السبت 22 جمادى الأولى 1446 . 23 نوفمبر 2024

الحلقة (423) - سورة النور 11-22

الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله الأمين, سيدنا، ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومَن اهتدى بهداه، وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد؛ فيقول الله -تبارك وتعالى- : {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[النور:11], {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ}[النور:12], {لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُوْلَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ}[النور:13], {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[النور:14], {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ}[النور:15], يُخْبِرُ -سبحانه وتعالى- في شأن الإفك، وما رميت به أم المؤمنين عائشة -رضي الله تعالى عنها-، وقد قرأنا حديثها بالتفصيل في الحلقة السابقة، و كيف كان سبب نزول هذه الآيات التي بَرَّأَ الله -تبارك وتعالى- فيها أُم المؤمنين -رضي الله تعالى عنها-, وبَيَّنَ الحكمة والمنافع فيما وقع للمسلمين في هذا الأمر، والدروس العظيمة المستفادة مِن حدوث هذا الإفك؛ فقال -جلَّ وعَلا- : {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ........}[النور:11], فأولًا نسب الله -تبارك وتعالى- الذين جاءوا بالإفك، جاءوا بالكذب، والإفك هو هذا، أصل الإفك أفك بمعنى قلب؛ فهو كلام مقلوب، كذب ليس على وجهه، كلام ليس على وجهه، وإنما مقلوب جُعِلَ فيه الباطل حقًا، والحق باطل, {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ........}[النور:11], سماه الله -تبارك وتعالى- إفك الكذب، وهذا بيان أنَّ أصل الرمي كان كذبًا مِن أساسه, {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ........}[النور:11], {عُصْبَةٌ}, جماعة, {مِنْكُمْ}, مِن المسلمين؛ فمنهم مسلمون أخيار، ولكنهم سمعوا القالة ونقولها دون أنْ يتثبتوا بها، ومنهم مجرمون, فجار، منافقون هم الذين افتروا هذا، وكان الذي افتراه كما مر بنا هو عبد الله بن أُبَىّ بن سلول الذي لم تكن هذه أول أذىً يؤذي به رسول الله -صلى الله وسلم- بل هذه مِن جملة أذياته العظيمة للنبي -صلوات الله والسلام عليه-, فمنذ أنْ أسلم وأعلن إسلامه وهو يكيد للنبي -صلوات الله والسلام عليه- فهو القائل : ما أرانا وهؤلاء على المهاجرين, سمن كلبك يأكلك، وهو القائل : {لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا}, وهو القائل : { لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ}, وهو القائل بعد ذلك في كفره للنبي -صلى الله وسلم- أبعد عنا نتن حمارك فقد آذيتنا، وهو القائل له : يا هذا لا تغشنا في مجالسنا بما نكره مَن آتاك فحدثه، وهذا قبل أنْ يعلن إسلامه، قال -جلَّ وعَلا- : {لا تَحْسَبُوهُ}, أي هذا الإفك, {شَرًّا لَكُمْ}, أي مِن كل وجوهه, {بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ}, وفتنة وأمر عظيم، ولكن الله -تبارك وتعالى- جعل عاقبته خير؛ فقد رفع به منزلة نبيه -صلوات الله والسلام عليه- ظهر فيها صبره، وحلمه -صلى الله وسلم- ومعالجته للأمور، وأنه رسول الله حقًا وصدقًا، وأنه لم يكن يعلم الغيب -صلوات الله والسلام عليه-, وظهر فيها المعدن النفيس لأُم المؤمنين عائشة -رضي الله تعالى عنها-، وكيف تصرفت التصرف الأكمل في صبرها على هذا الأمر العظيم, الهائل، وتصرفها كأحسن ما يكون التصرف مِن الصبر والتحمل، وإسناد الأمر لله -تبارك وتعالى- وقولها بعد أنْ علمت بكل ذلك، قالت : ما أرى لي مثلًا وإياكم إلا كما قال أبو يوسف : {........فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ}[يوسف:18], ثم بعد ذلك هذه الآداب العظيمة الذي أدب الله -تبارك وتعالى- بها عباده المؤمنين، ومنها التثبت في نقل الأخبار، وألا ينقلوا خبرًا ألا بعد أنْ يتثبتوا فيه، وأنْ يظن المؤمنون بإخوانهم خيرًا، وسائر بعد ذلك الآداب التي أنزلها الله -تبارك وتعالى- حفاظًا على نور المجتمع المسلم، وإشراقته وعفافه وتآلف أفراده بعضهم مع بعض, {لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ}, أنَّ الله -تبارك وتعالى- سيجازى كل مَن له دور في هذا الأمر, {}لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ}, مِن العصبة, {مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ}, فالمفتري الكذاب له عقوبة تناسب افترائه وكذبه، والمسلم الخاطئ الذي سمع الكلام ونقله دون أنْ يتثبت فيه؛ فله كذلك عقوبته، وقد رتب الله -تبارك وتعالى- على هذا العقوبة وهي الجلد لِمَن لم يأتِ بأربعة شهداء, {........لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[النور:11], {وَالَّذِي تَوَلَّى}, الذي أخذ هذا الأمر على عاتقه، وبدأ يقوله ويفتريه وينشره وهو عبدالله بن أُبَيّ, {لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ}, وهذا توعد وتهديد له من الله -تبارك وتعالى- بالعذاب العظيم في الآخرة.

ثم بدأ الله -تبارك وتعالى- يعظ عباده المؤمنين في هذا الشأن، قال : {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ}[النور:12], هلَّا إذ سمعتموه أْن يظن الإنسان, {بِأَنفُسِهِمْ}, بإخوانهم؛ لأنَّ الأخ بمنزلة النَّفس، أنْ يظن الإنسان بإخوانه الذين اتُهِمُوا بهذا, {خَيْرًا}, بل لأنه ربما أنْ يكون هو هذا الشخص المرمي هو أفضل منه، كما حدث لأبي أيوب الأنصاري وامرأته؛ فإنه لما سمع هذا جاء أبو أيوب؛ فقال لزوجته : يا فلانة أرأيتِ لو كنتِ مكان عائشة أكنتِ فاعلة هذا الأمر الذي رميت به؟ فقالت : لا والله، قال : وأنا والله لو كنت في مكان صفوان ما هممت بمعصية، والله إنَّ عائشة لأفضل منكِ، وإنَّ صفوان أفضل مِنِّي، فكيف يقع منهم هذا الأمر؟! فظنوا {بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا}, أنهم لو كانوا في هذا المقام ما وقع منهم ذلك؛ فكيف والذي توجه إليه هذه التهمة الكبيرة، والإفك العظيم إنما هي أُم المؤمنين عائشة -رضي الله تعالى عنها- الحصان، الرزان، زوجة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-, وذلك صفوان بن المعطل -رضي الله تعالى عنه- السَّلْمِي هذا الذي صاحب رسول الله، والذي يشهد له النبي -صلى الله عليه وسلم- شهادة بأنه ما علم عليه إلا خيرًا, الصحابي, الجليل, الفاضل كيف يقع منه مثل هذا الأمر! {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ}, هلَّا إذ سمعتم هذا النبأ والخبر الكاذب, {ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا}, مؤمن كل مؤمن، ومؤمن يظن بإخوانهم خيرًا, {........وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ}[النور:12], كان ينبغي ألا يخفى هذا على مؤمن ومؤمنة أنْ يقول أنَّ هذا إفك، كذب، كلام مقلوب, {مُبِينٌ}, بين، واضح لا شبهة فيه, بمجرد أنْ يلقى إليه هذا الخبر, عندما يرى أنَّ أخاه هذا الذي رمي به يستحيل أنْ يقع منه مثل هذا الأمر, ثم قال -جلَّ وعَلا- : {لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ.......}[النور:13], أي إنْ كانوا صادقين فيما يقولون هلَّا جاءوا عليه بأربعة شهداء يشهدون الفعل؛ فهذا هو الذي يثبت به مثل هذا الأمر، قال : {........فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُوْلَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ}[النور:13], يكون يكذبون، وذلك أنَّ حكم الله -تبارك وتعالى- أنَّ جريمة الزنا لا تثبت إلا بشهادة أربعة.

ثم قال -جلَّ وعَلا- متهددًا ومتوعدًا : {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[النور:14], لولا أنَّ الله -تبارك وتعالى- تفضل بكم، وحَلُمَ عليكم, وألا يعاقبكم بمجرد وقوع الذنب منكم, {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[النور:14], {لَمَسَّكُمْ}, أي وصلكم وجاءكم هذا العذاب, {فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ}, مِن هذا الإفك، وأفاضوا بأنهم قالوه وقالوه، {عَذَابٌ عَظِيمٌ}, أي في الدنيا والآخرة, ثم بَيَّنَ الله -تبارك وتعالى- حقيقة هذا الإثم، قال : {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ}, تلُقْوُنَهُ المرة بعد المرة, يلقي ويأتي الثاني ويلقيه مرة ثانية ويقوله أخرى : {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ........}[النور:15], كلام تلقيه باللسان، وتقوله بفمك، وليس عندك علم به, الأمر العلم لا بد أنه يكون هو القائم عن دليل، وإنما هذا مجرد خبر كاذب يأتيك, ثم تنقله وتقوله لغيرك، وتلقيه بلسانك، ولا علم عندك به إلا مجرد أنك سمعته مِن غيرك سمع مِن مصدر لم يستوثق منه ويتضح ويكون هذا الناقل ناقل عن عِلْم, {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا........}[النور:15], {وَتَحْسَبُونَهُ}, أي هذا الفعل عندما تسمع هذه المقالة الفاجرة، الكاذبة، وهي مقالة تهدم الدين، تهدم بيت النبي -صلوات الله والسلام عليه- رمي لمؤمنة, تسمعه وليس خبر لا يقوم عليه أي شبهة دليل؛ فتلقيه بلسانك، وتحسب أنَّ هذا الأمر هين أنك لم تصنع إلا أنْ سمعت كلام؛ فقلته كما يقو لكثير مِن الناس عندما ينقل كلام العهدة على الراوي أنا ما علي شيء إنما أنا سمعت كلامًا وأنقله، لا, الذي يتحدث بحديث لم يتثبت منه، ولم يعرفه هو مشارك في الكذب إذا كان حديث كذب؛ فهو مشارك بالكذب, كما قال النبي -صلوات الله والسلام عليه- : «مَن حَدَّثَ عني بحديث يُرَى أنه كذب فهو أحد الكاذبين»,  فلا شك أنه يكون مشارك في الكذب، وقال النبي -صلى الله وسلم- : «كفى بالمرء إثمًا أنْ يحدث بكل ما سمع», ليس كل ما تسمعه حق فلا يجوز أنْ تحدث إلا بما ثبت عندك أنه حق، ما يثبت أنه حق عند ذلك تحدث به, إذا سمعته وهو ليس أهلًا لأنْ يصدق ترفضه, قال الله -جلَّ وعَلا- : {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا}, في أنْ تسمعوه؛ ثم تلقونه وتنقلونه إلى غيركم دون التثبت فيه, {........وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ}[النور:15], {وَهُوَ}, هذا الذنب، هذا الأمر, {عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ}, أي ذنب عظيم عند الله، وإثم عظيم أنْ ينقل الإنسان حديثًا لم يتثبت منه حديث، وأي حديث إنه رمي للمحصنات المؤمنات.

ثم قال -جلَّ وعَلا- : {وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ}[النور:16], تأديب مِن الله -تبارك وتعالى- يقول : {وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ}, هلَّا أيها المؤمنون, {إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا}, نعوذ بالله تكون حاسة الإيمان، ويقظة قلب المؤمن قائمة, {مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا}, كيف نتكلم بكلام لا دليل عليه! وخطورة هذا الكلام، هذا كلام يمس أُم المؤمنين، وشرف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبيته كيف يتكلم بهذا! {وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ........}[النور:16], تنزيهًا لك يا رب أنْ يقع هذا في المؤمنين، ويقع هذا في بيت النبي -صلى الله وسلم-, {هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ}, {هَذَا بُهْتَانٌ}, كذب، وسمى الكذب الكبير على هذا النحو بهتان؛ لأنه يبهت ما يقال له, معنى يبهته يجعله مبهوت، متحير ما يدري ما يقول، {هَذَا بُهْتَانٌ}, أي أنه كذبٌ مفترى يصيب مَن يسمعه بالبهت, {هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ}.

ثم قال -جلَّ وعَلا- بعد هذا التوجيه، وهذا التهديد : {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا........}[النور:17], أي إنما يحذركم الله هكذا المرة تلو المرة، وينبهكم إلى خطورة ما وقعتم فيه، وإثم ما وقعتم فيه؛ حتى لا تعودوا لمثل هذا مرةً ثانيةً, {يَعِظُكُمُ اللَّهُ}, أي بهذه المواعظ العظيمة، القوية, {أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا}, أنْ تعودوا مرةً ثانيةً لمثل هذا الأمر, أنْ تنقلوا حديثًا على هذا النحو دون أنْ تتثبتوا فيه، وأنْ تقعوا في أعراض المؤمنين على مِثْلِ هذا النحو, {إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ}, إنْ كان عندكم إيمان بالله -تبارك وتعالى- أنْ تعودوا لمثل هذا الإثم, {وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}[النور:18], الله -سبحانه وتعالى- مِن فوق سبع سمواته هو الذى يُبَيِّن لكم هذا, يرشدكم بهذا البيان الواضح, {وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ........}[النور:18], هذه المنزلة يوضحها -سبحانه وتعالى- هذا التوضيح, {وَاللَّهُ عَلِيمٌ}, بكل شيء -سبحانه وتعالى-, {حَكِيمٌ}, يضع الأمور في نصابها؛ فَمِن حكمته هو هذا، هذا الوعظ والإرشاد، وضع الأمور في نصابها، وضع هذه الأحكام مِن حكمته -سبحانه وتعالى-؛ لأنه يضع كل أمر -جلَّ وعَلا- في نصابه.

ثم بَيَّنَ الله -تبارك وتعالى- أثر مِن آثار هذا النقل، وهو إشاعة الفاحشة، قال -جلَّ وعَلا- : {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}[النور:19], {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا........}[النور:19], {تَشِيعَ}, تنتشر، والفاحشة هذه فاحشة الزنا سميت فاحشة؛ لعظم قبحها؛ فالفاحش هو الغليظ؛ فهي ذنب غليظ، شديد القبح فاحشة الزنا، جريمة الزنا؛ فالذين يحبون أنْ تشيع هذه وتنتشر, {فِي الَّذِينَ آمَنُوا}, يُخْبِرُ الله -تبارك وتعالى- بأنهم : {لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ}, ولا شك أنَّ نقل هذا الأمر، وأنَّ فلان وقع في هذا، وفلان وقع في هذا, هذا يؤدي بعد ذلك إلى إشاعة الفاحشة, ارتباط هذا بإشاعة الفاحشة أنه إذا كان الفاحشة تقع مِن مثل هذا، وتقع مِن مثل هذا، وهذا متهم، وهذا متهم، وذاك متهم إذن سيقول الآخر، وأنا ما ميزتي، وما تميزي عن هؤلاء؟ فيجاري هؤلاء، وكذلك نقل هذه الأخبار، ودون التثبت بها تلوث المؤمنين، وكذلك إذا كان كذلك تُطْلِعُ الآخرين على مواطن الضعف, قد يكون يعض هذه الأخبار التي تُنْقَل بدون كذلك تثبت وتروي بعضها قد يكون في نقل أخبار الفاسقين والفاسقات؛ فإذا نقل هذا ونُشِرَ؛ فإنه ينبه الناس إلى مواقع الخنى والفحش؛ فتنتشر الفاحشة؛ فلذلك يجب أنْ يكون هذا الأمر محصور، تصان أعراض أهل الإيمان، ولا يُنْقَلُ إلا بدليل، ويكون التثبت في كل جُرْم حتى يعرف أهل الفحش أنفسهم؛ فتقام عليهم الحدود، وعند ذلك تخمد هذه الفاحشة ولا تشيع, أما إذا انطلقت القالة، وأصبح كل إنسان ممكن أنْ يتكلم ولا عقوبة في هذا الأمر، ولا توقف فيه، ولا يراقب ربه -سبحانه وتعالى- عند ذلك؛ فإنه تشيع مقالات هذا الفحش والفجور في المجتمع، وتشيع بالضرورة لا بد أنْ تشيع الفاحشة, {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا........}[النور:19], فيقع فيها الجميع الأخيار، وغير الأخيار، قال -جلَّ وعَلا- : {لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ}, مجرد إرادة أنْ تشيع الفاحشة يتهدد الله -تبارك وتعالى- هؤلاء بأنَّ {لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ}, عذاب أليم في الدنيا بأنَّ الله -تبارك وتعالى- فَرَضَ الحد الشرعي عليهم، وهو الجلد ثمانين جلدة لكل مَن نَقَلَ خبرًا لم يتثبت فيه، وكذلك ممكن أنْ يسلط الله -تبارك وتعالى- عليهم مَن يُعَذِّرَهُم ويعاقبهم، وممكن أنْ يبتليهم الله -تبارك وتعالى- بما شاء مِن العقوبات في الدنيا، والعقوبة الأخروية تنتظرهم عقوبة النار -عياذًا بالله- {لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ}, هذا تهديد ووعيد مِن الله -تبارك وتعالى-, {........وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}[النور:19], {وَاللَّهُ يَعْلَمُ}, بكل الأمور, {وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}, ربما تظنوا أنَّ هذا الأمر ليس له أثر في الشر، والحال أنه له أثر عظيم في الشر؛ فالله يعلم كل الأمور -سبحانه وتعالى- فعندما يرشدكم إلى أمر ويحذركم منه, يعلم الله -تبارك وتعالى- عاقبة هذا، عاقبة الفساد المتأتى مِن هذا في الدنيا؛ فإذن الزموا شَرْعَ الله -تبارك وتعالى-, والآداب التي أدبكم الله -تبارك وتعالى- بها, {........وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}[النور:19].

ثم قال -جلَّ وعَلا- في ختام هذا الفاصل : {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}[النور:20], {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ........}[النور:20], هذه جملة شرط فيها فعل الشرط، وجواب الشرط محذوف, {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ........}[النور:20],  أي لعاقبكم عقوبة شديدة على هذا الأمر التقدير لعوقبتم عقوبة شديدة، أو لما بَيَّنَ الله -تبارك وتعالى- لكم هذا البيان، وادخر عقوبتكم للآخرة، ولكن الله -تبارك وتعالى- قال : {........وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}[النور:20],  بكم -سبحانه وتعالى- فَبَيَّنَ لكم، وحذركم وأنذركم، وبَيَّنَ لكم خطورة هذا الفعل، وكيف الخروج منه، وبرأ الله -تبارك وتعالى- أهل البراءة بآياته، بالآيات المنزلة منه -سبحانه وتعالى-, ووصم أهل الإفك بما فعلوه تمامًا حتى يعريهم ويبينهم؛ فهذا كله مِن رأفته ورحمته -سبحانه وتعالى- بعباده أنْ أنزل هذه الآيات البَيِّنَات، المحكمات على هذا النحو، ولم يعاجل -سبحانه وتعالى- بالعقوبة لكل مَن وقع فيها؛ فإنَّ كثير من وقع فيها، وقع فيها بحسن ظن وبخطأ، وأنه لم يراعي للأمر رعايته، وظن أنَّ الأمر هين ما فيه إنه كلام قيل ونقله, {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}[النور:20], بكم -سبحانه وتعالى-.

ثم شَرَعَ الله -تبارك وتعالى- يعظ عباده المؤمنين في أنْ يستقيموا على أمره -سبحانه وتعالى-, وأنَّ كل هذه المعاصي إنما هي بفعل الشيطان؛ فقال -جلَّ وعَلا- : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}[النور:21], {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}, نداء مِن الله -تبارك وتعالى- لعباده المؤمنين يناديهم الله -تبارك وتعالى- ويخاطبهم بأشرف الأسماء اسم مسمى الإيمان، وهذا فيه حض لهم على الالتزام، وكذلك فيه إلزام لهم بأنْ يلتزموا أمر الله -تبارك وتعالى- أي ما دمت مؤمنًا؛ فإذن وجب عليك أنْ تطيع أمر الله -تبارك وتعالى- فيما يأمرك به, {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ........}[النور:21], {خُطُوَاتِ}, جمع خطوة، وهي نقلة الرجل نقلة واحدة, أي تسيروا خلفه، والشيطان اسم جنس هنا رأسهم إبليس، ومَن تمرد مِن أتباعه وأوليائه وذريته، وساروا في إغواء بني آدم، لا تسر خلف الشيطان, {لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ}, يخطو خطوة تسيروا خلفه, ثم بَيَّنَ الله -تبارك وتعالى- ما هي خطوات الشيطان هذه, قال : {وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ}, هذا شغل الشيطان أنه : {يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ}, يأمر أتباعه ومَن يواليه، ومَن يسيرون على خطه {بِالْفَحْشَاءِ}, وهي الذنب الفاحش، العظيم، الكبير, {وَالْمُنْكَرِ}, وهو الذنب، كل ذنب، كل معصية؛ فهي منكر، منكر أي أنَّ الله -تبارك وتعالى- جعلها أمر مبغض أبغضه الله -تبارك وتعالى- وبَغَّضَ فيه عباده، وكذلك جعل قلوب أهل الإيمان تنكره؛ لأنَّ قلوب أهل الإيمان تنكر هذا الفعل, {فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ}, إذن الشيطان خبيث، وهذا أمره، واتباع خطواته معناه أنَّ الإنسان يسير وراءه في فعل الفحشاء والمنكر؛ فهذا هو لا يأمر إلا بهذا، وهذا ضد أوامر الله -تبارك وتعالى- فإنَّ الله -تبارك وتعالى-, {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى........}[النحل:90], هذا طريق الرب -سبحانه وتعالى- لا يأمر إلا بالعدل وبالإحسان, {وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى}, وكل الأعمال الفاضلة، الجميلة, الخلق العظيم, {وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ}, هذا نهي الله -تبارك وتعالى-, والشيطان بضد ذلك؛ فإنَّ الشيطان إنما يأمر أتباعه بالفحشاء والمنكر, ويصرفهم ويبعدهم عن كل عدل وإحسان, {فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ}.

ثم قال -جلَّ وعلا- : {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا}, لولا فضل الله -تبارك وتعالى- فضله وعطاؤه وإحسانه ومَنُّهُ -سبحانه وتعالى- بكم أيها المؤمنون, {مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا}, {زَكَا}, تطهر وتطيب، وصلحت نفسه، وذلك أنه الله هو الذي يُزَكِّي النفوس -سبحانه وتعالى- ,الله هو الذي يُزَكِّي نفوس خَلْقِهِ -سبحانه وتعالى- بأنْ يلهمهم رشدهم، ويوفقهم إلى طاعته ومرضاته -سبحانه وتعالى-, أما الإنسان بِنَفْسِهِ؛ فإنه لا يستطيع أنْ يتزكى دون أنْ يزكيه الله -تبارك وتعالى-, ويطهره الله -تبارك وتعالى-, ويهديه الله -عز وجل- فالهدى هُدَى الله -تبارك وتعالى- إنَّ الهدى هداه، والتزكية زكاته -سبحانه وتعالى- {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ}, {اللَّهَ يُزَكِّي}, يطيب ويطهر نفوس مَن يشاء مِن عباده؛ فيجعلها زكية، طاهرة، طيبة، وهذا فيه شهادة لأم المؤمنين عائشة -رضي الله تعالى عنها- بأنَّ الله -تبارك وتعالى- قد زكاها وطيبها وطهرها، وأنَّ هذه التزكية مِن الله -سبحانه وتعالى-, {وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}, {سَمِيعٌ}, لعباده -سبحانه وتعالى-, {عَلِيمٌ}, بأحوالهم إذن هو عَلِيمٌ, بمن يستحق أنْ يزكى؛ فيزكيه الله -تبارك وتعالى-, وعليم أيضًا بالمفهوم بمن هو جدير بالكفر والتدسية؛ فيخليه الله -تبارك وتعالى- ويتخلى الله -تبارك وتعالى- عنه, ويتركه لشيطانه, {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا}[مريم:83], فالتزكية الله -تبارك وتعالى-, {يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ}, -سبحانه وتعالى-, {وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}, وهذا بفضل الله -تبارك وتعالى- ورحمته.

ثم قال -جلَّ وعَلا- : {وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[النور:22], {وَلا يَأْتَلِ}, يحلف مِن الألي الحلف, {أُوْلُوا الْفَضْلِ}, أهل الإحسان, {مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ}, سعة المال, {أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى}, أنْ يعطوا مِن فضلهم وإحسانهم وبرهم أصحاب القرابة, {وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا}, وذلك أنَّ أحد، نزلت هذه الآية في أبي بكر الصديق -رضي الله تعالى عنه-، ومسطح بن أثاثة لما نزلت براءة أم المؤمنين عائشة -رضي الله تعالى عنها-، وكان مسطح، وهو ابن خالة أبي بكر الصديق، وقال : والله لا أنفق عليه بعد ذلك أبدًا، وكان ينفق عليه مِن ماله -رضي الله تعالى عنه-؛ فأنزل الله -تبارك وتعالى- هذه الآية : {وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا........}[النور:22], أي ليعفوا عنهم ويصفحوا، وقعت منه الإساءة لكن يستحق العفو، وقد أخذ جزاؤه بالحد, {........أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[النور:22], فإنَّ الله -تبارك وتعالى- يحب مِن عباده أهل السماحة، وأهل المغفرة، وأهل العفو؛ فمن عفى؛ فإنَّ الله -تبارك وتعالى- يأجره؛ فقال أبو بكر لما سمع هذه الآية، قال : والله أحب أنْ يغفر الله لي، وأرجع نفقته إلى مسطح مرة ثانية، وقال : والله لا أقطعها عنه بعد ذلك أبدًا.

نقف هنا، ونعود -إنْ شاء الله- لاستئناف السير مع هذه الآيات العظيمة، أستغفر الله لي ولكم مِن كل ذنب، وصلى الله وسلم على عبده، ورسوله محمد.