الجمعة 29 ربيع الآخر 1446 . 1 نوفمبر 2024

الحلقة (416) - سورة المؤمنون 92-110

الحمد لله رب العالمين، والصلاة، والسلام على عبده، ورسوله الأمين, سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله، وأصحابه، ومن اهتدى بهداه، وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد؛ فيقول الله -تبارك وتعالى-: {قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ}[المؤمنون:93], {رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}[المؤمنون:94], {وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ}[المؤمنون:95], {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ}[المؤمنون:96], {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ}[المؤمنون:97], {وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ}[المؤمنون:98], {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ}[المؤمنون:99], {لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}[المؤمنون:100], {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ}[المؤمنون:101], {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[المؤمنون:102], {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ}[المؤمنون:103], {تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ}[المؤمنون:104], من قول الله -تبارك وتعالى-: {قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ}[المؤمنون:93] إلى آخر هذه السورة سورة المؤمنون، شرع الله -تبارك وتعالى- ليبين المآل، والحال التى سيكون عليها هؤلاء المكذبون، المعاندون، المتمسكون بشركهم فى مقابل هذه دعوة الله -تبارك وتعالى- إلى أن يعبدوه وحده لا شريك له هذه هى الحق الذى لا حق وراؤه، قال -جل وعلا- موجهًا حديثه إلى رسوله -صلى الله عليه وسلم- {قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ}[المؤمنون:93]{رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}[المؤمنون:94]: وهذا أشد التخويف لهؤلاء الكفار لو كانوا يعلمون قُلْ ادعوا الله -تبارك وتعالى- يا محمد رَبِّ: أي يا ربى, إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ: أي إن أريتنى ما يوعدونه من العذاب {رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}[المؤمنون:94]: أي النبى نفسه يدعو الله -تبارك وتعالى- ألا يجعله مع هؤلاء لأن هؤلاء يتوعدهم الله -تبارك وتعالى- بعذاب شديد فى الدنيا، والآخرة {رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}[المؤمنون:94] عندما تأخذ هؤلاء بالعذاب نجنى أنا، والمؤمنين، وباعد بيننا، وبين هؤلاء الكفار, أى عندما تنزل بأسك، وعذابك بهؤلاء، والله -تبارك وتعالى- سماهم القوم الظالمين؛ لأن الظلم هو وضع الأمر فى غير محله فى لغة العرب، وهؤلاء وضعوا العبادة التى هى أشرف أعمال الإنسان فى غير محلها عبدوا ما لا ينفعهم، ولا يضرهم، وتركوا الإله المستحق للعبادة وحده -سبحانه وتعالى- {........إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}[لقمان:13]: أعظم ظلم أن يتخذ الإنسان له إلهًا غير الله -سبحانه وتعالى- لأنه اتخذ ما ليس بإله؛ فجعله إلهًا، وترك الإله الواحد الذى لا إله إلا هو -سبحانه وتعالى-.

ثم قال الله لرسوله: {وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ}[المؤمنون:95]: يؤكد الرب -تبارك وتعالى- أنه قادر أن يرى النبى ما يعده الله -تبارك وتعالى- لهؤلاء الكفار من العذاب، والنكال؛ فإن الله قادر على هذا، قادر على أن يأتيهم بالعذاب من حيث لا يحتسبون بالصورة التى لا يقدرون، ولا يتوقعون, ولكن قال الله -تبارك وتعالى- لرسوله: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ}[المؤمنون:96]: وهنا وجه الله -تبارك وتعالى- رسوله -صلى الله وسلم- إلى أن يعامل هؤلاء بالإحسان، وألا يقابل إسائتهم بإساءة؛ فسبهم له، وتكذيبهم، وأذاهم له أن يقابل هذا بالصفح، وبالمغفرة، وبالحسنة فلا يبادلهم سباً بسب، وإنما يعرض عنهم -سبحانه وتعالى- ولا يؤذيهم بشيء إنما يقابلهم بالحسنة, والتى هى التى هى أحسن من السيئة ادفع السيئة بما هو أحسن منها لا تدفعها بالسيئة؛ فلا تدفع السيئة بسيئة مثلها، وإنما بصفح، ومغفرة، ودعوة لهؤلاء أو بإعراض عنهم, وعدم مجازاتهم على هذا كما قال تبارك وتعالى {........وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا}[الفرقان:63]: أي لا ينالكم منا إلا السلام فهذه دعوة من الله -تبارك وتعالى- لرسوله وبالطبع هذا الخطاب للرسول هو خطاب للمؤمنين جميعًا بأن يعاملوا الكفار فى هذا الوقت، وهم بمكة ألا يردوا على إسائتهم، وأن يقابلوا بالإحسان, وهذا تطييب لخاطر النبى -صلى الله عليه وسلم- وبيان أن كل الذى يفعلونه إنما هو يقع بعلم الله -تبارك وتعالى- وبالتالى اذا كان يقع بعلم الله، والله يعلمه -سبحانه وتعالى- اذًا فالرب -تبارك وتعالى- هو الذى يتولى عقوبتهم وقت ما يشاء -سبحانه وتعالى- وحيثما يشاء، وكيفما يشاء، وأما أنت فاتخذ سبيل الإحسان معهم نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ: بكل ما يصفونه نحن أعلم به من سبهم لله -تبارك وتعالى- وشتمهم له، واتخاذهم آلهة غيره، وتمسكهم بالباطل الذى هم عليه، قالوا: {وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ}[ص:6] فهذا تمسكهم بهذا الباطل، ونبذهم للحق، واشمئزازهم من توحيد الله -تبارك وتعالى- وعبادته وحده لا شريك له الله -تبارك وتعالى- يقول نحن أعلم به كل هذا وصفهم للباطل، وشتمهم لله -تبارك وتعالى- على هذا النحو كله يعلمه الله.

{وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ}[المؤمنون:97]: ادع الله -تبارك وتعالى- وَقُلْ رَبِّ: أي يا ربى أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ, أعوذ: ألتجئ, العياذ هو الإلتجاء, أي ألتجئُ بك، وأحتمى بك يا رب, مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ: وهمز الشيطان، ونفثه، ونفخه، ووسواسه هذا ما يلقيه فى قلوب العباد، والشيطان لا يلقى فى قلول العباد إلا ما فيه ضرر، وشر لهم؛ فهو إما تثبيط عن الخير، وإما دفع إلى الشر، وإما تيئيس من الرحمة هذه همزات الشياطين؛ فهمزه هو ما يلقيه، هو تحريكه إلى قلب الإنسان بما يلقيه فيه من هذه الوساويس، وهذا الشر الذى يلقيه الشيطان أبو الشر، هذا صانع الشر، والموحى به، والباث له, {وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ}[المؤمنون:98]: ألتجئ بك, رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ: أن يحضرون الشيطان، لأن حضور الشيطان فى موقف من المواقف لا شك أنه، ووسواسه سيحرف الإنسان عن طريق الحق، وخاصة فى هذا الموقف الذى ممكن أن يحرك الشيطان قلب العبد المؤمن إلى أن ينتقم إلى نفسه، أن يفعل ما يفعل بالكافر، أو أن يلقى فى قلب المؤمن ما يلقيه من علو الكفار، وظهورهم، وقولهم على الله –تبارك وتعالى- بغير علم، وبغير حق، ولأن أن الله لم ينتصر لهم فقد يلقى الشيطان ما يلقى؛ فيجب على المؤمن كأن الله -تبارك وتعالى- يوجه عباده المؤمنين أن يلجأوا إلى الله -تبارك وتعالى- ويعتصموا به فى ظل هذا الجو الخانق جو علو الكفار، وافترائهم، وكذبهم على الله -تبارك وتعالى- وأذاهم للمؤمنين فقد كانت هذه السورة مكية نزل هذا، والمسلمون فى حصار شديد، وفى ضيق شديد وفي تعذيب، والكفار مستعلين بكفرهم، وعنادهم، وبالتالى المؤمن كان مطلوب منه فى هذا الوقت أن يصبر على الحق، وأن يدعو إلى الله -تبارك وتعالى- وألا يقابل الكفار بشتم، وأن لا يقابل آذاهم بأذى، وأن يصبر على آذاهم، وهذا يحتاج إلى صبر عظيم، وتمكين عظيم من الله -تبارك وتعالى- لذلك أمر الله -تبارك وتعالى- رسوله، والمؤمنين أن يلجأوا إلى الله -تبارك وتعالى-.

 ثم بين الله -تبارك وتعالى- عاقبة هؤلاء هؤلاء المكذبين المعاندين كيف ستكون عاقبتهم، قال -جل وعلا-: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ}[المؤمنون:99]: هؤلاء يسيرون فى هذا الطريق الباطل الذى ساروا فيه من الكفر، والشرك، والعناد، وأذى المؤمنين إلى أنه إذا جاء الموت أحدهم، وبدأت روحه تقبض قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ: عند ذلك يكون النقلة، والتحول، نائم استيقظ، أعمى انفتحت عينه، ضال عن الهداية ظهر له نتيجة الفعل قَالَ: بمجرد {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ}[المؤمنون:99]: فى نفس الوقت رَبِّ ارْجِعُونِ: ارجعونى, خاطب الله -تبارك وتعالى- بصيغة الجمع تعظيمًا للرب -تبارك وتعالى- رب أرجعونى مرة ثانية إلى الدنيا, لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ: لعلى للترجى, الآن هذا تروا من الباطل الذى عمله، وأن يشرع من جديد ليعمل صالحًا نسى كل هذا الباطل الذى سار فيه، والكفر الذى فيه، وأراد أن يرجع إلى الدنيا ليبدأ حياة، ويستأنف حياة من جديد, فيأتى الرد: {كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}[المؤمنون:100]: أي هذه الكلمة {رَبِّ ارْجِعُونِ}, {لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ}, كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا: أي سيقول هذا الكافر، والحال أنها كلمة لن تستجاب وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ: البرزخ هو الحاجز، وهم فى هذا الفترة بعد الموت، وقبل البعث فى هذا البرزخ، وهذه يسميها بعض أهل العلم القيامة الصغرى يقوم قيامة صغرى لله -تبارك وتعالى- لأنه تظهر له حقائق الغيب, ثم بعد ذلك يكون فيه الكافر فى عذاب قبل العذاب؛ ثم القيامة الكبرى هو فى يوم القيامة عند النفخة الثانية فى الصور، وتقوم هذه القيامة الكبرى حيث يلقى جزاؤه؛ فهذا البرزخ الذي هو هذا الوقت الحاجز ما بين حياته الدنيا، وما بين يوم القيامة، القيامة الثانية، القيامة الكبرى كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا الكافر قائلها {وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}[المؤمنون:100].

 وهو فى هذه القيامة الصغرى يَوْمِ يُبْعَثُونَ هنا {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ}[المؤمنون:101]: والله -تبارك وتعالى- نفى الأنساب؛ لأنها هى أعظم ما يلجأ إليه العرب ذوى العصبية عند الخطر؛ فعند الخطر مباشرة يلجأون إلى الأهل، والقبيلة هى التى تحميهم من الخطر؛ فهذا الملجأ، والحصن الذى كانوا يتحصنون به هذا منتهى فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ بل وَلا يَتَسَاءَلُونَ ما فى صديق، وحميم عنده رغبة فى أن يسأل صديقه شيء لأنه {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ}[عبس:34]{وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ}[عبس:35], {وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ}[المعارج:13], {وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ}[المعارج:14] فكل إنسان فى هذا الوقت له يومئذ شأن يغنيه، والله -تبارك وتعالى- يقول يُبَصَّرُونَهُمْ يرون هذه يرى ويبصر هذا أباه، هذا أبوه، وهذا أخوه، وهذا عمه، وهذا قريبه لكن لا شأن لأحد بالأخر بل كل إنسان يفر من الأخر فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ يعتصمون إليها، ويلجأون إليها ليحتمون من الخطر، ويتمالئون على أن يدفعوا عن أنفسهم العذاب، أو ينصروا بعضهم بعضًا هذا كله انتهى وَلا يَتَسَاءَلُونَ: من الكرب، والهم، والغم الذى يحل بهم فإنه كما قال -تبارك وتعالى- {وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا}[المعارج:10] صديق حميم كان فى الدنيا يحمو لصديق، ويغضب له هذا الصديق الحميم يوم القيامة ما يسأل أحد, الثانى {يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ}[المعارج:11], {وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ}[المعارج:12], {وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ}[المعارج:13], {وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ}[المعارج:14]: أي لو كان يملك هؤلاء أعز ما عنده لكن مستعد أن يقدمهم فدية له لينجو هو يقدم بنيه، يقدم زوجته، يقدم كل عشيرته، يقدم كل من فى الأرض لو يملكهم حتى ينجو هو من العذاب لكن {كَلَّا إِنَّهَا لَظَى}[المعارج:15]: أي إن الذى ينتظر هؤلاء هذا الجحيم، قال -جل وعلا-: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ}[المؤمنون:101]: هذا اليوم تتقطع الأنساب ولا يبقى نسب, لا يبقى أب يبحث عن ابنه، ولا ابن يبحث عن أبيه، ولا أخ يبحث عن أخيه، أو ينقذه، أو ينفعه بشيء {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ}[لقمان:33]: فما فى أحد يجزى عن أحد، وقال -جل وعلا- للمؤمنين: {لَنْ تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}[الممتحنة:3]: فالنسب يتقطع يوم القيامة, {الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ}[الزخرف:67] ليس فقط إنه ما يسئل عنه، بل عدو يفر منه إِلَّا الْمُتَّقِينَ: فهؤلاء الذين تبقى مودتهم، وأخوتهم فى الله -تبارك وتعالى-: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ}[المؤمنون:101] وإنما النتيجة.

 قال -جل وعلا- {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[المؤمنون:102]{وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ}[المؤمنون:103] فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ ثقلت موازينه حسناته، كانت حسناته ثقيلة فى الميزان ثَقُلَتْ وخفت سيئاته فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ أولئك ديت اذاً الأمر نسبك عملك، نسب الإنسان، وديت إنما هو عمله، منجيه عمله فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ كانت له أعمال صالحة ثقيلة فى الميزان، وخف من سيئاته، قال -جل وعلا- فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ: أولئك بالإشارة إليهم بالبعيد تعظيمًا هُمُ الْمُفْلِحُونَ: بالجملة الإسمية المفلجون حقًا، والمفلح هو من أدرك الفلاح، والفلاح هو النجح، والوصول إلى المطلوب الأكبر الفوز المبين؛ فهذا الذى قد أفلح، أفلح لأنه فى جنة الله، وإلى رضوانه -سبحانه وتعالى- استقر، ذهب إلى المستقر الآمن، وألقى عصى التسيار، وانتهى إلى القرار العظيم، دار القرار الجنة التى تقر فيها الأعين، وقد جمع الله -تبارك وتعالى- فيها كل ألوان المحبة، والسرور، والحبور لأهلها؛ فهذا المفلح فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ}[المؤمنون:103]: كانت أعماله الصالحة قليلة، أو لم يكن له عمل صالح، وثقلت سيئاته، قال -جل وعلا- فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ: فأولئك كذلك بالإشارة بالبعيد تحقيرًا، وتصغيرًا لهم الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ: الخسارة ضد الكسب، وممكن تكون الخسارة لشيء مما يملكه الإنسان يخسر الإنسان ماله، ولده، أهله، بيته، ولكن الخسارة فى الآخرة خسارة للنفس يخسر الإنسان نفسه التى بين جنبيه، وذلك أنه أوردها النار، وخسرها وخسر نفسه، وذلك أنه سيكون فى عذاب مستمر، وبالتالى نفسه لم تنجو ما نجى منه شيء لا يده، ولا رجله، ولا عينه، ولا رأسه ما سلم منه شيء، وإنما كل عضو من أعضائه سيصلى النار، فالنار تصلاه، وتغشاه من جميع لا يسلم منه شيء؛ فقد أورد نفسه النار عياذًا بالله إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ هذا الخسران المبين فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ: أى كيف صورة الخسران، قال -جل وعلا-: فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ خسروها بأن أوصلوها إلى جهنم، وأصبحوا فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ: جهنم هذه البئر العميقة التى ستسع كل هؤلاء {فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ}[الشعراء:94], {وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ}[الشعراء:95] والتى يكون لكل كافر فيها مقعده كما بين مكة، والمدينة هذا مقعد الكافر، الجزء الذى يكون للكافر فقط هذا، وضرسه كجبل أحد، وما بين منكبيه مسيرة ثلاثة أيام، وسمك جلده مسيرة ثلاثة أيام؛ فهذا الكافر العظيم الذى هو عبارة عن كمجموعة عظيمة من جبال الأرض هذا واحد، ومع ذلك كلهم يكبكبوا فيها ولا يلقى فيها، كلما ألقى، ألقى الله -تبارك وتعالى- فيها من هؤلاء الكفار, {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ}[ق:30]: إذا كان تطلب المزيد على هذا، كما يقول النبى -صلى الله عليه وسلم- وأما النار فإنه لا يزال يلقى فيها وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ: حتى يضع رب العزة قدمه فيها، فيتداخل بعضها فى بعض، وتقول قط، قط، أو قطنى، قط؛ فهؤلاء فى جهنم، الله يقول: فِي جَهَنَّمَ جعلها جهنم ظرف لهم فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ: أي باقون بقاءًا لا انقطاع له هذا بقاءًا مستمر تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ: أي أن هذا حالهم فى جهنم، كل جنباتها نار أرضها، وغطاؤها، وجدرانها، ومع ذلك النار كذلك تشتعل، وتلفح وجوههم، واللفح هو المرور، والضرب عليهم أن النار تأتى، وتضرب وجوههم بلهبها عياذًا بالله {تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ}[المؤمنون:104]: الكالح الذى قد قبح منظره، وكلح وجهه فإن شفته تعود، السفلى تعود تسفل، وشفته العليا تبتعد إلى الأعلى، وتدمى عينيه بما يخرج منها، والنار تأكل الجلد؛ فيتآكل، وفروة الرأس تنزع، كما قال -تبارك وتعالى-: {كَلَّا إِنَّهَا لَظَى}[المعارج:15], {نَزَّاعَةً لِلشَّوَى}[المعارج:16]: تنزع الشوى فيكون وجهه كالح بما تسفعه، وتلفحه النار على هذا النحو عياذًا بالله، ويجب أن يتخيل المخاطب بهذا الحديث كلام الرب -تبارك وتعالى- ويتصور هذا، ويتذكر هذا الأمر؛ فإن الله -تبارك وتعالى- يصف الأمر على هذا يبقى من عمل المؤمن أن يتخيل كيف سيكون الوضع، ويتذكر هذه الذكرى {تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ}[المؤمنون:104].

 ثم يأتى بعد ذلك ما هو مكمل لهذا العذاب، عذاب معنوى مع هذا العذاب الحسى عياذًا بالله {أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ}[المؤمنون:105] هنا التبكيت يأتيهم هذا التبكيت، والتأنيب، وهم فى هذا الحال العصيب من الرب -تبارك وتعالى- {أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ}[المؤمنون:105]: سؤال يراد به تبكيتهم، وتقريعهم، وهم فى هذا العذاب أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي: آيات الله -تبارك وتعالى- المتلوة تُتْلَى عَلَيْكُمْ: تقرؤ عليكم، يقرؤها عليكم النبى، يقرؤها عليكم المؤمنون فَكُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ: كنتم بهذه الآيات تكذبون، وهى آيات الرب -سبحانه وتعالى- تكذبونها تقولون ليست آيات الله، ليس بصدق، وتردونه, قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا  يبدأوا يجيبوا الرب -تبارك وتعالى- قَالُوا رَبَّنَا: يا ربنا {غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ}[المؤمنون:106]: هذا اعتراف منهم الآن بما كانوا عليه فى الدنيا حقيقة رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا: أي الشقوة، وهو أن الله -تبارك وتعالى- قد كتبهم من الأشقياء غلب عليهم هذا، سبق عليهم الكتاب، والشقوة التى سبقت فى علم الله -تبارك وتعالى- عليهم غلبت علينا، وهى التى ما سبق فى علم الله -تبارك وتعالى- لا بد أن يكون كنا أشقياء، وشقوتنا هذه كان الأمر لا بد أن يكون على هذا النحو {غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ}[المؤمنون:106] وَكُنَّا أى فى الدنيا قَوْمًا ضَالِّينَ: ضالين عن الحق؛ فاعترفوا بذنبهم بأنهم كانوا ضالين، وأن شقوتهم قد غلبت عليهم، وأصبحت لازمة لهم, {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ}[المؤمنون:107], رَبَّنَا: يقولون يا ربنا أَخْرِجْنَا مِنْهَا: أخرجنا من هذه النار الآن, فَإِنْ عُدْنَا: مرة ثانية أخرجنا، وأرجعنا إلى الدنيا مرة ثانية، واختبرنا مرة ثانية, فَإِنْ عُدْنَا: أى إلى الكفر، والشرك الذى كنا فيه عند ذلك فَإِنَّا ظَالِمُونَ: نكون ظالمين بهذا، وبالتالى نستحق عقوبتك بعد ذلك {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ}[المؤمنون:107]: يأتيهم خطاب الرب -تبارك وتعالى- والجواب على هذا الترجى لهم {قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ}[المؤمنون:108] قَالَ أى الرب الإله -سبحانه وتعالى- اخْسَئُوا ذلوا، الخاسئ هو الذليل الحقير، ذلوا فيها {قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ}[المؤمنون:108]: لا تكلمونى {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ}[المؤمنون:109],{فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ}[المؤمنون:110]: فيذكرهم الله -تبارك وتعالى- بإجرامهم فى الدنيا، وأنهم كان أهل الإيمان سخرية لهم, إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي: فريق جماعة من عبادى يقولون رَبَّنَا آمَنَّا  فقط هذا إعلانهم أنهم مؤمنون بالله -تبارك وتعالى- وهذا حق {........فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ}[المؤمنون:109]{فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا........}[المؤمنون:110]: أى استهزئتم بهم {........حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ}[المؤمنون:110] هذه الآيات إن شاء الله سنعود إليها مرة ثانية فى الحلقة الآتية.

أصلى، وأسلم على عبدالله ورسوله محمد، والحمد لله رب العالمين.