الخميس 20 جمادى الأولى 1446 . 21 نوفمبر 2024

الحلقة (43) - سورة البقرة 158-162

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على عبد الله والرسول الأمين، وعلى من آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد أيها الإخوة الكرام، يقول الله -تبارك وتعالى- {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعتمر فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ}[البقرة:158]، يخبر -سبحانه وتعالى- أن الصفا والمروة والمقصود السعي بينهما من شعائر الله، فالصفا جبل معروف بجوار الكعبة، والمروة جبل يبعد عنه، وقد شرع الله -تبارك وتعالى- لأهل الإسلام السعي في مناسك الحج والعمرة بين الصفا والمروة، ونزلت هذه الآيات لما ظن بعض المسلمين أن هذا السعي إنما كان من اختراع الجاهلية ومن مناسكهم، وليس من تشريع الله –تبارك وتعالى- في أصل شريعة العمرة والحج، وذلك أن الكفار كانوا قد نصبوا على الصفا صنمًا وهو إساف، وعلى المروة صنمًا آخر وهو نائلة، وكانوا إذا سعوا تمسحوا بهما، فأخبر الله -تبارك وتعالى- عباده المؤمنين أن هذا السعي إنما هو من شعائر الله، وأصل هذا التشريع هو سعي أمنا؛ أم العرب جميعًا هاجر -عليها السلام-، عندما تركها إبراهيم -عليه السلام- هي وابنها إسماعيل في هذا المكان؛ مكان البيت، مكان زمزم الآن، تركهما وذهب فقالت له: يا إبراهيم, إلى مَن تتركنا في هذا المكان؟، الذي ليس في إنسٌ ولا شيء، ثم قالت له: الله أمرك بهذا؟ قال فأشار أن نعم، ولم يكن قد زودهما إلا بجراب فيه تمر وقربة فيها ماء، وكانت تأكل من التمر وتشرب من الماء وترضع ابنها إسماعيل -عليه السلام-، حتى إذا فنيَّ هذا بدأت تبحث عن مخرج مما هي فيه، فذهبت وصعدت إلى أقرب شرف عندها، فصعدت الصفا ودارت بوجهها يمينًا ويسارًا تبحث عن أحد فلم تجد فنزلت، ثم لما جاءت إلى بطن الوادي أسرعت السير، ثم صعدت إلى المروة وهو الشرف الثاني الذي أقرب لها، فنظرت أيضًا يمينًا ويسارًا فلم تجد أحدا، فنزلت مرة ثانية إلى الصفا، فعلت ذلك سبع مرات، ثم إنها سمعت صوتًا خفيفًا فقالت لنفسه صه تسكت نفسها، ثم رجعت إلى الصبي فوجدت جبريل عنده في صورة إنسان، وقال لها: لا تخافوا الضيعة، لا تخافوا الضيعة، إن هذا مكان بيت الله يبنيه هذا الغلام، قال لها: هذا الغلام يبنيه، ثم ذهب ضرب الأرض بعقبه فانفجر الماء؛ ماء زمزم، يخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن هاجر -عليها السلام- بدأت تحوطه، وتقول زمي زمزم فسميت زمزم لذلك.

على كل حال السعي هذه الشعيرة التي جعلها الله من شعائر الحج والعمرة كان هذا بدء تشريعها، وأن المؤمنين يسعون بسعي أم العرب جميعًا، وهي هاجر -عليها السلام-، يخبر الله -تبارك وتعالى- بأن هذا السعي من شعائر الله، الشعائر منسوبة إلى الله لأن الله هو الذي شرعه -سبحانه وتعالى-، {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ}، قال -جل وعلا- {فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعتمر فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا}، فهي شعيرةٌ وهي ركنٌ من أركان الحج والعمرة، {فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ}، الحج هو أصله في اللغة هو الذهاب المتكرر لمكان لغاية في هذا الذهاب، فكل ذهاب متكرر لمكان هذا حج، يقال أنه حج المكان بمعنى أنه ذهب إليه المرة تلو المرة، وحج البيت هو قصد بيت الله -تبارك وتعالى- من أجل أعمال مخصوصة في أزمنة مخصوصة، كما قال -جل وعلا- {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ}، فهو في زمانٍ مخصوص، بمواقيت مخصوصة، بأعمال مخصوصة، بمناسك قال فيها النبي عند كل منسك من مناسكها "خذوا عني مناسككم"، فبيَّها الله -تبارك وتعالى- بما أنزل في كتابه وبفعل وقول النبي -صلوات الله والسلام عليه-، والعمرة أصل العمرة هي الزيارة، والمقصود زيارة بيت الله -تبارك وتعالى- كذلك لأداء أعمال مخصوصة، وزمن العمرة هو العام كله، على صحيح أن كل العام إنما هو زمان العمرة، يعتمر الإنسان في أي شهر وأي يوم من أيام العام.

{فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعتمر فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ}، الجناح هو الإثم والمؤاخذة، أي لا مؤاخذة عليه أن يطَّوف بهما، وذلك أنهما من شعائر الله، {وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ}، مَن تطَّوع خيرًا أي بزيادة الحج وبزيادة العمرة فإن الله شاكر، ومعنى أنه شاكر أنه -سبحانه وتعالى- يثيب على العمل القليل بالأجر والثواب الجزيل، وهذا معنى الشكر؛ فالشكر مقابلة العمل القليل بثوابٍ وجزاءٍ كثير، شاكر عليمٌ -سبحانه وتعالى- بأعمال عباده -سبحانه وتعالى-، فيوفِّي أهل الإيمان أعمالهم مهما عملوا، فإن الله -تبارك وتعالى- عليمٌ بأعمالهم، ويزيدهم من إحسانه وفضله -سبحانه وتعالى-، قول الله {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا}، هو نفي للإثم والحرج الذي تحرَّج به من قال من ظن أنها ليست من شعائر الله وإنما هي من شعائر الجاهلية، والفهم أنه لا جناح عليه أن يطوَّف بهما أن الطواف بهما ليس من واجبات الحج هذا فهم ليس بصحيح، كما جاء في حديث عروة بن الزبير -رضي الله تعالى عنه- أنه قال لخالته عائشة أم المؤمنين، قال لها: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعتمر فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا ........}[البقرة:158]، قال لا جناح عليَّ إن حججت فلم أسع بين الصفا والمروة، فقالت له لا يا بن أختي، لو كان الله يريد ذلك لقال: فلا جناح عليه ألا يطوَّف بهما، أي يكون هنا رفع الجناح والمؤاخذة على من لم يطف بهما، وإنما قال -تبارك وتعالى- {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا}، ثم ذكرت له السبب في هذا، وهو أن بعض الأنصار وبعض المسلمين ظنوا أن السعي ليس من شعائر الله، وإنما هو من شعائر الجاهلية، فبيَّن الله -تبارك وتعالى- أنها من شعائره -سبحانه وتعالى-، وأنه لا جناح على العبد أن يطوَّف بهما؛ لأن الله هو الذي شرع ذلك -سبحانه وتعالى-، وأما حكم السعي فلا شك أنه ركن في الحج وركنٌ في العمرة، فمن اعتمر أو حج لابد له أن يسعى بين الصفا والمروة.

بعد هذا بدأ حديث الرب -تبارك وتعالى- عن أمر عظيم من أمور الدين، وهو كتمان الآية، وذلك أن الله –تبارك وتعالى- أنزل دينه؛ ليبلَّغ وينشر، وأعظم ما يمكن أن يطفئ نور الله -تبارك وتعالى- أن يتعاهد ويتعاقد أهل العلم أن يكتموا ما أنزل الله -تبارك وتعالى- فيه، ولذلك هنا جاءت هذه الآيات بتهديد، وبالوعيد الشديد لكتمان ما أنزله الله -تبارك وتعالى-، وهذه الآية موجهةٌ في الأول والأهم لمَن حمل علمًا عن الله -تبارك وتعالى- وعن رسوله، قال -جل وعلا-: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ}[البقرة:159]، {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}[البقرة:160]، هذه الآية آيةٌ عامة, تعم كل من كتم شيئًا مما أنزل الله -تبارك وتعالى- من البينات والهدى، يقول الله {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ}، الكتمان معلوم وهو عدم إظهار وإعلان الأمر، كتمانه التواصي بإخفائه وإسراره، {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى}، ما أنزلنا؛ أنزله الله -تبارك وتعالى- من البينات الدلائل الواضحة، فآيات الله -تبارك وتعالى- دلائل واضحة، سواءً كانت في قرآن متلو أو ما أوحاه الله -تبارك وتعالى- إلى رسوله -صلى الله عليه وسلم-، {وَالْهُدَى}، الهداية، والله -تبارك وتعالى- أنزل كتابه بينات وهدى، وهدى لأنه يهدي، يرشد ويبين الهدى العام، {مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ}، من بعد ما بيَّن الله -تبارك وتعالى- هذه الأدلة الواضحة، وهذه الهداية فيما أنزله للناس وبيَّنه -سبحانه وتعالى- في الكتاب، الكتاب اسم لجنس الكتب، سواء كان التوراة أو الإنجيل أو القرآن.

{أُوْلَئِكَ}، أي الذين يكتمون آيات الله -تبارك وتعالى- ولا يظهرونها، {يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ}، واللعن هو الإبعاد والحرمان من رحمته -سبحانه وتعالى- والطرد، ومَن لعنه الله -تبارك وتعالى- فقد كتب عليه الشِقْوة في الدنيا والآخرة، والنار دار الملعونين، دار من يلعنهم الله -تبارك وتعالى- ويطردهم، {وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ}، كذلك بلعنة الله -تبارك وتعالى-، واللاعنون قد يكونون الملائكة يلعنون بلعنة الله، والمؤمنون يلعنون كذلك بلعنة الله -تبارك وتعالى-، أي أن هذا الذي يفعل هذا الفعل قد ارتكبت جريمة كبرى، هذه الآيات قد يكون خصَّ بها اليهود لتواصيهم على كتمان صفة النبي -صلوات الله والسلام عليه-، وكتمان الحق النازل لهم، وفي هذا حرمان لعامتهم من الهدى، وكذلك صد عن سبيل الله -تبارك وتعالى-، لكن العبرة إنما هي بعموم لفظ الآية وليست بخصوص سببها، والآيات هنا أصبح انتقل الحديث من خطاب بني إسرائيل إلى خطاب المؤمنين، انتقلنا الآن بقول الله -تبارك وتعالى- {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}[البقرة:153]، الحديث الآن في السورة من هنا وإلى ختام السورة إنما هو حديثٌ مع أهل الإيمان، فهو كذلك فيه توجيه لأهل الإسلام أن يحذروا من كتمان ما أنزله الله –تبارك وتعالى- من البينات والهدى، وأن الله قد بيَّنه للناس في الكتاب، فإذا تواصوا بكتمان أمر مما أنزله الله -تبارك وتعالى-، كتمان التوحيد، كتمان ضرر الشرك، كتمان أية شرعة من شعائر الله -تبارك وتعالى- أن الدين لله والحكم لله، كتمان الصلاة الصوم، كتمان تحريم ما حرَّم الله -تبارك وتعالى-، أي أمر من الأمور, يكتمون هذا ويتواصون بمنعه عن الناس وعدم بيانه، فهذا فيه هذا التهديد والوعيد الشديد.

و{أُوْلَئِكَ}، أي الذين يكتمون هذا، {يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ}، والبيان لا يجوز تأخيره عن وقت الحاجة، فإذا وجد وقت حاجة لابد من البيان، وإذا تحتم البيان يجب البيان، ومن الأمور التي يجب فيها البيان من سئل عن علم، فعند السؤال يجب البيان، كما في الحديث «من سئل عن علمٍ يعلمه فكتمه، ألجمه الله يوم القيامة بلجامٍ من نار»، فهذه لأن وقت حق السائل عن شيء من الدين حقه أن يبين له، كذلك إذا كان الأمر يحتاج إلى بيان ما يجب أن يبين، عند ظهور بدعة من البدع، عند ظهور شر من الشرور، يجب على أهل العلم أن يبينوا الحق، فلما نشأت بعد وفاة النبي -صلوات الله والسلام عليه- أمور من الانحراف قام أهل العلم ببيانها، وبيان الحق فيها، ولم يتواصوا بكتمانها، ولذلك لما قيل للإمام أحمد في الفتنة التي حصلت بسبب تبني بعض خلفاء بني العباس القول بخلق القرآن، وكان مَن لا يقول بقولهم في هذا الأمر يتعرض للنكال والعذاب، إلى القتل فقد قتلوا مجموعة ممن امتنعوا عن القول بقولهم في خلق القرآن، وكانوا يعاملون مَن يقول بأن القرآن كلام الله معاملة الكافر، حتى أنهم كانوا لا يفدون أسرى المسلمين ممن يقولون أن القرآن كلام الله، بل يفدون فقط من يقول القرآن مخلوق، وعزلوا من عندهم من العلماء والعمال عن أعمالهم، عزلوا من لم يقل بقولهم في خلق القرآن، وأصبحت فتنة عظيمة، وكان الإمام أحمد من ضمن الذي ابتلوا في هذه الفتنة بالسجن الطويل، أكثر من سنتين وهو في السجن، يتعاقب الخليفة بعد خليفة على عقوبته، ليقول بما قالوا به، وهو في كل ذلك يقول: آتوني آية من كتاب الله أو حديثًا من أحاديث النبي، القرآن كلام الله، أي غير مخلوق، حتى قال له بعض الناس: لم لا تقل كما قال غيرك وتخرج؟ أي تقول توري، تورية كلام فيه تعريض وتخرج، فقال انظروا أي خلف القلعة، فإذا الناس ينتظرون ما يقول به أحمد بن حنبل يسجلونه ويدونونه، رأى أن هنا الأمر يتوجب عليه أن يقول الحق وألا يكتمه، وأنه إن كتم الحق في هذا المقام تعرض للعقوبة، فلذلك وقف هذا الموقف، الذي شُكِر له بعد ذلك في معاصريه وفي هذه الأمة إلى يومنا هذا، إلى قيام الساعة، موقف لهذا الموقف الشجاع أنه لم يكتم ما عنده من العلم، فذلك فيه تهديد عظيم ووعيد للذين يكتمون العلم، قال -جل وعلا- {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ ........}[البقرة:159]، أي وعلمه وعرفه هؤلاء الكاتمون، {أُوْلَئِكَ}، أي الذين يكتمون الحق وقد عرفوه وعلموه، {يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ}.

ثم قال -جل وعلا- {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا}، أي عن هذا الكتمان، ولا تكون التوبة إلا بالرجوع عن هذا الكتمان ثم الإظهار، {وَأَصْلَحُوا}، ما أفسدوه من كتمانهم، {وَبَيَّنُوا}، الأمر على حقيقته، من كلام الله أو كلام رسوله –صلى الله عليه وسلم-، قال -جل وعلا- {........ فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}[البقرة:160]، أولئك أي الذين تابوا عن كتمان الحق الذي أنزله الله وعلموه، وتحتم عليهم بيانه ولم يبينوه، فهؤلاء إذا تابوا عن ذلك وأصلحوا وبينوا، قال -جل وعلا- {فَأُوْلَئِكَ}، أي هؤلاء التائبون، {أَتُوبُ عَلَيْهِمْ}، وأتوب عليهم يقبل الله -تبارك وتعالى- توبتهم ورجوعهم، قال -جل وعلا- {وَأَنَا التَّوَّابُ}، كثير التوبة، التواب صيغة مبالغة من التائب، أي أنه كثير قبول توبة عباده -سبحانه وتعالى-، رحيم بعباده يقبل عثرتهم ويغفر زلاتهم -سبحانه وتعالى-، إذا تابوا ورجعوا إليه -سبحانه وتعالى-.

ثم قال -جل وعلا- {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ}[البقرة:161]، {خَالِدِينَ فِيهَا لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنظَرُونَ}[البقرة:162]، هذا حكم من الله -تبارك وتعالى- وبيان، أن الذين ماتوا على الكفر كفروا وماتوا وهم كفار، فأولئك في لعنة الله الأبدية، قال -جل وعلا- {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا}، والكفر حقيقته معرفة الحق ثم جحده، الحق, الله -تبارك وتعالى- حق، ووعده حق، ووعيده حق، فالذين كفروا بالله -تبارك وتعالى-؛ كفروا الله بأن علموا بأنه حق ودينه حق وأن وعده حق وأن رسوله حق، ثم إنهم جحدوا هذا وغطوه، وأظهروا خلاف ذلك، وإن كانوا يعلمون أن هذا حق في قلوبهم، هذه حقيقة الكفر، معرفة الحق ورده وجحده، {وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ}، أي ظلوا على هذا الكفر حتى ماتوا عليه، لم يتوبوا منه ولم يرجعوا إلى الله، قال -جل وعلا- {أُوْلَئِكَ}، أي الذين هذه صفتهم، {عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ}، ولعنة الله طرده إياهم من رحمته -سبحانه وتعالى- وإبعادهم، وجعل النار مصيرًا لهم، {وَالْمَلائِكَةِ}، أي أن الملائكة كذلك تلعنهم، فلا ولي لهم ولا ناصر لهم، بل الملائكة تلعنهم بلعنة الله -سبحانه وتعالى-، {وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ}، يلعنونهم كذلك، مؤمنهم يلعنهم بلعنة الله -تبارك وتعالى-، وكافرهم لا شك أنه يلعنهم كذلك، لأن أهل النار يلعن بعضهم بعضا، ويسب بعضهم بعضا، {إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ}[ص:64]، فهم في اللعنات بمعنى أنه لا يرضى أحدٌ عن عملهم، ولا يجدون من يبكي عليهم، يشفق عليهم، يرثى لحالهم، بل هم في لعنة الله -تبارك وتعالى- الدائمة التي يلعنهم الله -تبارك وتعالى- بها، ويلعنهم بلعنة الله -تبارك وتعالى- كل الخلق، يلعنهم الملائكة، يلعنهم الناس أجمعون يلعنونهم، إن قلنا أن الناس هنا أهل الإيمان يلعنونهم فيلعنون بلعنة الله -تبارك وتعالى-، وإن قلنا الناس أجمعون مؤمنهم وكافرهم، فالمؤمنون يلعنون بلعنة الله -تبارك وتعالى-، والكفار يلعن بعضهم بعضًا فهم داخلون كذلك في اللعنة.

{خَالِدِينَ فِيهَا}، خالدين فيها في لعنة الله، والنار من لعنة الله، أو هي أثر من لعنة الله -تبارك وتعالى- لمن يلعنهم، والخلود أصله في لغة العرب هو المكث الطويل، قال -جل وعلا- {خَالِدِينَ فِيهَا لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ ........}[البقرة:162]، وتخفيفه أن يتراجع عن شدته، وقد أخبر الله –تبارك وتعالى- بأن النار التي يعذَّب بها هؤلاء المعذَّبون في الآخرة من الكفار؛ نار يستمر أواروها، وأنها كلما خبت خففت زادهم الله -تبارك وتعالى- منها سعيرا، قال -جل وعلا- {كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا}[الإسراء:97]، فلا يخفف عنهم العذاب يوما مثلًا إجازة، يوم راحة تخف درجة الحرارة عنهم، يرون شيئا من البرد، من الراحة من الطمأنينة، {لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلا شَرَابًا}[النبأ:24]، {إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا}[النبأ:25]، {جَزَاءً وِفَاقًا}[النبأ:26]، وقال -تبارك وتعالى- {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ}[الكهف:29]، فإذا استغاثوا أُغيثوا بالعذاب عياذًا بالله، {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ}[الكهف:29]، فقول الله –تبارك وتعالى- {لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ}، عذاب الآخرة، يستمرون في عذاب تزداد شدته مع الأيام ولا تنقطع، {وَلا هُمْ يُنظَرُونَ}، أي أنهم يمهلون، ينظرون من النَظِرَة وهي الإمهال، أي لا يمهلون، فلا يمهلون عند الموت إذا جاء الأجل الذي كتبه الله -تبارك وتعالى- لهم، فلابد أن يموتوا عنده، وكذلك وقت دخولهم العذاب لا يمهلون، في مكث أيام أو ساعات بل يدخلون العذاب في الوقت الذي كتبه الله -تبارك وتعالى- لهم.

هذه الآيات فيها تهديد ووعيد شديد لمن كفر ومات على الكفر، هذه في سياق السورة حقائق الآن، أصبحت هنا مجموعة من القواعد والحقائق، فأول هذه الحقائق هي أن أكبر الجرائم التي يتوعد الله -تبارك وتعالى- عليها أهل العلم، هي أن يكتموا هذا القرآن المنزل من الله -تبارك وتعالى-، والآيات البينات فيه، والهدى الذي نازل من السماء، {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ}[البقرة:159]، وكذلك قد ذكرنا أن هذه الآية عامة في أهل الكتاب، سواء أكانوا من اليهود أو النصارى، وفي أهل الإيمان؛ لأن الكتاب هنا اسم جنس، فكل من كتم علمًا عنده من الله -تبارك وتعالى- بعد أن علمه، كتمه في الوقت الذي يتحتم فيه ويتوجب فيه إظهار هذا العلم، وقد بيَّنا أن السؤال من هذه الميادين، «من سئل عن علم يعلمه فكتمه، ألجمه الله -تبارك وتعالى- بلجام من نار»، وأن هذه عقوبتهم قال -تبارك وتعالى- {أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ}، وقد جاء أن مَن يلعن الملائكة تلعن وأهل الإيمان يلعنون والناس جميعًا يلعنون.

ثم بيَّن -تبارك وتعالى- أن مَن تاب عن هذا الكتمان وأصلح وبيَّن، قال -جل وعلا- {........ فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}[البقرة:160]، لابد أن يكون هذا قبل الموت، ثم قال -جل وعلا- {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ}[البقرة:161]، هذا حكمٌ لله لا يرد، أن من مات على الكفر كان ملعونًا مطرودًا من رحمة الله –تبارك وتعالى-، وأن كل من يتأتى منه اللعن يلعنه، فالملائكة تلعنه والناس أجمعون يلعنونه، وأنه سيظل في هذه اللعنة خالدًا مخلدًا فيها أبدا، {خَالِدِينَ فِيهَا لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ ........}[البقرة:162]، أي أبدا، {وَلا هُمْ يُنظَرُونَ}، يمهلون، بعد هذا شرع الله -تبارك وتعالى- في بيان الحقيقة الكبرى من حقائق هذا الوجود، وهو أن الرب الإله الله -سبحانه وتعالى- هو الإله الواحد، الذي لا إله إلا هو، وذكر الأدلة على ذلك، ثم بيَّن حال الناس إزاء هذه الحقيقة الكبرى، فقال -جل وعلا- {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ}[البقرة:163]، وهذا -إن شاء الله- تفصيله وبيانه -إن شاء الله- في الحلقة الآتية.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد.