الجمعة 29 ربيع الآخر 1446 . 1 نوفمبر 2024

الحلقة (413) - سورة المؤمنون 52-68

الحمد لله رب العالمين، والصلاة، والسلام على عبده، ورسوله الأمين, سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله، وأصحابه، ومن اهتدى بهداه، وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد؛ فيقول الله -تبارك وتعالى-: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ}[المؤمنون:51], {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ}[المؤمنون:52], {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ}[المؤمنون:53], {فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ}[المؤمنون:54], {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ}[المؤمنون:55], {نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ}[المؤمنون:56], {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ}[المؤمنون:57], {وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ}[المؤمنون:58], {وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ}[المؤمنون:59], {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ}[المؤمنون:60], {أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ}[المؤمنون:61], {وَلا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ}[المؤمنون:62], بعد أن ذكر الله -تبارك وتعالى- فى هذه السورة (سورة المؤمنون) ذكر أخبار هذه الأمم التى كذبت رسولها، وكيف كان صنيع الله -تبارك وتعالى- بالرسل، ومن آمنوا معهم، وصنيعه -سبحانه وتعالى- بالذين كذبوهم، وكفروا بهم بدءًا بنوح؛ ثم قال: {ثُمَّ أَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ}[المؤمنون:31], {فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ........}[المؤمنون:32], ثم قال -سبحانه وتعالى- {ثُمَّ أَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ}[المؤمنون:42], {مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ}[المؤمنون:43], {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا........}[المؤمنون:44] فى الهلاك {........فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ}[المؤمنون:44], ثم ذكر الله -تبارك وتعالى- موسى، وهارون، وذكر كيف كان الأمر، الدعوة، أتوا بآيات الرب -تبارك وتعالى- لما كذبها قوم فرعون {........فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ}[المؤمنون:46]و فأهلكهم الله -تبارك وتعالى-, ثم كيف امتن الله -تبارك وتعالى- على عبده موسى بأن أنزل عليه الكتاب الهادى، التوراة {........لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ}[المؤمنون:49], ثم منة الله -تبارك وتعالى- على عبده عيسى، وأمه {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ}[المؤمنون:50] هذه رحمة الله -تبارك وتعالى- بعباده المؤمنين، وبهؤلاء الرسل، والأنبياء.

 ثم وجه الله -تبارك وتعالى- قوله، ونداءه للرسل {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ}[المؤمنون:51]: نداء عظيم، هبة عظيمة أن هذا الرب -تبارك وتعالى- أباح لهم أن يأكلوا من الطيبات هذا من رحمته -سبحانه وتعالى- وبعد ذلك أن يعملوا صالحًا، ومعنى أن يعملوا صالحًا أن يصير كل أعمالهم خير، كل عملهم خير إلى ثواب من الله -تبارك وتعالى- انظر فى المقابل هؤلاء الذين ضل سعيهم فى هذه الدنيا، عملوا كل عمل إلى ضلال الكفار عملهم إلى ضلال، ونهايتهم الدنيوية إلى الهلاك؛ ثم النار، ولكن انظر منة الله على رسله {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ}[المؤمنون:51], {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً........}[المؤمنون:52] من نوح عليه السلام، ومن الرسل الذين جاءوا بعده، ومن موسى -عليه السلام-، ومن هارون، ومن عيسى -عليه السلام-، وأمه وهذه أمة واحدة، وهذه أمة هداية، أمة الإيمان أمة واحدة، والله ربها -سبحانه وتعالى- {........وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ}[المؤمنون:52]: خافونى؛ فهؤلاء هم الذين اصطفاهم الله -تبارك وتعالى- واختارهم، وامتن عليهم، وهذه كلهم دينهم واحد، كما قال النبى: «إن معاشر الأنبياء أولاد علات أو أولاد لعلات ديننا واحد»  فدين واحد الله -تبارك وتعالى- دعوة إلى الله -تبارك وتعالى- عبادة الله وحده لا شريك له.

 ثم قال -جل وعلا-: {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ}[المؤمنون:53]: أي أن أتباع هؤلاء الرسل الذين هم أهل دين واحد، وهم كلهم أمة واحدة، أمة هداية لكن كل أتباع رسول أخذوا أمرهم وتقطعوه بَيْنَهُمْ زُبُرًا: أحزاب، وفرق كل أخذ قطعة من دينه اتبعوها، وتركوا الباقى فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ وأمرهم هنا هو أمر الدين كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ: كل حزب جماعة تحزبت، وتجمعت على شيء منهم بِمَا لَدَيْهِمْ: من الذى أخذوه من الدين، وتركوا الآخر فَرِحُونَ بما عندهم، وبهذا وقع الإختلاف، كما قال النبى -صلى الله عليه وسلم-: «افترقت ىاليهود على إحدى وسبعين فرقة وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة» وقال أيضًا -صلى الله عليه وسلم-: «وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلا فى النار إلا واحدة» فَتَقَطَّعُوا: أى أتباع هؤلاء الرسل {........أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ}[المؤمنون:53] إلا لو علموا الحق لكان كل هؤلاء الرسل كلهم أرسلهم رب واحد، وأنهم دعوا إلى إله واحدٍ -سبحانه وتعالى- وأن طريقهم واحد، وأن اللاحق منهم يدعوا إلى ما دعى السابق؛ فعيسى كان على إثر موسى -عليه السلام-، ومؤمن به، وحاكم بالتوراة المنزلة إليه؛ فكان يجب أن يستقبله بنو إسرائيل بالبشر، والترحاب، والإييمان به؛ فهم رسول الله المؤيد بالمعجزات، ولكنهم كفروا به، وقالوا فيه، وفى أمه مقالة عظيمة، وكذلك لما جاء النصارى، واليهود محمد بن عبدالله المصدق بين يديه، ومعه هذه البراهين، والأدلة العظيمة من الله -تبارك وتعالى- هذا الكتاب الهادى المعجز كان ينبغى أن يتبعوه، ويسيروا معه؛ فهو قد دعى إلى نفس الدين الذى دعى إليه هؤلاء الرسل الذين يزعمون الإيمان بهم، إلى ما دعى إليه موسى، وإلى ما دعى إليه عيسى كلهم دعوا إلى توحيد الرب -تبارك وتعالى- لكنهم رفضوا هذا؛ ثم إن كل أمة، وكل أصحاب دين فى داخل دينهم تفرقوا كذلك كل مزقوا دينهم، وكل أخذ جزء منه، وتعصب له، وترك الباقى.

 ثم قال -جل وعلا- {فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ}[المؤمنون:54]: اتركهم فى غمرة الغمرة: التغطية كأنهم قد غمروا فى النسيان غمر، مثل المغمور فى الماء وهو الغاطس فيه فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ: أى فى بعدهم عن الحق، وفى ذهابهم عنه، وكأنهم قد غمرهم النسيان، والتكذيب غمر، وغطاهم تغطية حِينٍ: وقت محدد حدده الله -تبارك وتعالى- لهلاكهم, ثم قال -جل وعلا-: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ}[المؤمنون:55], {نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ........}[المؤمنون:56] الحسبان هو الظن أَيَحْسَبُونَ أيحسب هؤلاء الجاهلون، المكذبون أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ أن الله -تبارك وتعالى- اذا أمدهم أعطاهم، وزادهم من الأموال، والبنين الذكور أن هذا من محبته لهم يسارع لهم فى الخيرات أن الله تبارك وتعالى يحبهم، يسارع لهم فى الخيرات أن الله -تبارك وتعالى- يعطيهم هذا الخير جزاء، ومسارعة من الله -تبارك وتعالى- لهم فى أن يعجل لهم هذا منزلة، وحظ، وقربان من الله -تبارك وتعالى- قال -جل وعلا-: {نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ}[المؤمنون:56]: بل لا يشعرون بما يخبؤه الله -تبارك وتعالى- لهم من النكال، والعذاب، بل لا يشعرون بأن الله -تبارك وتعالى- إنما يعطيهم هذا، وهو ساخط عليهم، وغضب عليهم، وأن هذا استدراج منه -سبحانه وتعالى- ليتلهوا بهذا ما هم فيه، وليعميهم هذا عن طريق الرب؛ ثم تكون العقوبة لهم فى الوقت الذى شاءه الله -تبارك وتعالى- وحدده الله, ثم أخبر -سبحانه وتعالى- بعد ذلك بمن هم الذين يرتضيهم الله -تبارك وتعالى- من هم أولياءه، ومن هم أحبابه، قال -جل وعلا-: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ}[المؤمنون:57] هذا أول صفة إِنَّ بالتأكيد الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ الخشية خوف مع تعظيم؛ فهم فى حال من الخوف الشديد، والرهبة الشديدة من الله -تبارك وتعالى- مُشْفِقُونَ: المشفق هو الذى وصل نهاية الخوف؛ فهو وصل حد كالذى أشرف على نهاية الأمر، وأنه لم يبقى إلا قليل ليموت؛ فهذا أنهم فى خوف شديد من ربهم -سبحانه وتعالى- {وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ}[المؤمنون:58]: هذه الصفة الثانية أنهم بآيات الله  -تبارك وتعالى- يؤمنون، آيات الله سواء أن كانت آياته المنزلة منه المسموعة، المقروءة، أو آياته -سبحانه وتعالى- المنظورة التى بثها الله -تبارك وتعالى- وأقامها فى هذا الكون.

 {وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ}[المؤمنون:59]: لا يشركون بربهم أحد؛ فربهم خالقهم، وبارئهم، ومصورهم لا يشركون به بعبادته شيء، بل كل عبادتهم لهذا الرب الإله -سبحانه وتعالى- سواء أن كان هذا الشرك الإعتقاد، أو الشرك فى العمل، الشرك فى الإعتقاد أن يعتقدوا أن لله -تبارك وتعالى- نظير، أو شبيه، أو كفء، أو أن هناك من يتصف بصفة كصفة الله -تبارك وتعالى- تعالى الله عن ذلك، وكذلك لا يعطون شيئَا من حقوق الله -تبارك وتعالى- لغيره، حقوقه كله فى العبادة، العبادة كلها له؛ فهم لا يشركون بالله -تبارك وتعالى- فى أن يصرفوا شيئًا من عبادتهم لغير الله -جل وعلا-, {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ}[المؤمنون:60]: أي يقدمون ما قدموا، ويعطون ما أعطوا من الطاعات، ومع هذا قلوبهم وَجِلَةٌ: أي أنهم يفعلون الطاعات، والقربات، وهم خائفون أشد الخوف أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ: يا ترى قبل عملنا عند الله -تبارك وتعالى- رضى الله -تبارك وتعالى- عنا بذلك، تقبل هذا أم يتقبله خائفين من عدم القبول، خائفين بأن يؤاخذهم الله -تبارك وتعالى- بالذنوب التى وقعت منهم؛ فهم مع صلاحهم، وصلاتهم، وصيامهم، وحجهم، وفعلهم للطيبات إلا أنهم فى أشد الخوف من الله -تبارك وتعالى- سألت عائشة رضى الله تعالى عنها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن هذه الآية {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ}[المؤمنون:60] يسرقون، ويزنون، ويخافون، قال لها: لا وإنما يصلون، ويصومون ويخافون أن لا يتقبل منهم وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا من الطاعات وليس من المعاصى يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ لا وإنما وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا من الطاعات يفعلون ما فعلوا من الطاعات، ومع ذلك هم خائفون من ربهم -تبارك وتعالى- وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ خائفة الوجل الخوف أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ يعلمون أن ربهم -سبحانه وتعالى- يؤاخذ بالذنب، ويعاقب بالعقوبة الشديدة، وبالتالى هم خائفون من عقوبة الرب -تبارك وتعالى- ويظلوا على هذا، وهذا  حال المؤمن أنه خائف دائماً إلى أن يوئمن فى الآخرة، كما قال -جل وعلا-: {وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ}[المعارج:27], {إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ}[المعارج:28] إن عذاب الله -تبارك وتعالى- غَيْرُ مَأْمُونٍ ممكن أن يصيب أى فرد مهما كان، ولذلك نجد أنه كلما إزداد أهل الطاعات قرباً كان خوفهم من الله -تبارك وتعالى- أشد كالملائكة، الملائكة من أكثر عبودية لله -تبارك وتعالى- لكنهم {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ}[النحل:50], والرسل؛ فإن الرسل أكثر، الرسل، والأنبياء هم أكثر خلق الله خوفًا من الله -تبارك وتعالى- إن أتقاكم بالله، وأعلمكم بالله أنا خشية، بكاء من خوف الله -تبارك وتعالى- وفى الأمن النبى يقول أم العلاء إمرأة من الأنصار والله إنى لرسول الله ما أدرى ما يفعل بى غدا يقول لها أنا رسول الله لكن لا أدرى ما يفعل بى غدا، والنبى يبكى فى بعد أخذ الفدية من أسرى بدر، ويقول: لقد أريت عذابكم دون هذه الشجرة؛ فالأمر صعب، والنبى يقول: والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلًا، ولبكيتم كثيرًا، وكان إذا قام يصلى يسمع، تقول أمنا عائشة: كان يسمع لصدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء يبكى بصدره، قلبه يخرج نوع مون الأزيز، وهو كصوت المرجل عندما تضع مرجل على النار، غلاية للماء تضعها مع النار؛ فإنها تخرج صوتًا بعد ذلك عند الغليان؛ فهذا كان صدر النبى -صلى الله عليه وسلم- عندما يقرأ، يقوم يقرأ بين يدى الله -تبارك وتعالى- فهؤلاء أهل الإيمان خائفون خوف دائم من الله -تبارك وتعالى- هؤلاء المتصفون بهذه الصفات {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ}[المؤمنون:57] بدأ الله -تبارك وتعالى- صفات هؤلاء المؤمنين بالخوف، وختمها بالخوف فهم مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ {وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ}[المؤمنون:58], {وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ}[المؤمنون:59].

 {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ}[المؤمنون:60] فهؤلاء هم أهل الله على الحقيقة، قال -جل وعلا- {أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ}[المؤمنون:61] أُوْلَئِكَ المذكورين هؤلاء ذكرهم الله -تبارك وتعالى- بهذه الصفات العظيمة يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ والمسارعة إن كل منهم يسارع الآخر فى الخيرات؛ فمجرد إن يعلموا أى باب من أبواب الخير يتسابقون إليه؛ فهم متسابقون يتسابقون فى إرضاء الرب -تبارك وتعالى- بفعل الخيرات، والخيرات اسم جامع مع كل خير من طاعة الله -تبارك وتعالى- بدءًا بأشرف الأعمال، وهى الصلاة، والذكر، والدعاء، والعبادة، والصدقة، والنفقة كل الخير، والبر، والإحسان، والخُلُق وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ: هؤلاء الذين يتصفون بهذه الصفات لا شك أنهم سابقون إلى الخيرات لما اتصفوا به من هذه الصفات العظيمة من مخافة الرب -تبارك وتعالى- ومن خشيته، وإيمانهم بآيات الرب، ومن عدم شركهم به -سبحانه وتعالى- ومن أنهم يفعلون الطاعات مهما فعلوا لكنهم مستقلين لها، وخائفين ألا يتقبلها الله- تبارك وتعالى- منهم.

 ثم قال -جل وعلا-: {وَلا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ}[المؤمنون:62]: قد يقول قائل بعد هذه الصفات التى ذكرها الله -تبارك وتعالى- للمؤمنين إن الأمر صعب وعسير أخبر -سبحانه وتعالى- إنه لا يكلف أحدًا من عباده وَلا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا التكليف الإلهى -سبحانه وتعالى- بالعبادة كله هو فى، ما هو فى مقدور المكلف وَلا نُكَلِّفُ نَفْسًا أى نفس إِلَّا وُسْعَهَا قدرتها، والوسع ما هو فى الطاقة، والقدرة يسعه أن يفعل هذا، فى طاقته، فى قدرته أن يفعل هذا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقِّ: كتاب الله -تبارك وتعالى- الذى ينطق بالحق، وهو اللوح المحفوظ الذى كتب الله -تبارك وتعالى- فيه مقادير كل شيء؛ فلم يغفل شيئاً قط، وكذلك الكتاب الذى يكتبه الكتبة، والحفظة {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ}[الطارق:4] فهذا كذلك يؤتى، ويسلم كل إنسان كتابه {هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}[الجاثية:29] فكل أمة عندما تأتى تدعى إلى كتابها، تدعى كل أمة تدعى إلى كتابها {هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}[الجاثية:29] نَسْتَنسِخُ ننسخ نكتب، وكان هذا عن طريق كتابة كل شيء بالملكين {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}[ق:18], ويقال لكل أحد {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا}[الإسراء:14] فهذا يجعل المؤمن لا شك أنه فى طمأنينة أنه لن يضيع من أجره شئ، عمله لن يضيع منه شئ، بل قد كتبه وحسبه -سبحانه وتعالى- {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا........}[النساء:40], {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا........}[آل عمران:30] وكذلك يجعل الكافر لو كان يعى، ويبصر إنه يبقى فى قلق، وفى خوف، ورعب أن كل ما فعله مدون عليه لكن الكافر فى عماية عن هذا، ويفاجئه الأمر يوم القيامة انظر هذا الذى فعلته أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ قد أحصاه الله -تبارك وتعالى- كل ما فعلته بغمزة، بلمزة، بلفظة كله قد كتب وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا قال -جل وعلا- {........وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا}[الكهف:49], {وَلا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ}[المؤمنون:62] ما أحد يظلم كل سيأخذ جزاءه.

 ثم قال -جل وعلا-: {بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا........}[المؤمنون:63]: قلوب هؤلاء الكفار فِي غَمْرَةٍ مغمورة أنها غائبة عن هذا التحذير الإلهى، الوعيد الإلهى غائبة عنه تمامًا، وكأنها لا تعلمه وكأنه كمن يعيش تحت المحيط تحت الماء مغمور، ولا يسمع ما يقال فى ظهر الأرض، على ظهر الأرض ما يدرى إيش اللى يقال، وهو يعيش فى قاع المحيط بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ أنها مغمورة، وأنها مغطاة، وبعيدة عن هذا الكلام كأنها لا تسمعه، ولا تحس به وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ: من دون هذا الوعيد الذى سيأتيهم لَهَا عَامِلُونَ: لا بد يستكملوا ما كتب لهم من الشر جعلهم يعملوا؛ فليعملوا هذا الشر إلى نهايته الذى قد كتب أنه سيفعلوه، لا بد أن يفعلوه إلى النهاية {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ}[الأنعام:113] فليفعلوا, {حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ}[المؤمنون:64]: أي أنهم سيعملوا أعمال الكفر التى يسيرون فيها قبل أن تفاجئهم ما يحذرهم الله -تبارك وتعالى- من قبل هذا، اعملوا الذى هُمْ لَهَا عَامِلُونَ ولكن إذا جاء الوقت حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ: أنزل الله -تبارك وتعالى- عقوبته عليهم مُتْرَفِيهِمْ: مترف الذى كان منعم أشد التنعيم، وفى غاية الترف فى طعامه، وشرابه، ولباسه، ورياشه، ومتعه, وهذا المترف طبعًا تؤلمه القرصة، وتؤلمه الشوكة؛ فكيف بالعذاب الشديد إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ: الجؤار هو رفع الصوت، والزعيق بالويل، والثبور، والهلاك، والرغبة فى الفرار من ما نزل به، وحاق به, لكن يقال {لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنصَرُونَ}[المؤمنون:65]: لا جؤار اليوم خلاص انتهى لأن هذا لا يفيد لن يفيدكم إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنصَرُونَ: من الله -تبارك وتعالى- لا نصر لهم ليس هناك من يعينهم، وينصرهم؛ فيخرجهم من عذاب الله -تبارك وتعالى- أو يحول هذا العذاب عنهم، أو يشفع لهم؛ فانظر الحال الأولى، والحال الثانية؛ الحال الأولى حال التكذيب، والبعد عن الله -تبارك وتعالى- ورد رسالة الرسل، والاستعلاء فى الأرض، ولكن بعد ذلك انظر كيف لما أخذهم الله -تبارك وتعالى- بعذابه، ورأوا العذاب بدأ الصراخ، والعويل، ورفع الصوت، والدعاء بالويل، والثبور، والرجوع إلى الله -تبارك وتعالى- فيقال لهم لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ الزعيق، والبكاء، والعويل لا ينفعكم.

 ثم يذكرهم الله -تبارك وتعالى- بما كانوا عليه فى الدنيا {قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ}[المؤمنون:66] قَدْ كَانَتْ آيَاتِي: آيات الله -تبارك وتعالى- تُتْلَى عَلَيْكُمْ: تقرأ عليكم فَكُنتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ: النكوص هو الإلتفات إلى الخلف مرة واحدة، والعقب هو مؤخر القدم مباشرة كان بمجرد السماع آيات الله -تبارك وتعالى- مباشرة يرتد إلى الخلف، ويفر من أن لا يسمع كلام الله -تبارك وتعالى- فهى تصوير حالهم فى نفرتهم الشديدة من الحق، وإرادتهم أن يبتعدوا عنه بكل سبيل, {مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ}[المؤمنون:67]: أنكم متكبرون، المستكبر طالب الكبر بهذا التكذيب، وبهذا العناد لكم سَامِرًا تَهْجُرُونَ: أي إلى المسامرة، والحديث الفارغ تَهْجُرُونَ آيات الله -تبارك وتعالى- تترك آيات الله -عز وجل- ليقضى وقته فى سمر، وفى حديث لا ينفعهم، ولا يضرهم؛ فيستبدلون باتباع كلام الله -تبارك وتعالى- هذا تَهْجُرُونَ: أن تذعنوا لأمرالله، وتسمعوا آيات الله -تبارك وتعالى- بمسامرتكم، وكأنه ليس هناك تكليف، ولا عقوبة، ولا كذا؛ فتتسامرون، وتقضون الأوقات فى لهوكم، وفرحكم، وتنكصون عن آيات الرب -تبارك وتعالى-.

 ثم قال -جل وعلا-: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الأَوَّلِينَ}[المؤمنون:68]: سؤال من الرب -تبارك وتعالى- أي أفلم يدبر هؤلاء القول، والتدبر هو النظر إلى البعيد، دبر الأمر؛ فهذا النبى -صلى الله عليه وسلم- أمامهم، ويخبرهم بأمور، بأخبار عظيمة بأنه هناك عقوبة تنتظركم هناك، نار تنتظر المكذبين بهذا الأمر، أنظروا إلى المآل، وإلى ما يتدبرون التدبر: هو النظر فى عاقبة الأمر، ونهايته، ماذا يكلمكم النبى؟ على أى شيء؟ ما الذى ينتظركم بعد ذلك؟ فلا تدبر، لا تفكر فى الأمر، ولا نظر فيه، ولا معرفة بما سيؤل إليه {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الأَوَّلِينَ}[المؤمنون:68] قد جاءهم ما لم يأتى آبائهم الأولين، جائهم هذا الرسول -صلوات الله والسلام عليه- بهذا الدين، وبهذه الشرعة الواضحة لم ينذر بها آباؤهم الأولون؛ فكان ينبغى أن يعلموا أن هذا الأمر اختصاص من الله -تبارك وتعالى- وقد جاءهم النبى بهذه الآيات الواضحات، البينات {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الأَوَّلِينَ}[المؤمنون:68], {أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ}[المؤمنون:69], {أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ}[المؤمنون:70], سيأتى السياق بعد ذلك فى مناقشة هؤلاء الكفار الذين كفروا برسالة النبى محمد -صلوات الله والسلام عليه- وتوضع كل فروض التكذيب لما كذبها، ويدحض الله -تبارك وتعالى- هذه الفروض ليبين أن هذا الدين هو دين الحق، وأن المكذبين به إنما ينتظرون مصير من سبق من الأمم التى كذبت رسلها.

نقف عند هذا, أصلى، وأسلم على عبد الله، ورسوله محمد، والحمد لله رب العالمين.