الجمعة 29 ربيع الآخر 1446 . 1 نوفمبر 2024

الحلقة (438) - سورة الفرقان 35-44

الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله الأمين، سيدنا ونينا محمد, وعلى آله وأصحابه, ومَن اهتدى بهداه, وعمل بسنته إلى يوم الدين.

 وبعد يقول الله -تبارك وتعالى- : {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا}[الفرقان:32], {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا}[الفرقان:33], {الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا}[الفرقان:34], {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا}[الفرقان:35], {فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا}[الفرقان:36], {وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا}[الفرقان:37], {وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا}[الفرقان:38], {وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا}[الفرقان:39], يُخْبِرُ -سبحانه وتعالى- عن تعنت الكفار, المشركين, الذين جابهوا نبيهم محمدًا -صلى الله عليه وسلم- بصنوف التعنتات مِن جملة هذا اقتراحهم أنْ ينزل عليه القرآن جملة واحدة، قالوا لماذا لا ينزل القرآن عليه، هذا كتاب الله جملة واحدة؟ والحال أنهم مكذبون بنزول القرآن، ومُتَّهِمُونَ للنبي -صلى الله عليه وسلم- بأنه افترى هذا القرآن، أو أنَّ هناك مِن يمليه عليه، أو أنه كذبه وأَفَكَهُ مِن عند نَفْسِهِ؛ فرَدَّ الله -تبارك وتعالى- مقالتهم بأنَّ مقتضى الحكمة الإلهية، والمنافع العظيمة في إنزال هذا القرآن منجمًا، كما نزل علي النبي -صلوات الله والسلام عليه- في العشرين سَنَة وهي عمره الرسالي -صلوات الله والسلام عليه-، {{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً........}, قال -جلَّ وعَلا- : {كَذَلِكَ}, كهذا الإنزال الذي أنزله الله, {لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ}, فيبقى في كل محنة، وفي كل موقف مِن المواقف الشديدة يُنْزِلُ الله -تبارك وتعالى- آيات؛ لتثبيت قلب النبي -صلوات الله والسلام عليه-، فانظر المواقف الشديدة في مكة، وكيف كان الله -تبارك وتعالى- ينزل القرآن على رسوله بالأمر بتثبيته وتطيب خاطره -سبحانه وتعالى-, وأنه لا يقال له إلا ما  قد قيل للرسل مِن قبله، انظر مثلًا في قول الله -تبارك وتعالى- : {وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ}, وانظر في رد الله -سبحانه وتعالى- وتثبيت قلب النبي -صلوات الله والسلام عليه، وضَرْب الأمثال مِن الرسالات السابقة، {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ}, وكذلك الحال في ما أنزله الله -تبارك وتعالى- بعد ذلك في القرآن المَدَنِيّ، ما أنزل بعد بدر ما أنزل في أحد، ثمانين آية كلها  أمر هنا لبيان لماذا كانت هذه الهزيمة، وتأهيل كامل للنبي -صلى الله عليه وسلم- والمؤمنين بأنْ يقابلوا هذا الأمر بما يستحقه مِن القبول والبقاء على هذا الدين، {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}[آل عمران:139], {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ}[آل عمران:140], {وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ}[آل عمران:141] ، إلى آخر ما أنزل الله -تبارك وتعالى- في شأن غزوة أُحُد, كذلك ما أنزله الله -تبارك وتعالى- في الخندق، في هذه الغزوة الشديد التي عُصِرَ فيها المسلمون وزُلْزِلُوا, كما قال الله : {وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا}, فانظر إلى ماذا أنزل الله -تبارك وتعالى- مِن الآيات، وكذلك ما جاء في تبوك، وكذلك كل موقف مِن المواقف العصيبة، العظيمة، يُنْزِلُ الله -تبارك وتعالى- فيها قرآنًا يُبَيِّن الأمر، يُثَبِّتُ قلب الرسول على الدين، يُثَبِّتُ قلوب عباده المؤمنين -سبحانه وتعالى-, كذلك جاءت شُبْهَة ونزلت شُبْهَة مِن شُبَه الكفار يأتي الله -تبارك وتعالى-، يُنْزِلُ الله -تبارك وتعالى- ما يدحضهم، {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ........}[الأنبياء:18], قال -جلَّ وعَلا- : {كَذَلِكَ}, كهذا الإنزال المتكرر للقرآن في أزمان وأوقات مختلفة, {لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ}, على الدين والحق،{ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا}, رتلنا القرآن ترتيل، أي جعله الله -تبارك وتعالى- مرتلًا يتبع بعضه بعضًا في نسق عظيم بديع، الوحدة الموضوعية للسورة، وترابط آياته وترابط معانيه إعجاز كامل في البيان, {وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا}, {وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا}[الفرقان:33], {وَلا يَأْتُونَكَ}, أي الكفار, {بِمَثَلٍ}, في الكفر، {إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ}, بما يدحض هذا, { وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا}.

ثم قال -جلَّ وعَلا- : {الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا}[الفرقان:34], مقارنة بين الفريقين؛ النبي -صلوات الله والسلام عليه- وأهل الإيمان، وبين هؤلاء الكفار؛ فهؤلاء الكفار أخبر الله -سبحانه وتعالى- بأنَّ مصيرهم أنهم يحشروا على وجوههم إلى جهنم، يسيرون على وجوههم، والذي أمشاهم في الدنيا قادر على أنْ يمشيهم على وجوههم في الآخرة، {الَّذِينَ يُحْشَرُونَ}, يُجْمَعُونَ إلى الموقف، وإلى النار، {عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا}, الشر هنا ليس على بابه، بل هذا شرٌ محض، وأولئك أهل الإيمان في الخير المحض، {وَأَضَلُّ سَبِيلًا}, عن الحق.

ثم ضرب الله -تبارك وتعالى -بعد ذلك أمثله لهؤلاء الكفار ممن سبقوهم، وأنهم لم يكونوا على أحسن حالًا منهم, قال -جلَّ وعَلا- : {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ........}[الفرقان:35], هذا يذكر الله -تبارك وتعالى- نعمته ورحمته على عبده موسى النبي، {الْكِتَابَ}, التوراة، {........وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا}[الفرقان:35], فضلًا مِن الله -تبارك وتعالى- أنْ يشد عضده، وأنْ يُوآزِرَ أخاه، وذلك كما جاء بطلب مِن موسى : {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي}[طه:29], {هَارُونَ أَخِي}[طه:30], {اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي}[طه:31], {وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي}[طه:32], {كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا}[طه:33], {وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا}[طه:34], استجاب الله -تبارك وتعالى- سؤله، وأرسل معه أخاه هارون وزيرًا له، سمي وزير؛ لأنه يقوم بأوزار وأعباء مَن يَزِر له، فهو يحمل كذلك أعباء الرسالة مع أخيه موسى عليه سلام، {فَقُلْنَا}, قال الله -تبارك وتعالى-؛ فقال الرب, الإله لهم : {فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا........}[الفرقان:36], وهم قوم فرعون قال -جلَّ وعَلا- : {فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا}, طوي الله -تبارك وتعالى- هنا في هذه الآيات صفحتهم سريعًا؛ لأنَّ المقصود هو إطلاع هؤلاء الكفار على مصارع الغابرين، قال : {فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا}, وقد قَصَّ الله -تبارك وتعالى- في مواضع أخرى القصة الطويلة لموسى وكيف دعوته لفرعون, وكيف تكذيب قوم فرعون, إلى أنْ كانت النهاية أنْ دمرهم الله -تبارك وتعالى- وذلك بأنْ أخرجهم مِن قصورهم ودورهم وزراعاتهم وبساتينهم وأماكنهم العظيمة, الغنية، الفارهة، ثم أسقطهم الله -تبارك وتعالى- في البحر، {فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا}، وتدمر كذلك ما كان، كما قال -جلَّ وعَلا- : {........وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ}[الأعراف:137], فهذه النهاية؛ فانظر كيف كانت النهاية، نهاية هؤلاء القوم الظالمين، وكأن الله يقول -سبحانه وتعالى- لهؤلاء الكفار : لن تكونوا نهايتكم أحسن حالا مِن نهاية المجرمين الذين دفعوا رسالة الله -تبارك وتعالى- المنزلة على موسى وعاندوه فانظروا المصير؛ مصير هؤلاء، وانظروا مصير كذلك موسى -عليه السلام- ومَن معه.

 قال -جلَّ وعلا- : {وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ........}[الفرقان:37]، كذلك ما سبق موسى قوم نوح, {لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ}, والله -تبارك وتعالى- قال {لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ}, وإنما أرسل الله -تبارك وتعالى- فيهم نوحًا وحده -عليه السلام-، ولكن تكذيب رسولٍ واحدٍ هو تكذيب للرسل كلهم؛ وذلك أنَّ دعوة الرسول واحدة، دعوة الرسل واحدة، كلها دعوة واحدة،  يدعون إلى عبادة الله -تبارك وتعالى-, قال : {لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ}, رسل الله -تبارك وتعالى-, {أَغْرَقْنَاهُمْ}, فليس بأحد مٍن هؤلاء بعزيز على الله -تبارك وتعالى, وقول الله -تبارك وتعالى- : {أَغْرَقْنَاهُمْ}, هنا؛ لِيُبَيِّن عَظَمَتَهُ وقدرته على الخَلْقِ -سبحانه وتعالى- وفعله وسنته بالمعاندين المكذبين, {وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً}, جعلنا هؤلاء القوم, المجرمين, الكافرين, {لِلنَّاسِ}, فيما بعدهم, {آيَةً}, علامة على أنَّ الله -سبحانه وتعالى- هو الرب القوي، المتين، العظيم، الإله وحده، -سبحانه وتعالى- الذي يدمر مَن عانده، وأراد أنْ يَحُولَ بين العباد, وبين سلوك طريقه -سبحانه وتعالى- {وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً}, قال -جلَّ وعَلا- : {........وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا}[الفرقان:37], أنه ليس ما ينالهم العقوبة فقط في الدنيا بل في الآخرة، العقوبة الأخروية تنتظرهم، أعتدنا لهم, الإعداد هو التهيئة والإيجاد لهم لهؤلاء الظالمين، {وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ}, سماهم الله -تبارك وتعالى-هنا باسم الظالمين؛ لأنَّ هذا وصفهم اللائق بهم، ثم هو السبب في إنزال الله -تبارك وتعالى- العقوبة لهم، {عَذَابًا أَلِيمًا}, في الآخرة, كما قال -جلَّ وعَلا- : {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا}[نوح:25].

ثم قال -جلَّ وعَلا- : {وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا}[الفرقان:38], {وَعَادًا}, قبيلة عاد، {وَثَمُود}, قبيلة ثمود، وهما قبيلتان عربيتان، {وَأَصْحَابَ الرَّسِّ}, مدينة الرَّسِ كانت كذلك قوم أيضًا كذبوا رسولهم، هؤلاء كلهم كذبوا الرسل، قال -جلَّ وعَلا- : {........وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا}[الفرقان:38], { وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ}, بين قوم نوح إلى هؤلاء، قرون كثيرة عَتَى الكفار منهم عن أمر الله -تبارك وتعالى- فأهلكهم الله -تبارك وتعالى-، قال -جلَّ وعَلا- : {وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الأَمْثَالَ........}[الفرقان:39]، كلا مِن هؤلاء الأقوام والقرون، ضرب الله -تبارك وتعالى- لهم الأمثال، أي وضح لهم الحقائق بضرب المثل، حتى يصبح المعنى البعيد معني قريب ملموس، {ضَرَبْنَا لَهُ الأَمْثَالَ}, وبينا لهم انظر مصارع الغابرين قبلكم، انظروا إلى هؤلاء؛ فكل رسول كان يحذر قومه، وينذرهم، ويقول لهم يا جماعة انظروا إلى ِمن قبلكم كما قال هود -عليه السلام-، حذر قومه أنْ يصيبهم مثل ما أصاب قوم نوح، وكذلك صالح حَذَّرَ قومهم مِن أنْ ينالهم مثل عاد, ومِن أنْ ينالهم مثل قوم نوح، وكذلك شعيب -عليه السلام- قال لقومه : {........لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ}[هود:89], فحذرهم أنْ يصيبهم مثل ما أصاب الأُمَم السابقة؛ فالله يقول : {وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الأَمْثَالَ........}[الفرقان:39]، ضَرَبَ الله -تبارك وتعالى- الأمثال، فَمِن ضَرْب المثل أنْ انظروا إلى أولئك السابقين، هذا مثل أنْ يصيبكم ما أصابكم، أنْ تصنعوا صنيعهم؛ فيصيبكم الله -تبارك وتعالى- مما أصابهم ، ثم قال -جلَّ وعَلا- : {وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا}, {وَكُلًّا}, مِن هؤلاء المكذبين المعاندين, {تَبَّرْنَا}، التتبير الهلاك، ومنه التِّبْر لأنه مهلك, يكون التِّبْر هو الذهب عندما يكون في حالة المسحوق، {وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا}، سحقناهم سحقًا، ودمرناهم تدميًرا، {وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا}.

ثم قال -جلَّ وعَلا- : {وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ........}[الفرقان:40], هذا الخطاب كله لهؤلاء المعاندين, المكذبين مِن العرب مِن قريش ومَن حولهم، {وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ........}[الفرقان:40]، لقد أتى هؤلاء القوم, {عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ}، وهي قُرَى لوط -عليه السلام- ، في وادي الأردن, وكانت هذه ممر، سفر قريش في تجارتهم إلى الشام؛ فإنهم كانوا يسافرون تجارًا إلى الشام فيمرون بدول الأردن ، ويمرون بقرى لوط التي أهلكها الله -تبارك وتعال-, وهذا مطرها قائم, بالبحر الميت، بقايا هذا المطر مازال موجودًا، {وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ........}[الفرقان:40], المطر السيء، مطر منذ أنْ نزل عليهم وأهلكهم الله -تبارك وتعالى- به، وإلى يومنا لا يحيا فيه كائن حي قَطّ، فهذا المكان يرونه بأعينهم، وأنه نشاذ عن كل ما في الأرض، فإنَّ ما في الأرض كلها المياه التي في الأرض، حلوها ومالحها ، مياه مباركة ينشأ فيها حياة إلا هذا الماء الخبيث، فإنه بقي على حاله على هذا النحو، وأبقاه الله -تبارك وتعالى-؛ ليكون آية للناس, {وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا........}[الفرقان:40], وهذا غير وارد أنهم يمرون عليها ويرون هذه وما ينظروا إليها، نعم أنهم يرونها؛ فيخبر -سبحانه وتعالى- أنهم رأوها ، لكن رأي المُعْرِض, الغافل الذي يرى آيات الله -تبارك وتعالى- ولكنه لا يتعظ بها، {أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا}, هذا سؤال لتقريعهم والاستهزاء بهم، ويراد أنْ يقال نعم كانوا يرونها، إذن لما لم يؤمنوا وهذا لكفرهم وعنادهم وغفلتهم, {أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا}, قال -جلَّ وعَلا- : {........بَلْ كَانُوا لا يَرْجُونَ نُشُورًا}[الفرقان:40]، هذه العلة, {........بَلْ كَانُوا لا يَرْجُونَ نُشُورًا}[الفرقان:40]، كان هؤلاء الكفار لا يرجون نشور, ما عندهم أي رغبة، وأي أمل، وأي مطمع في أنهم سَيُنْشَرُوا، أي سيحيهم الله -تبارك وتعالى- مرة ثانية؛ وذلك أنهم قد قطعوا الأمل في هذا بتاتًا، واعتقدوا بأنَّه ليس إلا هذه الحياة الدنيا، وأنه موت ولا قيامة، أنَّ الموت في هذه الدنيا هو نهاية المطاف، ولا نشور بعد ذلك، إذًا لِمَا يرجعون عما يرونه أنه الطريق المثلى لهم لحياتهم، في عبادتهم ما يعبدون، في تمتعهم بالدنيا كما يريدون، في تحليلهم ما يحلون، في تحريمهم ما يحرمون، جزاؤهم هو ما يرونه في هذه الدنيا، وهم مقتنعون ويرون أنَّ طريقتهم هي المثلى، وبالتالي لم يستجيبوا لأي أمر مِن أوامر الله يدعوهم، لأنَّ هذا أوامر الله -تبارك وتعالى- لاشك أنه الطريقة المثلى في الحياة، وفيها جزاء بعد ذلك، جزاء أخروي لأهل الطاعة، وجزاء كذلك لأهل المعصية، وهم هذا الجزاء الأخروي غير وارد عنده؛ فلذلك لا يهتموا، لا يهتموا بأنْ يأخذوا رسالة الرسول؛ ولذلك هم أصبحوا في عماية عن كل النذارة، {........بَلْ كَانُوا لا يَرْجُونَ نُشُورًا}[الفرقان:40]، ثم أكثر مِن ذلك قال -جلَّ وعَلا- : {وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا}[الفرقان:41], {وَإِذَا رَأَوْكَ}, رآك هؤلاء الكفار, المعاندين, المكذبين, العميان, {إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا}, حُصِرَ أمرهم عندما يروا النبي أنهم ليس عندهم في نفوسهم، وفي ألسنتهم، إلا الاستهزاء به، {إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا}, بالحص، فقط الموقف مِن النبي عندما يروه أنْ يستهزءوا به، {إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا}, ومِن استهزائهم قولهم : {........أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا}[الفرقان:41], تحقير لشأن النبي أهذا, وبالإشارة هكذا إلى القريب تحقيرًا له, {........أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا}[الفرقان:41]، وفي هذا تحقيرا للنبي، وكذلك استئصال لحكمة الله -تبارك وتعالى- ولِمَن أرسله، أنَّ الله هو الذي اختاره -سبحانه وتعالى- وأرسله، والنبي العظيم, الأمين, الصادق -صلوات الله والسلام عليه- الذي كان في القمة، أخلاقًا وصفاة وهم يعلمون هذا، يعلمون هذا قبل الرسالة فإنهم كانوا يمدحونه في أخلاقه، وفي صفاته، وفي رجولته وشهامته؛ فالكل يشهد له, هذه خديجة -رضى الله تعالى عنها- تصف أخلاقه فتقول : (والله ليخزيك أبدًا إنك  لتصل الرحم, وتحمل الكل، وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق), هذا قبل أنْ يبعثه الله -تبارك وتعالى-, وهؤلاء الكفار مجمعون على أنه الصادق الأمين، والصدق والأمانة أشرف وأعلى الأخلاق، فلم يكون يتهموا بشيء مِن هذا، ولكنهم هذا الكفر أعماهم، وجعلهم ينظرون إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- هذه النظرة مِن الاستصغار والاحتقار، يقولون : {........أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا}[الفرقان:41], ثم يُبَيِّنُونَ أنَّ هذا سبب في تحقيرهم له : {إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا........}[الفرقان:42]  أنه كان, {كَادَ}, مِن أفعال المقارب أنها أوشك, {لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا}, فانظر هذا العمى؛ عمى القلب، وعمى البصيرة، وأنهم جعلوا دعوه النبي -صلى الله عليه وسلم- لهم بتوحيد الله -سبحانه وتعالى-, الإله الواحد الذي لا إله إلا هو خالق هذا الكون وخالقهم، أنه غير جدير بأنْ يُعْبَدَ وحده -سبحانه وتعالى-, وأنَّ آلهتهم التي يعبدونها مِن دون الله يرون أنْ ترك عبادة هذه الآلهة، وعبادة الإله الواحد، هذا يعتبرونه مِن أعظم السفه، ومِن أعظم الباطل، وأنَّ النبي كاد أنْ يُسَفِّهَ أحلامهم على هذا النحو, ويخرجهم مِن هذا الشِّرك الذي هم فيه، وهو عبادة غير الله -تبارك وتعالى- إلى توحيد الله -عز وجل-, وهم يرون أنَّ توحيد الله, وعبادة الله وحده عندهم مِن أعظم السفه؛ ولذلك كان يقولون : {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا........}[ص:5] سؤال يريدون به الاستعظام؛ استعظام القبح في عقولهم، {........إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ}[ص:5]، أي هذا أمرٌ عجيبٌ جدًا، أَلَا نعبد إلا إلهًا واحدًا فقط، وأين الآلهة, هذه الآلهة التي يرون أنَّ هذه الآلهة كل إلهٍ له هو نافعهم بنافعةٍ معينة، وأنه لا يمكن الاستغناء عن هذه الآلهة؛ فانظر حقارة نفوسهم, وقلة عقولهم، وجعلهم التوحيد الذي هو أعظم قضية هذا الكون، وأشرفها وأبينها فلا أبين مِن هذا, لا أكثر بيانًا مِن أنَّ الله هو الإله الواحد، {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ}, وأنَّ هذا الكون بأسره يعود في خَلْقِهِ إلى إله واحد هو الذي خَلَقَهُ, وهو المتصرف فيه -سبحانه وتعالى-, {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ}[الزمر:62], وهو وحده -سبحانه وتعالى- جدير بالعبادة؛ لأنه ليس له نظير، ولا شبيه، ولا شريك، ولا ابن، ولا زوجة، ليس له أحد يستحق أنْ يُعْبَدَ معه -سبحانه وتعالى- والجميع كلهم عبيده، {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا}[مريم:93], هذه الحقيقة الكبرى أكبر الحقائق ينكرونها هذا الإنكار، ويجعلونها القول فيها مِن أعظم السَّفَه، ويُسَفِّهُونَ النبي مِن أجل هذا، مِن أجل أنه دعاهم إلى  توحيد الله -تبارك وتعالى-, ونهاهم عن أنْ يعبدوا هذه الآلهة التي لا تنفع ولا تضر، فسبحان تبارك وتعالى من أعمى بصائر الكفار وطمسها على هذا النحو, وجعلها ترى الظلمة نور، وترى النور ظلمة، ترى التوحيد منقصة، وترى الشرك بالله -تبارك وتعالى- كمال ورفعة.

ثم قال -جلَّ وعَلا- :{وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا}[الفرقان:42], عندما يروا هؤلاء عذاب الرب, وأنهم ارتكبوا أعظم الجرائم، بشركهم بالله -تبارك وتعالى-, وعدولهم عن توحيد الله -تبارك وتعالى- فلما يروا عذاب الرب, ويروا أنَّ عذاب الرب، ويروى أنَّ هذه الآلهة النجسة, الحقيرة التي يعبدونها مِن دون الله، مِن أصنامهم وأوثانهم تؤخذ هي وهم ويلقوا في النار، وأنها لا حول لها, ولا قوة لها، وأنَّ ما عبدوهم مِن ملائكة، ومِن خَلْقِ الله -تبارك وتعالى-، الأطهار يتبرءوا منهم ويقول يا ربي نَتَبَرَّأ إليك، {........مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ}[القصص:63], الملائكة تتبرأ منهم، وكذلك الرسل وعباد الله الصالحين يتبرءون منهم عندما يروا الأمر على هذا النحو, ويخذلوا هذا الخذلان في الآخرة، ويلقوا في النار, {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ}[الأنبياء:98], وأنَّ هذه الآلهة التي عبدوها لم تنفعهم شيئًا عند ذلك يعلمون مَن أضل سبيلًا، مَن الضال, هل مَن عبد الله -تبارك وتعالى- الإله الحق، أو مَن عبد هذه الآلهة التي لا تنفع ولا تضر, ما تضرهم شيء, ولا تنفعهم شيء، {........وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا}[الفرقان:42]، مثل ما قال الله -تبارك وتعالى- : {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ}[البقرة:165], {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ}[البقرة:166], {وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ}[البقرة:167], فعندما يكون يوم القيامة, ويروا حال هؤلاء الآلهة الذين عبدوهم، وحالهم وهم في النار مع أصنامهم وأوثانهم، عند ذلك سيعلمون مَن أضل سبيلًا، {........وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا}[الفرقان:42].

 ثم قال -جلَّ وعَلا- : {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا}[الفرقان:43], هذه علتهم أنهم اتخذوا آلهتهم أهواءهم، الهَوَى الذي يصنع لهم ما يشاءون مِن هذه الآلهة، {أَرَأَيْتَ}, يُعَجِّبُ الله -تبارك وتعالى- رسوله مِن حال هؤلاء، وأنهم قد اتخذوا هواهم إلههم، {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ........ }[الفرقان:43], جعل إلهه هو الهوى، ما يهويه, هووا هذه الأصنام وجاءتهم بالظنون, وهووا هذا الأمر، فاحبوه فما صبروا, لا علم ولا بينة ولا أدراك ولا كذا، وإنما هو الهوى، والهوى هو ما يترآى في النَّفْسِ ويحبه الإنسان، وإنْ لم يكن دليل على ذلك، قيل سمى هوى لأنه يَهِوي بصاحبه, يهلك صاحبه، {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا}[الفرقان:43]، كذلك سؤال بيان للنبي -صلى الله عليه وسلم- بأنَّ النبي ليس موكلًا بالخَلْق، بمعني أنَّ الله ليس لم يوكله -سبحانه وتعالى- بأنْ يقوم بشأن هذا الخَلْق, وإنما الذي يقوم بشأن العباد هو الله -تبارك وتعالى-, وأنَّ الله هو ربهم, وهو خالقهم سبحانه وتعالى-, وهو المتولي شئونهم وحده-سبحانه وتعالى-، والنبي إنما هو مُبَشِّر ونذير ومُبَيِّن ومبلغ للدين, وما أنه يملك هداية أحد، أو إضلاله فإنَّ هذا لا يملكه، {........أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا}[الفرقان:43]، أي لا يمكن أنْ تهدي هؤلاء الذين عميت بصائرهم على هذا النحو فقط اتخذوا هواهم إلهًا لهم.

 ثم قال -جلَّ وعَلا- : {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا}[الفرقان:44], {أَمْ تَحْسَبُ}, تحسب تظن، {أَنَّ أَكْثَرَهُمْ}, أكثر هؤلاء المُبَلَّغُونَ بهذا الدين مِن هؤلاء الكفار المعاندين, {يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ}, لأنه لو كان يسمع حقًا لا يوجد بيان أعظم مِن هذا البيان، بيان الرب -تبارك وتعالى-, ولا يوجد إيضاح للطريق أعظم مِن هذا الإيضاح، ولا وضوح لهذه الحقائق أكثر مِن هذا التوضيح، لكن هؤلاء لا يسمعون، يسمعون لكن هذا السمع مقطوع، مُعَطَّل عن أنْ يصل هذا الكلام إلى القلب والعقل فيفقهوه ويعرفوه، فكأنه لا يسمع, {أَوْ يَعْقِلُونَ}, عنده عقل فيعقل ما يُلْقَى إليه ويتبين الأمر، نَفَى الله -تبارك وتعالى- عنهم صفة السمع والعقل؛ لأنَّ هذا حالهم أنهم قد عَطَّلُوا هذه المنافذ للمعرفة السمع والعقل, ثم قال -جلَّ وعَلا- : {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ}, حصر لهم, {كَالأَنْعَامِ}, التي حصرت اهتماماتها في أنها تأكل وتشرب, وليس لها أمل غير ذلك، ولا تعقل ما حولها إلا فقط هو طعامها وشرابها وحياتها؛ فالله قال : {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ}، فهم فقط غير مهتمين إلا بحياتهم الدنيوية, ولا يعقلون شيء وراء هذه لحياة, ثم قال -جل َّوعَلا- : {........بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا}[الفرقان:44], {هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا}, مِن الأنعام, أكثر ضلالًا مِن الأنعام، كذلك الأنعام خُلِقٌوا لهذه أي خَلَقَهُم الله –تبارك وتعالى- وجعل إمكانياتهم في ما هي قائمة فيه، أما هؤلاء لا، الله -تبارك وتعالى- خَلَقَ لهم أدراك، خَلَقَ لهم عقول، خَلَقَ لهم منافذ المعرفة؛ ليعرفوا ويتبينوا ويأتيهم فيه طريق للرب، فيه تكليف بعيدون عن كل هذا؛ فلذلك أصبحوا أضل سبيلا مِن الأنعام؛ لأنَّ الأنعام في النهاية سبيلهم إنَّ الله -تبارك وتعالى- خلقهم لمهمة ليؤدوا هذه المهمة، ثم يقول الله -تبارك وتعالى- لهم يوم القيامة، يحشرون يوم القيامة، ثم يقول لهم كونوا ترابا، فتكون ترابًا وينتهي أمرهم، لكن هؤلاء لا، هؤلاء سبيلهم إلى النار إلى الخلود في العذاب -عياذا بالله-، {........بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا}[الفرقان:44], نسأل الله -تبارك وتعالى- أنْ يعافينا مِن حال هؤلاء الكفار.

أستغفر الله لي ولكم مِن كل ذنب, وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد.