الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله الأمين، سيدنا ونبينا محمد, وعلى آله وأصحابه, ومَن اهتدى بهداه, وعمل بسنته إلى يوم الدين.
وبعد؛ فيقول الله -تبارك وتعالى- : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}[النور:58] {وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}[النور:59].
هذا الفاصل مِن هذه السورة في سورة النور فيه بيان, الله -تبارك وتعالى- بَيَّنَ في أحكام الاستئذان في داخل البيت، داخل البيت الواحد الذي يشمل كبار السن, وقد يشمل كذلك عبيد وأرقاء، يشمل صغار مميزين، وغير مميزين, فهذا أمر مِن الله -تبارك وتعالى- لعباده المؤمنين أنْ يستأذنهم الذين ملكت أيمانهم، وهم عبيدهم وأرقاؤهم، وكذلك الذين لم يبلغوا الحلم مِن أولادهم, أو ممن يسكنون في داخل هذا البيت مِن أولادهم أو مِن غيرهم، {لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ}, أي أنهم دون البلوغ، البلوغ سِنّ الاحتلام بالنسبة للذكور, والحيض بالنسبة للإناث، فالذين دون الحُلُم و أصبحوا مميزين لابد مِن تعليمهم أنْ يستأذنوا إذا دخلوا على آبائهم وأمهاتهم، أو إخوانهم الكبار، أو غير الكبار، لا يدخلوا هذه في غرفهم، في دورهم إلا بعد استئذان, وكذلك العبيد والأرقاء, {الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}, هم عبيدكم وأرقائكم, في ثلاث أوقات دون سائر الأوقات؛ قال -جلَّ وعَلا- : {ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ}, هذا الوقت الذي يكون فيه ربما يدخل الطفل المميز والناس تستعد للقيام لصلاة الفجر, {مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ}, {تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ}, تخفف مِن الثياب لوقت الراحة, القيلولة في وقت الظهيرة، {وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ}, مِن بعد صلاة العشاء والناس تتهيأ للنوم, الله -تبارك وتعالى- أخبر بأنَّ هذه الأوقات الثلاثة, قال : {ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ}, ثلاثة عورات؛ لأنه يكون في وقت تخفف مِن الثياب, الاستعداد للنوم، أو في وقت نوم، فهذا لا ينبغي, ولا يجوز أنْ يدخل الطفل المميز والعبد والأَمَة على سيده إلا أنْ يستأذن، وصفة الاستئذان هي السلام ثم طلب الإذن بالدخول، السلام عليكم أدخل؟ فإنْ قيل له أدخل يكون هذا هو استئذان، يرد المُسَلَّم عليه، يقول وعليكم السلام؛ فإذا قال له : أدخل؟ يقول له : أدخل، أو ارجع ، قال -جلَّ وعَلا- : {ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ}, ما عليكم ولا على هؤلاء جناح بعدهن في أنْ يدخل عليكم أبنائكم وعبيدكم وأرقائكم في غير هذه الأوقات دون استئذان، فيدخل مباشرة يسلم ويدخل إلى الغرفة أو الدار دون أنْ يطلب الأذن بالدخول وعدمه, قال -جلَّ وعَلا- : {طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ}, {طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ}, الطواف هو التنقل والدوران في جنبات البيت, هذا يخرج مِن غرفته إلى هذه الغرفة, ومِن هذا المكان إلى هذا المكان؛ فيصبح الاستئذان عند كل دخول فيه نوع من قد يكون فيه مِن التضييق؛ فالله يقول : {طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ}, يدخل إلى الغرفة الأخرة بدون استئذان؛ لأنه معلوم أنه في هذا الوقت المرأة متسترة، والرجل متستر، وليس مثلًا الزوج والزوجة متخفيين مِن الثياب، ومتهيئين للنوم كما هو بعد العشاء، أو بعد الفجر، أو في وقت الظهيرة، لا أي أوقات هي أوقات الصلاة وأوقات بعد العصر هذه أوقات الناس جالسة على عادتها، فلا بأس أنْ يدخل هؤلاء الذين أُمِرُوا الاستئذان داخل البيوت دون استئذان, {طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ}[النور:58], {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ}, {كَذَلِكَ}, كهذا البيان والإيضاح والتفصيل، الله يبين لكم الآيات، يبينها بهذا البيان الذي بَيَّنَهُ -سبحانه وتعالى- لكم, {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ}, بهذا التفصيل والوضوح، {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}, {عَلِيمٌ}, بكل شيء -سبحانه وتعالى-, {حَكِيمٌ}, يضع الأمور في نصابها، وكم لهذا الأدب الإلهي الذي يربي الله -تبارك وتعالى-, ويعلمه الله-تبارك وتعالى- لعباده الصالحين، كم له مِن الفضائل الحسنة؛ فإنَّ وقوع عين العبد والأَمَة على سيده أو سيدته في وضع, أو نظرته إلى عوراتهم, أو دخول الأولاد، وقد يكون الأب والأم في وضع لا ينبغي؛ فنظرهم إلى هذا الأمر، وما يحدثه هذا مِن الأثار النفسية، أي الانحراف عن إجادة الثواب فهذا أدبًا إلهي، وسمو ورفعة في تعليم كيف يكون التوقير والاحترام, وصون الحرمات، وحفظ العورات، استئذان داخل البيوت، هذه بيت أهل الإيمان النظيفة, الطاهرة, الطبية.
ثم قال -جلَّ وعَلا- : {وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ........}[النور:59], الطفل إذا بلغ الحُلُم, بلغ مبلغ الرجال, {فَلْيَسْتَأْذِنُوا}, في كل وقت, لا يحل له أنْ يدخل على أبيه، أو أُمِّهِ، أو كبير، أو غيره إلا أنْ يستأذن؛ لأنَّ هذا كمال، في أي وقت يقول السلام عليكم أدخل؟ خرج مِن غرفته إلى غرفة أخية الأكبر، إلى غرفة أبيه، إلى مكتبه، إلى مكانه لا يدخل عليه إلا أنْ يستأذن؛ فيقول : السلام عليكم يا أبي أدخل؟ هذا الكبير الذي بلغ الحُلُم, يقول له : أدخل, أو ارجع الآن، له أنْ يقول هذا وهذا، الله يقول : {وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا........}[النور:59], في كل الأوقات، {كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}, وهم الكبار, يشير الله -تبارك وتعالى- إلى الآية التي يقول الله -تبارك وتعالى- فيها : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}[النور:27], فكما عَلَّمَ الله -تبارك وتعالى- أنَّ الذي يأتي مِن خارج إلى بيت مِن بيوت إخوانه المسلمين لابد أنْ يستأذن ويستأنس، لابد أنْ يعلم أنَّ أهل البيت في أُنْسٍ وفي رضًا أنْ يدخل وكذلك يسلم, {لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا}، فالله يخبر أنَّ الله أيضًا داخل البيوت إذا بلغ الطفل مبلغ الرجال لا يحل له أنْ يدخل مِن مكان إلى مكان، ومِن غرفة إلى غرفة، في داخل البيت إلا بأنْ يستأذن قبل الدخول، {وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ........}[النور:59], ثم قال -جلَّ وعَلا- : {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ آيَاتِهِ}, {كَذَلِكَ}, بهذه السورة التي يبينها الله -تبارك وتعالى-, {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ آيَاتِهِ}, يوضحها ويُفَصِّلهَا، {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}, -سبحانه وتعالى-, قال في الآية السابقة : {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ}, بالألف واللام التي تشمل كل آيات الرب -تبارك وتعالى-، وهنا آياته نسبها الله -سبحانه تعالى-, والنسبة إليه أكبر في التعريف فكان قدم اسم الجنس الآيات التي يشمل كل الجنس, ثم هنا الذي نسبها -سبحانه وتعالى- وهذا أبلغ فجعل الأبلغ مِن التدرج, أي الأمر إلى ما هو أبلغ منه، {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ آيَاتِهِ}, فهي آيات الرب -تبارك وتعالى-, {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}.
ثم قال -جلَّ وعَلا- : {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}[النور:60], هذا حكم آخر فيه شيء مِن التخفيف للنساء كبيرات السن، القواعد النساء، قال -جلَّ وعَلا- : {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ}, القواعد جمع قاعد، والمرأة القاعد هي التي كبر سنها، وسميت قاعد, العرب تسميها قاعد؛ لأنها غالبًا ما تكون قعودها في المكان، فهي ليست الشابة, النشيطة, القائمة, المتحركة, فهي الكبيرة التي جاوزت ما يقال سن اليأس, وأصبحت عامة وقتها قاعدة, لا يقال قاعدة؛ لأنَّ هذا مِن أوصاف الخاصة بالنساء، رجل يقال : هَرِم وشايب وكبير السن, والمرأة قاعد, {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا........}[النور:60], وصف هنا, {اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا}, التي لا تؤمل في النكاح؛ لأنه انتهى, كبر عمرها ومثلها لا يتقدم إليها مَن يخطبها ولا يتزوجها, {اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ}, {فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ}, حرج, الجناح الإثم والحرج، {أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ}, أي ثيابهن الظاهرية, التي تستر كل زينة, وكل الجسم، وكل زينتها، وليس معني ثيابهن أي يكن عاريات, وإنما الثياب الخارجية كالجلباب والخمار، فلو وضعت خمارها، أو جلبابها الساتر، وكان لها شيء يستر بدنها ولكن الخمار والجلباب لو وضعته عنها ودخل عليها الأجانب، فلا بأس بهذا؛ لأنه لا مطمع فيها، ولا هي ترجوا نكاحًا, {فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ}, لكن بشرط قال -جلَّ وعَلا- : {غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ}، التبرج هو الظهور, {بِزِينَةٍ}, أنْ تتزين بزينة؛ لأنَّ تزينها وإنْ كانت قاعد هذا معناه ما فيه في طمع لها، وكما يقال : لكل ساقطة لاقطة, فإنه قد يُطْمَعُ فيها كذلك, وعلى كبر سنها ربما تظن أنَّ هذا وخاصة كانت قد تبرجت بزينة معينة في وجهها, في يديها, في جسمها, في ثيابها, تكون قد أظهرت هذه الزينة حتى وإنْ كانت قاعد فإنه قد يُطْمَعُ فيها؛ فهنا نهى الله -تبارك وتعالى- أنْ تضع ثيابها إذا كانت هناك زينة لها تظهرها, ثم قال -جلَّ وعَلا- : {وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ}، {وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ}, مِن العِفَّة, بأنْ تكون في كمال الستر، فكان يقوم خمارها على رأسها وجلبابها كذلك, هذا في حضرة الأجانب، وهم الذين قد يحل الزواج بهم، {وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ}، هذه العفة هذا يكون أكمل، هذا أكمل بالنسبة حتى وإنْ كانت المرأة كبيرة السن مِن القواعد، {وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ}، {خَيْرٌ}, أخير هذا أفضل وأخير أنْ تستعف، بأنْ تغطي مثلًا رأسها وزينتها, وإنْ كانت كبيرة في السن لكنها كذلك في كمال الستر، {وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}, {اللَّه},الله -سبحانه وتعالى-, {سَمِيعٌ}, بكل عباده، {عَلِيمٌ}, بكل أحوالهم، هذا تحذير, أي احذر أيها المؤمن أنَّ الله سامع بكل أقوالك, عليم بكل أحوالك؛ فإنه لا يخفى عليه شيء -سبحانه وتعالى-, هذه في حكم القواعد مِن النساء.
ثم بعد ذلك أكد الله -تبارك وتعالى- بحكم بالنسبة لدخول الإنسان إلى بيوت غيره، وأكله دون استئذان، حَرَّمَ الله -تبارك وتعالى- على كل مؤمن مال أخيه المؤمن إلا بطيب نفس منه, في بعض الحالات التي تسقط فيها الكلفة، قد يأكل الإنسان ويأخذ مِن مال أخيه دون أن يحتاج إلى إذن في هذا، جاءت الآيات هنا قال -جلَّ وعَلا- : {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلَى أَنفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}[النور:61], هذا حكم فيه تخفيف، وفيه كذلك ضوابط شرعية بالنسبة لأهل الإيمان، أولًا رَفَعَ الله -تبارك وتعالى- الحرج عن هؤلاء الأعمى والأعرج والمريض، وغالبًا ما يكون هؤلاء يدخلون البيوت ويُسْتَضَافُونَ ويُنْظَرُ لأحوالهم مِن هذا العجز الذي بهم عن هدى عن يكون هذا العجر ربما يقعدهم عن كسب المعاش؛ فبالتالي قد يدخلون في بيوت الغير، وهؤلاء يجب إكرامهم وأنْ يُطْعَمُوا، قال -جلَّ وعَلا- : {لَيْسَ عَلَى الأَعْمَى حَرَجٌ}, في ما سيأتي إذا دخل بيت أخيه المسلم، {وَلا عَلَى الأَعْرَجِ}, الأعرج معروف، {وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ}، كذلك : {وَلا عَلَى أَنفُسِكُمْ}, المخاطبين, {أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ}, أنْ يأكل الإنسان مِن نَفْسِهِ، فهؤلاء جمعهم الله -تبارك وتعالى-, إذا دخل بيت بيته وأكل مِن ماله فلا حرج عليه, دون يستأذن بقية مَن في البيت؛ زوجته وأولاده في البيت، أو إخوانه المشاركين له في هذا الأمر, {أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ}, إذا دخل الإنسان بيت أبيه، فأكل منه, الأكل منه أنْ يَطْعَمَ منه دون أنْ يستأذن أباه, في أنْ يأكل هذا، {أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ}, بيوت الأمهات كذلك، {أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ}, العم أخو الأب, والإخوة شقيق، أو ابن عم، أو أخ لأم، {أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ}, وهو أخو الأم بأي صورة مِن صور الأم, الإخوة الأشقاء، أو إخوة لأم، أو إخوة لأب، {وْ بُيُوتِ خَالاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ}, {أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ}, الإنسان مَؤَمَّن على مثلا بستان, حارس أقامه صاحبه على هذا البستان، أو على هذا المخزن الذي مثلًا فيه طعام، أو فيه غيره، {أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ}, الصديق إذا دخل بيت صديقه، والصديق هو أخٌ قامت به وبين أخيه مؤدة ومحبة وصحبة طويلة؛ فأصبح صديق يسمى صديق وهو مأخوذ مِن الصِّدْقِ؛ لأنه يَصْدُقكَ وتَصْدُقهُ، {أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا}, {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ}, حرج {أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا}, إذا دخلتم هذه البيوت، {أَوْ أَشْتَاتًا}, متفرقون، وهذا دون استئذان, وإلا فإنَّ بالإذن يصبح إطعام الغير إذن فمن لم يكن مِن هؤلاء، ودخلت بيته ليس بصديقك، وإنما رجل استضافك وقال لك تفضل إنْ أباح لك, لا يجوز لك إذا دخلت بيته لا تأكل مِن طعامه إلا بالإذن إذا أَذِنَ لك، ووضع الطعام هو إذن لكن إذا وجد الإنسان مثلًا الطعام في ناحية وعلم أنه ليس موضوعًا لضيف؛ فإنه لا يجوز له أنْ يمتد يده إليه إلا بإذن مِن المضيف، ولو دخل الإنسان بيت الغير ليس ضيفًا، وإنما دخل فلا يجوز له أنْ تمتد يده إلى شيء مِن طعامه إلا إذا أباحه له، وكان بطيب نَفْسٍ منه، أما فيه هؤلاء المذكورين فإنه لو دخل الإنسان بيت صديقه وجد طعامًا، أو شرابًا، فأكل منه، أو شرب منه؛ فإنَّ هذا هو الذي نفى الحرج، إنما هو عن أنه يفعل هذا دون إذن منه؛ لأنه في الأساس أنَّ هؤلاء أذنوه، فالأب والأم والخال والخالة, وغير هؤلاء الذين ذكُرِوُا هم يفرحون إذا دخل أقربائهم فأكلوا مِن عندهم، أو شربوا، حتى وإنْ لم يستأذنوهم في ذلك, {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا}, مجموعة دخلت, {أَشْتَاتًا}, متفرقين, {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ}, لكن عند الدخول؛ دخول هؤلاء كلهم, أعمى دخل إلى البيت, وإنْ كان لا يرى يجب أنْ يُسَلِّمَ، أعرج، مريض، ابن على أبيه، أب على أبنائه، شخص على أعمامه، على أخواله، على خالاته، وإنْ كانوا محارم له، لكن لا يحل أنْ يدخل عليهم إلا باستئذان، قال : {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا}, بالتنكير, أي بيوت، أي بيت, {فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ}, سَلِّمُوا السلام هو إلقاء السلام؛ السلام عليكم هذه تكفي، ورحمة الله زيادة, وبركاته زيادة وفي كل زيادة خير، وأعظم تحية يُحَيَّا بها هي هذه في الأرض كلها، اختارها الله -تبارك وتعالى- فلا يشمل هنا التحية في كل ما يُحَيي به الناس بعضهم بعض مثل هذه التحية، فإنها دعوةٌ مِن الله -تبارك وتعالى- أنْ يسلم هذا المحيا الذي تحييه, أنْ يسلمه الله -تبارك وتعالى- مِن كل آفة السلام عليكم، وكذلك أنْ يرزقه السلام الطمأنينة والرحمة, والبعد عن أي إقلاق ومشقة، ورحمة الله وبركاته, الناس يحي بعضهم بنالك الخير، صباح الخير، عم صباح، عم مساء، بالرفاء والبنين، بنحو ذلك لكن أكمل تحية يحي بها هي؛ لذلك قال -جلَّ وعَلا- : {تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً}, {فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ}, الله الذي اختارها, وهو الذي أنشأها كما جاء في الحديث : «أنَّ الله -تبارك وتعالى- لما خَلَقَ آدم قال له أذهب إلى هذا النفر مِن الملائكة، فانظر بما يحيوك به؛ فقالوا له : السلام عليك ورحمة الله وبركاته, فقيل لآدم هذه تحيتك، وتحية ذريتك»، هذه هي التحية التي اختارها الله -تبارك وتعالى-, اختارها الله -تبارك وتعالى- منذ خلق الله -تبارك وتعالى-, وجعلها الله -تبارك وتعالى- تحية لأهل الإسلام عمى عنها مَن عمى مِن السابقين, والله -تبارك وتعالى- أرشد إليه؛ فقال : {تحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ}, الله -تبارك وتعالى- هو منزلها, وهو معلمها, وهو مستيها لكم، {مُبَارَكَةً}, فيها بركة عظيمة، بركتها أولًا في إنشاء المحبة بين الذين يسلموا بعضهم على بعض، كما قال النبي: «لن تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا, أو لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا ولن تؤمنوا حتى تحابوا، أفلا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم»، فإفشاء السلام وهو نشره أول هذا مِن دواعي أنْ يُنْشِيء الله -تبارك وتعالى- به المحبة بين قلوب عبادة المؤمنين, ثم هو دعاء مِن أشرف الدعاء وأعظمه، وتمني حصول هذه الخيرات مِن مسلم لأخية المسلم، فعندما يقال السلام عليك أولا السلام مِن السلامة، سلمك الله مِن كل الآفات وكل الشرور, وكذلك السلام مِن السِّلْم ضد الحرب فهو الله -تبارك وتعالى- هو السلام صفة مِن صفات الله -تبارك وتعالى-, وهو واهب السلام -سبحانه وتعالى- ومعطيه, اللهم أنت السلام, ومنك السلام، فالسلام منه -سبحانه وتعالى- فإذا قيل له السلام عليك أي الطمأنينة، طمأنينة الله -تبارك وتعالى- ورحمته ينزلها عليك, السلام عليك، ثم ورحمة الله وبركاته, رحمة الله هذه جدًا, رحماته لا تعد ولا تحصى في الدنيا والآخرة، وبركاته زيادته -سبحانه وتعالى- ونماؤه لعباده المؤمنين، ما يزيده الله -تبارك وتعالى- مِن الفضل والإحسان لعبده المؤمن, فهذه التحية اشتملت على كل هذا، {تحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ}, تحية تحيية, أصل التحية مِن الحياة, وكانت العرب عندما تدعوا لإنسان وتحييه، تحييه بطول العمر تقول له : أطال الله عمرك؛ لأنَّ هذه كل طمعه في هذه الدنيا، لا يوجد أمل بعد ذلك في رحمة الله في الآخرة, وفي جنته كان له في الآخرة؛ فلذلك أعظم ما يؤملوه أنْ يطول الإنسان عمره في هذه الحياة، أطال الله عمرك، حَيَّاك الله، حيَّاك أطال الله حياتك، مَدَّ في حياتك، ثم أصبحت كل تمني وترحيب عند اللقاء، وعند الدخول مِن إنسان لإنسان تسمى تحية مِن هذا؛ لأنها قالت في الأساس غُلِّبَ هذا الدعاء بطول العمر، فهي تحية مِن عند الله, وإنْ كان السلام عليكم ليس فيها طلب بطول العمر، وإنما فيها السلامة، ورحمة الله -تبارك وتعالى-، والسِّلْم مِن عند الله -عز وجل-, وأنْ يهبط السلام وهو الأمن والطمأنينة والرحمة مِن الله -تبارك وتعالى-, {تحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ}, أنشأها وعَلَّمَهَا, {مُبَارَكَةً}, فيها كل هذه الزيادة مع ما فيها مِن البركات كذلك أنها تنشيء حسنات، فأنت هنا تفعل تمني لأخيك المسلم الذي تسلم عليه, لكن هذه تنشيء حسنات عندك، يعطيك الله -تبارك وتعالى-, يعطيك الله عشرة حسنات، ورحمة الله عشرين حسنة، وبركاته ثلاثون حسنة، فانظر بركات كذلك؛ لأنها عبودية لله -تبارك وتعالى- وبالتالي هي ذِكْر وتعطى ثوابًا عليها مِن الله -تبارك وتعالى- فهذه مِن بركاتها، {طَيِّبَةً}, أيضًا مِن صفتها أنها الطيبة ضد الخبث فإنها فيها هذه الطيبة؛ لما فيها مِن هذه التمنيات الجميلة مِن الأخ المسلم لأخيه المسلم، أو مِن كل مسلم يُحَيي أخاه المسلم، {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ}, {كَذَلِكَ}, كهذا أيضًا التفصيل والإيضاح، انظر كيف فَصَّلَ الله -تبارك وتعالى- وحدد كل هؤلاء الذين يُدْخَلُ بيوتهم, ويؤكل مِن طعامهم ,ويُشْرَب مِن شرابهم دون استئذان فجعل نفس الإنسانأولًا رفع الحرج عن المريض، وعن الأعرج، وعن الأعمى، ثم رفع الحرج عن الإنسان في بيتة أو مَن يشاركه فيه، ثم في بيوت الآباء والأمهات، الإخوان والأخوات، الأعمام والعمات، والاخوال والخالات والصديق، ومَن ملك مفتاح أمر موكل مِن غيره بستان ونحوه، انظر بهذا التفصيل, وبهذا البيان يُبَيِّنُ الله -تبارك وتعالى- ويرشد عباده -جلَّ وعَلا- بهذه الآداب العظيمة, التسليم عندما يدخلون, ونتيجة هذا التسليم، {........كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}[النور:61]، لَعَلَّكُمْ}, بهذا البيان, {تَعْقِلُونَ}, وقال هنا : {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}, لأنَّ الله -تبارك وتعالى- فَصَّلَ الأمر تفصيلًا كاملًا فكل ذي عقل لاشك بعد أنْ يُفَصَّل له هذا التفصيل، ويُبَيَّنُ له هذا البيان، يعقل هذا ويأخذ لله -تبارك وتعالى ، ويتمسك بهذا الأمر.
نسأل الله -تبارك وتعالى- أنْ يوفقنا إلى طاعته ومحبته ورضوانه, ونشكره ونحمده -سبحانه وتعالى- أنْ أنزل هذا الكتاب العظيم, المفصل فيه في هذه الرحمة والهداية، اللهم ممسكنا بكتابك، واجعلنا مِن المهتدين به، الحمد لله رب العالمين .