الحمد لله ربِّ العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمةً للعالمين، سيدنا محمد, وعلى آله وأصحابه، ومَن اهتدى بهديه, وعمل بسنته إلى يوم الدين.
وبعد؛ فيقول الله -تبارك وتعالى- : {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا}[الفرقان:4], {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا}[الفرقان:5], {قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا}[الفرقان:6], {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا}[الفرقان:7], {أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا}[الفرقان:8], {انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا}[الفرقان:9], {تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا}[الفرقان:10], {بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا}[الفرقان:11], هذه الآيات مِن سورة الفرقان التي بدأها الله -تبارك وتعالى- بحمد نَفْسِهِ, وذكر إفضاله وإنعامه على عبادة بإنزال هذا القرآن؛ فقال -جلَّ وعَلا- : {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا}[الفرقان:1], أي ليكون هذا الفرقان, {لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا}، وصف نَفْسَهُ -سبحانه وتعالى-؛ فقال : {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا}[الفرقان:2], ثم وصف الله -تبارك وتعالى- الآلهة التي اتُخِذَت آلهة, معبودات مِن دونه؛ فقال-جلَّ وعَلا- : {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ........}[الفرقان:3]، هذه الآلهة هي مخلوقة خلقها الله -تبارك وتعالى-, ويسويها الناس بأيديهم, {........وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلا حَيَاةً وَلا نُشُورًا}[الفرقان:3], ثم قال -جلَّ وعَلا- عن مقالة هؤلاء الكفار في القرآن؛ فقال -جلَّ وعَلا- : {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا........}[الفرقان:4], أي القرآن, {إِلَّا إِفْكٌ}, أي كذب، كلام مقلوب, {افْتَرَاهُ}, نبي, فاتهموا النبي بأنه هو الذي أَفَكَ هذا القرآن، وهو الذي افتراه مِن عنده، {وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ}, هناك قوم آخرون قد أعانوه على هذا الكذب، قال -جلَّ وعَلا- : {فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا}, تعدي على النبي -صلوات الله والسلام عليه-, ووصفٌ له بما ليس فيه، وهم يعلمون, أول مَن يعلم صدقة -صلوات الله والسلام عليه-, {وَزُورًا}, كذب يأفكونه مع علمهم أنه كذب, {وَقَالُوا}, أي مِن ضمن مقالاتهم كذلك في القرآن : {أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ}, وهذه مقالة تخالف الأُوْلَى فإنهم {قَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ}, أي ما سَطَّرَهُ الأولين، أي أمور كتبها الأولون عندهم مِن تاريخهم, ومِن حوادثهم واكتتبها النبي {اكْتَتَبَهَا},كيف اكتتبها؟ {........فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا}[الفرقان:5], تملى عليه ممن يُعَلِّمُهُ إياها، {بُكْرَةً}, صباحًا، {وَأَصِيلًا}, الأصيل هو الوقت الذي بعد صلاة العصر, أي تملى عليه في أول النهار، وفي آخر النهار تملى عليه هذه, وهو الذي يأتيها, وكذلك يعلمون أنَّ هذا كَذِب، هذه مقالة غير تلك المقالة, وهذا مِن الدليل على تخبطهم وتناقضهم، فمرة يقولون هو الذي افتراه، وهو الذي اختلقه وأتى به، ومرةً يقولون هذا كلام قديم مما سَطَّرَهُ الأولون، وقد أُمْلِىَ عليه وهو قد جاء النبي هذا, وادعى أنه مِن عند الله، والحال أنه ليس مِن عند الله, كل هذا الإفك يعلمون هم أنهم يأفكون, وأنهم يكذبون, وأنهم يقولون هذه المقالات كذب، ولكنهم يفترون, ثم تعمى عيونهم فيصدقوا أنفسهم في ما افتروه، {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا}[الفرقان:5], قال -جلَّ وعَلا- : {قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ........}[الفرقان:6]، قل لهم؛ لهؤلاء المكذبين, المعاندين, المفترين، المتهمين للرسول بالباطل, {أَنزَلَهُ}, أي هذا القرآن, {الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ}, {السِّرَّ}, الخفي {فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ}, وهذه السموات والأرض أسرارها لا تحصى, ولا يعلم هذه الأسرار إلا الرب -تبارك وتعالى-؛ لأنه هو الذي خَلَقَ هذا الخلق, وهو عليم به -سبحانه وتعالى- وما مِن ذره في هذا الوجود إلا ويعلمها الله -سبحانه وتعالى- بعلمه، خلقها وهي تظل بعلمه -سبحانه وتعالى-, {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}[الأنعام:59], أسرار التصريف الذي يقع في هذه المخلوقات، وأسرار الخَلْق, سِر الخَلْق؛ خَلْق هذه المخلوقات، كل مخلوق مخلوق بإتقان وإحكام, ويوجد داخله مِن الأسرار مالا يعمه إلا خالقه، وقد عَلِمَ البشر, أي أطلعهم الله -تبارك وتعالى- على بعض هذه الأسرار خاصة في زماننا هذا، عندنا مثلًا دخلوا إلى داخل الذرة, إلى داخل الخلية الحية، الجزيء الصغير، مِن الجسم الحي الدخول إليه, ثم رؤية عَالَم كامل موجود داخله مِن ضمن هذا العالم هذه المُوَرِّثَات التي يحملها الإنسان عن أبائه، وعن أجداده مِن جهة الأم, ومِن جهة الأب، هذه المُوَرِّثَات التي تجتمع وتجعل الإنسان خصيصة خاصة به دون سائر كل أفراد الخَلْق، الشفرة الوراثية التي هي له؛ فهذه المُوَرِّثَات الموجودة التي يحملها, ثم المُوَرِّثَات منها هذه المُوَرِّثَات مِن القوة، ومُوَرِّثَات مِن الضعف، فيها أمراض, فيها إلى ما يكون للإنسان مِن صوته، مِن تركيبته الخاصة بدمه، مِن تركيبة عَرَقِهِ مِن تركيبه دمعه, مِن التركيبة الخاصة في شَعْرِهِ, مِن لون قرنيته في عينيه، أمور عظيمة, هذه المُوَرِّثَات داخل هذا الجزيء الصغير, أسرار هذا الخَلْق هذا لا يعلمها إلا الله -تبارك وتعالى-, أنْ يُطْلِعَ الله -تبارك وتعالى- بعض خَلْقه على بعض هذه الأسرار، وهي أمور لا يمكن الاطلاع عليها, ولا يمكن أنْ يقدرها إلا الرب الذي خلقها, كما قال النبي في العرش : «وأما العرش فلا يَقْدُرُ قَدْرَهُ إلا الله»، فالله الذي يعلم السر في السموات والأرض، سر الخَلْق لأنه هو خالقه، والسر في عمل وتصريف هذه المخلوقات يعلمه الله -تبارك وتعالى-، أسرار مِن هذه الأسرار هي إخفاء الكائن لبيضه لفراخه, إخفائه لإطعامه، كل هذا بعلم الله تبارك وتعالى-، {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}[هود:6]، أين المستودع الذي تُوْدِعُ فيه هذا؛ فكل أسرار الخَلْق عند الله -تبارك وتعالى-, السر المدفون في نَفْسِ كل إنسان, {........إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}[لقمان:23], كل إنسان له مِن الأسرار, وما يحبسه في صدره ولم يبح به يومًا لأحد, أمور في صدره ما باح بها لأقرب الناس إليه، فهذا مكنون الصدور؛ كل مكنون صدور الخَلْق عند الله -تبارك وتعالى-؛ فما مِن سِرٍ في نَفْسِ أحد إلا ويعلمه الله -تبارك وتعالى-؛ فالله عند كل قلب إنسان, وعند لسانه -سبحانه وتعالى-, {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}[يونس:61]، {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ........}[البقرة:284], {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ}, تُظْهِرُوهُ, {أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ}, يوم القيامة, كما قال -جلَّ وعَلا- : {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ}[الطارق:9], {تُبْلَى}, تُهْتَك, {السَّرَائِرُ}, {فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا نَاصِرٍ}[الطارق:10], {فَمَا لَهُ}, أي الإنسان هذا المُحَاسَب, {مِنْ قُوَّةٍ}, تحميه مِن الله -تبارك وتعالى-, {وَلا نَاصِرٍ}, ينصره مِن الرب -تبارك وتعالى-؛ فَتُهْتَك سريرة الإنسان ويخبره الله -تبارك وتعالى- بما في قلبه حتى إنْ كان عمل هذا العمل في الظاهر حسنًا, ولكنه في باطنة رياءً, يخبره الله -تبارك وتعالى- قال : كذبت، إنما فعلت ليقال كذا أو كذا وقد قيل، قد قال هذا؛ فهذا الله -تبارك وتعالى- هو الذي يعلم السر في السموات والأرض، قال : {قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ........}[الفرقان:6], وهذا أمر عظيم جدًا، وهذا أمر عظيم صفة مِن صفات الخالق وليست لأحدٍ إلا هو -سبحانه وتعالى-؛ فإنه لا أحد يعلم السر في السموات والأرض إلا هو, الملائكة لا يعلمون مِن الغيب إلا ما عَلَّمَهُم الله -تبارك وتعالى- إياه, عِلْمُهُم محدود, وشهادتهم محدودة بما يشهدونه، ومَا غاب عنهم لا يعلمونه, وقد قالوا لله -تبارك وتعالى- يومًا عندما قال : {........اَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ}[البقرة:31], {قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}[البقرة:32], والرسل وكل سائر الخلق، كل سائر الخلق لا يعلم مِن العلم إلا ما عَلَّمَهُ الله -تبارك وتعالى-, والله وحده -سبحانه وتعالى- هو الذي يَعْلَم السر في كل هذا الخَلْق, {الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ}, في هذا تعظيم للرب أولًا, علمٌ بهذه الصفة العظيمة للرب -تبارك وتعالى-, ثم تخويف للعباد مِن هذا الإله الذي يعلم دقائق ودخائل كل نَفْس, وحقيقة ما رُكِّبَ عليه كل مخلوق فهو خالقه -سبحانه وتعالى-؛ ففيه تخويف للعباد؛ إذن خف ربك الذي هدى؛ فأنت عندما تكذب هذا الكذب وتقول للرسول أنت كاذب, وأنت مفترٍ، وأنت أتيت بهذا، اعلم أنَّ الله -تبارك وتعالى- مُطَّلِع على سرك, وعلى حقيقة أمرك, وأنك قلت هذا كذبًا وزورًا, وأنَّ الذي في قلبك ليس كذلك، كذلك أنَّ الله يعلم السر في السموات وفي الأرض, هذا القرآن هو شاهد؛ فإنَّ القرآن نزل ببعض هذه الأسرار التي لا يعلمها الخلق، وأنَّى للرسول -صلى الله عليه وسلم- يعلم هذه أسرار الخلق كما نزلت في القرآن, وقد حَدَّثَ الله -تبارك وتعالى- الخَلْق في هذا القرآن بأمور عظيمة مِن إعجاز صنعة الرب -تبارك وتعالى-، إعجاز صنعته في الإنسان, في الرياح، في السماء وسعتها مَن يعق، مَن يعقله عندما يقول الله -تبارك وتعالى, {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ}[الذاريات:47], ما كان الناس يعقلون هذا الأمر كما تظن أنَّ هذا أمره سماه، هذا محدود بحدود صغيره، وأنها ليست بهذه السعة التي يعلموها فيما بعد، فإنَّ للرسول -صلى الله عليه وسلم- أنْ يعلم بأنَّ هذه تساع السموات بهذا الاتساع العظيم الذي عرفه الناس بعد ذلك، ثم أسرار الأجنة وكيفية الخلق, النبات البحار، كل هذه قد أخبر الله -تبارك وتعالى-, أنزل الله –تبارك وتعالى- في هذا الكتاب مِن أسرار خلقه وعظمته أمور عظيمة جدًا؛ فهذا القرآن أنزله الذي يعلم السر في السموات والأرض؛ لأنه نزل بأسرار مِن الخَلْقِ، لا يطلع عليها أحد مِن البشر، أم مِن النبي أنْ يعلم هذا أنَّ للنبي أنْ يعلم هذا، إذن يجب أنْ يُعْلَم بأنَّ هذا القرآن هو مِن الله -تبارك وتعالى-, {الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ}, لأنه هو نزل ببعض هذه الأسرار للناس؛ ليكون هذا شاهد منه -سبحانه وتعالى-، وأنَّ هذا الكلام كلامه, وليس كلام عبد مِن عباده, {قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا}[الفرقان:6], الله ختام هذه الآية ختام عظيم؛ لأنه عندما ينزل الله تبارك وتعالى- القرآن على هذا النحو, ويدعوا العباد إلى طاعته ومرضاته -سبحانه وتعالى-، ويتلطف عليهم، ويتكرم عليهم بهذا الكتاب المبارك، ثم يقابل هذا الكتاب بهذا الجحود وهذا الإنكار, وبهذا الرفض له، أي هذا النتيجة لهذا هو يلاقي الله -تبارك وتعالى- لهؤلاء, أنْ يقابل هؤلاء المعاندون الذين استقبلوا رساله الله -تبارك وتعالى- لهذا الجحود وبهذا العناد، وبهذا التكذيب, لكن الرب -تبارك وتعالى- يقال : أنه غفور فمع تكذيب هؤلاء المجرمين, إلا أنه غفور رحيم، يسامح، وأنه يمكن لهؤلاء أنهم إذا عادوا إلى -تبارك وتعالى- غفر لهم ورحمهم -سبحانه وتعالى- وزال ما كان منهم مِن هذا الجحود والكفران -سبحانه وتعالى-، رحيم بعباده -سبحانه وتعالى- لا يعاجلهم بالعقوبة, وإنما يمهلهم -سبحانه وتعالى- ويتلطف لهم -سبحانه وتعالى-, لعلهم يرجعون إليه -سبحانه وتعالى-, {قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا}[الفرقان:6].
ثم ينتقل بعد ذلك السياق إلى طعن هؤلاء المجرمين في النبي -صلى الله عليه وسلم-, بعدما طعن في القرآن وقالوا : {إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ}, وطعنهم في القرآن، وطعنهم في النبي لأنَّ هذا مادام أنه كذب، الرسول هو الذي كذبه، ثم اتهموا بعد ذلك الرسول أنه غير لائق أنْ يكون الرسول على هذا النحو الذي جاءهم بشر يأتيهم ويدعوهم إلى الله -تبارك وتعالى-, {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا}[الفرقان:7], {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ}, استهزاء واحتقار به، {هَذَا الرَّسُولِ}, هكذا الرسول كما الرسول كما يدعي، وكما يقول هؤلاء كما يعتقدوا هم أنه رسول، {يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ}, كيف يكون هو الرسول مِن الله عندهم، أي خالق السموات والأرض، {يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ}, يجب أنْ يكون له صفة أخرى غير البشر الذين يأكلون ويشربون، وبعد ذلك تكون لهم ضرورة الطعام، {وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ}, يبيع ويشتري ويشتري حاجاته على هذا النحو يجب أنْ يُنَزَّهُ عن هذا، أي كأنه يجب للرسول رسول الله، يجب أنْ ينزه عن هذا العمل الذي يعمله الناس، والصفق في الأسواق, ويغنيه الله عن هذا, {........لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا}[الفرقان:7]، {لَوْلا}, هلَّا كان الذي أرسله هو الله ينزل إليه ملك، {أُنزِلَ إِلَيْهِ}, أنَّ الله ملك مِن الملائكة، ملائكة السماء, المستغنين عن الطعام والشراب، {فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا}, يكون مع النبي نذير يشهد له ويقول : لهم أنا أتبكم مِن عند الله -تبارك وتعالى- وأنا ملك, وأنا أقول بأنَّ الله هو الذي قد اختار لكم لتتبعوه وتسمعوا له، فهذا اقتراحهم، اقتراحهم أنَّ ما كان ينبغي للرسول مؤتى مِن آيات مِن الله -تبارك وتعالى- أنْ يأكل كما نأكل، وأنْ يتحرك في السوق والشراء كما نتحرك, ويسعى في المعاش، بل كان ينبغي أنْ ينزل إليه مَلَك فيساعده في الرسالة ويكون نذيرًا معه، ويشهد له، {أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ}, فيعفه، {يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ}, مِن السماء، كنز مِن الذهب والفضة تبقى عنده فينفق منها، {أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا}, كما كان أنزل له كنز يشتري به ويبيع فيه، {تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ}, فيه صنوف الفواكه، صنوف الزروع والثمار؛ فيأكل منها، ويستعف ويمتنع بهذا الأمر, ويغتني بهذا الأمر عن الصفق في الأسواق والبيع والشراء, ومقاساة السعي للمعاش كما يقاسي الناس، {أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا}, أيضًا مِن كلامهم ، قال -جلَّ وعَلا- : {........وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا}[الفرقان:8], وهنا ذكر الله -تبارك وتعالى- ذكر هنا الفاعل بالوصف، قال : {وَقَالَ الظَّالِمُونَ}, لأنه لا حامل على هذه المقالة التي يقولونها إلا الظلم, {إِنْ تَتَّبِعُونَ}, أيها الناس, {إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا}, أنه رجل مسحور, أي سُحِرَ وغلب الجن على عقله، وبدا يهذي ويخرج هذا الكلام الذي قاله، وفي هذه الأقاويل التي قالها الكفار مجموعة هائلة مِن الافتراء والأكاذيب، ورد أمر الله -تبارك وتعالى- فالله الذي اختاره -سبحانه وتعالى- مِن عباده رسول يرسله إلى الناس ليكلمهم، وأنْ يكون بشر مثلهم يخاطبهم هذا أدعى إلى القبول, يعرفون أمه، ويعرفون أباه، ويعرفون مخرجة، ويعرفون صفته، وبالتالي يتحققون مِن مقالته ومِن صدقة، أما لو جاءهم مَلَك أنَّ لهم أنْ يعرفون بأنَّ هذا مَلَك مِن السماء، وأنَّ لهم أنْ يستطيعوا أن يجابهوا الملك، ثم إنه إذا قاسى مثل ما يقاسون وأصبح بشر يقاسي مثل ما يقاسون، هذا أدعى بالتكاليف المنزلة، فتكون للجميع ويكون أسوة لهم ومثالًا لهم، أما إذا ابتلاءه الله -تبارك وتعالى- وجعله في مكان في برج عادي، وجعله وحده يأمر وينهي ويقول الله يبلغكم كذا, ويبلغكم بكذا لا يكون أسوة، فعندما يكون هو أسوه لهم يقاسي بالحياة كما يقاسون, ويعمل ويبتلى يكون هو أسوه لأهل الإيمان، فهذا هو الأكمل، وهذا هو المقتضى للحكمة, لكن هؤلاء يقترحون هذه المقترحات بعقولهم عنادًا واقتراحًا مع الله, وأنَّ هذا الذي فعله غير مناسب، وعلى غير مقتضى الحكمة.
قال -جلَّ وعَلا- : {انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ........}[الفرقان:9]، يتعجب الله -تبارك وتعالى- رسوله مِن هؤلاء الكفار المجرمين، ويقول له {كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ}, ضرب للنبي الصادق الأمين، الذي أتى بهذا مِن عند ربه -سبحانه وتعالى- ضرب له هذه الأمثال، أنه مثل كذب, إفك افتراه وأعانه عليه أخرون، لماذا لا يقعد، ربنا جعلنا كنز عنه، ويجعله جنة, لماذا لا ينزل عليه ملك يصدقه في ما قال هذا رجل مجنون مسحور، أو أنَّ هذا رجل مسحور مجنون، لا يقول هذا إلا مَن غُلِبَ على عقله، وليس في عقل سليم، هذه الأمثال التي ضربوها للنبي -صلى الله عليه وسلم-، قال : {فَضَلُّوا}, مادام أنهم قالوا هذا هو مَثَلُ النبي وهذا حقيقته، هذا حقيقة النبي، إذن ضلوا عن الحق، ضلوا أنه رسول الله حقًا وصدقًا, واتبعوا هذه الأقوال التي افتروها؛ فضلوا عن السبيل؛ لأنَّ هذه الأقوال افتروها هم وكذبوها وأفكوها وصَدَّقُوهَا وصاروا فيها مع ظهور بطلانها وتراكمها، لكن الضال يضل، مادام أنه ابتعد عن الحق، فإنه يهلك في أي وادي يسير فيه، {انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ........}[الفرقان:9]، الأمثال الباطلة, أنَّ الكذب الذي أفكوه وصدقوه، {فَضَلُّوا}, عن طريق الحق، لم يعلموا أنَّ هذا رسول الله حقًا وصدقًا، قال -جل وعلا- : {........فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا}[الفرقان:9], لا يستطيعون سبيلًا إلى الهداية، لأنْ عميت عيونهم، وصدقوا الإفك الذي افتروه، وتمسكوا به إذن لا طريق لهم إلى أنْ يسلكوا الطريق الصحيح؛ طريق الرب -تبارك وتعالى-، {........فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا}[الفرقان:9].
ثم أجاب الله -تبارك وتعالى- على مقترحاتهم السخيفة, الكاذبة؛ فقال -جل وعلا- : {تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ........}[الفرقان:10], {تَبَارَكَ}, تعاظم، كثر خيره وبركته -سبحانه وتعالى- فعله عظيم، الخير والبركة والنماء، {تَبَارَكَ}, الله -سبحانه وتعالى-, {الَّذِي إِنْ شَاءَ}, إذا شاء الله -تبارك وتعالى-, {جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ}, جعل لك أفضل مِن هذا الذي قالوه، كنز، جنة مِن نخيل وعنب، هذا الله, {جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ}, في الآخر, {جَنَّاتٍ}, بساتين وليست جنة واحدة، {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ}, المختلفة، أنهار الماء، وأنهار اللبن، وأنهار العسل، وأنهار الخمر، {مِنْ تَحْتِهَا}, مِن تحت قصورها, وتحت أشجارها، {........وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا}[الفرقان:10]، {وَيَجْعَلْ لَكَ}, ويجعل هنا بالفعل المضارع المستمر، أي يجعل لك دائمًا قصورًا، قصورا إثر قصور، والقصر هو البيت الفخم المبني، وقصور الجنة ليست كقصور الدنيا، قصور الدنيا مِن الحَجَر، العرب تسمي البيت قصرًا إذا كان مبينًا مِن الحجر، وأما قصور الجنة فإنها مِن الذهب آنيته وما فيها، أو لبنة مِن ذهب, ولبنة مِن فضة، فهذه قصور مختلفة, أو خيامها لؤلؤة واحدة مجوفة، ستون ذراعًا في السماء, للمؤمن فيها أهلون في كل ناحية وجنبة مِن جنباتها لا يرى بعضهم بعضًا, هذه أمور، {........وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا}[الفرقان:10]، قصور مِن قصور الجنة، وليست في هذه الدنيا المهينة, القليلة, الذي متاعها قليل.
ثم قال -جلَّ وعَلا- : {بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ}، هذه العلة الحقيقية، والذنب الحقيقي, والسبب الحقيقي في كل المقالات الباطلة التي قالوها, {بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ}، قالوا لا يوجد بعث ولا نشور ولا حساب بين يدي الله -تبارك وتعالى- والساعة يوم القيامة، سميت بالساعة؛ لأنَّ لها وقت محدد، ساعة محددة لابد أنْ تكون فيها،{بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ}، يوم القيامة, وهذا الذي حملهم على هذا, ظنوا أنه لا لقاء لهم مع الله -تبارك وتعالى-, وأنهم لن يبعثوا، ولن يحاسبوا على أعمالهم، وبالتالي أطلقوا لأنفسهم العنان في أنْ يقولوا مقالات الكذب كما يشعرون؛ لأنه يروا أنهم غير محاسبين, وغير معذبين لا أنْ يخرجوا، ثم فيما ينظرون يروى أنَّ القوة لأيديهم وأنَّ شأن الرسول شأن ضعيف عنده, هذه آيات نزلت في مكة، والنبي شأنه عند هؤلاء الكفار شأن ضعيف, وأنه يمكن أنْ يُقْضَى عليه، وينتهي أمره وأثره في أي وقت، وأنه لا حكومة بعد ذلك، فإذن المسألة هذا حملهم إلى أنْ يفتروا ما افتروه مِن الافتراءات، {بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ}، قال -جلَّ وعَلا- : {........وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا}[الفرقان:11], تهديد منه -سبحانه وتعالى-, {وَأَعْتَدْنَا}, أعددنا وجاءت تاء زيادة مبالغة في الإعداد، {........وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا}[الفرقان:11], {سَعِيرًا}, نار مشتعلة اشتعالًا دائمًا لا تخبوا ولا تخفوا، {........وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا}[الفرقان:11], {إِذَا رَأَتْهُم مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا}[الفرقان:12], {إِذَا رَأَتْهُم}, أي هذه السعير الذي أعده -تبارك وتعالى- عندما تراهم مِن مكان بعيد قبل أنْ تأتي المحشر، {سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا}, والتغيظ هو حالة الفوران مِن الغضب الشديد, والحنق الشديد، {وَزَفِيرًا}, الزفير هو إخراج في الإنسان الهواء مِن الأنف، يزفر هو ضد الشهيق، الشهيق هو إدخال، فالزفرة إخراج النار مِن صدرها هذا الهواء الحار فيرونه، وهذا عندما يخرج عنق مِن عنق النار، والناس في المحشر؛ فيروا هذا العنق فيصعقون ويبهتون؛ فالله -تبارك وتعالى- يخبر بأنَّ هؤلاء الذين حملهم على هذا التكذيب أنهم ما يؤمنوا بيوم القيامة، والله -تبارك وتعالى- يقول بأنه القيامة قد أعد لكل مكذب سعيرا، وأنَّ هذا السعير {إِذَا رَأَتْهُم مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ........}[الفرقان:12], {وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا}[الفرقان:13], {لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا}[الفرقان:14].
نعود إلى هذه الآيات في الحلقة الآتية -إنْ شاء الله-، أقول قولي هذا, وأستغفر الله لي ولكم مِن كل ذنب, وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد.