الحمد لله رب العالمين، والصلاة، والسلام على عبده، ورسوله الأمين, سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله، وأصحابه، ومن اهتدى بهداه، وعمل بسنته إلى يوم الدين.
وبعد؛ فيقول الله -تبارك وتعالى:- {وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ}[المؤمنون:17], {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ}[المؤمنون:18], {فَأَنشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ}[المؤمنون:19], {وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلآكِلِينَ}[المؤمنون:20], {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ}[المؤمنون:21], {وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ}[المؤمنون:22], بعد أن ذكَّر الله -تبارك وتعالى- الإنسان ببداية خلقه؛ فإنه ذكر -سبحانه وتعالى- ما أعد لهذا الإنسان مما حوله -سبحانه وتعالى- من الخلق لينتفع به، قال -جل وعلا-: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ}[المؤمنون:12], {ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ}[المؤمنون:13], {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ}[المؤمنون:14], هذا الإنسان خلقه الله -تبارك وتعالى- بداية بهذا التسلسل، وأنشأءه خلق آخر بعد أن كان نطفة فِي قَرَارٍ مَكِينٍ قال -جل وعلا- مخبرًا {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ}[المؤمنون:15], {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ}[المؤمنون:16]: تذكير بالموت مع العلم أنه يعلمه كل حى لكن هذا تذكير به, وبيان بأن الله -تبارك وتعالى- سيبعث الجميع {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ}[المؤمنون:16]: وهذا الإخبار يحمل دليل قبله؛ لأن الذى خلق الإنسان على هذا النحو قادر على أن يبعثه وقت يشاء -سبحانه وتعالى-, ثم ذكر الله هذا الإنسان ما خلق له حوله، قال: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ}[المؤمنون:17]: سبع سماوات، أخبر الله -تبارك وتعالى- أنه خلقها سبع وسعها -سبحانه وتعالى- توسيع عظيم، وشدها، قال: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ}[الذاريات:47] بِأَيْدٍ: القوة، وقال: {وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا}[النبأ:12]: فهى مبنية قوية, {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا}[النازعات:27], {رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا}[النازعات:28], {وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا}[النازعات:29], فهذه سبع سماوات؛ ثم أخبر سبحانه وتعالى بأنه لم يكن غافلًا عن الخلق، ولا يكون غافلًا عن الخلق وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ الخلق الذين فى هذه الأرض ما غفل الله -تبارك وتعالى- عنهم بل كل صغيرة، وكبيرة إنما لا تقع إلا بعلمه -سبحانه وتعالى- {........وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}[الأنعام:59] وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ.
ثم قال -جل وعلا-: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ}[المؤمنون:18]: هذا أيضًا يذكر الله -تبارك وتعالى- هذا الإنسان بأنه هو الذى أنزل من السماء وهو العلو ماء المطر مِنَ السَّمَاءِ مَاءً ونزل بِقَدَرٍ أن الله تبارك وتعالى نظمه، وقدره تقدير على هذه الأرض، وطبعًا لو كان أقل من ذلك لأصبحت الأرض معظمها صحراوات، ولو كان أكثر من ذلك لكان الغرق، والهدم، والفساد؛ فالله -تبارك وتعالى- جعله نازلًا منه بِقَدَرٍ قال: وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ: مقدر، منظم, فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ: عندما ينزل الله -تبارك وتعالى- يجعله يجرى فى الأرض؛ ثم يسكنه فيها، يجعله خزانات عظيمة جدًا فى الأرض, طبقات صخرية تكون فى باطن الأرض، ويسيل الماء يتخلل من خلال الرمال، والتربة، وبعض الصخور, ثم يجعل الله -تبارك وتعالى- له أحواض يحفظه، وخزانات هائلة جدًا تخزنه حتى يستنبطه الإنسان بعد ذلك، ويخرجه، قال: فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ: السكون هو أنه هو بقاءه فيها، وسكونه فيها، قال -جل وعلا-: وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ: إنا على ذهاب بهذه الخزانات عندما لو أن الله -تبارك وتعالى- يفتحه، ولا يجعل لها هذه الحوافظ التى تحفظها لتسرب، ولا ما استطاع الإنسان أن يستنبطه، وأن يستخرجه من الأرض مرة ثانية وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ: وبهذا الماء، وبتنظيمه على هذا النحو ماء المطر حياة الإنسان إذا لو أن الله أوقف هذا النظام المعمول به، دورة هذه الأرض على، دورة هذا الماء على هذه الأرض لانتهى الإنسان لم يكن لأى حياة وجود؛ فهذا فعله -سبحانه وتعالى- ولا يقدر على هذا إلا هو -سبحانه وتعالى-.
قال -جل وعلا- فى هذا الماء: {فَأَنشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ}[المؤمنون:19]: أنزل الله -تبارك وتعالى- ماء المطر أسكنه فى الأرض ليستنبطه الإنسان، وعندما ينزل ماء المطر يروى بنفسه، أو يجرى أنهارًا؛ فيسقى منها الإنسان، أو يبقى فى هذه خزانته؛ فيستنبطه الإنسان، أو بأنهار جارية فى الأرض، فى باطن الأرض أنهار مخفية؛ فكذلك يستنبطه منها الإنسان، قال: فَأَنشَأْنَا لَكُمْ أى بهذا الماء بِهِ جَنَّاتٍ: بساتين مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ: بدأ الله -تبارك وتعالى- بأنواع هذه الثمار، وبدأ بالنخيل؛ لأنه أشرف، وأعلى، وأنفع فاكهة على ظهر الأرض لأن التمر والرطب فاكهة فى الفواكه، غذاء فى الأغذية، دواء فى الأدوية مع ما فيها من الصفات الحسنة فى أنها لا تحتاج إلى جو مخصوص لتخزينها، ولا كذلك لأنواع من الحفظ الشديد لحفظها، ويستطيع الإنسان أن يستقل بها يستقل بالتمر، والماء، ويعيش على هذا شهور، وسنين على هذا النحو، ولا تدمر، وتفنى صحته، وقوته؛ فهو من أنفع، ومن أشرف الأغذية التى خلقها الله -تبارك وتعالى- ويسرها لعباده هنا فى هذه الأرض، والنخيل مع ما فيها كذلك من المنافع العظيمة النخلة إنما هى شجرة مفيدة مباركة كل ما فيها جذعها، وليفها، وسعفها، وجريدها، وعراجينها كل ما فيها، ونواها نوى التمر فضلًا عن ثمرتها كل ما فيها منافع, وَأَعْنَابٍ: جمع عنب، والعنب هو كذلك يأتى لعله فى المرتبة الثانية من أشرف الفواكه؛ فإنه كذلك غذاء وفاكهة من الفواكه، قوت فى الأقوات؛ فإنه يجفف؛ فيكون زبيبًا، ويدخر، ويكون قوتًا مع ما سهولته كذلك، وسهولة نقله، وسهولة تخزينه عندما يكون مجففًا مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ: فى هذه الجنات فواكه كثيرة غير ما ذكر، ذكر الله -تبارك وتعالى- هذا بالخصوص النخيل، والأعناب, ثم جمع الفواكه بعد ذلك من أنواع الفواكه الكثيرة من التين، والرمان، والبرتقال، وغير ذلك هذه الفواكه الكثيرة، الكثيرة التى لا تكاد تحصر على هذه الأرض وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ: من هذه الفواكه منها تأكلون، وذلك أنها أكثر مما يأكله الناس؛ فإن الإنتاج غالبًا ما يكون أكثر من ما يحتاجه الناس, ثم خص الله -تبارك وتعالى- كذلك من هذه الأشجار التى يخرجها الله -تبارك وتعالى- ببركة هذا الماء النازل.
{وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلآكِلِينَ}[المؤمنون:20]: أي أخرجنا لكم أيضًا من السماء النازل شجرة، وهى شجرة الزيتون تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ: هذا منبتها الأصلى، وإن كانت بعد ذلك توزعت فى جنبات الأرض بلاد الشام تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ: وهو زيتها زيت الزيتون وَصِبْغٍ لِلآكِلِينَ: صبغ يصبغون به طعامهم؛ فخبزهم يصبغ يغمسونه به، وأطعمتهم يضعون عليها هذا الزيت؛ فيصبغ طعامهم, وخصها الله -تبارك وتعالى- للمنافع كذلك العظيمة فى هذه الشجرة، ولفوائد زيتها, ثم قال -جل وعلا- بعد أن هذه المملكة النباتية جاء إلى الأخرى المملكة الحيوانية؛ فقال: وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً: وإن لكم أيها المخاطبون، أيها الناس فِي الأَنْعَامِ بهيمة الأنعام اللى هى الغنم بشقيها الضأن، والماعز، والإبل، والبقر هذه الأنعام، بهيمة الأنعام لَعِبْرَةً عبرة نظر يفكر، ويعبر لا يقف عند المشاهد، وإنما يتفكر فيما وراء هذا المشاهد، يعبر ببصره؛ فلا يقف عند حدود ما يشاهده من هذه الأنعام البقرة، والناقة، وهذه الغنم يقف فيها وحدود علمه فى هذا الموجود أمامه لَعِبْرَةً وهو أن ينظر أن هذه خلقها الرب، الإله -سبحانه وتعالى- وأنه يسرها لنا، وأنه ذللها لنا أنظر ما فيها من أوجه الإعتبار كلها منافع، أنها منافع عظيمة، وأن من هذه العبرة كذلك، قال: {........نُسقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ}[المؤمنون:21]: كذلك من العبرة فى خلق الأنعام أنها إخراج اللبن من بطونها يخرج اللبن من الضرع، وهو خارج البقرة، والناقة بطنها مصنع عظيم جدًا فيه اولاً من هذه الأخلاط التى تأكلها من هذه العشب المختلف الأخلاط فرث؛ ثم الدماء التى تجرى من بين الفرث، والدم يستخلص لبن نقى ليس فيه أى أثر من آثار الفرث، والدم, رائحة الفرث، أو لون الدم يأتي فيه، وإنما يستخلص تمام، أى فلاتر، أى مصافى مر فيها هذا الدم؛ ثم ما هذه النقلة الهائلة، النقلة من الهشيم الذى تأكله هذه الأنعام إلى الحليب الذى يستخرج منها بعد ذلك أنظر النقلة البعيدة الهائلة؛ فلا هو فى الجنس، ولا فى النوع كيف أستخلص هذا، وصنع هذه الصناعة من الجت، والبرسيم، والفول، وهذه الأخلاط التى تأكلها بهيمة الأنعام إلى اللبن الذى يخرج من بطونها بعد ذلك أبيض سائغًا للشاربين أمر عظيم جدًا فهذه عبرة لمن يعتبر لكن من لا يعتبر، من لا عنده نظر، ويقف عند حدود الموجود، ويراه، ولكنه لا يتفكر فيه، ولا يعتبر فيه ما، ما لا يفيده هذا النظر، وإنما يقف أبله عند هذا المرئى فقط وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً يقول الله نُسقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا نسقيكم مما فى بطونها، ويسقينا الله مما فى بطونها هو هذا اللبن الخالص، كما قال -تبارك وتعالى-: {نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ}[النحل:66]: لا يغص به الشارب, وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ: من بهيمة الأنعام منافع كثيرة؛ فمنها أنعام تركب كالإبل؛ فالركوب، والجر كالبقر هذه الجر؛ ثم بعد ذلك أصوافها، وأوبارها، وأشعارها هذه هى أثاثاتنا هى الفرش التى نفرشها، والملابس الجميلة التى نلبسها من الصوف، ومن الوبر، وسائر الأثاث من الفرش التى نفترشها الجلود التى نأخذها, عظامها, ما فى شيء من هذه الأنعام إلا ويستفاد منه حتى روثها، وما يخرج منه، وكيف يكون سمادًا لههذه التربة، منافع عظيمة {وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ}[المؤمنون:21] وَمِنْهَا من هذه الأنعام تَأْكُلُونَ هو اللحم الذى نأكله منه.
{وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ}[المؤمنون:22]: على هذه الأنعام كالإبل وَعَلَى الْفُلْكِ التى سخرها الله -تبارك وتعالى- لكم فى البحر تُحْمَلُونَ: يحملكم الله -تبارك وتعالى- عليها {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا}[الإسراء:70], فهذا تذكير من الله -تبارك وتعالى- بعد أن ذكر الله -تبارك وتعالى- الإنسان ببداية خلقه، كيف خلقه -سبحانه وتعالى- بداية من خلق آدم إلى خلق كل نفس من النطفة؛ ثم ذكره الله -تبارك وتعالى- بخلق ما حوله السماوات التى خلقها الله -تبارك وتعالى- المطر النازل، المملكة النباتية بما فيها من هذه الثمار العظيمة, ثم المملكة الحيوانية مما فيها؛ ثمن أن الله -تبارك وتعالى- قد كرم الإنسان، وحمله على ظهر الأنعام، وعلى ظهر السفن، وبهذا يعلم الإنسان أنه أنشئ من الله -تبارك وتعالى-, وأن الله -تبارك وتعالى- أنشأ له كل ما حوله مما يستفيد به، ويعيش به فى هذا الوجود هذا كله خلق الله -تبارك وتعالى- يحيط به من كل مكان, لكن انظر ماذا كان تاريخ هذه البشرية مع الرسل، هذا الإله، الرب -سبحانه وتعالى- الذى خلق الإنسان على هذا النحو، ورتبه على هذا النحو، وخلق له هذا الكون انظر كيف أن الله -تبارك وتعالى- يرسل له رسله ليدعوهم إليه -سبحانه وتعالى- ويبين لهم الطريق، وانظر رد هؤلاء البشر المخلوقين على هذا النحو الذى سُخِّر لهم كل هذا أنظر رد هؤلاء البشر على هؤلاء الرسل.
قال -جل وعلا- بعد ذلك: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ}[المؤمنون:23]: انظر هذا أول رسول أرسله الله -تبارك وتعالى- إلى أهل الأرض وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا الله هو الذى يخبر بأنه هو الذى أرسل، هذا نوح، والرسالة ما هى قضية استنباط من عنده، ولا هو تطوع من عنده، قام بها، لا، الله هو الذى اختاره، وهو الذى أرسله إلى قومه وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا النبى، الرسول، أول رسول إلى أهل الأرض عليه السلام إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ أى نوح عليه السلام يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ كلمة واضحة، بينة، قائم عليها الدليل، والبرهان اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ: اعبدوا الله لأنه لا إله لكم غيره، لا إله لكم تألهونه، تعبدونه غيره، وذلك أنه ربكم خالقكم، ورازقكم، وهو الذى خلق لكم كل هذا الكون المحيط بكم، والذى لو اختل شيء منه لما بقيت لكم حياة، ولا وجود {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ}[المؤمنون:23] أفلا تتقون ربكم، وتخافونه -سبحانه وتعالى- أن تعرضوا عنه، وتعبدوا ألهة غيره؛ فيعاقبكم الله -تبارك وتعالى- على شرككم به، وكفركم به أَفَلا تَتَّقُونَ.
قال -جل وعلا-: {فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنزَلَ مَلائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ}[المؤمنون:24], انظر الرد المجرم السخيف من هؤلاء على رسولهم بدعوته هذه الواضحة البينة فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ الملأ الأشراف، الكبار سموا ملأ لأنهم قيل أنهم يملئون العين، ويملئون المكان بزينتهم، وزخرفهم، ودورهم؛ فهم الملأ؛ فهم الذين يملئون المكان، ويملئون العين فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ الذين كفروا بما أرسل به نوح، قالوا: مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ اتهموه مباشرة بسوء النية، وبفسادها، وأنه لم يرد بهذا ليس رسولًا من الله -تبارك وتعالى- وإنما هو بشر مثلنا، ويريد أن يتفضل علينا بأن يدعى أنه رسول، وهو ليس برسول، لم يرسله الله -تبارك وتعالى- وإنما فقط يريد بهذا أن يعلى نفسه على الآخرين؛ فيقول إنى رسول من الله -تبارك وتعالى- فإتهموه بالكذب، واتهموه بأنه ادعى هذه الإدعاء فقط ليتفضل عليهم, ثم اقترحوا هم من أنفسهم على الله -تبارك وتعالى- أن هذا لا يصنعه الله -عز وجل- قالوا: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنزَلَ مَلائِكَةً: لو شاء الله أن يدعونا إليه كان أنزل هو ملائكة من السماء لماذا يختار واحد من الأرض؛ فأيضًا احتجوا على ربهم -سبحانه وتعالى-, وهذا أصبح كأنهم يعدلون الأمر على الله، ويقترحون على الله، بل ويرون أن الله لو أراد أن يدعوهم؛ فإنه لا يتخذ بشر إنما كان عليه أن ينزل ملكًا من عنده من السماء ليدعوا الناس إليه؛ ثم قالوا: مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ: أول مرة نسمع إن الله -تبارك وتعالى- يختار بشر؛ فهؤلاء أبائنا الأولون قد مضوا، ولم نسمع أن الله -تبارك وتعالى- قد أرسل فيهم رسولًا مثل نوح يدعوا إليهم مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ, وكلها كما نرى حجج ساقطة إذا كنت ما سمعت بهذا فى الأولين؛ فهذا أول رسول إلى أهل الأرض، ومعه دليله، وصدقه؛ فلما تكذبه لما ترفض هذا الدليل؛ فكون أنه لم يكن هناك رسول قبله ليس بدليل على هذا هذا أول رسول أرسله الله -تبارك وتعالى- لم تكن الأرض قبلهم تحتاج إلى رسالة؛ لأن الناس كلهم كانوا على التوحيد منذ آدم -عليه السلام- كانوا على توحيد الله -تبارك وتعالى- ثم وقع الشرك فيهم بعد ذلك، كما قال ابن عباس: كان الناس بعد آدم عشر قرون على التوحيد؛ ثم إنه مات فيهم بعض الرجال الصالحين؛ فجاء الشيطان بدأ الشيطان يدخل الشرك فيهم؛ فقال لهم ابنوا على هؤلاء الصالحين, أي ابنوا لهم نصب إذا رأيتموها تذكرتموهم؛ فاشتقتم إلى عبادة الله وهو تخليد ذكراهم، قال خلدوا ذكراهم اعمل هم صور؛ فصوروا صور لهؤلاء الذين مضوا منهم ود، وسواع، ويغوث، ويعوق، ونسر كانوا رجال صالحين، قال ابن عباس بين آدم، ونوح؛ فلما ماتوا، وحزن الناس عليهم قال لا بد من تخليد ذكراهم لا بد أن نصور لهم صور، صوروا لهم صور، وضعوها فى أماكنهم التى كانوا يضعون فيها فى أشرف أماكنهم, ثم لما تقادم العهد عُبِدَت هذه الصور من دون الله، بدأوا يستشفعون هذه التماثيل ويتقربون بها إلى الله، يطلبون منها المطر، يتمسحون بها دخل الشرك إليهم؛ فأرسل الله -تبارك وتعالى- نوحًا ليدعوا الناس إلى عبادة الله وحده يقول لهم: مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ: الآلهة التى تعبدونها ليست آلهة، اعبدوا الله -تبارك وتعالى- وحده -سبحانه وتعالى- هو خالقكم، ورازقكم، وبارءكم، وهؤلاء لا يخلقون، ولا يرزقون، وليس بيدهم نفع، ولا ضر؛ فدعاهم إلى توحيد ربهم -سبحانه وتعالى- فقول هؤلاء المجرمين نحن ما سمعنا بهذا فى آباءنا الأولين، هذا ليس دليلًا يُستدَل به على رفض الرسالة إذا كان الله -تبارك وتعالى- قد اختار رسولًا إلى أهل الأرض.
ثم حصروا بعد ذلك بعد ما اتهموه بالكذب، واتهموه على هذا النحو، قالوا: {إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ}[المؤمنون:25]: هذا هو رجل مجنون بِهِ جِنَّةٌ: أي أنه مجنون، به جنون إذ يدعى أنه رسول رب السماوات، والأرض فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ: اتركوه، وتربصوا به انتظروا به حتى حين يظهر تخريفه، وجنونه يظهر لكل عين، وقد جاء كذلك أنهم هددوه بعد دعوته، قالوا له: {........ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ}[الشعراء:116]: أي أنهم ضاقوا ذرعًا حتى بتذكيره، ودعوتهم إلى الله -تبارك وتعالى- فلما وجد الأمر على هذا النحو {قَالَ رَبِّ انصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ}[المؤمنون:26] رَبِّ انصُرْنِي أى عليهم بِمَا كَذَّبُونِ بسبب تكذيبهم لى، وقد جاء فى أنهم كذبوه، وأصروا على هذا الكذب، وكان الكبير منهم يعلم الصغير؛ فلا يولد فيهم من يولد إلا يحذروه من نوح، وقد أخبره الله -تبارك وتعالى-: أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ عند ذلك دعى عليهم، قال: {........رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا}[نوح:26], {إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا}[نوح:27], {قَالَ رَبِّ انصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ}, [المؤمنون:26] قال -جل وعلا-: فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا: الوحى هو الإعلام بطريق خفى, أي أعلمه الله -تبارك وتعالى- بهذا الطريق إما بإرسال الملك إليه ليخاطبه، تمثل له رجل، إما أن يخاطبه الملك عن بعد فيسمع منه، قال -جل وعلا- أى أعلمناه عن طريق الوحى أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا: الصناعة هى العمل المتقن، والفلك هو السفينة بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا: برعايتنا لك، أي أن الله -تبارك وتعالى- يراه، ويرعاه، ويوجهه كيف يصنع هذه الفلك وَوَحْيِنَا كذلك أن الله يوحى إليه كل مرحلة من مراحل بناءه لهذه السفينة؛ فهو دائم مع وحى الله -تبارك وتعالى- وجاء جبريل ينزل عليه يعلمه كيف يبنى هذه السفينة التى ستكون سفينة عظيمة تستقل به، وكل من معه من المؤمنين، وكذلك بكل دواب، وزواحف الأرض، وطيورها من كل زوجين اثنين، قال له الله -تبارك وتعالى-: فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا: أى أمر الله -تبارك وتعالى- بعذاب هؤلاء، وإهلاكهم, وَفَارَ التَّنُّورُ: الفوران بالماء، والتنور هو المكان الذى يخبز فيه، ويشعل فيه النار, جعل الله -تبارك وتعالى- له هذا علامة فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ: أدخل فيه، أدخل فى هذه السفينة، هذا الفلك الذى صنعته مِنْ كُلٍّ من المخلوقات، مخلوقات الأرض زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ: ذكر، وأنثى الزوجين اثنين لأن المفرد الذى له مثيل من جنسه زوج؛ فزوج، وزوج يسمى زوجين كالرجل، والمرأة مثلاً زوج، وزوج زوجين هذا الرجل زوج، والمرأة زوج زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ: من كل الحيوانات ناقة، وبعير، حمار ذكر، أتان، وفيل مذكر، وأنثى، وهكذا، وكذلك ذكر حمام، وحمامة أنثى مِنْ كُلٍّ هذه الطيور، وهذه الزواحف زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ثم وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ: وأهلك المؤمنين إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ: أى من أنهم يكونون من أهل الكفر؛ فهؤلاء لا يركبون معك, ثم قال له -جل وعلا-: {وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ}[المؤمنون:27]: قيل: أى بأن تطلب لهم الرحمة، أو إيقاف العذاب، أو تخفيفه؛ فإنهم مغرقون هذا أمر حتم، ولا بد أن يكون، أو لا تخاطبنى فيهم باستعجال العذاب لهم؛ فإنه آتيهم فى الوقت الذى حدده الله -تبارك وتعالى- وبهذه العلامة التى جعلها الله -تبارك وتعالى- علامة لهلاكهم.
ثم قال له الله -تبارك وتعالى-: {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}[المؤمنون:28], {وَقُلْ رَبِّ أَنزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ}[المؤمنون:29].
نرجع إن شاء الله إلى هذه الآيات فى الحلقة الآتية إن شاء الله، وصلى الله وسلم على عبده، ورسوله محمد.