الحمد لله رب العالمين، وأصلى، وأسلم على عبد الله، ورسوله الأمين, سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله، وأصحابه، ومن اهتدى بهداه، وعمل بسنته إلى يوم الدين.
وبعد؛ فيقول الله -تبارك وتعالى-: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الأَوَّلِينَ}[المؤمنون:68], {أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ}[المؤمنون:69], {أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ}[المؤمنون:70], {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ}[المؤمنون:71], {أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}[المؤمنون:72], {وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}[المؤمنون:73], {وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ}[المؤمنون:74], هذا الفاصل من هذه السورة سورة المؤمنون يدحض الله -تبارك وتعالى- فيها كل ما تعلق به المشركون من حجج باطلة يدفعون بها عن أنفسهم الإيمان بهذه الرسالة العظيمة التى أُرسل بها النبى محمد -صلوات الله والسلام عليه-, فبعد أن ذكرهم الله -تبارك وتعالى- بالمآل الذى سيؤلون إليه، قال: {بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ}[المؤمنون:63]: سيستمرون على هذا حتى يأتيهم العذاب {حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ}[المؤمنون:64]{لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ........}[المؤمنون:65] هذا سيقال لهم يوم القيامة {........إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنصَرُونَ}[المؤمنون:65]{قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ}[المؤمنون:66], {مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ}[المؤمنون:67], ثم قال -جل وعلا-: أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ: سؤال يراد به توبيخهم، وتحذيرهم ما تدبروا هذا القول الذى جاء به النبى محمد -صلوات الله والسلام عليه- وفى هذه النذارة العظيمة الشديدة هذا خطاب الرب -تبارك وتعالى- يخاطبهم، ويدعوهم إليه، وينذرهم هذه العقوبات الهائلة، الكبيرة التى تنتظرهم للتكذيب أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ ينظروا فى دبره، وفى عاقبته {أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الأَوَّلِينَ}[المؤمنون:68]: بل قد جائهم ما لم يأتى آبائهم الأولين النبى الكريم بهذه الرسالة العظيمة {أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ}[المؤمنون:69]: أي هذا النبى عرفوه، هذا إبنهم، وهذا أخوهم؛ فهم قد عرفوه تمام المعرفة، نشأ فيهم، يعلمون صدقه، وأمانته -صلوات الله والسلام عليه- مطلعون على أحواله على داخلها، وعلى خارجها وأنه من أين له أن يأتى بهذه الرسالة العظيمة، وهو رجل أُمى لم يقرأ، ولم يكتب قبل ذلك، ويأتى بهذه الأخبار العظيمة عن الأمم السابقة، وهى مصدقة لما عند أهل الكتاب فى كتابهم، وهذه الأخبار العظيمة المستقبلة، وهذا الكتاب العظيم الذى تحداهم الله -تبارك وتعالى- بأن يأتوا بسورة من مثله, كل شواهد الصدق شاهدة لهذا النبى، وأول هذه الشواهد أنه لم يكذب عليهم قط ما عمره كذب عليهم؛ فكيف يأتى بعد أربعين سنة ليكذب على الله -سبحانه وتعالى- أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ: فهذا الرسول ما عرفوه قبل هذا يأتي رجل من قوم آخرين فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ: فهم منكرون له، ويريدون التحقق منه، والتحقق من دعوته رسولهم هذا محمد بن عبد الله قرشى، مثلهم، قد نشأ فى وسطهم، ويعلمونه منذ النشأة، ويعلمون أخباره، ويعرفون سريرته ومدخله، ومخرجه، وأنه ليس له، وليس من شأنه بتاتاً أن يكذب، ما كذب عليهم كذبة {أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ}[المؤمنون:69], أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ: هذا كذلك من أقوالهم السخيفة، الساقطة أنه مجنون {بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ}[المؤمنون:70], المجنون يأتى بحق! المجنون يتكلم كلامًا يروج، ويفهمه العقلاء! المجنون حاله معروف؛ فاتهام النبى بالجنون هو جنون, أي الذى يتهم النبى بالجنون هذا الذى يكون بالفعل قد خرج عن طور العقل بالكلية أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ قال -جل وعلا-: {بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ}[المؤمنون:70] بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ الرسول -صلى الله وسلم- وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ, {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ}[المؤمنون:71] لو كان الحق ما يرونه هم بأهوائهم، قال -جل وعلا-: لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ, فإن أهوائهم إنما تتعلق أولاً فى باب العقائد، والإيمان أنهم جعلوا الرب الإله الذى لا إله إلا هو قادر على هذا الخلق لكنه لا يقدر علىى الإعادة، وأنه لا بعث، ولا نشور بعد ذلك، وأن مصير المؤمن، والكافر إنما هو مصير واحد، هو هذا الفناء، وأنه لا حكومة بعد ذلك ليعطى المؤمن حقه، والكافر حقه، وبهذا سبوا الله -تبارك وتعالى- وشتموه، واتهموه بالعبث، وأنه خلق خلقه سدىً لا يأمرهم، ولا ينهاهم، وخلق هذا الخلق العظيم لا غاية من وراءه، ولا فائدة، ولا حكمة من وراء هذا الخلق؛ فاتهموا الرب بهذا، وهذا أعظم الفساد أن يكون هذا الخلق كله موجود على هذا النحو، ويكون المفلح فيه هو المجرم، هو الذى يأكل أموال الناس، ويقتلهم، ويستولى عليهم، ويفسد فى الأرض؛ فهذا الذى فاز بالوجود، وبالنصر، وبالعز، وأما المظلوم يصير هذا هو أبعد الناس، أخسر الناس، اكثر الناس خسارة؛ لأنه ليس هناك حكم بعد ذلك يأخذ له حقه من ظالمه، ويكون المؤمن الذى آمن بالله -تبارك وتعالى- وعبده، واتقاه لا جزاء له عنده، والكافر الذى كفر به، وعانده، وعاند رسله كذلك لا جزاء له؛ فيكون الكافر أعظم حظًا من المؤمن, اتهموا الله؛ فهذا فساد، أعظم فساد فى الأرض، كذلك فساده بالشرك؛ فإنهم عبدوا غير الله -تبارك وتعالى- وتوجهوا بالعبادة إلى غير الله مما لا ينفعهم، ولا يضرهم هذا أعظم فساد؛ ثم بعد ذلك ما التشريع الذى شرعوه؛ فكل تشريعهم المتبع للهوى فساد، من قتلهم لأولادهم خشية الفقر، من عدوانهم بعضهم على بعض، وسلبهم أمولهم, من شربهم للخمور، من تعاطيعهم للفواحش، والمنكرات؛ فلو كان الحق متبع لهوى هؤلاء لكانت الفساد يحل بالسماوات، وبالأرض، وكذلك اعتقدوا فى السماء ما اعتقدوا، اعتقدوا أن الملائكة الذين خلقهم الله -تبارك وتعالى- إنما هم إناث؛ فنسبوا إليه، وإن كذلك لهم شركة مع الله -تبارك وتعالى- وأنهم يشفعون عنده؛ فهذه لو كان الحق متبع لهوى هؤلاء، وأن هذا الذى قالوه هو الحق.
قال -جل وعلا-: لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ قال -جل وعلا-: {بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ}[المؤمنون:71]: بَلْ الصحيح أن قد آتاهم الله -تبارك وتعالى- بِذِكْرِهِمْ: بما يذكرهم الله -تبارك وتعالى- ويعرفهم الطريق، ولكنهم عن ذكر هذا مُعْرِضُونَ وكذلك بِذِكْرِهِمْ بأن يذكروا بالخير فى الدنيا، وفى الآخرة يذكروا الذكر الحسن، فإنهم إذا آمنوا، ولو كانوا آمنوا بالله -تبارك وتعالى- فإن الله -تبارك وتعالى- يمكنهم فى الأرض، ويجعلهم الأمة الصالحة، خير أمة أخرجت للناس، ويديل لهم الأمم، والشعوب يجعلهم القادة كما صنع الله -تبارك وتعالى- فى العرب عندما آمنوا بالله -تبارك وتعالى- فجعلهم مذكورين بعد ذلك فى الأرض كلها بعد أن كانوا أمة مهملة، كم مهمل لا يأبه لهم أحد من شعوب الأرض العظمى الكبرى فى وقتهم، كالفرس، والروم، وغيرهم من الشعوب التى كانت لهم قوة، ومنعة، كيان، وتمكين فى الأرض أين كان العرب من هؤلاء؟ لم تكن أمة لها شأن عند هؤلاء؛ ثم إن الله -تبارك وتعالى- لما أنزل لهم هذه الرسالة، وأعطاهم هذا الدين رفع الله -تبارك وتعالى- به هذه الأمة، وأعلى شأنها، وأعلى منارها، وجعلها أمة مهتدية، دايعة إليه -سبحانه وتعالى- وجعل لهم فضل على الأمم التى دخلت فى هذا الدين، وكذلك كانوا، كان لهم فضل على على الوجود بأن أزالوا عن صفحة هذه الأرض أهل الفساد، والشرك فيها، هذا أمر عظيم جدًا؛ فكانوا قدرًا عظيم من الله -تبارك وتعالى- قال -جل وعلا-: بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ: ذكرهم الذى يذكرون به, فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ: أي إعراضهم إنما هو عن أعظم الخير لهم فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ أن يذكروا فى الأرض بالجميل، وبالسيرة الحسنة، وأن يشاد بهم هذه فى الدنيا؛ ثم الإشادة بعد ذلك، والذكر الحسن فى الآخرة فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ.
ثم قال -سبحانه وتعالى- مستهزئًا بهم كذلك {أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}[المؤمنون:72] أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا خرجا ضريبة, مال يخرج منهم، يؤخذ منهم مقابل دعوىتهم إلى الهدى، وقيادتهم إلى العزة، والتمكين؛ فإن الرسالة الذى جاء بها الرسول تحمل كل الفلاح، والنجح فى الدنيا، والآخرة لهم، والنبى -صلى الله عليه وسلم- عندما جاء بذلك لم يطلب أجرًا على هذه الدلالة إلى هذا الخير العظيم من الله -تبارك وتعالى- ما قال لهم ادفعوا ضريبة على أن دللتكم على هذا الخير، وأرشدتكم له، وعلمتكم إياه، وقوموا به، لا، بل جاء الرسول، وهو يعلن أن أجره إلى الله -تبارك وتعالى- كما الشأن فى كل الرسل أنهم قالوا: وما نسئلكم عليه أجرا؛ فكل رسول دعى قومه إ^لى الله -تبارك وتعالى- لم يتخذ أجر بهذا، وحتى لا يكون للكافر هناك عذر أنه هناك ضريبة للدخول فى هذا الدين، لا، لا ضريبة للدخول فى هذا {........قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ}[الشورى:23] لا أجر يطلبه النبى -صلى الله عليه وسلم- أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا: ضريبة، وأجر على هذا، قال -جل وعلا-: {فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}[المؤمنون:72] فَخَرَاجُ رَبِّكَ: أي الأجر، والمثوبة التى ادخرها الله -تبارك وتعالى- للرسول خير لو جمعوه، طبعًا لو جمع الناس للنبى -صلى الله عليه وسلم- أموالهم كلها، وأعطوه إياها، ما كافئوه على الجميل، والأمر العظيم الذى جاءهم به، ولكن هذا أجر الرسول إنما هو على الله -تبارك وتعالى- وأجره عند الله أجر عظيم جدًا، هذا أجره المقام المخمود، والمنزلة العالية، والدرجة الرفيعة فى الجنة.
ثم قال -جل وعلا-: {وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}[المؤمنون:73]: وَإِنَّكَ يا محمد الخطاب للنبى -صلى الله عليه وسلم- لَتَدْعُوهُمْ: تدعو هؤلاء القوم المكذبين، المعاندين إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ما يدعوهم النبى إلى شيء من الخنى، أو الفجور، أو العصبية الجاهلية، بل إلى صراط الله -تبارك وتعالى- الصراط المستقيم الذى كل ما فيه حق، وصدق، وخير {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ}[النحل:90] هذا الدين {يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}[النحل:90], ثم التصديق بالحق الذى هو حق بالفعل، وجود الرب -تبارك وتعالى- وأسماءه، وصفاته، وغيبه كما أخبرنا، من جنته، ومن ناره، ومن ملائكته، ومن اليوم الآخر كل هذا الذى أخبر به النبى وجاءهم عن الغيب كله صدق {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا........}[الأنعام:115], فهذا صراط الله -تبارك وتعالى- المستقيم الذى كل ما فيه أخباره كلها صدق، وأحكامه كلها عدل، ودين كل أهدافه كلها طهارة، ونظافة « إنما بعثت لأتمم مصالح الأخلاق», فكله أخلاق حسنة لتكبيل هذه النفس، وتهذيبها، وكذلك لإنشاء المجتمع الصالح كل معانى الصلاح الذى يتحابوا أفراده، ويتأخون يأخذ كل حقه، ولا يتظالمون، وتخرج من أوساطهم كل أنواع الرذيلة، والفساد، والفاحشة طهارة؛ فالدين كله طهارة, طهارة للنفس، طهارة للمجتمع كذلك رحمة بكل شيء، رحمة بالأرض، رحمة بالزرع، رحمة بالنبات، بالحيوان بكل شيء؛ فهذا دين كله خير، ويحمل الخير لكل شيء لكل الموجودات ولا يلاحق إلا الفساد، أى شيء من الفساد هو الذى يلاحقه، وينفيه؛ فيدعوهم إلى صراط مستقيم.
ثم قال -جل وعلا-: {وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ}[المؤمنون:74]: لكن هؤلاء الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ لا يؤمنون بإنه هناك يوم قيامة، وأن الله سيحاسبهم -سبحانه وتعالى- عَنِ الصِّرَاطِ الصراط بالألف، واللام إشادة له كأنه لا صراط إلا هذا الصراط الحقيقى, لَنَاكِبُونَ: لنكابون معطينوه كتفهم، وعترضهم أنهم تركوا الصراط، وساروا أيضًا فى هذا الصرط، وهذه الطرق؛ فأولئك ضالون عَنِ الصِّرَاطِ الصراط الحق، صراط الله -تبارك وتعالى-.
ثم قال -جل وعلا-: {وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}[المؤمنون:75], {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ}[المؤمنون:76]: يخبر -سبحانه وتعالى- أن هؤلاء المكذبين من قريش، وممن حولهم من العرب أن نفوسهم قاسية، وأنهم قوم ذوى لدادة، وأن الله -تبارك وتعالى- لو كشف الضر الجزئى فى هذه الدنيا الذى أصابهم به لظنوا أنه الأمر انتهى، وظلوا فى عماهم, وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ: مما أخذهم الله -تبارك وتعالى- به كما دعى النبى-صلى الله عليه وسلم- عليهم لما اشتد بأسهم، واشتد تكذيبهم، قال: اللهم اجعلها عليهم سنين كسنين يوسف من القحط؛ فجاعوا حتى أكلوا من الخرق؛ فيخبر -سبحانه وتعالى- أنه لو كشف عنهم هذا الضر لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ لبقوا كذلك فِي طُغْيَانِهِمْ تعاليهم عن هذا الحق، وبعدهم عنه يَعْمَهُونَ: يسيروا كالأعمى, أي يسير فى هذا الظلام كالأعمى، ولا يستبصر أن الله الذى أخذهم بهذا العذاب قادر على أن يأخذهم بعذاب أشد منه وأنه ذكرهم بهذا ليعودوا إليه.
ثم قال -جل وعلا-: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ}[المؤمنون:76]: الاستكانة هو الذل، والخضوع، والميل نحو طريق الرب -سبحانه وتعالى-, وَمَا يَتَضَرَّعُونَ: يتذللون لربهم -سبحانه وتعالى- فهذه عقوبة جزئية أخذهم الله -تبارك وتعالى- بها ليعلموا قدرة الرب -جل وعلا- عليهم، انظروا هذا الذى أنزل هذا العذاب الجزئى يستطيع أن ينزل عليكم عذابًا أكبر منه لكنهم لم يتذللوا لربهم -سبحانه وتعالى- ولا استكانوا له؛ ثم قال -جل وعلا-: {حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ}[المؤمنون:77]: لكن إذا جاهم العذاب الشديد عذاب الآخرة, قال بعض أهل العلم إن هذا العذاب الشديد يأخذ عظمائهم كما فعل الله -تبارك وتعالى- يوم بدر؛ فهذا فتح لهم باب ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ وهذا باب القتل أن قتلهم الله -تبارك وتعالى- فى بدر, ثم ألقوا إلى الجحيم إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ: المبلس هو المتحير أى المبهوت الذى لا يدرى ماذا، ماذا يصنع، ماذا حل به هذا الأمر، ولماذا كان الأمر على هذا النحو؛ الإبلاس هو التحير، والسكون، ووقوع الأمر بحيث أنه خلاص لا يدرى لماذا حل به هذا، وكيف كان هذا الأمر {حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ}[المؤمنون:77]: متحيرون، مبهوتون, ثم قال -جل وعلا- {وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ}[المؤمنون:78]: هذا تذكير بنعمه القائمة عليهم -سبحانه وتعالى- وَهُوَ الله -جل وعلا- الَّذِي أَنشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ مقومات المعرفة هذه، هذه هى أساس كيان الإنسان السمع، وبدأ به لأنه أنفع آلة للإنسان فبه هذا أكبر وسيلة للعلم؛ ثم البصر وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ القلوب التي هى محل العقل قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ: أي تشكرون الله -تبارك وتعالى- شكرًا قليلًا على أن رزقكم الله -تبارك وتعالى- بهذا الأمر، أو قليلًا منهم هو الذى يشكر الله -تبارك وتعالى-.
{وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}[المؤمنون:79] وهو الله -سبحانه وتعالى- الذى ذرأكم، ذَرَأَكُمْ: نشركم، وبثكم فى الأرض؛ فهذا الذى نشر كل هذه الخلائق فى الأرض هو الله -سبحانه وتعالى- وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ فى الآخرة تُحْشَرُونَ: الحشر هو الجمع؛ فهذا فعل الرب -سبحانه وتعالى- وهذا تذكير بأن هذا ربهم، وإلههم، وخالقهم الذى لا رب لهم سواه -سبحانه وتعالى- فالذى لا يفعل هذه الأعمال العظيمة، ويخلق هذا الخلق العظيم هو الرب الإله الذى القادر على كل شيء الذى له، الذى لا تجوز العبادة إلا له -سبحانه وتعالى-.
{وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ}[المؤمنون:80]: وَهُوَ الله -سبحانه وتعالى- يُحْيِي وَيُمِيتُ: كل الأحياء هو الذى يحيهم، وكل الموتى هو الذى يميتهم -سبحانه وتعالى- وعملية الحياة، والموت عملية مستمرة يموميًا؛ فالولادة من الإنسان، والحيوان, وكذلك إخراج النبات، حياة النبات عمل يومى، بل فى كل لحظة، كل حين، والموت كذلك عمل كذلك مستمر حياة من هنا للنبات، والحيوان، وللإنسان موتهم هناك، وهو الذى يحيكم أيها الناس وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ: يحيي، ويميت لكل هذه الأحياء، ويميتها -سبحانه وتعالى- وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ له لا لغيره -سبحانه وتعالى- اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ اختلاف الليل، والنهار يكون هذا يأتى بعد هذا، وكذلك اختلاف الليل، والنهار صيفًا عن الشتاء؛ فليل الصيف غير ليل الشتاء، ونهار الصيف غير نهار الشتاء، طولًا، وبرودةً؛ فهذا الذى خالف بين الليل، والنهار الصيف هذا النهار مشرق، مضئ، دافئ مشمس ليقوم الناس بالعمل، وهذا مظلم، ساكن، بارد ليكون وقت للراحة {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ........}[القصص:73] وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ فهذا من رحمة الله -تبارك وتعالى- فهذا اختلاف الليل، والنهار لمن؟ من الذى يأتى بالليل، والنهار؟ وقد خالف بينهم على هذا النحو، وأعطى هذا خصائصه، وهذه خصائصه، وميز الليل فى الفصول، وكذلك النهار فى الفصول المختلفة هذا فعل الله -تباك وتعالى- ولا يقدر عليه إلا الله -جل وعلا- والحال أن وجود الإنسان مرتبط بهذه الخلق أن يكون الخلق على هذا النحو؛ فإذًا انظر إلى خالقك؛ فالله هو الذى خلقك هو الذى أعطاك هذا {وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ}[المؤمنون:78], {وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}[المؤمنون:79], {وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ}[المؤمنون:80] ألا عقل لكم! أَفَلا تَعْقِلُونَ, والرب يخاطبكم بهذا الخطاب -سبحانه وتعالى- ويبين لكم أنه هو ربكم الذى خلق لكم كل هذا الخلق، وأن وراء هذا الخلق غاية، وهدف، وأنه يدعوكم لعبادته وحده لا شريك له، وأنه ينتظركم العذاب الشديد إن لم تقوموا بعبادته -جل وعلا- وأنه كذلك يدعوكم إلى جنته، ومرضاته إذا سرتم فى طريقه، ألا عقل لكم! أَفَلا تَعْقِلُونَ قال -جل وعلا-: {بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الأَوَّلُونَ}[المؤمنون:81].
{قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ}[المؤمنون:82], {لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ}[المؤمنون:83]: بَلْ تركوا كل هذه الآيات، وكل هذه البينات، وكل هذا، ودحض الله -تبارك وتعالى- لكل هذه الشبهات لهم، وتعلقوا بهذه الشبهة التى غرست فى قلوبهم، وأشربوها تماماًا {بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الأَوَّلُونَ}[المؤمنون:81] من المكذبين {قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ}[المؤمنون:82]: سؤال منهم يريدون به الاستبعاد، والاستنكار أن هذا أمر مستبعد كل الاستبعاد، ومستنكر كل الاستنكار أَئِذَا مِتْنَا بعد الموت، وانتهت حياتنا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا تحول لحومنا، وعروقنا، وأعصابنا، وكذا إلى هذه أصبحت تراب، وأصبحت عظامنا بليت، وبقيت عظام من عظامنا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ: سؤال للاستبعاد, أي هل أئن بهمز الاستفهام سنبعث بعد ذلك، ونخرج من قبورنا؟ {لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ}[المؤمنون:83] لَقَدْ وُعِدْنَا بالبناء للمجهول، وأن هذا موعود الله الذى خلقهم، أو موعود الرسول المرسل من الله، لا، جعلوا هذا الموعود ونسبوه إلى ما لم يسمى فاعله لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ كذلك إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ: أن هذا القول فى أننا سنبعث ليوم قيامة، ونحاسب على أعمالنا، أساطير، أسطورة كتبها الذين قبلنا، ولا حقيقة لها أنها حديث خرافة، وهو يقال كنوع من القصص الخرافية عن يوم القيامة، ولا حقيقة له إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ: ما سطره الأولون، وليس هذا كلامًا من الله -تبارك وتعالى- ولا رسالة من عنده -جل وعلا-, ثم بعد ذلك بدأ الله -تبارك وتعالى- يناقشهم بالحجج الملزمة؛ ليبين لهم أن الذى هم فيه إنما هو كفر، وعناد.
قال -جل وعلا-: {قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}[المؤمنون:84], {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ}[المؤمنون:85], قُلْ لهم هذا أمر مما كانوا يعتقدونه قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا: هذه الأرض التى تعيشون عليها وَمَنْ فِيهَا: كل من فيها من البشر لِمَنِ هى؟ ملك من؟ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ, وهذا كانت تعتقده العرب أن الله تبارك وتعالى هو خالقهم، وخالق هذه الأرض، وهو رازقهم، وخالق هذا الكون الذى هم فيه سَيَقُولُونَ لِلَّهِ: يعتقدون فى الله رب السماوات، والأرض -سبحانه وتعالى- {قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}[المؤمنون:84], {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ}[المؤمنون:85]: إذا كان هذا الأمر لله -تبارك وتعالى- ألا تتذكرون إن هذا الرب الذى هذه صفته، وخلق هذا الخلق هو الذى يدعوكم إليه -سبحانه وتعالى- وهو الذى أرسل لكم هذا الرسول، وهو الذى وضع لكم هذا الصراط لتسلكوا فيه أَفَلا تَذَكَّرُونَ: أفلا تذكرون أن هذا الرب لا يمكن أن يكون خلق هذا الخلق سدى، وعبث، وأن هناك مآل إليه لا بد أن يحاسب كل إنسان على فعله، وإلا كان هذا الخلق مخلوق بدون أى هدف، وبدون أى غاية أَفَلا تَذَكَّرُونَ, والتذكر استحضار لهذه المعانى فى الذهن، والنظر فيها، والتفكر فيها, ثم قال الله -تبارك وتعالى- بعد ذلك {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ}[المؤمنون:86], {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ}[المؤمنون:87], {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}[المؤمنون:88], {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ}[المؤمنون:89].
هذا سنعود إليه إن شاء الله فى الحلقة الآتية، أقول قولى هذا، وأستغفر الله لى ولكم من كل ذنب، -وصلى الله وسلم على عبده، ورسوله محمد-.