الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على عبد الله والرسول الأمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، وعمل بسنته إلى يوم الدين.
أيها الإخوة الكرام، يقول الله -تبارك وتعالى- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}[البقرة:153]، {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ}[البقرة:154]، {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ}[البقرة:155]، {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}[البقرة:156]، {أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}[البقرة:157]، هذا أول نداء في القرآن ينادي الله -تبارك وتعالى- به عباده المؤمنين، قائلًا {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}، ووصف الإيمان هو أعظم الأوصاف، وفيه تهييج وتوجيه إلى الامتثال؛ لأنه إذا نودي الإنسان ووصف بأحب صفاته فهذا توجيهٌ له وتحريضٌ له على فعل الخير، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ ........}[البقرة:153]، استعينوا في الطريق إلى الله -تبارك وتعالى-، في السير في طريق الله في صراطه المستقيم بالصبر، الصبر في اللغة حبس النفس عن المكروه، وهنا الصبر للدين هذا عنصر أساس في كل أعمال الدين، يحتاج القائم بهذه الأعمال إلى صبر، صبرٌ على الطاعة، فهذه الطاعات لابد من صبر لها، لأنها على خلاف هوى النفوس، صبرٌ عن المعصية؛ لأن المعاصي شهوات وأهواء، وجاء الدين بالفطام عنها، فيحتاج المؤمن إلى أن يصبر عن المعاصي فلا يفعلها، صبرٌ على الأحداث وذلك أن الله يبتلي عباده -سبحانه وتعالى- بالخير والشر، وعند الشر لابد من الصبر فلا يتسخط على الله -تبارك وتعالى-، بل يرضى بقضائه، ويعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه، فالصبر عنصر أساس, ثم لابد لمواصلة هذا الطريق، الذي يبدأ التكليف فيه من سن البلوغ ولا ينتهي إلا بالموت، فالعبد في كل هذه الفترة مخلوقٌ مكلَّف تحت الأمر والنهي، مراقب لكل حركاته وسكناته، {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}[ق:18]، {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ}[الطارق:4]، فهو أعماله وأقواله وأحاسيسه وخطرات قلبه كلها مسجلة مدونة، {........ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[البقرة:284]، فغمزة وخطرة وكلمة كل شيء، {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ}[الطارق:4]، محصٍ لكل عملها، بدءًا يوضع القلم عليه عند البلوغ ولا يرفع عنه إلا بالموت، والفترات التي قد يرفع عنه الجنون، هذا مناط التكليف، وعند النوم والنسيان يرفع القلم، ثم بعد ذلك يعود للكتابة إذا استيقظ من نومه, وإذا تذكر يرجع مرة ثانية، ولابد أن يعيد التكليف الذي تركه نائمًا وناسيًا، كما قال -صلى الله عليه وسلم- «مَن نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها، لا كفارة لها إلا ذلك»، ما لها كفارة في ذهاب الذنب عنه وقت النوم إلا ذلك، إلا إذا قام وذكر فيجب أن يقضي ما فاته.
فهذا الطريق الطويل يحتاج إلى صبر؛ لذلك الله وجَّه الأمر الأول قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ ........}[البقرة:153]، وذلك أن الصلاة نور؛ نورٌ إشراقة في قلب العبد، يضيء الله -تبارك وتعالى- له به الطريق، فهو وقود الرحلة إلى الله –تبارك وتعالى-، وهو الضوء الذي يناله العبد؛ ليضيء له الطريق في سيره في هذا الصراط المستقيم صراط الله، كما قال –تبارك وتعالى- {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ}}[النور:35]، إلى أن قال الله -تبارك وتعالى- {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ}[النور:36]، {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ}[النور:37]، نور الله -تبارك وتعالى- في قلب عباده في هذه المساجد، {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ}[النور:36]، فالصلاة نور والصبر ضياء، والعبد المؤمن في رحلته إلى الله -تبارك وتعالى- لابد له من هذا النور والضياء الصبر والصلاة، كما قال النبي -صلوات الله والسلام عليه- «والصلاة نور والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك»، فالله أول ما أمر أول أمر لعباده المؤمنين في هذا القرآن في ترتيب المصحف قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}[البقرة:153]، معهم بتأييده، ونصره، وتوفيقه، وإعانته، ورحمته -سبحانه وتعالى-، هذا تشجيع للمؤمنين وتوجيه لهم أن يعتصموا بالصبر والصلاة في طريقهم، وأن الله معهم مؤيدهم -سبحانه وتعالى-.
ثم ذكر الله -تبارك وتعالى- أعلى درجات العمل، وأكبر المصائب التي يمكن أن تصيب العبد في هذا الطريق وهي الشهادة، فبيَّن أن الشهادة التي هي أعظم المصائب هي كذلك أعلى الدرجات وأفضل الأعمال، قال -جل وعلا- {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ}[البقرة:154]، هذه التفاتة عظيمة جدًا في هذا السياق من الرب -تبارك وتعالى-، مبينًا أن أعظم وأشرف أعمال المؤمن هي أن يستشهد في سبيل الله، وأنه إذا استشهد في سبيل الله لا يكون قد قتل ولا مات، بل حيًّا حياة حقيقية، قال {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ}، القول هنا الاعتقاد أو قول، لا تقولوا هذا باللسان ولا تعتقدوه اعتقادا، ولا تظنوه ظنًا لا تقولوا هذا، {لا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ}، أنه مات فلان أو قتل في سبيل الله، قال -جل وعلا- {بَلْ أَحْيَاءٌ}، ولكنه حي على الحقيقة، وحياة هذه؛ حياة الآخرة، وهي حياة لا شك أنها أكمل وأعلى وأعظم من هذه الحياة الدنيا؛، لأنها الحياة الحقيقية، كما قال -جل وعلا- في الحياة الآخرة {........ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}[العنكبوت:64]، الحيوان بالمبالغة الحياة الكاملة الحقيقية {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} ، {بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ}، ولكن لا تشعرون بحياتكم وذلك أنهم ليسوا أحياءً عندكم في هذه الدار، وإنما أحياءٌ عند الله -تبارك وتعالى-، كما قال -تبارك وتعالى- {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}[آل عمران:169]، وهنا يرزقون تأكيد لمعنى الحياة؛ لأن من يرزق بالطعام والشراب فهو حي حياة حقيقي، وليس مجرد حياة روح فقط، بل حياة حقيقية يحياها عند الله يرزق يأكل، وقد جاء بيان هذا في الحديث أن «أرواح الشهداء في حواصل طير خضر وتأوي إلى قناديل معلقة تحت العرش، تأكل من ثمار الجنة وتشرب من مياهها»، فهنا الله -تبارك وتعالى- يبين بأن أكبر المصائب وهي الشهادة في سبيل الله هي أفضل الأعمال وأعلاها وأشرفها، وأن من قتل في سبيل الله لا ينبغي أن نظنه أو نعتقده ميتًا، بل يجب أن نعتقده حيًا وإن كنا لا نشعر بحياته وذلك أنه حياته عند الله.
ثم قال -جل وعلا- {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ}[البقرة:155]، ولنبلونَّكم بالتأكيد، لام الموطِّئة للقسم لنبلونَّكم، أُكد هذا باللام الموطِّئة للقسم وبالنون؛ نون التوكيد ولنبلونكم، والقائل والمبتلي هو الله -سبحانه وتعالى-؛ لأن هذا هو اختباره -سبحانه وتعالى- لعباده، لتأهيلهم ليكونوا أهلًا لدارة السعادة والبقاء، {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ}، أي في هذه الحياة، {بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ}، وقول الله -تبارك وتعالى- بشيء ما قال بالخوف والجوع، لأنه لو قال بالخوف والجوع لكان هذا هو دأب الحياة كلها، لكن قال بشيء قليل، {مِنَ الْخَوْفِ}، الخوف طبعًا ابتلاء بعدو قد يكون في معظم الأحيان أكبر منهم، كما ابتلي المسلمون في بدر بأضعافهم، وفي أُحُد بأضعافهم، وفي الخندق جاءهم المشركون من كل مكان حتى أحاطوا بهم، كما قال -تبارك وتعالى- في هذه الغزوة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا}[الأحزاب:9]، {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا}[الأحزاب:10]، {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا}[الأحزاب:11]، زُلزِلوا رجفة القلوب والخرف الشديد، الخوف على الإسلام والخوف من الاستئصال، وذلك أن كفار قريش وأحابيشها ومن معها من حلفائها، وغطفان وبني تميم وبنو قريظة اليهود، كل هؤلاء الأحزاب تحزبوا حتى أصبحت المدينة محاطة, أحاطوا بها من كل مكان، وهدف القوم هو استئصال أهل الإسلام، فهذا من الخوف؛ الخوف من هذا العدو الذي يأتيهم وغالبًا ما يكون أعداؤهم أضعافهم، {وَالْجُوعِ}، معروف الجوع نقص الطعام، {وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ}، نقص من الأموال يكون عندكم أموال فتنقص في جائحة في مصيبة بعدو، والأنفس ذهاب بعض الأنفس استشهادا وقتلًا في سبيل الله، {وَالثَّمَرَاتِ}، الثمرات الزروع والثمار يذهب بعضها غزوًا، حربًا، آفةً، قال -جل وعلا- {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ}، أن ما سيأتيكم من عدو مسلَّط، من آفة تكون، مقتلة تُقتل، هذه ابتلاءات أخبر الله -تبارك وتعالى- بأنه لابد أن يفعلها، ولنبلونكم تأكيد لهذا، بشيء أخبر أنه قليل، {مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ}.
ثم قال -جل وعلا- {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ}، البشارة هي الإخبار بما يسر، وهنا كأن الله -تبارك وتعالى- يحمِّل نبيه في هذه الآيات بشارة إلى أهل الصبر، مَن صبروا على هذه الآفات وهذه الابتلاءات هؤلاء لهم البشرى عند الله -تبارك وتعالى-، وهذه البشرى جاء تفصيلها في آيات كثيرة من القرآن، وفي أحاديث كثيرة من أحاديث النبي -صلوات الله والسلام عليه-، من ذلك أن كل مصيبة يصاب بها العبد يرفع الله -تبارك وتعالى- من درجاته، ويأجره عليها أضعافًا مضاعفة، كقول النبي -صلوات الله عليه وسلم- «ما من مصيبة يصاب بها المؤمن شوكة -هذه أدنى المصائب- فما فوقها إلا كفر الله -تبارك وتعالى- بها من خطاياه»، قال -صلى الله عليه وسلم- «من يرد الله به خيرًا يصب منه شيئًا»، وجاء في الحديث كذلك «من ابتليته بفقد حبيبتيه فصبر فليس له عندي جزاءٌ إلا الجنة»، حبيبتيه عينيه، من ابتلاه الله -تبارك وتعالى- بأخذ نور عينيه فصبر على ذلك، قال -جل وعلا- فليس له جزاءٌ عندي إلا الجنة، وكذلك جاء في الحديث أن «العبد المؤمن إذا مات له ابن فحَمِد الله -تبارك وتعالى- وأثنى عليه، قال الله -تبارك وتعالى- لملائكته، ابنوا لعبدي بيتًا في الجنة سموه بيت الحمد»، الأحاديث كثيرة في فضل الصبر وفي أن جزاءه يضاعف أضعافا غير معدودة عند الله -تبارك وتعالى-، {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}، بغير عد، فبدون عد يزيد الله -تبارك وتعالى- ويعطي الصابرين أجرهم عنده -سبحانه وتعالى-، {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ}، بشرهم بحسن الخلف، بأنه لابد أن يُخلِفهم الله -تبارك وتعالى- خلفًا عظيمًا مما أخذ منهم.
ثم بيَّن الله -تبارك وتعالى- حال هؤلاء الصابرين، متى يكون الإنسان صابرًا؟ قال:- {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}[البقرة:156]، هذا وصف للصابرين، {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ}، مصيبة شيء من شر، {قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ}، إنا لله نحن لله، سواءً هذه البنية أجسادنا، أو كل ما نملك هو لله –تبارك وتعالى-، فنحن وما نملكه لله، وبالتالي ما دمنا لله -تبارك وتعالى- الله هو مالكنا، فهو يتصرف فينا كيف يشاء -سبحانه وتعالى-، فنحن له -سبحانه وتعالى-، فما أعطانا له وما أخذ منَّا هو له في الأساس، كما يفسِّر هذا حادثة أم سُليم -رضي الله تعالى- عنها، زوج أبي طلحة وهي أم أنس بن مالك، لما مات ابن لها وكان أبوه مشتغلًا به، مشتغلًا عنه، ذهب خارج البيت ثم رجع، وكان الولد قد توفي في أثناء غيبة أبيه، فقال لأم سُليم ما حال الولد؟ فقالت: هو أسكن ما كان، ثم قالت له -لزوجها- أرأيت إن كان قومٌ قد أعارونا عارية، ثم أتوا وطلبوها أنعطيهم إياها؟ قال نعم نعطيهم إياها، فقالت له قم فواري الصبي، قم فواري الصبي ابنك، فذكرت له أن هذا الولد عارية، أخذناها من الله -تبارك وتعالى- وصاحب العطاء قد أخذ عطيته، فهنا يجب أن نؤدي ما طُلب منَّا بنفس رضية، لأن الذي أعطاه هو الذي أخذه -سبحانه وتعالى-، فقول المؤمنين {إِنَّا لِلَّهِ} أولًا يبيِّن حقيقة الأمر، كلنا لله -تبارك وتعالى-، وهذا يعطي برْد عظيم عند المصيبة إذا علم الإنسان أنه لله، وكل ما يملك هو لله -تبارك وتعالى-.
{وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}، إنا نحن كذلك، إليه إلى الله -تبارك وتعالى- راجعون في نهاية المطاف، ومعنى راجعون فسنموت وسنرجع إليه يحاسبنا على أعمالنا، هذه الكلمة هي أعظم كلمة عند المصيبة، ومن أثرها أولًا أنها تجعل الإنسان يؤمن بقضاء الله وقدره، يعلم أن التصرف فيه إنما هو لله، وتصرف المالك فيما يملك فيه تسليم لأمر الله -تبارك وتعالى-، كل هذا يسكب في القلب بردًا وطمأنينة وأمن واستسلام لأمر الله -تبارك وتعالى-.
قال –جل وعلا- {أُوْلَئِكَ}، الذين أصابتهم مصيبة قالوا هذا القول، {........ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}[البقرة:157]، صلاة الله -تبارك وتعالى- على عبده هو ذكره، إعلاء منزلته، إفضاله وإنعامه عليه -سبحانه وتعالى-، أما صلاة العبد لله فهي دعاؤه وخضوعه وأن يؤدي ما طُلب منه، قيامًا بأمر الله وعبادة الله -تبارك وتعالى-، عبادة يقوم بها العبد لله، وأما صلاة المؤمن على العبد, صلاتك على فلان دعائك له، صلاتنا على النبي -صلوات الله والسلام عليه- نصلي على النبي, إنما ندعو له بالدعاء الذي علَّمَنا، كقولنا "اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آت محمدًا الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقامًا محمودًا الذي وعدته"، فندعو له أن يُعطى الوسيلة والفضيلة، وأن يبلِّغه الله -تبارك وتعالى- المقام المحمود، الذي هو منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد واحد من عباد الله، وهو نبينا -صلوات الله والسلام عليه-، وكذلك قولنا "اللهم صل على محمدٍ وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وأل إبراهيم، إنك حميد مجيد".
الله يصلي على عباده، كما قال -تبارك وتعالى- {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ........}[الأحزاب:43]، فصلاة الله على عباده رحمته، وإحسانه إليهم، وذكره لهم -سبحانه وتعالى-، وإعلاء منزلتهم، وتكفير سيئاتهم، وإعلاء درجاتهم، كل هذا من معاني صلوات الله -تبارك وتعالى- على عبده، وصلوات الملائكة على المؤمنين {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ}، يصلون عليكم هو دعاء لأهل الإيمان، كما قال -تبارك وتعالى- {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ}[غافر:7]، {رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُم وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[غافر:8]، {وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}[غافر:9]، فهذا من صلاة الملائكة على عباد الله -تبارك وتعالى- المؤمنين، {أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ}، من ربهم، رحمة من الله -تبارك وتعالى- لهم، رحمة لهم في الدنيا بأن يبرد الله -تبارك وتعالى- قلوبهم إثر هذه المصيبة، يجعلهم يرضون بها، بل أحيانًا يجعلهم يفرحون بما نالهم من هذه المصيبة، رجاء ما عند الله -تبارك وتعالى- من الأجر الجزيل ومن العطاء الحسن، فيأنسون لذلك ويحصل رضا وطمأنينة منهم لما خصَّهم الله -تبارك وتعالى- به، من هذا الخير الذي قد يأتي في صورة شر لكن هو في حقيقته خير، {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}، وأولئك الذين صبروا هذا الصبر، وأتوا بما أٌمروا إن لله وإنا إليه راجعون، {هُمُ الْمُهْتَدُونَ}، إلى طريق الرب -سبحانه وتعالى-.
هذه الآيات جاءت فاتحة لجملة التشريع التي تستمر في هذه السورة إلى قرب النهاية، إلى الخاتمة، وتأتي خاتمة بعد ذلك، التشريعات التي شرَّعها الله -تبارك وتعالى- لهذه الأمة، والبقرة قد حوت عامة تشريع الله -تبارك وتعالى- لأهل الإسلام، مجمل هذه الشريعة، فأول أمر كما علمنا أن الله -تبارك وتعالى- أمر أهل الإيمان بأن يستعينوا بالصبر والصلاة، الذي هو العنصر الأساس، والأمر الذي يصاحب في كل تشريع، ففي الطاعة؛ الطاعة تحتاج إلى صبر، عن المعصية صبر، الأحداث صبر، ثم هذا وصف لعباد الله -تبارك وتعالى- المؤمنين على الحقيقة، هو أن الله -تبارك وتعالى- مبتلي عباده المؤمنين بصنوف من هذه الابتلاءات، {........ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ}[البقرة:155]، فهذا هو العبد المؤمن المهتدي الذي يتلقى هذا الابتلاء قائلًا إنا لله وإنا إليه راجعون، وهؤلاء هم الذين يحوطهم الله -تبارك وتعالى- برحمته وعنايته، وهم أهل الهدى.
بعد هذا يقول الله -تبارك وتعالى- {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ}[البقرة:158]، هذه الآية جاءت في هذا المكان لأن فيها إزالة لشبهة جاءت لبعض أهل الإيمان، وهي تحرٌّج بعضهم من السعي بين الصفا والمروة، وذلك لظنهم أنها من شعائر الجاهلية، وأنها ليست من تشريع الرب -تبارك وتعالى-، وذلك أن أهل الجاهلية كانوا قد نصبوا صنمًا على الصفا وصنم أخر على المروة، وضعوا إساف ونائلة صنمين، وكانوا إذا طافوا تمسحوا بهما، فلظن بعض المؤمنين أن هذا من شعائر الجاهلية، وأنه ليس من شعائر الله وأنه ليس من مناسك الحج التي شرعها الله -تبارك وتعالى-، بدءًا بشريعة إبراهيم ثم شريعة محمد -صلوات الله عليه وسلم-، فإن الله -تبارك وتعالى- أراد أن يزيل هذا التوهم، وأخبر المؤمنين بأن السعي بين الصفا والمروة من شعائر الله، وليس من شعائر الجاهلية، قال -جل وعلا- {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ}، الشعائر جمع شعيرة، وأصلها من الإشعار، والإشعار هو الإعلام، وكل السبب في تسمية هذه المناسك وهذه الأعمال شعائر أنها مشعرة بأمر، فالطواف من شعائر الله، السعي من شعائر الله، لبيك اللهم لبيك من شعائر الله، الذبح من شعائر الله، الصلاة من شعائر الله، الأذان من شعائر الله، ومعنى شعائره أنها عمل يشعر ويعلِّم بأن هذه الشعيرة دين الله وشريعة الله -سبحانه وتعالى-، فهو يشعر بها، فالصفا والمروة؛ الصفا اسم جبل، والمروة اسم جبل، وقد شرع الله -تبارك وتعالى- السعي بينهما، بدءًا بالصفا كما بدأ النبي في حجه، وفي عمرته قال {نبدأ بما بدأ الله به}، بدأ بالصفا وانتهى بالمروة سبع أشواط.
وقد شُرِع هذا لِما كان من شأن هاجر أم إسماعيل -عليه السلام-، والتي لما أنزلها الله -تبارك وتعالى- في هذا المكان هي وابنها إسماعيل، وذهب ماؤها وطعام ابنها، بدأت تبحث عن إنسان في هذا القفر، فصعدت لأول مرتفع قريب منها وهو الصفا، ونظرت هل تجد أحدًا؟!؛ لم تجد، ثم هبطت من الصفا ورملت في بطن الوادي، ثم صعدت إلى المروة هل ترى إنسانا؟!، ثم فعلت ذلك إلى الصفا مرة ثانية سبع مرات، جعل الله -تبارك وتعالى- هذا العمل الذي عملته، جعله الله -تبارك وتعالى- نُسُكا من المناسك.
على كل حال هذه الآية سنعيد تفسيرها كاملة -إن شاء الله-، في الحلقة الآتية، أدركنا الوقت، نكتفي اليوم بهذا، أستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، وأصلي وأسلم على عبد الله ورسوله محمد - صلى الله عليه وسلم-.