السبت 19 شوّال 1445 . 27 أبريل 2024

الحلقة (44) - سورة البقرة 163

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلله فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد فإن خير الكلام؛ كلام الله –تعالى-، وخير الهدي؛ هدي محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار.

وبعد أيها الإخوة الكرام، يقول الله -تبارك وتعالى- {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ}[البقرة:163]، {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}[البقرة:164]، هذه الآيات هي بداية التعريف بدين الإسلام، وهي بدءٌ بالتوحيد، عَلمنا أن الله -تبارك وتعالى- بدأ حديثه مع أهل الإيمان، وخطابه لأهل الإيمان في هذه السورة بقوله -سبحانه وتعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}[البقرة:153]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}[البقرة:153]، {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ}[البقرة:154]، ذكرنا أن السر في أمر الله -تبارك وتعالى- عباده المؤمنين في أول توجه لهم في هذه السورة، أن يستعينوا بالصبر والصلاة، أن الصبر هو الصاحب الذي يجب أن يصحبه المؤمن طيلة رحلته في هذه الحياة في دينه، لأنه عنصر في كل الأعمال، العبادة كلها تحتاج صبر، الصبر على الطاعة، الصبر على المعصية، الصبر على الأحداث، ثم الصلاة وهي أشرف أعمال الإنسان, وهي نور، فهذا نورٌ وهذا ضياء، الصلاة نور والصبر ضياء، وكأن الله -تبارك وتعالى- أمرنا في أول كتابه، أول أمر في كتابه، أول نداء في كتابه لأهل الإيمان، بأن يأخذوا نورهم بالصبر والصلاة، {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}، كما وعظ الله -تبارك وتعالى- بني إسرائيل عندما دعاهم إلى الإيمان، فقال لهم {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ}[البقرة:45].

ثم بيَّن الله -تبارك وتعالى- بأن هذا الطريق؛ طريق الإيمان، طريقٌ فيه ابتلاءات واختبارات، طريق مشقة لابد أن يأخذوا الصبر عدةً لهم وزادًا لهم في الطريق، فأخبر أن أول شيء أعلى درجات الفتنة والبلاء هو القتل في سبيل الله، وذكر الله -تبارك وتعالى- شرف القتل، ولم يذكر أنه سيبتلي بالقتل بل هنا بيَّن شرف القتل، قال: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ}[البقرة:154]، ثم بيَّن أنواع ما سيبتلي الله -تبارك وتعالى- به عباده، فقال: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ}[البقرة:155]، {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}[البقرة:156]، {أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}[البقرة:157].

ثم بيَّن الله -تبارك وتعالى- الصفا والمروة إنما هي من شعائره، وكأن هذا دلالة وبيان، أن كل ما يشرعه الله –تبارك وتعالى- لعباده، وإن كان بعضه أصله قد كان يفعله الجاهلية فإن الله –تبارك وتعالى- يعلم ما يشرعه لعباده، فقال -جل وعلا- {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ}[البقرة:158]، ثم ذكر الله -تبارك وتعالى- كتمان العلم، وقدَّمه قبل تفصيل أحكام الإسلام، وذلك لأن كتمان العلم وكتمان البينات المنزلة هو أكبر آفة أصابت الرسالات السابقة، فإن علماء اليهود وعلماء النصارى لما كتموا العلم أولًا استحقوا لعنة الله -تبارك وتعالى-، ثم إنهم صدوا الناس عن دين الله -تبارك وتعالى-، فقال -جل وعلا- {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ}[البقرة:159]، {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}[البقرة:160].

ثم بيَّن الله حقيقة أن من مات على الكفر فقد هلك وخسر، {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ}[البقرة:161]، {خَالِدِينَ فِيهَا لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنظَرُونَ}[البقرة:162]، ثم شرع البيان التفصيلي لهذا الدين، فأول وأشرف هذا الأمر هو الاعتقاد بأن الله هو الإله الواحد الذي لا إله إلا هو -سبحانه وتعالى-، قال -جل وعلا- إخبارًا لعباده، قال {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ}[البقرة:163]، أولًا الإله في لغة العرب هو المعبود المألوه، ومعنى أله يأله إلهة بمعنى أنه أحب وتحير وعبد، والعرب وسائر الشركين اتخذوا لهم آلهة، يعبدونهم من دون الله -تبارك وتعالى-، لم يعتقدوا في آلهتهم الخَلق والرزق والإحياء والإماتة والهيمنة على هذا الكون، بل كان مشركو العرب يعتقدون بأن الله -تبارك وتعالى- خالق الكون، والمتصرف فيه، ولكن نسبوا إليه الزواج، تزوج بالجن وولد له الملائكة، فالملائكة عندهم بناته، قالوا لا يستطيع أن يعيد الخَلق مرة ثانية ولا إعادة، الآلهة التي اتخذوها عبدوا الملائكة، عبدوا أصناما وأوثانا هي عبارة عن رموز إما لرجال صالحين، وإما تصورات للنجوم والأقمار، وسموها هذه آلهة، وقالوا لا نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زُلفى، وسائط بيننا وبين الله، النصارى اتخذوا المسيح إلها، لكن اعتقدوا فيه أنه ابن لله له مثل صفاته، قالو إنما هو إلهٌ من إله، أو أنه هو ذات أبيه -تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرا-، قالوا الأب والابن وروح القدس إلهٌ واحد، اليهود ألهوا العزير، واعتقدوا أنه ابن الله، سائر المشركين لكل قوم من المشركين آلهتهم بمعنى مَن يعظمونهم، أصنام إما شخص، هي في الأساس شخص كبوذا مثلًا، إما هي رسوم للنجوم والكواكب كالصابئة، فإنهم كانوا عبَّادا للنجوم، القمر يجعلون له تمثالا في الأرض، المريخ يجعلون له تمثالا في الأرض، وكذلك الرومان عبَّاد أصنام، تخيلوا آلهة إما متخيلة ليست لها وجود، وتخيلوها وظنوا أن لها فعل في الكون، فنصبوا لها وصوروا لها أصنامًا حسب تخيلاتهم.

على كل حال ما من مخلوق مما خلق الله -تبارك وتعالى- إلا ووجد له من يعبده، في السماوات وفي الأرض، فقد عّبِدت النجوم والريح والبرق والسحاب والمطر والشجر والحجر والأنهار، وعُبِدت كثير من الحيوانات، عُبِدت الأبقار والقرود، حتى الفئران عُبِدت من دون الله، عُبِدت الأشجار، عُبِدت الأحجار، فلا يكاد يكون هناك شيء مما خلق الله -تبارك وتعالى- إلا وجِدَ له من البشر من يعظمه، ومَن يألهه، ومَن يعتقد فيه النزاهة وجلب الخير ودفع الضر، فكل مَن يعتقد أن هناك معظَما يعظمه يألهه، يرى فيه سموا رفعة، يرى فيه أنه يجلب له النفع، ويدفع عنه الضر فهو إله مهما كان، فمن عبد الفأر مثلًا أو حجرا أو تخيل موجودا بذهنه ثم صنع له تمثالًا، أي تمثال من حجر من ذهب من تمر من حلوى هذا إله، هذا في اللغة إله، الإله كل ما عُبِد فهو إله، لكن يبقى الحق والباطل، كل ما عُبِد من دون الله وسمي إلها فباطل، لأنه ليس إلهًا على الحقيقة، وإنما الناس جعلوه إلها، فهم جعلوه إلها، ومعنى جعلوه بمعنى أنهم اعتقدوه، صنعوه بأيديهم، اخترعوه بعقولهم، أعطوه ما يُعطَى الإله، من المحبة والتعظيم وجلب النفع ودفع الضر، فهم اعتقدوا فيه الإله، والحق أنه ليس بإله، بل هو مخلوق لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرا, فضلًا عن أن يملك لغيره، لكنه اتخذ إله، فهو إله من حيث التسمية اللغوية، حيث ما سماه الناس، لكن من حيث الحقيقة ليس بإله، ولذلك كانت الرسل تقول لقومها: {إِنْ هِيَ إِلَّا أسماء سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ}[النجم:23]، إن هي إلا أسماء، سميتموه إلها وهو ليس إلها على الحقيقة، بل خلعوا عليه أسماء الله -عز وجل- كالعزَّى، العزَّى من العزيز، واللات من الله، فسموها بأسماء الإله، وقالوا من عبد العزَّى اعتز، فإنها تُعِز {وَاتخذوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا}[مريم:81]، أي ليعتزوا بهم، وهذا أبو سفيان يوم أُحُد وقف على فرسه، وهو يقول لنا العُزَّى ولا عزَّى لكم، ويعتقد أن النصر إنما كان بسبب اعتزازهم بالعزَّى، ويقول من عبد العزَّى اعتز، وقال أيضًا أُعلوا هُبل، فأشاد بذكر هُبل وهو صنم قريش فهذه أسماء، خلعوا عليها أسماء الرب الإله والحق أنها ليست بآلهة، وإنما هي أسماء {إِنْ هِيَ إِلَّا أسماء سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ}[النجم:23].

الإله الذي يستحق الأُلوهة لا شك أنه لابد أن يكون هو ممن يملك مَن يعبده، يملك عابده، هو خلقه، هو يميته، هو يرزقه، هو يتولى أمره، هو يملك نفعه ويملك ضره، فالذي تعطيه ثمرة قلبك من المحبة والتعظيم والإجلال، وتعطيه أشرف عملك من الوقوف مثلًا بين يديه، من الركوع ذلًا له، من السجود على الأرض تعظيمًا له، مَن هذا الذي يستحق هذا؟! لابد أن يكون إلها يملك نفعك ويملك ضرك، هو خلقك، هو الذي يحييك، هو الذي يميتك، هذا الذي يستحق، أما إذا كان لا يملك هذا كالشمس مثلًا، كالقمر، كالنجوم، كسائر من يعبد من دون الله، الملائكة، الرسل، هؤلاء كلهم لا يملك أحد منهم لنفسه هو نفعًا ولا ضرا, فضلًا عن أن يملكه لغيره، فكيف يملك هذا لعابده؟؟، فمن عبد الملائكة مثلًا أو الشمس أو القمر أو الرسل أو الأنبياء أو الأحجار أو الأنهار، أو غير ذلك مما يعبد من دون الله -تبارك وتعالى-، فقد صنع باطلًا، وضع العبادة في غير محلها، هذه جريمة أولًا، أول جرائم الشرك واتخاذ إله غير الله, أنه وضع العبادة في غير محلها، عبد بقرة، عبد شجرة، عبد الشمس، فوضع العبادة في غير محلها، هذه مخلوقات، بعض هذه المخلوقات لا يدري عن عابده شيئًا، {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ}[الأحقاف:5]، إما أن يكون صنما حجرا فإذا دُعي...، لو وقف أمام هذا الصنم يناديه إلى أن يموت فإنه لا يحس به ولا يسمع له، أو وقف أمام ميت يدعوه ويناديه إلى أن يموت هذا الداعي, فإنه لا يحس به، {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ}[الأحقاف:5]، {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ}[الأحقاف:6].

فهذا أول جريمة، من اتخذ إلهًا غير الله -تبارك وتعالى- أنه وضع العبادة في غير محلها، ولذلك كان الشرك ظلما عظيما، كما قال الله -جل وعلا- {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}، والظلم وضع الشيء في غير محله، الأمر الآخر أنه ترك الإله الذي يجب أن يعبد، وهو الله -سبحانه وتعالى-، الله وحده هو الذي يستحق أن يكون الإله وحده، لِما؟ أولًا لأنه خالق كل شيء، كل ما عداه فهو الذي خلقه، فهذا العابد الذي يريد أن يعبد يجب أن يعبد خالقه، فالله خالق ثم هو الرازق، ثم هو الذي يحيي هو الذي يميت، هو الذي بيده نفع عباده، هو الذي بيده ضرهم، فإذن يرجى ما عنده من النفع ويُخاف ما عنده من الضرر، ثم ليس له منافس، ليس له ند، شبيه، شريك، ينافسه الملك وينازعه فيه، تعالى الله عن ذلك، {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}[الإخلاص:1]، {اللَّهُ الصَّمَدُ}[الإخلاص:2]، {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ}[الإخلاص:3]،{وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ}[الإخلاص:4]، فلا كفء له ولا مثال له، ولا هناك من ينازعه الملك، ويقول له أنا ملك معك أو أنا إله معك أو أنا لي في الملك شيء، بل الكل عبيده، الملائكة العظام، كل المخلوقات تذل له وتخضع له، {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ}[آل عمران:83]، فإما أن هؤلاء المخلوقات والعالمين مطيعون لله -تبارك وتعالى- عن اختيار كالمؤمنين والملائكة، وإما عن إجبار وعن قهر مسلم له، فالكافر مسلم لله رغمًا عنه، فهو يولد بمشيئة الله، ويحيا بمشيئة الله، ويمرض بمشيئة الله، ويموت بأمر الله، ويبعث بأمر الله، ولا يستطيع أن يتخطى أي قدر قُدِّر له بنفسه، بل هو في أقدار الله -تبارك وتعالى- وفي أمره، بل هو في أمر الله القدري الكوني، لا يخرج عن هذا ولا بحركة يد، لا يستطيع أن يحرك يده حركة لم يردها الله -تبارك وتعالى- له، فهو مسلم رغمًا عنه، {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ}[آل عمران:83]، في النهاية مرجع الخلق كلهم إلى الله -تبارك وتعالى-.

فهذا إخبار من الله، {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ}، أي إلهكم الذي يجب أن تألهوه وأن تعبدوه إلهٌ واحد، لماذا لا يكون هناك تعدد آلهة؟ فيشاء الله -تبارك وتعالى- أن يعبد معه غيره، أولًا لأن الله لا يرضى، أكبر ذنب عند الله –تبارك وتعالى- أن يعبد معه غيره، حتى لو كان هذا الغير هو ممن يحبه الله -تبارك وتعالى-، نبي له، رسول، ملك، فالله يحب ملائكته؛ وملائكته يؤمنون به، ويحبونه ويقدسونه ويسبحونه، رسل الله -تبارك وتعالى- هم محبوبون عند الله، مقربون عنده، لكن لا يرضى الله -تبارك وتعالى- أن أحد هؤلاء يعبد من دونه، هذا أمر لا يرضاه الله -تبارك وتعالى-، قال -جل وعلا- {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ ........}[آل عمران:79]، لا يمكن هذا، أي أن هذا لا يمكن أن يقع في أمر الله -تبارك وتعالى-، أن يرسل رسولًا ويقول للناس اعبدوني مع الله، أو أنا إلهٌ لكم من دون الله، بل كل الرسل دعوا إلى عبادة الله الواحد الأحد -سبحانه وتعالى-، وكرهوا أن يعطيهم أي تابع لهم عبد لهم شيء مما يُعطى لله، فهذا نبينا مثلًا كان يكره أن يقوم له الناس، وكانوا يعظمونه؛ يعظمون رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولكنهم كانوا لا يقومون له، ولكن يقول أنس: "كانوا يحبون رسول الله، ولكن لا يقومون له مما يعلمون من شدة كراهيته لذلك"، حتى أنه لما صلى جالسًا عندما وقع فرسه فجحشت رجله، صلى جالسًا فأراد الصحابة أن يصلوا خلفه قيامًا، فأشار لهم أن اجلسوا، وقال لهم: "إنما جعل الإمام لأتم به، فإذا كبَّر فكبِّروا، ولا تكبِّروا حتى يكبِّر"، ثم قال لهم في نهاية الحديث "وإذا صلى جالسًا فصلوا جلوسًا أجمعون"، إذا صلى الإمام جالسًا، وقال لهم: "كدتم أن تفعلوا كما يفعل فارس والروم يقومون على رؤوس ملوكهم يعظمونهم بذلك"، وذلك أن القيام مع هذا السكون نوع من العبادة، وهذه لا تنبغي إلا لله -تبارك وتعالى-.

الملائكة يحبهم الله -تبارك وتعالى- وهم يقومون في طاعته، ولكن الله يخبر بأن أحدًا منهم لو أنه دعا الناس إلى عبادته لأهلكه الله -تبارك وتعالى-، قال -جل وعلا- {وَقَالُوا اتخذ الرَّحْمَنُ وَلَدًا}[الأنبياء:26]، وهم الملائكة، والمشركون الذين قالوا هذا، قال -جل وعلا- {سُبْحَانَهُ}، تنزيهًا له أن يكون له ولد، قال ثم قال {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ}[الأنبياء:26]، أي أن هؤلاء ليسوا أولادًا له ولكن عبادًا له، {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ}، مكرمون كرَّمهم الله -تبارك وتعالى-، {لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ ........}[الأنبياء:27]، أي لا يقولون حتى يقول الله -تبارك وتعالى-، {لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ}[الأنبياء:27]، {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ}[الأنبياء:28]، {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ}[الأنبياء:29]، {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ}، من هؤلاء الملائكة المكرمون عند الله، {إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ}، إلهٌ من دون الله، {فَذَلِكَ}، أي القائل هذا، {نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ}، فالله يكره الشرك ولا يحبه، ويعاقب عليه أشد العقوبة عنده، وهي الخلود في النار، {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ ........}[النساء:48]، فالله يغفر ما دون الشرك ولكنه لا يغفر الشرك، فالله طلب من العباد أن يعبدوه وحده لا شريك له، وألا يشركوا به شيئا، فإن عبدوا الله وعبدوا معه غيره تركهم الله -تبارك وتعالى-، كما جاء في الحديث «أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملًا أشرك معي فيه غيري تركته وشركه»، فكذلك لا يقبل الله الشركة بأن يصلي إنسان لله ولكنه يريد المِدحة يرائي، فهنا أشرك؛ أشرك نفسه مع الله -تبارك وتعالى-، الله يقول «أنا أغنى الشركاء عن الشرك»، أي عمل تعمله لله يجب أن يكون لله، فالله لا يقبل العمل الذي في شركة قط، «أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملًا أشرك معي فيه غيري تركته وشركه»، فهذا أول شيء، قول الله هنا {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ}، إخبارٌ منه -سبحانه وتعالى- بالحقيقة؛ بالحق، أن الإله الذي يؤله ويعبد هو إلهٌ واحدٌ فقط، ولا شك أنه الرب الإله -سبحانه وتعالى-، خالق السماوات والأرض.

{لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ}، لا إله إلا هو هذا النفي ليس نفي الوجود، وإنما هو نفي الحق، نفي أن يكون هناك إلهٌ غيره يستحق أن يكون إلها على الحقيقة، أما {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ}، أي لا إله إلا هو على الحقيقة، أما على الوجود هناك آلهة كثرة، ما في شيء إلا وعُبد من دون الله -تبارك وتعالى-، لكنه ليس إلها، هنا أصحابه سموه إلهًا ولكنه ليس إلها، لا إله إلا هو على الحقيقة إلا هو الله، {الرَّحْمَنُ}، اسمه وصفته، اسمه اسم الله -تبارك وتعالى-، من أسماء الله الرحمن، والرحمن صيغة مبالغة من الرحمة، وذلك أن الله -تبارك وتعالى- قد وسعت رحمته كل شيء، فلا رحمة في هذا الكون يتراحم بها الخلق إلا منه -سبحانه وتعالى- من خلقه، هو الذي خلق الرحمة في قلوب عباده حتى البهائم، الرحمة التي في البهائم على صغارها، والطير على فراخه، هذه الرحمة التي تجعل الطير يروح ويبحث ويأتي بالطعام ويأتي لفراخه في العش هذا من الرحمة، هذه من خَلق الله -تبارك وتعالى-، فهو الرحمن {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا}[غافر:7]، هذا من خلقه -سبحانه وتعالى-، ولم يصل إليه أي راحم ما وصل من رحمته استقلالًا، فهو الذي خلق هذا؛ هذا من خلق الله -تبارك وتعالى-.

وهو الرحمن وهو الرحيم -سبحانه وتعالى-، صفتان من الرحمة، فهذا إخبار من الله أي يا أيها المخاطبون، يا عباد الله المؤمنون إلهكم إلهٌ واحد، معبودكم الذي يجب أن تألهوه ولا تألهوا غيره إلهٌ واحد، لا يقبل شركة في هذا الأمر -سبحانه وتعالى-، {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ}، لا إله على الحقيقة إلا هو، أما آلهة باطلة فموجودة لا تحصى كثرة، لكنها كلها باطلة، سميت آلهة وليست بآلهة، وهذا الإله الواحد الذي لا إله إلا هو؛ هو الرب الرحمن الرحيم.

ثم ساق الله -تبارك وتعالى- آية، فيها عشر آيات دليلا على هذه القضية، هذه القضية خبرية؛ هذه قضية خبرية يخبر بها الله -تعالى- عباده وهي حق، ولا شك أن كل ناظر في هذا الكون المخلوق يمكن أن يصل إلى هذه القضية، الله أخبرنا بها وأقام الأدلة الكونية عليها، فالأدلة الكونية المنظورة على هذه القضية، قال -جل وعلا- {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}[البقرة:164]، الله أخبر بهذه القضية خبرًا، ثم أرشد إلى إثبات هذه القضية بالعقل، لينظر كل ذي عقل إلى الآيات الكونية التي تدل على هذه القضية، فأخبر -سبحانه وتعالى- أن الدليل على أنه الله الرحمن الرحيم، وأنه إلهٌ واحد لا يقبل شركة في ذلك، وأنه هو المألوه الذي يجب أن يؤله وحده، قال: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ}، ثم عدَّد عشر آيات وقال {لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}، لآيات لأدلة بينات لكل ذي عقل، هذه العشر آيات قال -جل وعلا- {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}[البقرة:164]، وهذا -إن شاء الله- يأتي شيء من تفصيله في الحلقة الآتية.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد.