السبت 22 جمادى الأولى 1446 . 23 نوفمبر 2024

الحلقة (419) - سورة النور 3-11

الحمد لله رب العالمين، والصلاة، والسلام على عبده، ورسوله الأمين, سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله، وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، وعمل بسنته إلى يوم الدين.

يقول الله -تبارك وتعالى-: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}[النور:4], {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[النور:5], {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ}[النور:6], {وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ}[النور:7], {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ}[النور:8], {وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ}[النور:9], {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ}[النور:10], الآيات من سورة النور، وقد مضى فى الحلقة الماضية كيف بدأ الله -تبارك وتعالى- هذه السورة بهذا الأمر اللازم، والإشادة بهذه السورة، وأنه هو الذى أنزلها، وفرضها؛ فقال: {سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}[النور:1], ثم أتى بحكم الزانى، والزانية حكم العقوبة التى يجب أن تتوجب إليهما؛ ثم حكم نكاح الزانية، وحكم تزويج الزانى، وأن هذا محرم على المؤمنين؛ ثم الحكم الثالث فى هذا، أتى الله بحكم من يرمى المحصنات، وهن العفيفات، ولا شك أن رمى الذي هو السب إمرأة  محصنة أى عفيفة بالزنا كسب رجل عفيف كذلك بالزنا؛ فحكمهما واحد؛ فالنص على المحصنات، وإنما الحكم إنما هو للجميع, فكل من رمى محصنًا أى عفيفًا غير معروف، ومشهور بالزنا ففيه هذا الحكم، قال -جل وعلا-: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ أى النساء العفيفات ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ على هذه المقالة التى قالها، وهى الإتهام بالزنا أربع شهداء أنهم شاهدوا هذا الفعل، وهذه الشهادة لا بد أن تكون شهادة للفعل نفسه، وليس المطلق أنهم وجدوا أن هذا الرجل، والمرأة فى خلوة أو فما يسمى فى وضع شائن، أو نحو ذلك لا بد أن يكون قد شاهدوا نفس الفعل وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ: أي يشهدون كلهم نفس الشهادة على ما يرمى به هذا الرجل، أو المرأة، قال -جل وعلا-: فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً: هذا الذى رمى غيره بالزنا ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا: هذا الحكم الثانى؛ فتسقط شهادته سقوطًا أبديًا؛ فلا تقبل شهادته على أى عقد من العقود {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}[النور:4]: الخارجون عن طاعة الله -تبارك وتعالى-.

ثم قال -جل وعلا-: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[النور:5]: توبة بالرجوع إلى الله -تبارك وتعالى- وكذلك بالرجوع عن هذا القول، أو المقالة التى قالها يجب أن يكذب نفسه فى هذا الأمر، ويرجع عن مقالته؛ ثم كذلك يتوب إلى الله -تبارك وتعالى- بمعنى يستغفر له، ويتوب من إقدامه على هذا الأمر الذى أقدم عليه دون أن يكون معه الشهود الذين يشهدون معه بذلك, إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ: أي من بعد هذا الرمى وَأَصْلَحُوا: أي فى أعمالهم؛ فظهر عليهم صلاح الحال من إلتزام الصدق، والأمانة، وعدم التعدى  على أعراض الآخرين، قال -جل وعلا-: {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[النور:5]: فإن الله -تبارك وتعالى- يقيل عثرتهم هذه، ويغفر لهم السيئة التى وقعت منهم، ويرحمهم -سبحانه وتعالى- بالأ يعذبهم على هذه السيئة، هل إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا يعود هذا إلى إنتفاء الفسق عنهم فقط؟ أم إلى قبول شهادتهم بعد ذلك بعد هذه التوبة؟ أم إلى كذلك الحد فيدرأ عنهم؟ أما الحد فلا يدرأ عنهم بالتوبة إجماعًا؛ فإنه إذا وصل الأمر إلى الحاكم، وحصلت الرمى من هذا الرجل، ولم يأتى بالشهداء؛ فإنه يجب أن يقام عليه الحد حتى لو أكذب نفسه، لو أكذب نفسه بعد ذلك قال: كنت متسرعًا فى هذا، أو كنت كذاب فى هذا، أو لم يكن منه هذا، وتاب؛ فإن الحد لا يدرأ عنه إجماعًا، وأما قبول الشهادة بعد ذلك؛ فالصحيح من أقوال أهل العلم أنه تقبل شهادته إذا استقام على الأمر بعد ذلك، وتاب إلى الله -تبارك وتعالى- وحسنت توبته من هذا الذنب؛ فإنها تقبل شهادته فيه الخلاف المشهور فى هذا، أما الفسق؛ فيرفع عنه لا شك أن الفسق يكون مرفوعًا عنه بدليل قول الله -تبارك وتعالى-: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[النور:5]: فيرفع عنهم صفة الفسق التى لحقتهم.

ثم شرع الله -تبارك وتعالى- فى حكم جديد، وهو الذى يرمى الأزواج خاصة، هذا في من يرمى غير زوجته، أما هذا في من يرمى زوجته، قال -جل وعلا-: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ}[النور:6], {وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ}[النور:7], قبل أن تنزل هذه الآيات، ونزل حكم من يرمى المحصنات حصل لبعض الصحابة أنه رأى الفاحشة على زوجته؛ فجاء للنبى -صلى الله عليه وسلم- قال يا رسول الله إن رأى الإنسان رجلًا على أهله أينتظر بأن يأتى بأربعة شهداء؟، وإن قتلهما حاسبتموه؛ فماذا يفعل؟ ثم إنه لما حصل هذا أنزل الله -تبارك وتعالى- هذه الآيات ونادى النبى -صلى الله عليه وسلم- هذا الصحابى عوين ابن العجلانى، وكان كذلك الهلال إبن أمية، وقال له قد أنزل الله -تبارك وتعالى- فيك، وفى صاحبتك فيك، وفى إمراتك الحكم فى هذا؛ فهذا الحكم أنزله الله -تبارك وتعالى- بخصوص رمى الرجل زوجته، وهو أنه ليس كالآخرين؛ فإنه ربما أن يتهم الإنسان إمرأة أخرى ليست زوجته، ويسهل عليه هذا، ويكون كاذبًا فى هذا، أما الرجل فإنه لا يرمى زوجته إلا اذا كان غالبًا صادقًا فى هذا؛ فإنه لا يقدم رجل على أن يلوث سمعته، وسمعة زوجته، ومصير أطفاله، ويكون كادب فى هذا إلا أن يكون من أهل التهتك، ومن أهل الفسق، ومن أهل الجور، وأن يفعل هذا بزوجته، وبنفسه؛ فغالبًا ما يكون من يرمى زوجته صادقًا لذلك لن يؤاخذ إذا لم يأتى بالشهود؛ فيعاقب هذه العقوبة لأنه يكون بين النارين إن سكت عن زوجته، وهى على هذا الحال، وهى زوجته يبقى مثل الجمر، وإن تكلم عوقب؛ فجعل الله -تبارك وتعالى- لهذا مخرج، وهو أن يحلف بهذا الحكم أن يقسم أربعة أقسام بالله أنه صادق فيما رمى به زوجته من الزنا، والخامسة أن يدعو على  نفسه باللعنة أن لعنة الله عليه إن كان كاذبًا فى الذى رماها به, ثم إن المرأة بعد ذلك تصبح بعد ذلك إما أن تصدق الرجل فيما قال؛ فترجم، ويكون هذا عذاب فى الدنيا أهون من عذاب الآخرة، وإما أن تكذبه فيما قال؛ فتلاعنه تقسم بالله أربعة أقسام بأنه كاذبٌ فيما رماه بها من الزنا، والخامسة تدعو على نفسها باللعنة بغضب الله، وأن يحل بها غضب الله إن كان صادقًا فيما رماها به، قال -جل وعلا-: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنفُسُهُمْ: ما يستطيع أن يأتى بأربعة شهداء يشهدون هذه الفعلة، دخل رجل على بيته، ورأى هذا الأمر، قال: وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنفُسُهُمْ فعند ذلك {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ}[النور:6]: اذا رفع هذا الأمر إلى الحاكم، والإمام، والقاضى فيشهده، يشهد على نفسه أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ, وسمى شهادة؛ لأنه سيشهد بأنه مؤمن، وأن لا إله إلا الله، ويحلف بالله -سبحانه وتعالى- أنه قد رأى من زوجته هذا الفعل فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ: يحلف بالله أربع مرات، يقسم بالله -تبارك وتعالى- أربع مرات أنه صادقٌ فيما رمى به زوجته من الزنا إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ, والخامسة يدعو على نفسه {أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ}[النور:7].

قال -جل وعلا-: وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ: والعذاب الذى يدرأ هذا، الدرء هو الدفع، والإبعاد، العذاب الذي هو الرجم لأن عذاب هذه المرأة وهى طبعًا تعتبر هى ثيب، وقد دعى عليها بهذه الدعوة؛ فإما إذا صدقتها، واعترفت، إذا اعترفت ترجم، ويحل بها هذا العذاب الدنيوى، ويكون طهرة لها فى الآخرة، وإلا فإنها تشهد أربع شهادات بالله إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ: تقسم بالله أربعة أقسام، وفى كل مرة تقول بأن هذا زوجها كاذب فيما رماها بها من الزنا، وتقسم يمين خامس، وتقول أن غضب الله عليها إن كان زوجها صادق فى ذلك، وطبعًا غضب الله -تبارك وتعالى- أكبر من لعنته, اللعنة جاءت للرجل فى أن يلعن نفسه إذا كان كاذبًا فى هذا الأمر، والمرأة جاء فيها أن غضب الله -تبارك وتعالى- عليها إن كان زوجها صادقًا فى ما رماها به أختير الغضب هنا لأنه أكبر، ولأن المرأة إنما فعلت هذا لتبطل شهادة الزوج، والغالب أن يكون الزوج صادقًا فيما يرمى به؛ لأنه لا يقدم على هذا الأمر إلا كاذبًا إلا رجل متهتك تمام التهتك، وغالباً الذى يرمى زوجته على هذا النحو أن يكون صادقًا؛ ثم إذا فضَّلت المرأة الحياة الدنيا على الآخرة، والعقوبة الأخروية على العقوبة الدنيوية يكون هذا كذلك من دواعى غضب الله -تبارك وتعالى- ثم أنها تقسم هذه الأقسام المغلظة، وهى كاذبة فيها يصبح الأمر أمر فظيع، ولما نزلت هذه الآيات دعى النبى -صلى الله عليه وسلم- عويمر، وزوجته، وجعله يلاعن زوجته على هذا النحو؛ ثم وعظ النبى المرأة، وقال لها إن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، قال لها العذاب فى الدنيا الذي تأخذيه أهون من عذاب الآخرة فيما لو كذبتيه، فسكتت مدة؛ ثم قالت لا أفضح ذكرت فى نفسها أن لا تفضح أهلها، وكذبته على هذا النحو؛ فالنبى فرق بينهما، وطبعًا جعل الولد لها، وقال: مالى يا رسول الله مهرى؛ فقال له: إن كنت صادقًا؛ فإنه لها بما استحللت من فرجها، إن كنت صادق فى هذا؛ فهذا لها لكن إنت دخلت عليها، وإن كنت كاذبًا؛ فإنه أبعد لك من ذلك، إذا كنت كاذب؛ فكيف تكون كاذب، وتسترد بعد ذلك هذا المال؛ فيحكم لها ما عندها من المهر كله، ومن مال الرجل الذى أعطاها، ويلحق الولد بها، ويفرق بينهما فرقة أبدية لا رجوع بعدها؛ فلا يرجع هذا الرجل إلى هذه الزوجة مرة ثانية لا بعقد جديد، ولا بمهر جديد.

ثم قال -جل وعلا-: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ}[النور:10]: جاء هنا فعل الشرط، وجواب الشرط محذوف والتقدير لعاقبكم -سبحانه وتعالى- وضيق عليكم، ولكن الله -تبارك وتعالى- أنزل لكم هذه الأحكام العظيمة فى هذه الأمور التى ممكن أن تقع طهرة منه -سبحانه وتعالى- لنفوس المؤمنين، ولمجتمعهم، ولإذهاب الخنى، والزنا عنهم؛ فلولا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ -سبحانه وتعالى-  وَرَحْمَتُهُ لما كان بصركم هذه البصيرة، وأنزل عليكم هذه الأحكام -سبحانه وتعالى-, وجعل مجال لتوبة من يتوب بعد أن يقع منه الذنب؛ فإن الله -تبارك وتعالى- جعل هذه الحدود كفارات، كما قال النبى -صلوات الله والسلام عليه-: «بايعونى على أن لا تشركوا بالله شيئاً، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتو بهتان تفترونه بين أيديكم، وأرجلكم، ولا تعصوا فى معروف؛ فمن وفى منكم؛ فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب به؛ فهو كفارة له من أصاب من هذه الذنوب شيء», فعوقب به العقوبة هذه الدنيوية الحد الدنيوى؛ فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئًا؛ فستره الله؛ فأمره إلى الله إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له, أما اذا وقع منه أمر؛ ثم ستره الله -تبارك وتعالى- علي هذا الأمر؛ فهذا يكون بعد ذلك أمره فى الآخرة إلى الله إن شاء عذبه -سبحانه وتعالى-, وإن شاء غفر له؛ فالحدود التى أنزلها الله -تبارك وتعالى- إنما هى كفارات، طهرة للمؤمن الذى فعل هذا تطهير فى الدنيا، وهو عذاب أهون من عذاب الآخرة؛ فإن عذاب الآخرة شديد، وأما هذا العذاب وإن كان عند الناس شديد، الجلد مائة جلدة، والجلد ثمانين جلدة بالنسبة لمن يرمى المحصنات، والرجم كذلك بالنسبة لمن يأتى هذه الفاحشة، وهو محصن لا شك أنه هذه العقوبة الدنيوية هى أهون من عقوبة الله -تبارك وتعالى- فى الآخرة؛ فمن رحمة الله -تبارك وتعالى- أن شرع هذه العقوبة طهرة لمن فعلها؛ ثم كذلك زجر لمن لم يفعل هذا حتى لا يقع فيه، وزجر كذلك لهذا الذى فعل به هذا الفعل حتى لا يقع مرة ثانية، ويعود إلى هذا الفعل، هذا طبعًا فى الحد الذي ما فيه قتل مثل الجلد، وتبقى كذلك رهبة الحد مانعة عند أهل الإيمان من أن يقارفوا معاصى الله -تبارك وتعالى- {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ} -سبحانه وتعالى- من صفته أنه تَوَّابٌ والتواب كثير التوبة، كثير قبول التوبة من عباده -سبحانه وتعالى- التوبة من العبد الرجوع إلى الله -تبارك وتعالى- وتوبة الله -تبارك وتعالى- على عبده هو قبول رجوع العبد إليه -سبحانه وتعالى- وإقال عثرته, حَكِيمٌ: -سبحانه وتعالى- يضع كل أمر فى نصابه؛ فكل أمر من هذه الأمور موضوع فى نصابه تمامًا هذه حكمة الرب -تبارك وتعالى- فى إنزاله هذه الأحكام العظيمة على عباده -سبحانه وتعالى-.

ثم جاءت الآيات بعد ذلك فى بيان حادث الإفك الذى وقع فى سب أم المؤمنين عائشة رضى الله تعالى عنها؛ فقال -جل وعلا-: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[النور:11], {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ}[النور:12], {لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُوْلَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ}[النور:13], حادثة الإفك حادثة عظيمة، وقد رواها الإمام البخارى، والإمام مسلم فى صحيحيهما، ودوواين الإسلام، وسنقرأ إن شاء الله هذه الحادثة بالتفصيل كما رويت عن أم المؤمنين عائشة -رضى الله تعالى عنها- الذى وقع لها هذا الأمر، يقول الإمام البخارى رحمه الله، حدثنا يحي ابن بكير، حدثنا الليث عن يونس، عن ابن شهاب، قال: أخبرنى عروة بين الزبير، والسعيد ابن مثيب، وعلقمة ابن وقاص، وعبيد الله ابن عتبة ابن عبدالله ابن مسعود عن حديث عائشة -رضى الله تعالى عنها- زوج النبى -صلى الله عليه وآله وسلم- حين قال لها أهل الإفك ما قالوا، أصل الإفك هو الكذب، وسمى الكذب إفكًا؛ لأنه كلام مقلوب لأن الإفك هو قلب الشيء جعل أعلاه أسفله؛ فهو الكلام المقلوب، حين قال لها أهل الإفك ما قالوا، وبرأها الله مما قالوا كانت هذه البراءة التى نزلت إنما هو براءة الله -تبارك وتعالى- شهادة الله -تبارك وتعالى- التى أنزلها -سبحانه وتعالى- على عبده، ورسوله محمد -صلى الله عليه وسلم- فبراءة عائشة -رضى الله تعالى عنها- إنما الذى برأها مما رماها به أهل الإفك هو الله -تبارك وتعالى- فى قرآن يتلى، وليس فى رفض الإفك لأنه لم يقم عليه شهود، أو رفضه لأن النبى مثلاً رأى هذا، أو أنها جاءته رؤيا منامية يخبر عنها، بل ينزل الله -تبارك وتعالى- فى هذا الشأن قرآن يتلى الى يوم القيامة؛ فالله هو الذى برأها -سبحانه وتعالى- فبرأها الله مما قالوا يقول: الإمام الزهرى حدثنى طائفة من الحديثق، وبعض حديثهم يصدق بعضًا من هؤلاء التابعين الذين رأوا عن أم المؤمنين عائشة، وجاء الحديث إلى الإمام الزهرى رحمه الله، يقول: أنا جمعت حديثهم كله، وبعض حديثهم يصدق بعض، وإن كان أحدهم أوعى له من بعض الذى حدثنى عروة عن عائشة -رضى الله تعالى عنها-، أن عائشة رضى الله تعالى عنها زوج النبى -صلى الله عليه وسلم- قالت: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- اذا أراد أن يخرج أقرع بين نسائه اذا أراد أن يخرج فى سفر يعمل قرعة بين النساء، والقرعة تختار يوضع أسماءهم فى شيء؛ ثم من سحبت سهمها، أو قرعتها خرجت مع النبى -صلوات الله والسلام عليه- لم يكن يجعل لهم الخروج معه بالتسلسل، فى هذه السفرة، والثانية فى السفرة الثالثة، والثالثة هكذا، وإنما كان النبى يصنع لهم قرعة أسهم؛ فمن خرج سهمها خرجت مع النبى -صلى الله عليه وسلم- قالت أم المؤمنين -رضى الله تعالى عنها-: فأقرع بيننا فى غزوة غزاها فخرج سهمى، خرج سهم أم المؤمنين عائشة فى هذه الغزوة، وهي غزوة المريسيع قالت: فخرجت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعدما نزل الحجاب كان هذا فى السنة الخامسة، وكان قد نزل الحجاب على النبى -صلى الله عليه وسلم- بأن يحجب نساؤه سوادهن عن المؤمنين يقول؛ فأنا أحمل فى هودجى؛ فكانت تحمل فى هودجها كانت تدخل هى الهودج، والهودج هو هذه المقصورة التى تكون من عيدان من الخشب منصوبة؛ ثم يكون عليها غطاء تدخل فيه المرأة، وتكون فى داخل هذا الهودج؛ ثم يحمل الهودج يكون الهودج هذا له أيادى يحمل بها، ويضع على ظهر البعير تقول؛ فأنا أحمل فى هودجى، وأنزل فيه، وكذلك عندما تنزل من البعير لا تنزل تخرج تفتح ستر الهودج، وتنزل بنفسها بسوادها، بل يحمل الهودج كله؛ ثم ينزل؛ ثم يذهب الرجال الذين أنزلوا هذا بعيدًا، وتدخل مثلًا خيمتها، وقبتها؛ فتُحمَل فى الهودج، وتنزل فيه، قالت؛ فسرنا حتى فرغ رسول الله من غزوته، ساروا سارت مع النبى، وصارت الغزوة، وفرغ النبى من غزوته، غزوته تلك، وقفل، ودنونى من المدينة قافلين، لما قفل القفول هو الرجوع، دنونا إقتربنا من المدينة قافلين، راجعين، آذن ليلة بالرحيل، آذن أعلن، أعلن النبى فى الجيش أنهم مرتحلون فى هذه الليلة، تقول أم المؤمنين: فقمت حين آذنوا بالرحيل؛ فمشيت حتى جاوزت الجيش؛ فلما قضيت شأنى أقبلت إلى رحلى, أي أنها قامت لتقضى حاجتها، وكانت ليست هناك كنف قريبة من المنزل، وإنما على من يريد أن يقضى حاجته أن يذهب خارج الجيش، جيش بالآلاف مخيم؛ فذهبت هى لتقضى حاجتها فى الليل بعيدًا عن منزل الجيش، تقول فلما قضيت شأنى حاجتها، أقبلت إلى رحلى؛ فإذا عقد لى من جذع ظفار قد انقطع، يقول لما رجعت تحسست كانت لابسة عقد من جذع، الجذع: حجارة، ظفار: منطقة معروفة فى جنوب الجزيرة فى عمان، تقول هذا العقد انقطع وجدت أنه قد انقطع؛ فالتمست عقدى، وحبسنى ابتغاؤه رجعت مرة ثانية تبحث فى المكان الذى سارت فيه، وكانت فيه حتي تسترد عقدها، وبحثها عن العقد حبسها، وأخرها أن ترجع إلى مكانها، تقول، وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون لى؛ فاحتملوا هودجى، قول الرهط الذين كانوا فى العادة يحملون الهودج، ويضعوه هم يقدموا، ويأخذوا الهودج ليضعوه علىى ظهر البعير، قالت؛ فرحلوه على بعيرى الذى كنت ركبت، وهم يحسبون أنى فيه، أخذوا الهودج، ووضعوه على البعير الذى كانت فيه أم المؤمنين عائشة -رضى الله تعالى عنها-، وهم يظنون أن أم المؤمنين فيه، تقول وكان النساء إذ ذاك خفافًا لم يثقلهن اللحم إنما تأكل العلقة من الطعام, تقول النساء فى هذا الوقت كن خفافًا، خفيفة ما أثقلها اللحم لأنه كان فى هذا الوقت يأكلون العلقة من الطعام، ولا يأكلون طعاماً كثيرًا؛ فيكن ثقيلات؛ قالت: فلم يستنكروا القوم خفة الهودج، ما استنكروا الذين حملوا هودج أم المؤمنين عائشة -رضى الله تعالى عنها- أن أنها ليست فيه حين رفعوه، وكنت جارية حديثة السن، جارية هى البنت الصغيرة حديثة السن، كان سن أم المؤمنين عائشة فى هذا الوقت إذا تصورنا أن هذا فى السنة الخامسة، والنبى بنى بها، وهى فى التاسعة أي سنها نحو أربعة عشر عامًا فقط، تقول أنا كنت جارية فى هذا الوقت، حديثة السن؛ فبعثوا الجمل، وساروا؛ فوجدت عقدى بعد ما استمر الجيش، بعثوا الجمل أنهم لما جاءوا وضعوا الهودج على البعير؛ ثم قوموه، وساروا مع الجيش، ولم يفطن أحد أن أم المؤمنين عائشة -رضى الله تعالى عنها- لم تكن فى هودجها.

سنعود إلى استكمال إن شاء الله رواية أم المؤمنين عائشة فى حديث الإفك، ونحن مع قول الله -تبارك وتعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[النور:11].

-وصلى الله وسلم على عبده، ورسوله محمد-.