين وهي الصبر والصلاة، الصبر والصلاة، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ
وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}[البقرة:153]
نسأل الله -تبارك وتعالى- أن ينفعنا بهذا القرآن الكريم، وأن نكون من عباده المؤمنين الذين يستعينون بالصبر والصلاة، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد.