الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله الأمين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه, ومَن اهتدى بهداه, وعمل بسنته إلى يوم الدين.
وبعد؛ يقول الله تبارك وتعالى : {بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا}[الفرقان:11], {إِذَا رَأَتْهُم مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا}[الفرقان:12], {وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا}[الفرقان:13], {لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا}[الفرقان:14], {قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا}[الفرقان:15], {لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا}[الفرقان:16], {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ}[الفرقان:17], {قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا}[الفرقان:18], {فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلا نَصْرًا وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا}[الفرقان:19], {وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا}[الفرقان:20], أخبر الله -تبارك وتعالى- بأنَّ الداعي إلى تكذيب هؤلاء المكذبين, وجَحْد هؤلاء الجاحدين، وكُفْر هؤلاء الكافرين الذين اتهموا النبي -صلى الله عليه وسلم- بهذه الاتهامات بأنَّ هذا القرآن الذي أتاه إفك, وأنه قد أعانه عليه قوم أخرون, وبدأوا يقترحون ما اقترحوه, {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا}[الفرقان:7], {أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا}[الفرقان:8]، استطردوا في هذه المقالات الفاجرة, الكافرة، واقترحوا ما اقترحوا وكل هذا أخبر -تبارك وتعالى- أنَّ السبب في هذه استطالتهم على هذا النحو والكذب والزور الذي قالوه, إنما هم أنهم مكذبون بالساعة، ولو أنهم صَدَّقُوا بالساعة لردعهم هذا التصديق عن هذا الأفك والكذب والكفر الذي كفروا, قال -جل وعلا- : {بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ}, ولذلك استطالوا وقالوا ما قالوا، قال -جلَّ وعَلا- : {........وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا}[الفرقان:11], {إِذَا رَأَتْهُم}, هذه السعير, {........مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا}[الفرقان:12], سمعوا لهذه النار {تَغَيُّظًا}, تغيظ غضب يجعلها تزمجر وكأنها تريد أنْ تنتقم مِن هؤلاء، وهذا على ظاهره وعلى حقيقته بأنه تغيظ حقيقي، وأنَّ للنار إدراك حقيقي, وتعلم الكفار وتتغير عليهم، وتريد أنْ تحرقهم، كشأن المُغْضَب مِن أحد، ويريد أنْ يفترسه, وأنْ يُنْزِلَ عقوبته به، القول الثاني في الآية أنَّه تغيظ النار وزفيرها إنما هو لأنها يقطع بعضها بعض على هذا النحو، فهي صفة لفورانها ولغضبها, وليس لأنَّ أن لها إدراكًا, والحقيقة أنَّ لكل هذه ما يسمى بالجمادات لها إدراكات، والله -تبارك وتعالى- يقول : يسمع لها ، وأنها تنادي أهلها مِن المحشر, ويخرج عنق مِن النار فيراه الكفار، قبل أنْ يواقعوها فيزدادوا غمًا على غمهم، {إِذَا رَأَتْهُم}, هذه النار, {........مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا}[الفرقان:12]، قبل أنْ تُسْحَبَ ويؤتي بهذا الموقف, {وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا}[الفرقان:13]، {إِذَا أُلْقُوا}, والفعل هنا مسند إلى ما لم يُسَمَّ فاعله, والملقي لهم الملائكة, يلقونهم في النار كما قال -تبارك وتعالى- : {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ}[الرحمن:41], أي يأخذ المَلَك بناصية الكافر ويلقيه، أي يسحبه مِن ناصيته والناصية مقدم الرأس، أو مِن قدمة يسحبه ويلقيه، أو يدعه دَعّ، {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا}[الطور:13], {هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ}[الطور:14]، {وَإِذَا أُلْقُوا}, ألقتهم الملائكة فيها, {مَكَانًا ضَيِّقًا}, في مكان ضيق حال كونهم مقرنين، انظر كيف يجتمع العذاب والكرب كله بعضه على بعض، نار مشتعلة متغيظة على مَن فيها، يُلَقى فيها الكافر إلقاءً, ويُدَعُّ فيها دَعًا, ويدز دزًا على هذا النحو، ويلقى وهو مقبوضة يداه إلى عنقه, ومسلسل رجلاه فلا يستطيعوا فكاكًا, ثم يُدْخَلُ إلى مكان ضيق، الحال أنَّ المكان الضيق لولم يكن نارًا فإنه مرعبٌ مخيف، الإنسان لو أُلْقِيَ في نفق مِن الأنفاق الضيقة؛ فإنه يشعر بثقل الأمر, وبانطباق القلب هذا إذا كان فيه جو بارد، فكيف إذا كان على هذا النحو في نار يُلْقَى فيها على هذا النحو، وهو مسلسل مُقَيَّد ويُلْقَى فيه مكان ضيق! كيف يتزحزح فيه, والنار على هذا النحو! يخبر -تبارك وتعالى- بأنه عندما يكونون في هذه الحالة -عياذًا بالله تبارك وتعالى- مِن أنْ يُرَدَّ حالنا إلى هذه الحال، اللهم أعذنا مِنها برحمتك يا أرحم الراحمين, {وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ........}[الفرقان:13], حال كونهم مقرنين، ومعني مقرنين مسلسلين، الشخص يكون هو مسلسل, وأيضًا مسلسلين بعضهم في بعض، مجموعات تُسَلْسَل بعضهم في بعض، {........دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا}[الفرقان:13], عند ذلك يدعوا هنالك بالثبور بالهلاك، يقولون يا هلاكنا, يتمنون الهلاك وأنْ يُذْهَبُوا في أسرع الأوقات، ولكنهم عند ذلك يقال لهم : {لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا}[الفرقان:14]، إهانة لهم, واستهزاء بهم, وتيئيس مِن هذا الذي دعوه على أنفسهم بالهلاك، قال : {لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا........}[الفرقان:14]، أي لا تدعوا على أنفسكم مرة واحدة بالهلاك بل { ثُبُورًا كَثِيرًا}, قولوا يا هلاكنا، يا هلاكنا، يا هلاكنا إلى أنْ تملوا فلم يكون ثَمَّ هلاك، {لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا}[الفرقان:14]، أطيلوا هذا الدعاء فإنَّ عذابكم طويل، طويل، طويل لا حد له, ولا نهاية له، والرب -تبارك وتعالى- يخبر مرة ثانية نقول بأنَّ الذي حملهم على تكذيب النبي, ورد هذا القرآن، رسالة الله -تبارك وتعالى-, الله الذي يحتسي ويعتني -سبحانه وتعالى- بعباده, ويرسل إليهم هذه الرسالة، كلامه يرشدهم, يُبَيِّنُ لهم الطريق -سبحانه وتعالى- فلا يكون مِن هؤلاء إلا أنْ يردوها إلى هذا النحو, ويكذبوها ويُسَفِّلُوا ويُسَفِّهُوا مَن جاء بها، ويتهمونه بالكذب والزور والبهتان، ويقترحوا وعلى الله غير هذا السبيل، لماذا تبعت رسول على هذا النحو, لماذا ما أرسلت ملك حتى يأتي فيقوي هذا الرسول, ويشهد له, ولما لم تغنه فتجعل له جنة، وتجعل له بستان، أو تُسْقِط عليه كنزًا فيأكل منه، إلى ما اقترحوه مِن الإعنات والسفه، يخبر -تبارك وتعالى- أنَّ حاملهم على هذا هو التكذييب بيوم القيامة، وهذا حالهم، هذا الحال وهذا المآل الذي يكون، لو كان يؤمنون بذلك، ولو كانوا يعرفون أنَّ هذا مآلهم وحالهم، لما استطالوا هذه الاستطالة، ولما قالوا هذا الكفر.
ثم قال -جلَّ وعَلا- بعد أنْ وصف حال هؤلاء المعاندين يوم القيامة : {قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ........}[الفرقان:15], {أَذَلِكَ خَيْرٌ}, أي أخير, {أَذَلِكَ}, المشار هنا هذا العذاب الذي ينتظره الكفار، وهو أنْ يُلْقَوا في هذه النار التي {إِذَا رَأَتْهُم مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا}[الفرقان:12], {وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا}[الفرقان:13], {أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ}, بستان الخلود الذي لا يموت أهله قَطّ، ولا يرحلون، ولا يبأسون، الباقون في سعادة فيه بقاءً لا انقطاع له، {أَذَلِكَ خَيْرٌ}, هذه النار بحالها هذا, {أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ}, التي وُعِدَهَا المتقون، والواعد هو الله -سبحانه وتعالى- الذي وعدهم بهذا الوعد هو الله، والله هو منجز وعده، قال : {الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ}, الخائفون مِن الله -تبارك وتعالى- الذين اتقوه وخافوه -سبحانه وتعالى-, وحملهم الخوف منه على الإيمان به, وعلى طاعته -جلَّ وعَلا-, {........كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا}[الفرقان:15], {كَانَت},هذه جنة الخلد, {لَهُمْ}, لهؤلاء المتقين, {جَزَاءً}, لأعمالهم، جزاءً لأعمالهم هذه مجازاة, عطاء مِن الله -تبارك وتعالى-, جزاء على عملهم, مَن قام هذا العمل فإذا أخذ الأجرة على هذا فهذا جزاؤه، {وَمَصِيرًا}، نهاية ومآل ومقر له، آخر المطاف, هذا مطافه الأخير, ومصيره الأخير ومآله، {كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً}, أي مِن الله- تبارك وتعالى-, وعندما يقال جزاء, والله هو الذي يجازي؛ فَلْيُتَصَوَّر مقدار هذا الجزاء الذي هو عِظَم الجزاء مِن عِظَمِ المجازي -سبحانه وتعالى-, {........كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصيرًا} [الفرقان:15], {لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ........}[الفرقان:16]، لهم في هذه الجنة, {مَا يَشَاءُونَ}, كل ما يخطر على بالهم ويريدونه يقع، كل ما يريدونه ويشاءوه يحققه الله -تبارك وتعالى-, فلا مستحيل ولا حاجز ولا قيد يُقَيِّدُ رغباتهم وشهواتهم، {لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ........}[الفرقان:16]، {خَالِدِينَ}, باقين في هذه الجنة بقاءً لم تعطوه، { عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ}, {........كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا}[الفرقان:16]، كان هذا وهو الجنة التي وعد الله -تبارك وتعالى- المتقين وعد {عَلَى رَبِّكَ}, الله -تبارك وتعالى- أنه أوجبها على نَفْسِهِ-سبحانه وتعالى-, وعد وعده الله وهو عليه الإنسان نفسه -سبحانه وتعالى- فالتزم به, والله لا يخلف وعد-سبحانه وتعالى-، {مَسْئُولًا}, مِسئولًا مِن الله -تبارك وتعالى- يسأل هذه الجنة عباده المؤمنين ويقولون : {رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ}[آل عمران:194], فهو وعدٌ مسئول يسأله عباده الله -تبارك وتعالى- ربهم -تبارك وتعالى-, والله لا يمكن أنْ يُضَيِّعَ وينسى سائله -سبحانه وتعالى-, فكيف وقد وعده, وعندما يسأله, يسأله تحقيق وعده، المؤمن يسأل الله -تبارك وتعالى- في هذه الدنيا أنْ يحقق فيه وعده، كما هو دعاء المؤمنين الذي عَلَّمَنَا الله -تبارك وتعالى- أنهم يقولون : {رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ}[آل عمران:194]، فهو وعد, وهو مسئول مِن الله -تبارك وتعالى-, وعندما يسأله المؤمنين, يطالبون ربهم -سبحانه وتعالى- ويسألونه بأنْ يُنَفِذَ لهم وعده الذي وعدهم به, فكيف يكون, أي معني ذلك أنَّ الله لابد وأنْ يحقق وعده -سبحانه وتعالى- في عباده المؤمنين، {........كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا}[الفرقان:16], وقول الله -تبارك وتعالى- بأنه مسئول منه -سبحانه وتعالى- أنَّ هذه الزيادة في التحقق، هو عد مِن الله, وكذلك العباد يسألونه ربهم -سبحانه وتعالى- ويقولون ربي عباده المؤمنين حقق لنا وعدك الذي وعدتنا إياه.
ثم قال -جلَّ وعَلا- : {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ}[الفرقان:17], {قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا}[الفرقان:18], بعد أنْ عرض الله -تبارك وتعالى- هذه المقارنة بين حال هؤلاء المكذبين بهذا القرآن, وحال هؤلاء المتقين المؤمنين، أنَّ هؤلاء في جنة الخلد, وهؤلاء في النار التي هذه هي صفتها، بدأ الرب -تبارك وتعالى- يُبَيِّنُ حال هؤلاء المكذبين عندما يتخلى عنهم مَن أضلوهم، قال -جلَّ وعَلا- : {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ........}[الفرقان:17], {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ}, أي هؤلاء الكفار، {يَحْشُرُهُمْ}, يجمعهم، والذي يحشرهم هو الله-سبحانه وتعالى-, {وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ}, فيحشر كذلك معهم الذين عبدوهم مِن دون الله، فيقول لهؤلاء الذين عُبِدُوا : {........أَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ}[الفرقان:17]، أي أنتم الذين أضللتموهم, أم هم كانوا ضالين للسبيل, ولا فعل لكم بإضلالهم؟ {قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا}[الفرقان:18]، {قَالُوا} قال هؤلاء الآلهة الذين عبدوهم مِن دون الله- {سُبْحَانَكَ}, تنزيهًا لك يا رب، ننزهك أنْ يكون لك شريك, أو نكون شركاء لك، أو نكون آلهة معك، {مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ}, {مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا} لا يصح لنا, ولا ينبغي لنا {أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ}, هذه مقالة هؤلاء العباد المؤمنون الذين آمنوا بالله -تبارك وتعالى-, وعبدهم وهؤلاء الجاهلون كعيسى بن مريم -عليه السلام-، وكالملائكة المطيعون لله-تبارك وتعالى- فإنَّ هؤلاء عُبِدُوا مِن دون الله -جلَّ وعَلا-, وعُبِدُوا بغير رضاهم, ولم يؤمروا أحدًا بعبادتهم ولذلك يُبَكَّتُ هؤلاء الذين عبدوهم يوم القيامة، كما جاء في قول الله -تبارك وتعالى- عن عيسى : {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ}[المائدة:116], {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}[المائدة:117], {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[المائدة:118], فيتبرأ عيسى -عليه السلام- مِن مقالة هؤلاء الكفار، ويقول {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ........}[المائدة:117], وأنا ما أقول لي ماليس لي بحق، ما يكون لي وأنا رسولٌ مِن عندك أنْ أقول للناس اعبدوني مِن دون الله, واعبدوني وأمي واتخذوني وأمي إلهين مِن دوني الله, لا يحل لي هذا، ولا يحق لي هذا, ولا يمكن أنْ أتفوه بمثل ذلك, ويتبرأ ويقول هؤلاء عبادك أنا {.........كُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}[المائدة:117], وكذلك الملائكة؛ فالله -تبارك وتعالى- أخبر أنه يحشر هؤلاء والملائكة فيقول : {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ........}[الفرقان:17] فيقول الله -تبارك وتعالى- للملائكة : {........أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ}[سبأ:40], {قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ}[سبأ:41], {قَالُوا سُبْحَانَكَ}, تنزيهًا لك يا رب أنْ نكون رضينا أو أمرنا هؤلاء الضالين بأنْ يعبدونا، وإنما كان هؤلاء يعبدون الجن, الجن كانوا يدخلون في أجواف الأصنام ويحدثونهم منها، ويعبدونهم {........بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ}[سبأ:41], وكذلك كل عباد الله -تبارك وتعالى- الصالحين ـ كل مَن عُبِدَ الله مِن دون الله -تبارك وتعالى-, وكان هذا المعبود رجل صالحًا, مؤمنًا, نبيًا أو غير نبي ممن عُبِدَ مِن دون الله -تبارك وتعالى- فإنهم يوم القيامة يتبرءون مِن عابديهم, ويقولوا أبدًا ما أمرناهم ولا كان لنا أي قول نقول لهم اعبدونا مِن دون الله -تبارك وتعالى-, {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ}[آل عمران:79]، وكذلك الله الرب -تبارك وتعالى- لم يأمر الله قَطّ بشرًا أنْ يعبد غيره -سبحانه وتعالى-, ما نَصَّبَ الله -تبارك وتعالى- أحدًا يُعَبَد مِن الخلَقْ، كأن يقول اعبدوا هذا المَلَك، أو أعبدوا هذا النبي، أو اعبدوا هذا الرسول، أو أعبدوا هذا، {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا........}[آل عمران:80], أي لا يأمركم الله -تبارك وتعالى- {........أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}[آل عمران:80], أي هذا كفر لا يُعْبَدُ الله -تبارك وتعالى, الذي يستحق العبادة هو الله، وكل كلمات الله -تبارك وتعالى- في العبادة, وتوصيته لِخَلْقِهِ أنْ يعبدوه وحده لا شريك له، وألا يعبدوا مِن دونه مِن شيء، وهؤلاء العباد الذين عُبِدُوا مِن دون الله وهم عبادٌ الله -تبارك وتعالى- كالملائكة وعيسى والعُزَيْر وكل عبد صالح ما منهم مِن أحدٍ قال للناس اعبدوني؛ ولذلك يتبرءون من هؤلاء، يتبرءوا مِن عابديهم يوم القيامة، {قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ........}[الفرقان:18], ولكن السبب في أنَّ هؤلاء عبدوا مِن دونك مَن عبدوا، {........وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا}[الفرقان:18], {وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ}, أي هؤلاء الكفرة متعتهم بالدنيا بما أعطيتهم فيها, {وَآبَاءَهُمْ}, ومتعت آباءهم كذلك, {حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ}, {نَسُوا الذِّكْرَ}, ما يأتيهم مِن الله -تبارك وتعالى- يُذَكِّرهُم الله -تبارك وتعالى- بدينه وبطريقته وتوحيده,{........حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا}[الفرقان:18], لا خير فيهم، البائر هو الذي لا خير فيه، يقول أرض بور, أي لا تنبت زرعًا، ورجل بائر, أي لا خير فيه، ما يتأتى منه خير، {وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا}، لا خير، خراب كالأرض الخربة التي لا خير فيها، لا تنبت خيرًا, {وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا}.
قال -جلَّ وعَلا- : {فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ........}[الفرقان:19]، فقد كذبوكم أيها الكاذبون على الله -تبارك وتعالى- ,{كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ}, أي قالوا لكم كَذِب, قولكم كذب، أننا أمرناكم بعبادتنا، فعيسى يُكَذِّبُ مَن ادعى أنه عَبَدَهُ بناء على أمره، وبناء على أنَّ عيسى أمرهم أنْ يعبدوه, وكذلك العزير، وكذلك الملائكة، وكذلك كل ما عُبِدَ مِن دون الله -تبارك وتعالى- فإنه قال ربك، قال ما أمرته أنْ يعبدني، ما أمرت هؤلاء أنْ يعبدوني إنما هم الذي افتروا، وهم الذين ضلوا على هذا النحو، {فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ........}[الفرقان:19]، بما تقولوا عنهم أنهم آلهة، وأنهم هم أمروكم بهذا، وأنهم هم دعوكم إلى هذه العبادة، {فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلا نَصْرًا........}[الفرقان:19]، الآن, يوم القيامة، {فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا}, عن النار، تُصْرَفُوا عن النار، فالنار النار، {وَلا نَصْرًا}, ولا انتصار مِن الله -عز وجل-, ليس هناك مَن ينصركم مِن الله –تبارك وتعالى- ويخلصكم مِن قهره وقبضته -سبحانه وتعالى-, {فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا}, عن النار، {وَلا نَصْرًا}, مِن الرب -تبارك وتعالى-, {........وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا}[الفرقان:19], {وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ}, أيها الكفار المعاندون، أي ظلم، الظلم هنا الشرك, {........مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا}[الفرقان:19], {نُذِقْهُ}, نجعله يذوقه بكل أحاسيسه، ليس يزوق باللسان فقط لا يزوق، اللسان فقط لا يذوق, بل الإنسان يذوق بكل أحاسيسه، يذوق بجلده، كما قال -تبارك وتعالى- في الذوق بالجلد : {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ}, {لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ}, يقاس هذا الحر فيذوقوا بجلودهم النار، {........وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا}[الفرقان:19]، وهذا العذاب الكبير عذاب النار -عياذًا بالله- كبير في حجمه، كبير في طوله؛ لأنه لا ينتهي، طويل, تهاويله طويله، وهو عذاب مركب مِن أنواع طويلة مِن العذاب، النار والطعام الذي يُقَطِّعُ الأمعاء، والماء الذي يشوي الوجوه قبل أنْ يشوي البطون، والحيَّات والعقارب والأغلال والسعير والمقامع الحديد، مع كذلك التقريع والتسفيل والتوبيخ والتحقير، فكل هذه الأنواع مِن العذاب كبير حسي ومعنوي, حسًا ومعنىً.
ثم وَصَّى الله -تبارك وتعالى- رسوله -صلى الله عليه وسلم-، هذا النبي الكريم، الصادق الأمين ، الذي يُقَابَلُ بهذا التكذيب، وهذا التحقير، وهذا الاستهزاء؛ فيقول له الله -تبارك وتعالى- : {وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا}[الفرقان:20], {وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ}, يا محمد، {ما أَرْسَلْنَا}, الله -تبارك وتعالى- هو الذي يُرْسِل، {مِنَ الْمُرْسَلِينَ}, مِن كل المرسلين الذين اختارهم الله -تبارك وتعالى- وأرسلهم، {إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ}, أي أنهم كانوا بشرًا كانوا أبدًا يأكلون الطعام كذلك, وبالتالي الذي يأكل الطعام هذا محتاج، فقير، كذلك محتاج إلى ضرورة الطعام، {وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ}, كذلك يمارسون العيش، ويكسبون الأمر كما شأن الناس، {وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ}, أي بيعًا وشراءً, ثم قال -جل َّوعَلا- : {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً}, اختبار؛ فالنبي اختبار للناس، يختبرهم الله -تبارك وتعالى-به، هذا رسول اخترته لكم أيها الناس, يخاطب الله -تبارك وتعالى- العباد، وهذه أدلة صِدْقِهِ قائمةٌ معه، فَمَن صَدَّقَ هذا الصادق الأمين؛ فهذا مِن أهل الصِّدْق هُدِىَ، ومَن كَذَّبَ هذا الصادق فقد ضل؛ فيصبح النبي اختبار للناس، كما قال الله لرسوله : (إنما بعثتك لأَبْتَلِيَكَ، وأَبْتَلِىَ بك), كذلك الرسول أيضا مُخْتَبَر ومُبْتَلَى، فإنه مُخْتَبَر بأنه يقوم بهذه الرسالة، ومُخْتَبَر بأنْ يعاديه أهل العناد والكفر، يسبونه ويشتمونه ويتهمونه بصنوف هذه الاتهامات؛ ساحر وكاذب ودجال وفعل وفعل وفعل، وما أرسلنا في قرية مِن رسول, كل قرية أرسل الله -تبارك وتعالى- فيها رسول إلا قال أهلها لهذا الرسول، ساحر، أو مجنون، إما يقولوا ساحر، وإما يقولوا مجنون، وكأنهم قد تواصوا به، قال -جلَّ وعَلا- : {أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ}[الذاريات:53], فكل رسول أرسله الله -تبارك وتعالى- قد جوبه بهذا، وهذه فتنة لهذا الرسول أنْ يُبْتَلَى بهذا، كما قال -تبارك وتعالى- : {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا}[الفرقان:31]، فالرسول أُرْسِلَ فتنة, اختبار للناس لِيُنْظَر مَن يؤمن به، ومَن يكفر به, {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ}[الزمر:33]، والرسول نَفْسُهُ هو في ذاته يُبْتَلَى ويختبر مِن الله -تبارك وتعالى-, فتنه اختباره مِن الله -تبارك وتعالى- أنْ يقوم بهذا الأمر، وأنْ يصبر عليه، كما قيل للنبي -صلى الله عليه وسلم- : {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ........}[الأحقاف:35]، وقيل له : {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ........}[المائدة:67]، وفي الحديث أنَّ الله -تبارك وتعالى- قال للنبي -صلى الله عليه وسلم- : «أنذر قريش؛ فقال يا ربي إذا يَسْلَمُ رأسي فيدعوه خبزًا»، أنَّ هؤلاء قريش بأسها شديد، فقال له الرب -تبارك وتعالى- : «أغزهم نغزهم معك», فقد أرسل الله -تبارك وتعالى- الرسول على هذا النحو, {وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا}[الفرقان:20].
سنعود لهذه الآية -إنْ شاء الله- في الحلقة الآتية, وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد.