الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله الأمين, سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله وأصحابه، ومَن اهتدى بهداه، وعمل بسنته إلى يوم الدين.
وبعد؛ فيقول الله -تبارك وتعالى- : {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[النور:23], {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[النور:24],{يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ}[النور:25], {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُوْلَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}[النور:26], بعد أنْ وعظ الله -تبارك وتعالى- عباده المؤمنين بهذه المواعظ العظيمة، وبَيَّنَ هذه الأحكام الجليلة في شأن الإفك أخبر -سبحانه وتعالى- هنا في هذه الآيات بالعقوبة التي تنتظر الذين يرمون المحصنات, المؤمنات, الغافلات، قال -جلَّ وعَلا- : {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[النور:23], هذا حكم مِن الله -تبارك وتعالى- وعيد، قال -جلَّ وعَلا- : {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ........}[النور:23], الرمي هنا هو القذف، الرمي بالزنا خاصة, {الْمُحْصَنَاتِ}, العفيفات؛ فالعفيفة العفة تكون حصن لها تُحَصِّنُهَا مِن أنْ تقع في الفاحشة, {الْغَافِلاتِ}, عن الشر؛ فهي غافلة عن الشر لا تدري، لا تعرف طرق هذه الغواية؛ فهذه البريئة, الغافلة التي لا تعرف طرق الشر، وليست الغافلة بمعنى التغفيل ونقص العقل، لا، وإنما أنها غافلة عن هذا الشر لا تعرف طرق الشر والغواية, {الْمُؤْمِنَاتِ}, الإيمان أكبر حصن فالمؤمن بالله -تبارك وتعالى-, المؤمن معناه يتقي الله -تبارك وتعالى-, وقد جاء في الحديث : «أنَّ الزاني لا يزني حين يزني وهو مؤمن», كما قال النبي -صلى الله وسلم- : «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن, ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه فيها أبصارهم وهو مؤمن», فالذي يقع في هذه الفاحشة لو كان مؤمنًا حقًا بالله -تبارك وتعالى- وقت وقوع الفاحشة منه؛ لما قارف الفاحشة، علم أنَّ الله -تبارك وتعالى- مُطَّلِعٌ عليه؛ فهذه {الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ}, العفيفات, {الْغَافِلاتِ}, البعيدات عن الشر, {الْمُؤْمِنَاتِ}, بالله -تبارك وتعالى-, قال -جلَّ وعَلا- : {........لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[النور:23], هذا وعيد شديد مِن الله -تبارك وتعالى-, {لُعِنُوا}, واللعن هنا جاء بإسناد الفعل لما لم يُسَمَّ فاعله، ولا شك أنَّ فاعل هذا الله -تبارك وتعالى-, أي أنَّ الله -تبارك وتعالى- لعنهم، طردهم مِن رحمته, {فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ}, عليهم اللعنة في الدنيا، ولهم اللعنة في الآخرة, {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}, فى الآخرة، وهذا بيان أنَّ هؤلاء الذين رموا أُم المؤمنين عائشة -رضي الله تعالى عنها- فيهم هذا الوعيد الدنيوي والأخروي, {........لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[النور:23], {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[النور:24], {يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ}[النور:25], فهذه الآية عامة, {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ........}[النور:23], أي محصنات، وهي كذلك بسبب أُم المؤمنين عائشة -رضي الله تعالى عنها- فهي داخلة فيها دخول أَوَّلِي، وقد أخبر النبى -صلوات الله والسلام عليه- بأنَّ رمي المحصنات المؤمنات الغافلات مِن السبع الموبقات، قال -صلى الله وسلم- : «اجتنبوا السبع الموبقات», أي السبع الذنوب الموبقة, المهلكة، قيل وما هن يا رسول الله، قال -صلى الله عليه وسلم- : «الشرك بالله والسحر وأكل الربا, وأكل مال اليتيم, والتولي يوم الزحف, وقتل النفس التي حَرَّمَ الله», وقال : «وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات», فقذف المحصنات الغافلات المؤمنات هذا مِن السبع الموبقات، وهذا هنا مطابق لقول الله -تبارك وتعالى- : {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}[النور:23].
ثم قال -جل وعلا- : {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[النور:24], ينطق الله -تبارك وتعالى- هذه الأعضاء؛ فتنطق على صاحبها عندما ينكر ويجحد؛ فإنَّ هؤلاء الكفار والمنافقون يجحدون، يجحدون أنه وقع منهم هذا الأمر, {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ}[الأنعام:23], وكذلك يقول الكافر، ويقول العاصى، يقول الله : أنا لا أقبل عليا شاهد إلا مِن نَفْسِي؛ فعند ذلك يُنْطِقُ الله -تبارك وتعالى- أعضاءه، تقول يده فعلت كذا وكذا في يوم كذا وكذا، وتقول رجله فعلت كذا، ومشيت كذا في يوم كذا وكذا، ويشهد جلده، وقال -تبارك وتعالى- عن الكفار الذين قالوا بأنَّ الله -تبارك وتعالى- لا يَطِّلِع على ما خفي مِن عملنا، وإنما يعلم ما أعلناه فقط، كما قال ابن مسعود : (بينما رجلان سمينان يطوفان حول الكعبة مِن قريش؛ فقال أحدهما للآخر: أترى أنَّ الله يَطَّلِع على فعلنا؛ فقال : ما عملنا مِن جهر علمه، وما عملناه في السر لم يعلمه)؛ فأنزل الله -تبارك وتعالى- قوله : {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ}[فصلت:22], {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ}[فصلت:23],؛ فكانوا يستترون لأنهم يظنوا أنَّ الله -تبارك وتعالى- لا يعرف، ولا يعلم ما يعملونه في السر؛ فالله يقول لهم : {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ........}[فصلت:22], ما دار في خَلَدِكُم أنَّ جلودكم وأيديكم وأرجلكم ستشهد عليكم يوم القيامة, {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ}[فصلت:22], {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ}[فصلت:23], فَيُخْبِرُ هنا -سبحانه وتعالى- بأنَّ هؤلاء الذين فعلوا هذه الفعلة المنكرة، وهي رمي المحصنات الغافلات المؤمنات في أنَّ الله -تبارك وتعالى- سينطق ألسنتهم عليهم, اللسان الذي هو بإرادة الإنسان يتكلم، بإرادة هذا الكافر والمنافق يتكلم وينفى عن نَفْسِهِ أنه فعل هذا؛ فينطق الله -تبارك وتعالى- اللسان كعضلة الله ينطقه ليشهد على صاحبه، وكذلك اليد لتشهد على صاحبها، والرجل لتشهد على صاحبها، ويقول هذا المخذول يقول لأعضائه : عنكن كنت أدافع، أنتم تشهدوا عليا، أنتم شاهدين مِن نَفْسِي، وأنا كنت أدافع عنكِ أيتها اليد؛ فيقولوا :{أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ}, {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ.........}[النور:24], لسانه يشهد عليه؛ فينطق الله -تبارك وتعالى- لسانه بالحق؛ ليشهد على صاحبه, {........وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[النور:24], {يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ........}[النور:25], {يَوْمَئِذٍ}, يوم القيامة, {يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ}, التوفية هو إعطاء الشيء وافيًا أي كاملًا, {دِينَهُمُ الْحَقَّ}, جزاؤهم الحق، ودينهم لا تأتي في القرآن إلا بالجزاء, أي يعطيهم الله -تبارك وتعالى- جزاؤهم الذي يستحقونه تمامًا, {........وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ}[النور:25], {وَيَعْلَمُونَ}, في ذلك الوقت العلم اليقيني عندما يعاينوا عذاب الرب -تبارك وتعالى- وعقوبته, {........وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ}[النور:25], -سبحانه وتعالى-, {الْحَقُّ}, البَيِّن الذي لا شبهة فيه، وبالتالي أنَّ وعده ووعيده حق وصدق -سبحانه وتعالى-.
ثم قال -جلَّ وعَلا- : {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُوْلَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}[النور:26], في تفسير ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما-, قال : {الْخَبِيثَاتُ}, أي الكلمات الخبيثات, {لِلْخَبِيثِينَ}, أي أنها تليق بالخبيثين مِن الرجال, {وَالْخَبِيثُونَ}, أي مِن الرجال, {لِلْخَبِيثَاتِ}, مِن الكلام هذه يستحقونها لهم, {وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ}, الكلمات الطيبات هذه للطيبين, {وَالطَّيِّبُونَ}, مِن الرجال, {لِلطَّيِّبَاتِ}, للأعمال والأقوال الصالحة، الطيبة, {أُوْلَئِكَ}, أي الطيبون, {........مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}[النور:26], وفي الوجه الآخر في التفسير {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ}, الخبيثات مِن النساء للخبيثات, أي أنه قَدَرًا مِن الله -تبارك وتعالى- وفطرة وتيسيرًا وتوفيقًا أنَّ الله -تبارك وتعالى- يجعل المرأة الخبيثة لا يوافقها، ولا يميل إليها ويحبها إلا خبيث مثلها، وكذلك الرجل الخبيث لا يوافقه إلا خبيثة مثله؛ فالأشكال التي تنسجم بعضها مع بعض لا بد أنْ تكون مِن مشرب واحد، ومِن توجهٍ واحد، وأما النَّفْس الطيبة لا يمكن أنْ تلتئم مع نفس خبيثة أبدًا, {وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ}, الطيبات من ِالنساء للطيبين مِن الرجال؛ فلا يلتئم مع الطيب مِن الرجال إلا امرأة طيبة، وكذلك {وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ}, الرجال الطيبون كذلك للنساء الطيبات, {أُوْلَئِكَ}, أي الطيبون, {مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ}, {مِمَّا يَقُولُونَ}, يتهمونهم بهم أهل الإفك والكذب, {........لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}[النور:26], وهذا فيه بيان رسول الله -صلوات الله والسلام عليه- أطيب الطيبين -صلى الله وسلم-, لا أطيب مِن عبدالله ورسوله محمد -صلوات الله والسلام عليه- أشرف الخلق، وأفضل الخَلْق، وسيدهم جميعًا، وأعلاهم منزلة عند الله -تبارك وتعالى-, لا يوافقه لا شك إلا امرأة طيبة، ونَفْس طيبة، ولا يمكن أنْ يميل بقلبه ويحب إلا امرأة طيبة، عائشة أُم المؤمنين كانت أحب الخَلْق إلى النبى محمد -صلوات الله والسلام عليه- فكيف يكون، كيف يتصور أنْ يكون أطيب خَلْقِ الله -تبارك وتعالى- توافقه، ويحب امرأة خبيثة ترضى على نَفْسِهِا الإثم والفاحشة هذا يستحيل؛ فهنا بيان مِن الله -تبارك وتعالى- أنَّ الله -تبارك وتعالى- دائمًا لا يجعل نَفْسًا طيبة تلتئم وتحب ولا يوافقها إلا نفس طيبة مثلها, {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُوْلَئِكَ........}[النور:26], هؤلاء الطيبون والطيبات, {مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ}, أي أنَّ الله -تبارك وتعالى- برأهم, البراءة وهي البعد والنزاهة، {مِمَّا يَقُولُونَ}, يقوله أهل الإفك والكذب, {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ}, عند الله -تبارك وتعالى- لذنوبهم, {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ}, لذنوبهم عند الله -تبارك وتعالى-, {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}, في الجنة, هذا وعد مِن الله -تبارك وتعالى-, وتأتي هذا في ختام هذه الشهادة الإلهية، شهادة مِن الله -تبارك وتعالى- في هذا الأمر العظيم، شهادة ببراءة أُم المؤمنين عائشة -رضي الله تعالى عنها- مما رماها أهل الإفك، وتأتي هذه الشهادة بهذا التوضيح، وبهذه الأدلة، وبهذا البيان الإلهى العظيم، ومثل ما تقول أُم المؤمنين عائشة -رضي الله تعالى عنها-، تقول : (لقد كان أنا في نَفْسِي أحقر مِن أنْ ينزل الله -تبارك وتعالى- فيا قرآنًا يتلى)، تقول : (كنت أطمع أنْ يرى رسول الله -صلى الله وسلم- رؤيا يبرئنى الله تعالى بها، وكنت أحقر عند نفسي مِن أنْ ينزل الله -تبارك وتعالى- فيا قرآناً يتلى), لكن لننظر هذه الحصان, الرزان، المتواضعة، المؤمنة، العفيفة كيف أنَّ الله -تبارك وتعالى- يُنْزِلُ في شأني هذا القرآن منه -جلَّ وعَلا- إلى عباده ليتلى إلى يوم القيامة شاهدًا بنزاهتها وبرائتها، وأنَّ نَفْسَهَا الطيبة، وأنَّ نَفْس رسول الله الطيبة -صلوات الله والسلام عليه- لا يمكن أنْ يوافقها إلا نفس طيبة كذلك, {........وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُوْلَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ}[النور:26].
ثم شرع الله -تبارك وتعالى- بعد ذلك في بيان مجموعة مِن الآداب يُعَلِّمُ بها المؤمنون، يُعَلِّمُ بها -سبحانه وتعالى- عباده المؤمنين هذه الآداب التي مِن شأنها أنْ تكون حماية للبيت المسلم، والأسرة المسلمة للمؤمنين مِن أنْ يقعوا في الفاحشة، أو تتدنس أعمالهم، أو يكون هناك شبهة مِن الشبهات التي يمكن أنْ يدخل منها كذلك أعداؤهم، قال -جلَّ وعَلا- : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}[النور:27], هذا نظام الاستئذان مِن خارج البيوت, {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا}, نداء مِن الله -تبارك وتعالى- لعباده المؤمنين, {لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا}, نَهَى الله -تبارك وتعالى- عباده المؤمنين أنْ يدخل الإنسان بيتًا غير بيته بيت الدار ثم بيت؛ لأنه مكان المبيت, {لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا}, والاستئناس هو أنْ يرى الزائر والداخل إلى بيت غيره أنَّ أهل هذا البيت هم يأنسون لدخوله، والأنُسْ هو، والاستئناس به بمعنى أنه لا يستوحشون مِن ذلك، ولا هم كارهين بهذا، بل هم فرحون مسرورون عندما يزورهم هذا الزائر؛ فلا بد أنْ يرى عندهم القبول, أدنى الأمر القبول والاستئناس به، وليس الاستيحاش والجفول والجفوة منه؛ فإذا شعر الإنسان أنه هناك أمر ثقيل، أو أمر يكرهه أهل البيت مِن دخوله؛ فلا يدخل، بل لا بد أنْ يرى عندهم ترحيبًا به، واستئناسًا لدخوله, {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا}, ثم قال : {وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا}, لا دخول إلا بعد السلام على أهلها، وهي قول السلام عليكم ورحمة الله, أدناها السلام عليكم الحد الأدنى، ورحمة الله بعد ذلك الخطوة الثانية، وبركاته الثالثة, {وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا}, أهل هذه البيوت, {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ}, {ذَلِكُمْ}, الذي المشار إليه هذا الأدب، أدب الاستئذان, {خَيْرٌ لَكُمْ}, أخير, {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}, بهذا الأدب الإلهى يؤدبكم الله -تبارك وتعالى- به تتذكرون أنَّ هذا تأديب، وتعليم لكم مِن الله -تبارك وتعالى-, {فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ........}[النور:28],إذا لم تجد صاحب الدار في داره إياك أنْ تدخل، {فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ}, إلا إذا آذن لكم بأنْ قال لكم : إذا لم تجدني؛ فاخل الدار، انتظرني في هذا المكان؛ فيكون هذا إذن منه, {فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا}, إنْ قيل لكم مجرد قول، وهنا {قِيلَ لَكُمُ}, ما شرط أنْ يقول صاحب الدار، لا, {وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ}, هذا القول صَدَرَ مِن صاحب المنزل مِن أهله، مِن أبناءه, {قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا}, إنْ مثلًا أبانا الآن، أو كذا، أو لسنا مستعدين للقائك الآن، عُد في وقت آخر, {فَارْجِعُوا}, ليس معنى قول الله -عزَّ وجلَّ- : {وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا}, هو مِن باب تحصيل الحاصل؛ فإنَّ الإنسان إذا قيل له ارجع وهو زائر؛ فسيرجع لن يقاتل، ولن يقف، وأنْ يقول هذا, العادة أنْ يرجع لكن النهي هنا, {فَارْجِعُوا}, دون أنْ يكون هناك في النَّفْسِ شيء مِن إرجاعه؛ فإنَّ هذا مِن حق صاحب الدار؛ فربما كان محرج الآن أنْ يستقبل أحدًا؛ {وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا}, ولا يكن في النفس تَلَوُّم وسخط وبغض لهذا، بل إنَّ هذا مِن حقهم يصبح إنَّ هذا مِن حق صاحب الدار أنْ يقول لزائره, إذا كان فى حرج مِن زيارته الآن أنْ يقول له ارجع, {وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ}, أي ارجع وأنت طيب النَّفْس, {هُوَ أَزْكَى لَكُمْ}, هذا أطهر أنْ تحرج صديقك وأخاك وصاحبك؛ فتدخل وهو متضايق منك، لا يريد دخولك الآن، ربما تطلع على عورات لا يحب أنْ تَطَّلِع عليها, {هُوَ أَزْكَى لَكُمْ}, أطهر وأنظف, {........وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ}[النور:28], ختام الآية يُبَيِّنُ أنَّ الله عليم بكل أعمالكم سواءً كان هذا العمل مِن أعمال القلب، أم مِن أعمال الجوارح؛ فإنَّ الله -تبارك وتعالى- عليم بكل ذلك، أي راقبوا ربكم -سبحانه وتعالى- فإنَّ الله عليم بكل أعمالكم.
ثم قال -جلَّ وعَلا- : {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ}[النور:29], لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ........}[النور:29], أي بدون استئذان, {بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ}, بيوت ليست سكن لأهلها، والسكن مكان للسكون والراحة والطمأنينة فيه, أما البيوت غير المسكونة كالأسواق وغيرها ِمن أمور مثلًا مفتوحة للجميع، وليست هي مكان بيوت للناس تسكن فيها، وتعيش فيها، وإنما, {فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ}, إنما أنه هذه معارض، متاحف، أسواق، غيرها مِن الأماكن العامة أنْ يدخل الإنسان دون أنْ يستأذن, {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ........}[النور:29], أي مِن المفتوحة لعموم الناس, {........وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ}[النور:29], {وَاللَّه}, -سبحانه وتعالى- يعلم ما تبدونه مِن أعمالكم تظهرونه، {وَمَا تَكْتُمُونَ}, تخفونه سواءً كان هذا الكتمان في الصدر، أو إنه إخفاء عن الناس؛ فإنَّ الله -تبارك وتعالى- يعلم هذا وهذا.
ثم قال -جلَّ وعَلا- بعد هذا آداب البيوت والاستئذان، قال -جلَّ وعَلا- : {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ}[النور:30], {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[النور:31], هذا آداب النظر، وأَدَّبَ الله -تبارك وتعالى- في هذا الأدب المؤمنين والمؤمنات، والنظر هو الخطوة الأولى نحو الزنا، النظر إلى العورات؛ فالله -تبارك وتعالى- هنا بعد أنْ بَيَّنَ آداب الاستئذان مِن داخل البيوت، وإنما جُعِلَ الاستئذان مِن أجل النظر؛ فالاستئذان سابق أنْ تستأذن؛ حتى لا تطلع على في بيت أخيك المسلم على حرماته، ولا ما لا يحل لك أنْ تنظر إليه، جاء النظر بعد ذلك؛ فقال -جل َّوعَلا- : {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ........}[النور:30], أمر مِن الله -تبارك وتعالى- جاءت الآية بصيغة أمر مِن الله -تبارك وتعالى- لرسوله أنْ يقول للمؤمنين غضوا مِن أبصاركم فيغضوا؛ وذلك أنهم مؤمنون, {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ........}[النور:30], وقول الله -تبارك وتعالى- : {ِلْمُؤْمِنِين}, وذلك أنهم هم الذين يستجيبون للفعل بإيمانهم لأنهم مؤمنون، وجاء هذا, {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ........}[النور:30], مجزوم لأنه مضمن بمعنى الشرط, أي إنْ تقل للمؤمنين غضوا مِن أبصاركم يغضوا مِن أبصارهم, {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ........}[النور:30], فيغضوا أنه إنْ تقل لهم غضوا عند ذلك يقع منهم هذا يغضوا مِن أبصارهم، والغَضّ هو القصر، تقصير مِن النظر ضد الإطالة, أي لا تطل نظرك إلى العورة, بل اذا سقطت عينك على عورة؛ فأقصر، أو اصرف بصرك، كما فى الحديث لما سئل النبى عن النظرة؛ فقال : «اصرف بصرك»، وقال : «إنما لك الأولى وعليك الثانية», لك الأولى في النظرة الأولى، وعليك الثانية إذا مددت بصرك، ونظرت النظرة الثانية؛ فيكون هذا عليك, {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ........}[النور:30], ثم : {وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ}, بعد هذا حِفْظ الفرج، حفظه عنه الزنا، وحفظه عن العورات والكشف, {ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ}, {ذَلِكَ}, أي غض البصر، وحفظ الفروج, {أَزْكَى لَهُمْ}, أطيب وأطهر, {........إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ}[النور:30], {إِنَّ اللَّهَ}, -سبحانه وتعالى- هذا تهديد ووعيد, {خَبِيرٌ}, الخبرة هي العلم الدقيق، العلم الخفي بالأمور أي أنَّ الله -تبارك وتعالى- يعلم الأمور الخفية، ويعلمها -سبحانه وتعالى- فهذه خبرة، هذا معنى الخبرة, {........إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ}[النور:30], وقال : {بِمَا يَصْنَعُونَ}, لم يقل بما يعملون؛ وذلك أنَّ الصنع أخص مِن العمل؛ فالعمل يدخل فيه كل عمل، ولكن الصنع عمل مُتْقَن، وهنا نظر العين، والتكلم بالنظر، والغمر واللمز, العيون لها لغة، وهذه صناعة، {........إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ}[النور:30], أي بأخص أعمالهم، العمل المتقن، والذي يظن الإنسان أنَّ هذه نظرة هي عنده لها معنى، ويظن أنها لا يعلمها الله -تبارك وتعالى-؛ فالله يعلمها, {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ}[غافر:19], أي نظرة خائنة؛ فإنَّ الله يعلمها -سبحانه وتعالى-؛ فقال : {........إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ}[النور:30], ولم يقل بمجرد بما يعملون، بل لو كان هناك أمر مِن هذا العمل بالنظر هو داخل مِن باب الحذق والمهارة والصناعة فيه لغة يرسلها؛ فالله عليم بها -سبحانه وتعالى-, وإنْ كان يظن أنها تخفى على الناس؛ فإنها لا تخفى على الله -تبارك وتعالى-, {........إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ}[النور:30].
ثم قال -جلَّ وعَلا- : {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ........ }[النور:31], اؤمر المؤمنات كذلك أنْ {يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ}, الغض هو التقصير, {مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ}, نَفْس الأمر الذي أَمَرَ الله -تبارك وتعالى- به الرجال, {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا}, {يُبْدِينَ}, يظهرن, {زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا}, المرأة كلها زينة، وكل شيء فيها مدعاة للفتنة مِن قمة رأسها إلى أخمص قدمها، وما تتجمل به، وتتزين به زينة على زينتها؛ فشعر المرأة ووجهها ويديها وقدميها، وكل جزء مِن كيانها إنما هو زينة وفتنة وجمال، ويلفت النظر؛ فأَمَرَ الله -تبارك وتعالى- المؤمنات أنْ لا تبدي شيئًا مِن زينتها, ثم قال -جلَّ وعَلا- : {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا}, فيها وجهان مِن وجوه التفسير لسلفنا الصالح رضوان الله عليهم؛ فابن عباس -رضي الله تعالى عنه- يقول : {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا}, الزينة التي تظهر منها بحكم ما تظهره مِن جسدها, وهو الوجه والكفين؛ فإنه يرى أنَّ الوجه والكفين هي المرأة تظهره, فإنَّ المطلوب تغطيته إنما هو سائر البدن إلا الوجه والكفين؛ فإذا كان في الوجه زينة كأن يكون فيه كحل في العين، واليد خضاب في اليد كالخضاب، أو الخاتم في الأصبع؛ فهذا زينة، وهذه الزينة كحلها في عينيها، أو خاتمها في يدها، أو خضابها في يدها إنما تظهره بحكم ما أبيح لها أنْ تظهره, {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا}, بحكم ما تُظْهِرُ مِن الوجه والكفين، والوجه الثانى : {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا}, رغماً عنها، رغمًا عنها كأن بأنْ تكون في حجابها؛ فتأتي الريح؛ فتكشف شيئًا مِن جسدها، تكشف عن ساقها، عن قدمها؛ فيكون {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا}, أي رغمًا عنها بدون قصد منها, على كل حال وقد أدركنا الوقت، وهذه الآية طويلة، وفيها -إنْ شاء الله- مزيد التفسير والشرح نعود إليه -إنْ شاء الله- في الحلقة الآتية.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم مِن كل ذنب، وصلى الله، وسلم على عبده ورسوله محمد.