الحمد لله رب العالمين، والصلاة، والسلام على عبده، ورسوله الأمين سيدنا، ونبينا محمد، وعلى آله، وأصحايه، ومَن اهتدى بهداه، وعمل بسنته الى يوم الدين.
وبعد؛ فيقول الله -تبارك وتعالى- : {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ}[النور:30], {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[النور:31], الآيات مِن سورة النور، وفي هذه الآيات يأمر الله -تبارك وتعالى- عبده ورسوله محمدًا -صلى الله عليه وسلم- أنْ يأمر المؤمنين والمؤمنات بهذه الأوامر العظيمة صيانة لهم، قال -جلَّ وعَلا- : {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ........}[النور:30], وجاء هذا الفعل الغض هو التقصير، وجاء هذا الفعل بصيغة الجزم؛ لأنه مضمن معنى الشرط إنْ تقل للمؤمنين يغضوا، يغضوا مِن أبصارهم؛ وذلك لإيمانهم؛ فهم مؤمنون بالله -تبارك وتعالى-, والمؤمن مسارع لتنفيذ أمر الله -تبارك وتعالى-, إنْ تقل للمؤمنين غضوا مِن أبصاركم يغضوا, {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ........}[النور:30], أي عدم إطالة النظر إلى العورات، وإلى الأجنبيات، وإلى ما لا يحل لهم، {وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ}, الحفظ عن الظهور، أو عن الابتذال، أو عن غير الأزواج, {ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ}, قال الله -تبارك وتعالى- {ذَلِكَ}, أي الذي يأمرهم الله -تبارك وتعالى- به، وهو غض الأبصار، وحفظ الفروج, {أَزْكَى}, أطهر؛ لأنه عفة ونظافة وطهارة وتمسك بأمر الله -تبارك وتعالى-,{........ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ}[النور:30], هذا تحذير وبيان أنَّ الله -تبارك وتعالى- الخبرة هي أدق العلم, أي عليم العلم بالأمور الخفية, {بِمَا يَصْنَعُونَ}, الصنع أخص مِن العمل؛ فالعمل المتقن الذي له هدف، وهذا فيه تحذير مِن أي عمل مِن الأعمال التي يراد بها الخروج عن العفة إلى غيرها, {........إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ}[النور:30], {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ........}[النور:31], بعد أنْ أمر الله -تبارك وتعالى- المؤمنين الذكور بحفظ الفروج، وغض الأبصار, أمر الله -تبارك وتعالى- المؤمنات بذلك، قال : {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ........}[النور:31], أي إنْ تقل لهن اغضضن مِن أبصاركن؛ يغضضن مِن أبصارهن، والغض التقصير, {وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا}, {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ}, أي إلى غير هؤلاء المحارم، والتي سيأتى ذكرهم بالتفصيل في الآية، والمرأة كلها زينة، المرأة كلها مِن شعرها إلى أخمص قدمها كلها زينة؛ فسواء زينة بهذا الخَلْق، أو الزينة بما تضع على جسدها مِن الحلي والثياب, {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا}, إلا ما ظهر منها بحكم فيه لأهل التأويل والصحابة وما بعدهم قولان، القول الأول : {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا}, أي بحكم ما تظهره المرأة مِن بدنها، فالمرأة أبيح لها أنْ تُظْهِرَ الوجه والكفين فقط؛ فإذا كان بالوجه زينة كالكحل في العين، وكان بالكفين زينة كخاتم في الأصبع، أو حناء في اليد؛ فهذا بحكم ما تظهره؛ فهذه الزينة تظهر بحكم ما تظهره المرأة مِن الزينة, هذا القول الأول، والقول الثانى : {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا}, بما على الثياب، وأو بما ظهر منها بدون قصد منها بأنْ تسير؛ فينكشف شيء مِن جلبابها؛ فيظهر شيء مِن الزينة لا تحب أنْ تظهره؛ ولكن يظهر منها برغم عنها, {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ}, الضرب هو نصب الخمار ولفه وإحكامه، والخمار هو غطاء الرأس، ما يخمر الرأس أي يغطيها، تضرب الخمار على شعرها ورأسها؛ الى أنْ تلوته وتلفه إلى العنق, {عَلَى جُيُوبِهِنَّ}, والجيب هو شق الثوب, أي أنها يجب أنْ تلف خمارها لفًا، وتضربه ضربًا على رأسها وشعرها حتى لا تظهر هذه الزينة، وكذلك تضغطي العنق والنحر, {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ}, فيكون الخمار واصل إلى شق الثوب؛ فيخفي كل هذا، ويبقى فقط الوجه والكفان, هذا على القول الأول وهو قول ابن عباس -رضي الله تعالى عنه-، وجمهور مِن الصحابة، وعلى القول الثانى : {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ}, أي الضرب بالخمار حتى أنه يغطي سائر الوجه، وسائر الزينة إلى الجيب كذلك؛ فلا يظهر شيء مِن وجهها وجسدها, {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ}, {يُبْدِينَ}, يظهرن, الزينة ما تتحلى به المرأة منِ ثياب وحلي، أو كذلك زينتها هو شيء مِن جسدها, {إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ}, المذكورين هنا لا شك أنه يتفاضلون فيما تبدي، جواز ما تبدي المرأة لهؤلاء مِن الزينة, {لِبُعُولَتِهِنَّ}, أزواجهن، والبعل هو الزوج، وهذا بالنسبة للمرأة لها أنْ تبدي، بل يباح لها أنْ تبدي كل زينتها للزوج, {إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ}, الأب؛ فيحل أنْ يَطَّلِعَ على زينة ابنته كشعرها وزراعيها وساقيها, لكن ثمة إجماع على أنَّ العورات الغليظة لا يجوز للأب أنْ يطلع على ذلك, {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ}, أبو الزوج, {أَوْ أَبْنَائِهِنَّ}, الأبناء الابن، وابن الابن، الابن وإنْ نزل، وكذلك الآباء وإنْ علوا؛ فالأب والجد هؤلاء داخلين في مسمى الآباء, {أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ}, ابن الزوج؛ فابن الزوج مَحْرَم لزوجة أبيه, {أَوْ إِخْوَانِهِنَّ}, سواء كان أخو المرأة أخوها شقيق، أو غير شقيق, أي أخ لأب، أو أخ لأم كل هذا يضم الإخوة, {أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ}, أولاد الإخوان التي تصير هذه المرأة خالة بالنسبة إليهم، أبناء إخوانهن كذلك جميعًا الشقيق وغير الشقيق، والأخ لأم, {أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ}, أولاد الأخوات التي تصبح هذه المرأة كأنها خالة لهم؛ فهولاء أبناء الأخوات كلهن يكن محارم لخالتهم، أخت أمهم, {أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ}, ثم قال -جلَّ وعَلا- : {أَوْ نِسَائِهِنَّ}, أنْ تنظر المرأة إلى المرأة؛ فالنساء لا عورات بينهن فيجوز للمرأة أنْ تنظر للمرأة, لكن هناك فيه أمور، كقول النبى -صلى الله وسلم- : «لا يفضى رجل لرجل, ولا المرأة إلى لمرأة», وهو ليس بينهما ثوب؛ فأنْ يكون جسد هذه بجسد هذه, وإنما فقط الزينة التي تحددها أعراف الشرع، وآداب الإسلام في نظر المرأة إلى المرأة, {أَوْ نِسَائِهِنَّ}, وذُكِرَ هنا, {أَوْ نِسَائِهِنَّ}, بالإضافة إلى هن المسلمات؛ فبالنسبة للكافرة والذِّمِيَّة لا يجوز هذا؛ قيل لأنها ربما أنها تصف المرأة إذا رأت امرأة تصفها لغيرها، والمؤمنة إنما الشأن فيها أنها لا تنقل, كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- : «لا تصف المرأة المرأة لزوجها كأنه يراها» تنقل صورتها بشعرها ووجهها وجسدها؛ فهذا منهي عنه، وربما الأدب لا يتمسك به غير المسلمات, هذا على القول بأنَّ قول الله -تبارك وتعالى- : {أَوْ نِسَائِهِنَّ}, أي المسلمات, {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ}, إذا كانت المرأة تملك عبدًا رقيقًا؛ فإنه يجوز أنْ ينظر إلى سيدته، إلى بعض زينتها، ولكن لا بد أنم يكون ملكًا كاملًا, أما إذا كان ملك ناقص تملك نصفه، أو ربعه؛ فلا يَحِلُّ ذلك, {أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ}, الشخص التابع هناك بعض الرجال يكونوا مِن ضعف العقل؛ فيكون هذا غير كاسب؛ فيتبع بعض الناس يتبعهم، يأكل عندهم، ينزل عندهم؛ فهذا إذا كان رجلًا مِن هؤلاء التابعين, ولا إربة له إلى النساء لضعف عقل، أو عدم القدرة على إتيان النساء؛ فهذا أبيح للمرأة أنْ تبدي زينتها أمامه, {أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ}, {الطِّفْلِ}, الأطفال اسم جنس, {الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ}, وهم دون سن التمييز، ولم يعرفوا بعد معاني العورات أما إذا أصبح مميزًا عارفًا بالعورات؛ فإنَّ هذا يجب للمرأة أنْ تستتر منه، قيل يظهروا مِن الظهور بمعنى العلم، وقيل يظهروا مِن الظهور بمعنى القدرة أنْ يكونوا قادرين على هذا الأمر القدرة على عورات النساء؛ فيكون له شيء مِن الاستطلاع؛ فهذا يجب على المرأة أنْ تحتجب به, {أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ}, بعد أنْ نهى الله -تبارك وتعالى- المؤمنات أنْ يظهرن شيئًا مِن الزينة الخارجية, نهاهن كذلك أنْ يُعْلِمْنَ بزينة خفية، الضرب بالرجل معروف أنْ تضرب برجلها, {لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ}, أنْ تكون هذه الأرجل مزينة بخلاخيل، ونحوها مِن الحلي؛ فإذا ضربت برجلها خرج صوت الحلي؛ فكأن هذا فيه تنبيه للرجال لينظرن، أو ليطمعن؛ فنهى الله -تبارك وتعالى- المؤمنات أنْ يفعلن مثل هذا الفعل؛ فيظهرن الزينة الخفية بهذا الأمر بالإعلان عنها بالضرب بالرجل, {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ}, أي الأجانب, {مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ}, ثم قال -جلَّ وعَلا- : {........وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[النور:31], ختم الله -تبارك وتعالى- هذه الآيات بأنْ أمر عباده المؤمنين رجالًا ونساءً بأنْ يتوبوا إلى الله، أي أنْ يرجعوا إليه ويستغفروه -سبحانه وتعالى-, والتوبة هي الرجوع, {إِلَى اللَّهِ}, أي مِن كل الذنوب؛ فإنَّ هذه الذنوب بعضها واضح جلي، وبعضها مستتر خفي، بعضها في النفوس قد يكون «والنفس تمنى وتشتهي» فإنَّ الزنا له درجات، كما قال النبى -صلوات الله والسلام عليه- : «العين تزني وزناها النظر, والأذن تزني وزناها السمع, والأنف يزنى وزناه الشم, والفم يزني وزناه القبل, واليد تزني وزناها البطش, والنفس تمنى وتشتهي, والفرج يصق ذلك أو يكذبه» فهذا كله مِن زنا النظر، وزنا السمع، وزنا الشم، وزنا البطش، وهذا مما يَحْتَفّ، ولا يكاد الإنسان الذي يعيش في مجتمع بالضرورة يختلط فيه الرجال، والنساء لا بد أنْ يقع شئ مِن ذلك، فأمر الله -تبارك وتعالى- الجميع بالتوبة إليه، والرجوع إليه -سبحانه وتعالى- مِن هذه الأعمال ظاهرها الظاهر الجلي، وكذلك باطنها المستتر الخفي، قال : {........وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[النور:31], أي {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}, لعل للترجي أنه باتخاذ هذا سبيل العفة، والتقيد بهذه الأحكام التي أنزلها الله -تبارك وتعالى- أنْ يكون هذا بابًا لفلاحكم، والفلاح هو النجح وحصول المقصود العظيم، ومقصود الإنسان ونجحه أنْ يرضى الله -تبارك وتعالى- عليه، أنْ يدخله جنته, أنْ ينجيه -سبحانه وتعالى- مِن عقوبته وناره.
ثم قال -جلَّ وعَلا- : {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}[النور:32], أمرٌ مِن الله -تبارك وتعالى-, وهذا أمر لجيمع المؤمنين للأولياء، وغير الأولياء، وللحكام وغيرهم, {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ}, الأيامى جمع أَيِّم، والأَيِّم هو الذي لا زوج له ذَكَرًا كان أو أنثى, يطلق لكل رجل أَيِّم، وامرأة أيم أنها لا زوج لها، ورجل أَيِّم لا زوج له, {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ}, أي كل مَن ليس له زوج ينبغي أنْ يسعى إلى تزويجه, لا يجوز أنْ يبقى رجل بلا زوج، ولا امرأة بلا زوج, {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ}, أي الأحرار، قال : {وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ}, كذلك الصالحين, {مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ}, صلاح الدين، وكذلك الصلاح للدنيا الذي يصلح للدنيا مِن العباد, {مِنْ عِبَادِكُمْ}, أي عبيدكم، أرقائكم, {وَإِمَائِكُمْ}, إماء جمع أَمَة، والأَمَة هي المملوكة, أي إذا كان هناك عبد صالح عندكم، أو أَمَةٌ صالحة؛ فكذلك أنكحوهم هذا أمر كذلك لمن يملك العبد، ويملك الأَمَة أنْ يسعى في تزويجها، وألا يتركهما بغير زوج؛ حتى تبقى كل المجتمع بأحراره وعبيده كل له زوج, {وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ },ثم قال -جلَّ وعَلا- : {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ}, أي إنْ يكونوا فقراء عند التزويج، وأنْ يقال إن هؤلاء ليس عنده ما يفتح به بيت، ما ينفق به، قال -جلَّ وعَلا- : {يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ}, يعطيهم الله -تبارك وتعالى-, {مِنْ فَضْلِهِ}, مِن رزقه وعطاءه وإحسانه -سبحانه وتعالى-, مِن إفضاله وإحسانه, {وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}, {وَاللَّهُ وَاسِعٌ}, العطاء والمَنّ -سبحانه وتعالى- فسعة وفضله لا تحد, {عَلِيمٌ}, -سبحانه وتعالى- بأحوال عباده -سبحانه وتعالى-, وعليم بِمَن يستحق الخير منهم في الدنيا والآخرة؛ فإذن لا يمنعنكم فقر مَن تريدون تزويجه يمنعكم مِن تزويجه، بل زوجوه، ويغنيه الله -تبارك وتعالى- وييسر الله -تبارك وتعالى- له أمره, {وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}.
ثم قال -جلَّ وعَلا- : {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ........ }[النور:33], بعد هذا أمر الله -تبارك وتعالى- مَن لا يجد نكاحًا {وَلْيَسْتَعْفِفِ}, أَمْر بالعفة، والعِفَّة هي الاعتصام، والتمسك بالفضيلة، والبعد عن الفاحشة والرذيلة, {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا........}[النور:33] عِفَّة نَفْس، وعِفَّة سلوك كذلك يعفوا بأنفسهم، وبسلوكهم, {الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحًا}, {لا يَجِدُونَ نِكَاحًا}, سبيلًا للنكاح؛ إما لضيق ذات اليد ما عنده المهر الذي يؤتيه، ما عنده هذا، كان مملوكًا ولم يسمح له سيده أنْ يتزوج، مُنِعَ مِن الزواج لسبب مِن الأسباب، إما للفقر أو لغيره؛ فالذي لا يجد نكاحًا أمره الله -تبارك وتعالى- بأنْ يستعف، وألا يدفعه هذا إلى الفاحشة، قال : {حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ}, {حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ}, بماله، بالمال -سبحانه وتعالى- والمهر الذي يدفعونه, {مِنْ فَضْلِهِ}, مِن عطاءه، وبره وإحسانه -سبحانه وتعالى-, ثم قال -جلَّ وعَلا- : {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا}, {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ}, {يَبْتَغُونَ}, يطلبون, {الْكِتَابَ}, المكاتبة بين العبد وبين سيده, يقول له كاتبني وعاهدني على أنْ أبذل، أشترى منك نفسي, يشترى نَفْسَهُ مِن مالكه؛ فيقول له مثلًا المالك ادفع لي مثلًا ألف دينار، وأنا أجعلك حرًا؛ فيكاتبه على هذا بمدة معلومة مثلًا، يقول له : دعني أشتغل سنة، أو سنتين أجمع لك فيها هذا المبلغ، وأدفعه فداءً لنفسي فهذه المكاتبة، المكاتبة هي أنْ يكاتب العبد سيده، أو الأَمَة سيدها, سيدته على مبلغ مِن المال يعطيه له؛ فإذا وفي له هذا المال أصبح قد اشترى نَفْسَهُ مِن مالكه، وأصبح حرًا؛ فالله -تبارك وتعالى- أمر الذين عندهم عبيد، وعندهم أرقاء، وطلبوا منهم الكتابة أرمهم الله بالكتابة، وألا يمتنع مِن ذلك، وألا يقول له : لا، لا أبيع لك نفسك، ولو أعطيتني ما أعطتني يجب أنْ يذعن لهذا، قال -جلَّ وعَلا- : {فَكَاتِبُوهُمْ}, وهذا أمر مِن الله -تبارك وتعالى- لهؤلاء الأولياء بأنْ يكاتبا مماليكهم الذين يطلبون منهم الكتابة, ثم قال -جلَّ وعَلا- : {إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا}, مِن دين، علمتوا أنه مستقيم الدين، وكذلك أنه يستطيع أنْ يكون كاسبًا، وأنْ يعتمد على نَفْسِهِ؛ لأنَّ العبد إذا خرج عن سيده أصبح هو الذي يتولى شئون نَفْسه؛ فلا بد أنْ يكون عنده المقدرة على أنْ يتولى شئون نَفْسه بأنْ يكون كاسبًا، بأنْ يعرف التصرف؛ لأنَّ العبد في أول الأمر كان معتمدًا على مولاه في حياته وأكله وطعامه وشرابه, فإذا أصبح حرًا ومالكًا لِنَفْسِهِ؛ أصبح هذا متحتم عليه، قال -جلَّ وعَلا- : {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا}, أنه عضو صالح يستطيع أنْ يقوم بشئون نفسه في هذه الدنيا، وكذلك أنْ يكون صالح للآخرة, ثم قال -جلَّ وعَلا- : {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ}, {وَآتُوهُمْ}, أعطوا هؤلاء المُكَاتَبِينَ, {مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ}, فالمال الذي عندك هو مال الله -تبارك وتعالى- فأنت عندما تعطيهم, وهو خطاب للجميع ؛لمالك العبد إنه يتصدق عليه؛ لينقذه مِن الرِّق، وأنه إذا تصدق عليه وأعطاه؛ فإنما يعطيه مِن مال الله، وكذلك للآخرين أنهم أنْ يتصدقوا عليهم كذلك؛ حتى يخرجوه مِن الرِّق، وقد جعل الله -تبارك وتعالى- لهؤلاء المكاتبين جزء مِن الزكاة، كما قال -جلَّ وعَلا- : {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ........}[التوبة:60], {وَفِي الرِّقَابِ}, {وَفِي الرِّقَابِ}, أنْ يعطى جزء مِن الزكاة لإعتاق الرقاب، وقيل أنَّ أولى الرقاب بالعتق هم المُكَاتِبُونَ؛ فالعبد المُكَاتِب هذا هو أولى العبيد بأنْ يعطى حتى يخرج مِن الرق, {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ}, ثم قال -جلَّ وعَلا- : {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}, نَهَى الله -تبارك وتعالى- هؤلاء الذين يملكون إماء أنْ يكرهوهم, {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ}, فتياتكم هنا إماءكم, {عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا}, كان في الجاهلية السيد يشترى الإماء ويسرحهن مِن أجل غلتهن، ويأخذ هذه الغلة لِنَفْسِهِ، وهذا مِن الكسب الخبيث, اللعين؛ فنهى الله -تبارك وتعالى- أنْ يُصنَع هذا، وقال : {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا}, وذلك أنها لا تُكْرَه إلا إذا كانت محصنة إذا كانت هي بغي؛ فإنها لا يكرهها سيدها، وفي هذا كذلك قول الله -تبارك وتعالى- : {إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا}, فيه تعريض بهؤلاء الذين يفعلون هذا الفعل أنْ تكون أَمَتُهُ أشرف منه، اكثر منه عفة، وحرصًا على الخلق، وبعدًا عن الإثم، وهو أخس منها بأنْ يدفعها إلى هذا الأمر ليكسب هذا الكسب الخبيث؛ فهذا مِن الكسب الخبيث، نَهَى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن مهر البغي، وأعلم أنه مِن الكسب الخبيث لنفسها، وهو يكون أشد خبثًا إذا كان يُعْطَى للسيد, {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا}, قال -جلَّ وعَلا- : {لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}, لتبتغوا بهذا الذى تفعلوه عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}, هي أجرة، ومهر البغي والزانية, ثم قال -جلَّ وعَلا- : {........وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[النور:33], أي مَن أكرههن على هذا الأمر، وفعلت هذه الأمة مكرهه، وليس لها حيلة؛ {........فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[النور:33], أي لهن، أما للسادة فلا شك أنَّ هذا الفعل مِن الإجرام، ومِن الإثم العظيم، وليس هنا معناه إباحة للزوج أنْ يكره، بل هذا مِن الإثم العظيم، وهو الكسب كله مِن السُّحْتِ، ولكن هذا فيه في الآية تعريض عظيم بِمَن كانوا يفعلون مثل هذا الفعل, {........وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[النور:33].
ثم أشاد الله -تبارك وتعالى- بهذه الآيات، البينات، العظيمات، المنزلة منه -سبحانه وتعالى-؛ فقال -جلَّ وعَلا- : {وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ........}[النور:34], خطاب إلى هذه الأُمَّة، إلى المؤمنين مِن الله -تبارك وتعالى-, وإشادة وتعظيم بما أنزله الله -تبارك وتعالى- مِن هذه الآيات العظيمة؛ فقال : {وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ........}[النور:34], مبينات لهذه الأحكام بهذا البيان الناصع، الواضح, {وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ}, أي أنزلنا إليكم كذلك مثلًا, {مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ}, في ما صنع الله -تبارك وتعالى- بهم، أهل الطاعة، وأهل المعصية, كيف أنَّ الله -تبارك وتعالى- جازى الطائعين -سبحانه وتعالى- بإحسانه وفضله وإنعامه كيف كانت العاقبة لهم، وكيف أنه -سبحانه وتعالى- جازى المجرمين والفاسقين والخارجين عن طاعته بعقوبته -سبحانه وتعالى- في الدنيا، والآخرة, ضرب الله -تبارك وتعالى- لنا الأمثال في هذا، قال : {........وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ}[النور:34], {وَمَوْعِظَةً}, بهذا الكلام, الوعظ هو هذا الكلام المباشر، الموجه الذي يعظ الله -تبارك وتعالى- فيه عباده المؤمنين بأنْ افعلوا كذا ليكون كذا، ولا تفعلوا كذا لأنَّ فيما فعلتم فيه يترتب على هذا الأمر مِن العقوبات كذا وكذا، ولكن هذه الموعظة إنما هي : {لِلْمُتَّقِينَ}, الخائفين، الذين يخافون الله -تبارك وتعالى-, أي أنها لا تفيد إلا أهل التقوى، وأما أهل الفجور والعصيان؛ فإنها لا تفيدهم؛ فحصر الموعظة بأنها {لِلْمُتَّقِينَ}, بيان أنه لا يستفيد بها إلا هذا لا يستفيد بهذه المواعظ إلا أهل التقوى، وأهل مخافة الله -تبارك وتعالى- وإلا فالذين لا يتقون الله -تبارك وتعالى- فإنهم لا يستفيدون بذلك, نكتفى بهذا -إنْ شاء الله-، ونأتي في الحلقة الثانية إلى قول الله -عز وجل- : {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ........}[النور:35].
أستغفر الله لي ولكم ِمن كل ذنب، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد.