السبت 22 جمادى الأولى 1446 . 23 نوفمبر 2024

الحلقة (433) - سورة الفرقان 1-3

الحمد لله ربِّ العالمين، و الصلاة والسلام على عبده ورسوله الأمين، سيد الأولين والآخرين, نبينا محمد, صلوات الله عليه, وعلى أصحابه وآله, ومَن اتبعه بسنته إلى يوم الدين.

 وبعد؛ فيقول الله -تبارك وتعالى- بسم الله الرحمن الرحيم : {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا}[الفرقان:1], {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا}[الفرقان:2], {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلا حَيَاةً وَلا نُشُورًا}[الفرقان:3], {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا}[الفرقان:4], {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا}[الفرقان:5], {قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا}[الفرقان:6].

هذه سورة الفرقان سورة مكية، بدأها الله -سبحانه وتعالى- بتعظيم نَفْسه -جلَّ وعلا- في إنذاره لهذا القرآن، قال -جلَّ وعَلا- : {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا}[الفرقان:1]، تبارك الله تعاظم وكثر خيره وبركة -سبحانه وتعالى-؛ فكل أعماله خير وبركة, ومِن أعماله المباركة, العظيمة، إنزاله هذا القرآن كتابه -سبحانه وتعالى-, الفرقان على عبده ورسوله محمد -صلوات الله والسلام عليه-، هذا أعظم الأعمال بركة وزيادة، وبركات القرآن لا تحصى ولا تعد؛ فهو الذي هدى الله به مَن شاء الله هدايته مِن الخلق إلى طريق الله -تبارك وتعالى-, والذي عرف الناس بربهم وخالقهم -سبحانه وتعالى-, وعرفهم بالطريق الذي يسعدون فيه في الدنيا والآخرة، وآثار هذا القرآن في الناس, وفي الحياة هذا أمرٌ عظيم جدًا، لا يمكن حصر بركاته ومنافعة وفضائله تبارك الله -تبارك وتعالى- كثرة خيرة، وعظمتة -سبحانه -جلَّ وعَلا-, {الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ}, والذي نزل الفرقان هو الله -تبارك وتعالى- هذه اسم موصول تعريف بالله -تبارك وتعالى-, {الْفُرْقَانَ}, هو القرآن سماه الله -تبارك وتعالى- فرقان؛ لأنه يفرق بين الحق والباطل جاء يفرق بين الحق والباطل بين صلاة الله -تبارك وتعالى- المستقيم وصورة الشيطان, بين الهدي والضلال بين أهل الجنة، وأهل النار بين سبيل المؤمنين، وسبيل المجرمين, {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ}[الأنعام:55], فبين الله -تبارك وتعالى أنزله الله -تبارك وتعالى- تبيانًا لكل شيء, يفرق بين الشيء ونقيضه، بين الحق والباطل, بين الهدى والضلال، بين الشرك والتوحيد، بين الرب الإله الذي لا إله إلا هو -سبحانه وتعالى- خالق كل شيء, وبين هذا الذي يعبد مِن دونه لا يعلم الإلهية مِن دونه -سبحانه وتعالى- فهو الفرقان، وفرقان بالألف والنون للمبالغة فيه, ليس الفارق بل فرقان عظيم، بين كل هذه المختلفات, {عَلَى عَبْدِهِ}, على عبده محمد -صلوات الله والسلام عليه، وذكر الله -تبارك وتعالى- محمدًا هنا بوصفة أنه عبد لله -تبارك وتعالى-؛ وهذا لتشريفه وتعظيمه وإجلال هذا الرسول ورفع منزلته، فهذه عبودية لله تحقيق العبودية لله -تبارك وتعالى- هذه العبودية الاختيارية التي يختارها العبد, يختار الطريق الله -تبارك وتعالى- ويحقق العبودية له أشرف المنازل، أشرف منزله ينالها إنسان أنْ يكون عبدًا الله -تبارك وتعالى- خاضعًا له, مطيعًا له -سبحانه وتعالى- هذا أشرف شيء فالمتقى هو أكرم الخلق، أكرم الخلق هما الأتقياء, {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}، أكرمكم أنفسكم وأعلاكم منزله، فالله -تبارك وتعالى- جعل محمد -صلوات الله والسلام عليه- هو أتقى الخَلْق, أعلم الخلق بالله، وأتقى الخلق لله, أخوف الناس لله -تبارك وتعالى-؛ فلذلك هو أكرم الخلق -صلوات الله والسلام عليه-, عبد شرفه الله تبارك وتعالى- بهذا الوصف هنا, كما شرفه  بوصف العبودية في كل منازل التشريف كما قال -تبارك وتعالى- : {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا}[الكهف:1], فشرفه كذلك بمنزله العبودية عند إنزال الكتاب، كما هنا في إنزال الفرقان, وكذلك في الدعوة؛ فقال : {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا}[الجن:19], وفي مقام الإسراء؛ قال الله -جل وعلا- : {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ........}[الإسراء:1]، فوصفه بوصفه أنه عبدٌ لله -تبارك وتعالى- {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ........}[الإسراء:1]، وكذلك في إنزال الكتاب, في قول الله -تبارك وتعالى- : {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا........}[البقرة:23], أي محمد -صلوات الله والسلام عليه-, {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا}[الفرقان:1], {لِيَكُونَ}, أي هذا الفرقان, {لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا}, يكون هذا الفرقان نازل على عبد الله ورسوله, {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ}, كل الناس أجمعين, {نَذِيرًا}, منذرًا له، نذير يخوف النذارة هي الإخبار بما يسوء، الإخبار هو التهديد بعقوبة الرب -تبارك وتعالى- وذلك عند العزول عن هذا القرآن، وقد قال الله -تبارك وتعالى- : {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا}[الفرقان:51], {فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا}[الفرقان:52], بهذا القران وقال : {لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ }, لأنذركم بهذا القرآن ومَن بلغتهم فهذه رساله الله القرآن رساله الله إلى الناس جميعًا أنزلها الله -تبارك وتعالى- لعبده؛ لتكون رسالة إلى الناس جميعًا, وقد وَجَّهَ الله -تبارك وتعالى- لعبده خطاب، خطابه المباشر منه -جلَّ وعَلا- إلى كل أحد, للعالمين، أصبح خطاب مباشر والنبي مُبَلِّغ حامل لهذه الرسالة؛ ولذلك جاء في هذا القرآن الخطاب المباشر مِن الله للخلق كقوله : {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[البقرة:21], وقوله : {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ........}[الأعراف:26]، يا بني آدم، {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ}[الانفطار:6], {الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ}[الانفطار:7]، يا أيها الذين آمنوا خطاب للذين آمنوا، خطاب إلهي مباشر مِن الرب -تبارك وتعالى- الخلق والنبي -صلوات الله والسلام عليه- إنما وصلته هذه الرسالة, وأُمِرَ بإبلاغها للناس, {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا}[الفرقان:1], وكذلك يكون النبي للعالمين نذيرًا؛ لأنه هو الذي حامل وبلغ رسالة الله -تبارك وتعالى- فقد أُمِرَ بتبليغها للناس, {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا}, قد أخبر الله -تبارك وتعالى- رسوله أيضًا أنه قد أرسله للعالمين, {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}[الأعراف:158], فنبينا -صلوات الله والسلام عليه- قد أُرْسِلَ بهذه الرسالة العالمية, بكتاب الله -تبارك وتعالى- المنزل للعالمين؛ ليكون كذلك النبي نذيرًا للعالمين -صلوات الله والسلام عليه-.

 ثم وصف الله -تبارك وتعالى- نَفْسَهُ منزل هذا الكتاب، أولًا إنه بين أنه منزل هذا الكتاب, ووصف نَفْسَهُ لخَلْقِهِ -سبحانه وتعالى- فقال له : {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ}، أي ربكم هذا الذي نزل الفرقان على عبده هو الذي له ملك السموات والأرض ذاتًا, يملك رقبتها وتصريف، فهو الملك، المُلْك كله له، السموات والأرض هذا الخَلْق الذي نشاهد بعضها، هذه الأرض التي نعيش عليها، والسماء التي تعلونا ونشاهد بعض ما فيها، وأما أطباقها العلا فإنها مِن الغيب الذي لا نشاهده, {........فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ}[الملك:3], {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ}[الملك:4], فكل ما أعلانا مَن نراه, ومما لا نراه مما أخبرنا الله -تبارك وتعالى- به ومما لا يستحيل لنا أنْ نراه؛ لأنه فوق إدراكنا وفوق آلتنا، فالله هو الملك لكل ذلك، الذي له ملك السموات والأرض، والله -تبارك وتعالى- يملك السموات والأرض ذاتًا؛ لأنه هو الذي أخرجها مِن العدم، فهو فاطر السموات والأرض، أخرجها مِن العدم لم تكن شيئًا، خلق مادتها الأولى -سبحانه وتعالى-, وأبدعها على هذا النسق البديع الذي هي عليه، وأحسن كل شيء، {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ........}[السجدة:7], كل شيء خَلَقَهُ الله -تبارك وتعالى- قد جعله في غاية الحسن والجمال، ثم إنه الله -تبارك وتعالى- يملك تصريفه كذلك، فتصريف السموات والأرض تتصرف لأمره، {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ}[فصلت:11], {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا........}[فصلت:12], فالأمر الذي تسير عليها، الخطوات التي تسير عليه مسارها بكل دقة وإحكام  هذا بأمر الله -تبارك وتعالى-, ولا تتأخر في هذا, وبحساب, حساب الرب، {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ}[الرحمن:5], حساب دقيق؛ فكل ذرة في هذا الوجود الذي خَلَقَهُ، الله -تبارك وتعالى- يملك تصريفه، تحويله, {تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}[آل عمران:27], {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[آل عمران:26], فالله -تبارك وتعالى- له ملك السموات والأرض، ملك ذاتها، يملك ذاتها, ويملك تصريفها، فلا تتصرف، ولا يتصرف جزء منها إلا بأمره ومشيئته, كل تصريف سواء كان هذا الجزء هو أعلن الخروج مِن هذه العلاقات كإبليس وأتباعه, ومَن كفر مِن الإنس، العجماوات, كل هذا لا أحد يتصرف إلا بأمر خالقه, أمره الكوني القَدَرِي -سبحانه وتعالى-؛ فالله -تبارك  وتعالى- هو الذي له الملك كله, والتصريف كله, {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ}[الصافات:96], {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا........}[الفرقان:2]، هذا مِن صفته -سبحانه وتعالى- ما اتخذا ولدا مِن الخلق؛ وذلك كل ما سواه خلقه، والله -تبارك وتعالى- هو الواحد الأحد الذي لا شبيه له ولا ند له كل شيء غير الله -تبارك وتعالى- أزواج، أشكال كل شيء له شكل، السماء لها السماء، الملائكة أزواج شتى، أعداد هائلة، البشر، الجن، الإنس، {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}[الذاريات:49], أما الله فهو الفرد، الوتر, واحد لا نظير له ليست له زوجة, ليس له ولد, لو كان ولد لكان أصبح له نظير وشبيه؛ لأنَّ الولد مثل الوالد، مَن شابه أباه فما ظلم، ما وضع الشبه في غير محله؛ فالله ليس له ولد -سبحانه وتعالى-، ليس له كفر، ليس له نظيرًا، ليس له شبيه، { لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ}, ولم يتخذ ولدًا ، كذلك ليس له شريك في الملك، شريك في الملك مِن خَلْقِهِ، أو مَن يدعى ادعى بأنه إله مستقل لا يمكن أنْ يكون هناك إله مستقل غير الله -تبارك وتعالى-، يستحيل هذا, {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا........}[الأنبياء:22], أو يكون مِن خَلْقِهِ مشارك له في شيء مِن هذا المُلْك، كأن يكون قد خَلَقَ شيئًا منه، قد أعانه الله في خَلْقِ شيء منه، أو له شيء مِن الملك في أنْ يتصرف بما لا يريد إلهه ومولاه يستحيل هذا، يستحيل أنْ يكون لأحدٍ شيء مِن التصريف بغير إذن إلهه ومولاه -سبحانه وتعالى- فالمُلْكُ كله له، {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْء}, خَلَقَ الله-تبارك وتعالى- كل شيء، خلق إبراز مِن العدم, وخلق تقدير وهذا معنى الخلق، فالخلق إبراز مِن العدم إلى الله -تبارك وتعالى-، وتقدير كل شيء إعطاء كل شيء صفته ومقداره فإلى الله، فهو : {........الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى}[طه:50]، {فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا}, أعطاه مقادير الخلية الحية الصغيرة، التي تتكاثر فتصبح إنسان أو حيوان, ذكر أو أنثى, خلية نبات تركيبها مِن داخلها, تجميعها صفتها، علاقتها بأخرى مِن الخلايا كل شيء خلقة الله -تبارك وتعالى- {فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا}, جعل كل شيء له مقداره، أخلاط الموجودة في داخل النواة، أن كان هذه الأحماض الموجودة بضع وأربعون حمض كل جزء منه مقدر ولو زيد حمض مِن هذه الأحماض، وخلط مِن هذه الأخلاط على غيره؛  لفسد الخَلْق، يفسد الخَلْق، فكل أمر عنده مقدر -سبحانه وتعالى- كل شيء مقدر، ليس الأمور الكبيرة بل  وأيضًا الأمور الصغيرة الدقيقة، خَلْق الإنسان مقدر، أعطى الله -تبارك وتعالى- كل مخلوق قدره ومقداره,  قدره في الصفة، وكذلك القَدَرِ الذي يسير عليه، والعمر الذي ينتهي إليه، والرزق الذي يأخذه، كل أمر عنده مقدر تقدير ووضع له، قدره ومقداره لا يكون، وحسابه الدقيق، فلا يزاد في عمر أحد، ثانية مِن الوقت، ولا ينقص مِن عمره، كل موجود في كتاب، فهذا كل خَلْقٍ خلقه الله -تبارك وتعالى- قد قدره تقديرا, إذن منزل هذا الكتاب هو الرب, الإله, العظيم، منزل هذا الفرقان, العظيم, الذي فرق بين الحق والباطل الله، منزله الله الذي له ملك هذه السموات والأرض، كل هذا الكون الذي نعيش فيه، كل ما سوى الله -تبارك وتعالى- مِن السموات والأرض هذا هو الذي خَلَقَهُ، وهو الذي يملكه يملك ذاته وتصريفه، {وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا}, له ينازعه ويشاركه، {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ}, آخر يكون مِن ملائكته, أو مِن خَلْقِهِ مِن يشاركه في شيء مِن الملك، سواه مشاركه في الخَلْقِ أو مشاركة في التصريف، لا يمكن أنْ يتصرف ولا في ذرة غيره، منع الله -تبارك تعالى- كذلك التصريف أنَّ أحد يستطيع أنْ يصرف، بل الأمر كله -سبحانه وتعالى-, {........وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا}[الفرقان:2], فهو خالق كل شيء -سبحانه وتعالى-, وهو المتوكل بكل شيء، هذا الرب.

ثم بعد ذلك نقله بعد بيان صفه الرب -تبارك وتعالى- منزل القرآن إلى هؤلاء العميان الذين عبدوا غير الله -تبارك وتعالى-, قال -جلَّ وعَلا- : {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلا حَيَاةً وَلا نُشُورًا}[الفرقان:3], {وَاتَّخَذُوا}, الكفار والمشركون مِن دون الله غير الله -تبارك وتعالى-, {آلِهَةً}, معبودات, {آلِهَةً}, جمع إله وإله هو المعبود، إنه في لغة العرب هو المعبود، كل ما يعبد، يصرف له نعم العبادة، هذه العبادة كركوع، أو سجود، أو ذبح، أو نزر، أو طواف، أو تبرك، أو دعاء، هذه العبادات كل مَن يصرف له عباده عند العرب فهو إله؛ ولذلك هم يسموا أصنامهم آلهة، قالوا : {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ}[ص:5], سموا الشمس الإله؛ لأنها معبودة يعبدونها يعبدها عبادها فيسجدون لها, ويتحينون شروقها فيسجدون عند شروقها, يستقبلون غروبها فيسجدون لها  يقصدونها بالعبادة في معبود في كل ما عُبِدَ مِن شجر, مِن وثن, مِن أي شيء يعبد فهو إله، الله يقول : اتخذ هؤلاء الكفار مِن دونه  غير الله، ملك السموات والأرض، خالق السموات والأرض الذي خلق كل شيء فقدره تقديرا ، {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً}, هذه الآلهة, {لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا}, لا تخلق شيئًا، لا يستطيع أي إله مِن هذه الآلهة المدعاة أنْ يخلق شيء، الشمس لا تخلق، والأصنام لا تخلق, والملائكة لا تخلق، ما أحد غير الله -تبارك وتعالى- له الخلق، وإنما الخلق لله وحده -سبحانه وتعالى-, {وَهُمْ يُخْلَقُونَ}، {هُمْ}, هذه الآلهة المدعاة هي أصلًا تخلق أم أنْ يكون الله خالقها كالشمس والقمر، أو البشر نفسهم يخلقونها، هم يصنعونها كمن يصنع له إله مِن خشب،  أو مِن ذهب، أو مِن معدن، أو مِن تمر، كما كان بعض العرب يفعلون مثل هذا، فهم يخلقون، وسواء كان الله خالق هذا الشيء ذاتًا كالشمس، {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ}[فصلت:37],فالله الذي خلق الشمس والقمر فهي لها المخلوق، كذلك الملائكة خلقهم الله، عيسى خَلَقَهُ الله، هذا عبد الله -تبارك وتعالى- خَلَقَهُ الله، فهؤلاء الآلهة أولًا هم يخلقون، خلقهم الله -تبارك وتعالى- أو أصنام يخلقون البشر هم صنعوهم ونحتوهم بأيديه ، ولقد قال إبراهيم  لقومه الذين يعبدون الأصنام قال : {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ}[الصافات:96], الله خالقكم أنتم، والذي تعملون كذا، الله خالقها؛ لأنَّ مادتها خلقها الله -تبارك وتعالى- أي مادته، مادة هذا الشيء مِن ذهب، أو نحاس، أو مِن حجر أو مِن طين هو في الأساس هذا مِن خلق الله -تبارك وتعالى-, وتخليقكم هذا كذلك واقع بإقدار الله -تبارك وتعالى- لكم هذا الفعل والقدرة والتصور الذي عندكم لإبراز هذه الأصنام هو فعل الله -تبارك وتعالى-, لولا أن الله -تبارك وتعالى- عطاكم القدرة، وعطاكم النظر، ما فعلتم هذا، فالله -تبارك وتعالى- أعطاكم القدرة، وأعطاكم النظر ما فعلتم هذا، فالله -تبارك وتعالى- هو الذي له الخلق كله هو الذي خالق كل شيء، -سبحانه وتعالى- والشاهد أنه الله يقول : {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا........}[الفرقان:3]، هذه المخلوقات التي عُبِدَتْ مِن دون الله لا تملك لنفسها، أي بنفسها ضر ولا نفع، فالشمس والقمر، والملائكة، وعيسى وغيره والبشر كلهم، ما في مخلوق يملك استقلال ضر ولا نفع، ألا بإذن خالقه وبإذن مولاه -سبحانه وتعالى-, أما استقلالًا أنْ يخلق لِنَفْسِهِ قدر، وأنْ يصنع لِنَفْسِهِ وأنْ يملك لِنَفْسِهِ نفع ولا ضر، فلا,{وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا}، وقُدِّمَ الضر لأنه أسهل، أي أنْ يضر الإنسان نفسه أسهل أنْ ينفعها ، فإنَّ الضر سهل، يمكن أنْ يجرح الإنسان نفسه أو يقتل نفسه، أما جلب النفع فإنه يحتاج إلى جهد أكبر فقدم الضرر؛ لبيان عجز هذه المخلوقات، التي يدعى لها الألوهية وأنها ليست في مكانتها أنْ تنفع نفسها أو تضرها نفسها ، فضلا عن أنْ تؤدي هذا لغيرها, {.......وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلا حَيَاةً وَلا نُشُورًا}[الفرقان:3], {وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتًا}, لغيرهم, {وَلا حَيَاةً}, أي لا يستطيعون أنْ يميتوا ولا أنْ يحيوا ولا أنْ ينشروا بعد البعث, وإنما هذا كله إلى الله -تبارك وتعالى- فالنشور هو إخراج الأجساد مِن الأجداث بعد الموت، فهذه الآلهة المدعاة لا تملك هذا، إذن ليست فيها أي صفة تستحق بها أنْ تكون آلهة، وإنما هي سميت آلهة مِن باب التسميه التي لا حقيقة لها، فكيف يكون إله لا يملك لِنَفْسِهِ ضر ولا نفع, ولا يملك لغيره كذلك, {........مَوْتًا وَلا حَيَاةً وَلا نُشُورًا}[الفرقان:3], لاشك أنَّ هذه آلهة عاجزه عن أي فعل؛ ولذلك اتخاذ هذه الآلهة مِن هؤلاء، مِن قبيل ضلال, انظر كيف أتى هذا الفرقان، كتاب الله -جلَّ وعَلا- للتفريق بين الرب الإله، الذي لا إله إلا هو، وبين هذه الآلهة المدعاة هذا مِن الفرقان، {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا}[الفرقان:1], انظر كيف يفرق الله -تبارك وتعالى- بين ذاته العليا -جلَّ وعَلا-, وما عبد مِن دونه -جلَّ وعَلا-, ومِن أعظم الفرقان، وهذا مِن  أعظم الأوامر التي ضل فيها البشر، ضلوا عن الرب الإله -سبحانه وتعالى- خالق كل شيء, وعبدوا هذه المعبودات التي لا تنفع ولا تضر، فانظر فرقان يصفه الله نَفْسَهُ فيقول : {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا}[الفرقان:2], هذا هو وصف الرب -سبحانه وتعالى-, ثم يأتي إلى وصف هذه الآلهة المدعاة فيقول : {وَاتَّخَذُوا}, أي الكفار المشركين, {مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلا حَيَاةً وَلا نُشُورًا}[الفرقان:3].

 ثم انتقل السياق بعد ذلك إلى مقالة هؤلاء الكفار في القرآن، بعد أنْ فرق الله-تبارك وتعالى- بين ذاته العليا -سبحانه وتعالى-, وبين هذه المعبودات التي عُبِدَت مِن دونه، قال -جلَّ وعَلا- : {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ}[الفرقان:4], قال -جلَّ عَلا- : {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا}[الفرقان:5], قال -جلَّ وعَلا- : {قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا}[الفرقان:6], {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا}, ذكرهم الله -تبارك وتعالى- بوصفهم؛ لأن هذا الوصف هو الداعي، هو الذي دعاهم إلى هذه المقالة، {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ........}[الفرقان:4], بالحصر حصروا القرآن في أنه إفك كذب، والكذب يسمى إفك لأنه كلام مقلوب، أي أنه أمر مأفوك مقلوب, افتراه, النبي هذا اختلقه مِن عنده، افتراه كذبه مِن عنده، {وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ}, أعانه على هذا الكذب قوم أخرون غيره، ذكروا في هؤلاء القوم الآخرين بأنهم غلام رومي كان يجلس إليه النبي -صلى الله عليه وسلم- صهيب الرومي غيره, وأنه يوجد ناس هناك مَن ساعده في أنْ يفترى هذا، وهذا الذي قالوا هم أول مَن يعلموا كذبهم فيه، فأنهم يعلمون بأنَّ هذا النبي محمد -صلوات الله والسلام عليه- قد عاش دهره أربعين سنه لم يكذب, لم يأسروا عليه كذبًا واحد، فكيف يكون الذي لم يكذب قَطّ أنْ يكون هو قد افتراه هذا القرآن مِن عند نَفْسِهِ! يعلمون صدقه, ويعملون أمانته, ومع ذلك جعلوا وصف القرآن محصورًا هنا، {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ........}[الفرقان:4], قال -جلَّ وعَلا- : {........فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا}[الفرقان:4]، {جَاءُوا},, بهذه المقالة, {ظُلْمًا}, هذا الذي حملهم على هذا هو الظلم، وضع الأمر في غير محله, وهم أول مَن يعلم أنهم كاذبون في هذا الأمر، وأن النبي إنما أتي بهذا القرآن مِن عند ربه, وهو صادق في هذا, وقد تحداهم  الله -تبارك وتعالى- بأنْ يأتوا بسورة مثل سور هذا القرآن فهذا ظلم مِن ظلمهم وتعديهم على النبي -صلى الله عليه وسلم- بأنه كان على هذا النحو, وكذلك مِن زورهم، فالزور والباطل إنما وقع منهم ,ولم يقع مِن النبي -صلوات الله والسلام عليه-.

نقف -إنْ شاء الله- عند هذه الآية, ونكمل في الحلقة الاتية، أقول قولي هذا, وأستغفر الله لي ولكم صلى الله عليه وسلم.