الحمد لله رب العالمين، والصلاة، والسلام على عبده، ورسوله الأمين, سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله، وأصحابه، ومن اهتدى بهداه، وعمل بسنته إلى يوم الدين.
وبعد؛ فيقول الله -تبارك وتعالى- بسم الله الرحمن الرحيم {سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}[النور:1], {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}[النور:2], {الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ}[النور:3], {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}[النور:4], {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[النور:5], {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ}[النور:6], {وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ}[النور:7], {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ}[النور:8], {وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ}[النور:9], {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ}[النور:10], هذه الآيات هى مطلع سورة النور، وهذه السورة هى سورة مدنية بتمامها، وقد نزلت إثر حادث الإفك، وهو رمى أم المؤمنين عائشة -رضى الله تعالى عنها-، وشرفها الله، وبرأها الله، نزلت ببراءتها من السماء، وأنزل الله -تبارك وتعالى- مع هذه البراءة مجموعة عظيمة من الأحكام الخاصة بجريمة الزنا فعلًا، ورمياً للمحصنات، ورمى من الزوج لزوجه، أنزل الله -تبارك وتعالى- حكم الملاعنة، وأنزل الله -تبارك وتعالى- بعد ذلك مجموعة من الآداب، والأحكام التى تحافظ على المجتمع المسلم، وتحميه من آفة هذه الجريمة جريمة الزنا الإستئذان من داخل البيوت، والإستئذان من خارج البيوت ليدخلها، وحكم القواعد من النساء اللاتى لا يرجون نكاحًا فى تخفيف الحجاب عنهن، والحجاب الواجب بالنسبة للمؤمنين، والمؤمنات، والأمر بغض البصر، ومن يحل للمؤمنة أن تبدى زينتها عندهم, ثم كذلك الأحكام الخاصة بمكانة النبى -صلوات الله والسلام عليه- وحكم من آذاه {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[النور:63], بدأ الله -تبارك وتعالى- هذه السورة المدنية مباشرة بالحكم، وبصيغة الأمر اللازم، وما يحتف يهذا الأمر بوجوب أخذه بجد، والعمل به؛ فهذا الاستفتاح بالحكم مباشرة دون تمهيد لذلك كما فى السور المكية، وفى بعض السور المدنية كذلك من أن يأتى مقدمة للسورة, ثم يأتى موضوع, ثم يأتى تفصيلات هذا الموضوع, ثم خاتمة تختم الموضوع فى وحدة موضوعية كاملة للسورة سورة البقرة مثلاً التى بدأها الله -تبارك وتعالى- بالحوف المقطعة {الم}[البقرة:1], ثم أشاد بهذا الكتاب، وقال: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ}[البقرة:2], ثم بين مواقف الناس تجاه هذا الكتاب وهم المتقون، الكافرون، المنافقون, ثم أمر للناس بأن يعبدوا الله -تبارك وتعالى-, ثم تفصيل بعد ذلك إقامة الدليل على أن هذا محمد بن عبد الله، وهذا رسول الله حقًا، وصدقًا {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ.........}[البقرة:23] تفصيل بعد قصة الإنسان، تفصيل أحكام الله -تبارك وتعالى- ودعوة اليهود، والنصارى الى الدخول فى هذا الدين، وفضائح اليهود فى هذا، وتشريع الله -تبارك وتعالى- ما شرعه الله -تبارك وتعالى- لعباده من التشريعات, ثم ختام للسورة، وقد بينا هذا فى سورة البقرة كوحدة موضوعية لهذه السورة، وكذلك سورة آل عمران فى بعض السور يبدأها الله -تبارك وتعالى- بالحكم، بالدخول فى الأحكام، وهذا يبين أهمية الأمر، وأن هذا هو الموضوع, فهذه السورة يبدؤها الله -تبارك وتعالى- هكذا {سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}[النور:1],{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ}: فيكون تمهيد للجكم فقط بأنه الله -تبارك وتعالى- أنزل هذه السورة, ويشبه هذا فى سورة المائدة فى قول الله -تبارك وتعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ}[المائدة:1], ثم يأتى بعد ذلك تفصيل هذه الأحكام، وكذلك سورة الأحزاب التى بدأت بداية على هذا النحو {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا}[الأحزاب:1], {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا}[الأحزاب:2], ثم يأتى بعد ذلك تفصيل الأحكام التى أنزلها الله -تبارك وتعالى- فى هذه السورة.
بداية سورة النور على هذه البداية، وهو أولًا مقدمة توضح أن الله -تبارك وتعالى- هو الذى أنزل هذه السورة، وهو الذى فرض أحكامها، قال -جل وعلا-: سُورَةٌ: أي هذه سورة، هذا خبر لمبتدأ محذوف، تقديره هذه سورة, والسورة: هي موضوع من موضوعات القرآن له بداية وله خاتمة تشتمل على مجموعة من الآيات، قيل سميت سُورَةٌ من أنها كأنها شيء له سور، وكأنه شيء محدد، أو من السورة وهي القوة, ثم قال -جل وعلا-: أَنزَلْنَاهَا: فنسب الإنزال إليه -سبحانه وتعالى-, وهذا فيه ترهيب وموعظة أن الله -تبارك وتعالى- هو الذى أنزل هذه السورة، وفيها تذكير للمؤمنين بأن يذكروا بأن هذا كلام الله -تبارك وتعالى-, وأن الأحكام التى نزلت فى هذه السورة هى منه -سبحانه وتعالى- وأن هذه أوامره، وهذه نواهيه, أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا: وبين أن هذا الإنزال إنما هو ليس لإختيار، وأنها ليس عملاً مستحباً، وإنما هو فرض, وَفَرَضْنَاهَا والفرض هو الإلزام، والوجوب, ثم قال -جل وعلا-: {وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}[النور:1] وَأَنزَلْنَا فى هذه السورة, آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ: واضحات، توضح الأمر، وآيات بينات كذلك فى كل المواضيع التى نزلت فى هذه السورة فيها دلائل على أن هذه الأحكام العظيمة من الرب الإله -سبحانه وتعالى- فحكمة الرب فى إنزال هذا، وإحاكمه فى إنزال الحكم المناسب، والحكيم النازل فى مكانه تمامًا، وكذلك الإرشادات العظيمة التى أرشد الله -تبارك وتعالى- عباده إليها فى هذه السورة، والأدلة كذلك التى أقامها الله -تبارك وتعالى- في هذه السورة على أنه الرب الإله، وعلى وحدانيته، وعلى حكمته، وعظمته -سبحانه وتعالى-, قال -جل وعلا-: لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ: لعلكم تذكرون بإنزال هذه الآيات تتذكرون ربكم -سبحانه وتعالى- وإنعامه عليكم فى إنزال هذه الأحكام، وإرشادكم إلى ما يرشدكم إليه -سبحانه وتعالى- من أجل حفظكم، وصونكم، وطهارتكم، وخاصة هذه سورة النور التى من أقام دين الله -تبارك وتعالى- نوَّر الله قلبه {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ........}[النور:35], وسيأتى معنى النور فى هذه السورة؛ ثم قال -جل وعلا-: بعد هذه المقدمة التى تقرع القلوب، والنفوس، وأن هذه السورة منزلة من الله -تبارك وتعالى- وأن الله فرض أحكامها، وهو الذى أنزلها -جل وعلا- قال -جل وعلا- {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}[النور:2] الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي بالألف، واللام التي هى تستغرق كل الأنواع، وقد جاء فى السنة، وفى الكتاب كذلك القرآن الذي نسخت تلاوته وبقى حكمه أن حكم الزانى المحصن وهو الذى سبق له زواج صحيح نكاح صحيح يختلف عن حكم الزانى البكر، وأن هذه الآيات إنما هى تختص بالزانى البكر، وقد بين النبى هذا -صلوات الله والسلام عليه- فإنه لما نزلت هذه الآيات بعد آيات سورة النساء، قال النبى -صلى الله وسلم-: «خذوا عنى خذو عنى قد جعل الله لهن سبيلاً البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب بالثيب جلد مائة والرجم» حديث عبادة ابن الصامت فى الصحيحين، وكان الحكم قبل ذلك هو ما أنزله الله -تبارك وتعالى- فى قوله: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا}[النساء:15], فكان حكم الزانية قبل ذلك التى تقام عليها البينة بأربع شهود وهي أن تحبس فى البيت، قال -جل وعلا-: {حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا}[النساء:15]: وهنا أنزل الله -تبارك وتعالى- السبيل، وهو بإقامة الحد؛ فلذلك لما نزلت هذه السورة، قال النبى -صلى الله عليه وسلم-: خذوا عنى خذوا عنى: أي خذوا عنى الأمر، تفصيل هذا الأمر قد جعل الله لَهُنَّ سَبِيلًا البكر بالبكر اذا زنى بكر، والبكر هو الذى لم يسبق له زواج ببكر امرأة كذلك لم تسبق لها زواج؛ فجلد مائة، وتغريب عام يجلد مائة، ويغرب عن مكانه، وعن بلدته التى وقع منه فيها هذه الفاحشة عام، ثم يسمح له بعد ذلك بالعودة إلى هذه البلدة، والثيب بالثيب، والثيب: هو الذى سبق له زواج بنكاح صحيح جلد مائة، والرجم، الرجم ثابت قى هذا الحديث، وكذلك ثابت للثيب بفعل النبى -صلوات الله والسلام عليه-, فإن النبى رجم، رجم ماعز الأسلمى، ورجم الغامدية، ورجم الخلفاء بعده، وكذلك ثابت بقرآن كان يقرأ، نسخت تلاوته، وهو قوله -تبارك وتعالى- الشيخ والشيخة اذا زنيا فارجموهما البتة نكالًا من الله والله عزيز حكيم، خطب عمر بن الخطاب -رضى الله تعالى عنه- فى خلافته، وقال للناس: إن الرجم فريضة من فرائض الله -تبارك وتعالى- أنزل الله -تبارك وتعالى- فيها قرآنًا قرأناه الشيخ والشيخة اذا زنيا فارجموهما البتة نكالًا من الله والله عزيز حكيم، قال فرجم رسول الله، ورجمنا بعده أى الخلفاء رجموا بعده رجم أبوبكر، ورجم عمر -رضى الله تعالى عنهما-، وقال أخشى أنه إذا طال بالناس الزمان أن يقولوا لا نجد الرجم فى كتاب الله، والقرآن المجموع هذا يقول ما نجد الرجم فى كتاب الله, ثم قال عمر: والرجم حق على من زنى اذا أحصن، اذا كان محصن؛ فهذا حق عليه اذا قامت البينة، أو الحبل، أو الاعتراف, أي إذا قامت عليه البينة، والبينة هى شهادة أربعة، أو الحبل بالنسبة للمرآة اذا حملت، وهى غير ذات زوج، وتكون هى أيضًا ثيب، أو الاعتراف اذا اعترف الشخص كما اعترف ماعز؛ فرجمه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-, فالرجم حق بقرآن نسخت تلاوته، ولكن بقى حكمه، وكذلك بنص كلام النبى -صلوات الله والسلام عليه- وكذلك بفعل النبى -صلوات الله والسلام عليه- ثم فعل الخلفاء الراشدين المهديين، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: «عليكم بسنتى وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدى عضوا عليها بالنواجز» فهذا من سنته بل هو ثابت بالكتاب، وثابت بالسنة، وثابت كذلك بفعل الخلفاء الراشدين المهديين.
أما البكر فحكمه أن يُجلد مائة، والآية جاءت بالجلد مائة، والسنة جاءت بتغريب عام، ولا منافاة بين هذا، وهذا؛ فإن هذه الزيادة من النبى -صلى الله عليه وسلم- تفصيل, الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ: الجلد هو الضرب بعصا متوسطة تؤذى الجلد، ولا تقطعه، ولا تكسر العظم، ولا تقطع اللحم؛ فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: أي الرجل، والمرأة, مِائَةَ جَلْدَةٍ: مائة عصا بهذه الصفة, ثم قال -جل وعلا-: وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ: لا تأخكم بالزانين رأفة, الرأفة هى الرحمة، والإشفاق عليهما، وأن يكون هذا الإشفاق داعى عند الناس لترك حكم الله -تبارك وتعالى- بالجلد، قال -جل وعلا-: إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ: إن هذا حكم الله، واذا كنتم مؤمنين بالله، واليوم الآخر؛ فإياكم أن تأخذكم بهما رأفة؛ لأن هذه عقوبة إلهية من الله -تبارك وتعالى- يعاقب بها من فعل هذا الفعل، والمسلمون مؤتمنون، ومأمورون بتنفيذ حكم الله -تبارك وتعالى- قال: وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ: دينه هذا شرعه، وحكمه الذى أنزله، هذا دين الله -تبارك وتعالى- إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ: أي فافعلوا هذا، ولا تأخذكم هذه الرأفة لهذين الذين فعلا هذا الفعل الشنيع, ثم قال -جل وعلا-: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}: الشهود: الحضور، والرؤية, طَائِفَةٌ: مجموعة من المؤمنين لا بد أن تحضر تنفيذ هذا الحد، وهذا فيه حكم عظيمة, أولًا: أن الحدود زواجر تزجر من يقع عليه الحد؛ فتردعه أن يعود لهذا الأمر، وكذلك تزجر من يشاهده؛ فإنه إذا شاهده المؤمنين إرتدعوا أن يقع منهم مثل ما وقع من هذا المحدود؛ فيصيبه من الحد ما يصيبه؛ فيمتنع الذى يرى هذا, كذلك لما يكون هناك فيه مشاهدة يصير فيه تنفيذ للأمر على صورته الصحيحة؛ لأن هذه من نوع المراقبة لهذا الأمر فلا يكون فى هذا التنفيذ فيه تهاون، أو فيه تجاوز للحد ربما يتجاوز الحد بعد ذلك، أو ينفذ على هذا دون هذا؛ فإذا كان المؤمنون يشاهدون هذا الأمر؛ فإن هذا فيه ضمانة لأن هذا الحكم الشرعى سينفذ على الطريقة الصحيحة.
ثم قال -جل وعلا-: {الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ}[النور:3]: الوجه الصحيح فى تفسير هذه الآية لا يَنكِحُ أي لا يتزوج، والنكاح لم يأتى فى القرآن كله إلا بمعنى الزواج، وليس معنى على ما فسره بعض أهل العلم أي لا يوافقه على هذه الزنا إلا زانية مثله لا ترى بهذا بأسًا، أو مشركة لأن المشركة ليس عندها ما يردعها؛ فدينها ليس فيه ما يحرم هذا؛ فتوافقه على هذا الأمر القرآن كله ليس فيه الزنا بمعنى النكاح بمعنى الجماع، والمباشرة، وإنما كل ألفاظ النكاح فى القرآن إنما تأتى بمعنى الزواج كقول الله -تبارك وتعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا........}[الأحزاب:49] فقال -جل وعلا- إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ نكحتموهن: تزوجتموهن هذا هنا منصرف إلى العقد ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا وكذلك قول الله -تبارك وتعالى-: وَلا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وقال {وَلا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ........}[البقرة:221], فتنكحوا، وتنكحوا هنا إنما هو منصرف إلى التزويج، وليس إلى المباشرة؛ فقول الله -تبارك وتعالى-: الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً: أي لا يتزوج إلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ: أي لا يتزوجها، وهى على هذه الحالة لم تتب إلا من كان مثلها زَانٍ مثلها أَوْ مُشْرِكٌ {وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ}[النور:3], وسبب نزول هذه الآية هو أيضًا نص فى هذا المعنى؛ فإنه كان من سبب نزول هذه الآية أن بن أبى مرثد الغنوى -رضى الله تعالى عنه- الصحابى الجليل، وكان النبى يرسله من المدينة إلى مكة؛ ليستنقذ ضعفاء المؤمنين الذين يعذبهم الكفار؛ فكان يذهب، ويتسلل إليهم، ويخرجهم من محابسهم، وسجونهم, ثم يحملهم، ويأتى بهم إلى المدينة، وفى ليلة من الليالى، وهو فى مكة يسير بين أزقتها فى الليل طبعًا متلصصًا حتى يصل إلى الأماكن التى يسجن فيها ي ضعفة المؤمنين إذا به تراه إمرأة بغى من بغايا مكة كان يعرفها فى الجاهلية تسمى عناق؛ فعرفته؛ فقالت له: مرثد ثم دعته قالت له: إذهب فبت عندنا الليلة؛ فقال لها: إن الإسلام قد حال بينى، وبين ذلك، قال لها: هذا كان فى الجاهلية أما الآن أنا رجل مسلم، والإسلام حال بينى، وبين ذلك؛ فقالت له: لتذهبن أو لأخبرن عنك القوم فهرب منها؛ فصرخت فى الناس، وقالت: يا أهل مكة انظروا هذا الذى يأخذ أسراكم، ويحملها؛ فخرج الناس من بيوتهم، وبدأوا يبحثون عن مرثد -رضى الله تعالى عنه-، واستطاع أن يدخل إلى خربة من الخرائب؛ فتخفى فيها حتى ذهب عنه الطلب؛ ثم رجع سليمًا الى المدينة؛ فلما رجع الى المدينة عرض الأمر على النبي؛ فقال له: يا رسول الله أنكح عناقًا, استشار النبى هل يتزوج عناق هذه التى كانت صديقة له فى الجاهلية؛ فسكت النبى -صلى الله عليه وسلم- فأنزل الله -تبارك وتعالى- هذه الآية: {الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ}, وقال له يا مرثد الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ فافعل، أو ذر, قال له هذا حكم الله -تبارك وتعالى- فافعل، أو ذر، وقول النبى فافعل أو ذر ليس للتخيير، وإنما هذا بيان الأمر، وأن هذا مؤمن لا يمكن أن يقدم على هذا الفعل؛ فانصرف عن هذا؛ فهذا سبب النزول لهذه الآية نص فى أن المعنى الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً: أي لا يتزوج، وأن هذا منصرف إلى الزواج، وعقد النكاح إلى المباشرة, هذا طبعًا إذا كان الزانى فى هذا الحال، والزانية فى هذه الحال, أما اذا تاب كان معروفًا بالزنا؛ ثم تاب فإنه يزوج، وكذلك إن كانت المرأة معروفة بالزنا؛ ثم بعد ذلك تابت إلى الله -تبارك وتعالى- وحسنت توبتها؛ فإنها تخرج عن هذا، التائب يخرج عن هذا الوصف الموصوف به، قال -جل وعلا-: {وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ}[النور:3]: حُرِّم تزويج الزانى، وكذلك الزواج بزانية على المؤمنين.
ثم قال -جل وعلا-: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُم الْفَاسِقُونَ}[النور:4]: المحصنات هنا بمعنى العفيفات، والإحصان المرأة العفيفة كأنها محصَّنة, فالإحصان من الحماية كأنها محمية بعفتها وخلقها ضد الفاحشة, طبعًا يطلق المحصنات فى القرآن بإطلاقات المحصن بمعنى العفيف، والمحصنات بمعنى المتزوجات، وذلك أن الزواج حصن كذلك؛ كما قال -تبارك وتعالى-: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ........}[النساء:24] فى ضمن من يحرم على المؤمن أن يتزوج بهم {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ........}[النساء:23]: وفصَّل الله -تبارك وتعالى- كل النساء التى لا يجزو للمسلم أن يتزوج بهن, ثم قال -جل وعلا-: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ: أي هذه معطوفة على المحرمات من النساء, وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ: العفيفات ذوات الأزواج لا يحل الزواج بهن، وتأتى العفيفات كما هنا، وأيضًا فى قول الله -تبارك وتعالى-: مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ: أي عفيفات؛ فالذين يرمون المحصنات الرمى هنا إنما هو الإتهام بالزنا خاصة من رمى محصنة عفيفة, ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ: أى على هذا الفعل {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُم الْفَاسِقُونَ}[النور:4]: رتب الله -تبارك وتعالى- على هؤلاء ثلاث عقوبات، الأول قال -جل وعلا-: فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً, بمواصفات هذا الجلد، والثانية، قال -جل وعلا-: وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا: أى أن شهادته تصبح ساقطة فلا تقبل له شهادة على أى عقد من العقود بيع، شراء، هبة، زواج, وَأُوْلَئِكَ هُم الْفَاسِقُونَ: هذا الحكم الثالث أن الله -تبارك وتعالى- حكم بأن هؤلاء هُم الْفَاسِقُونَ: أى الخارجون عن طاعة الرب -تبارك وتعالى-.
سنعود إلى بعض التفصيل إن شاء الله فى هذه الآية فى الحلقة الآتية, أقول قولى هذا، أستغفر الله لى، ولكم من كل ذنب، -وصلى الله وسلم على عبده، ورسوله محمد-.