الحمد لله ربِّ العالمين، الرحمن الرحيم, مالك يوم الدين, والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين, سيدنا ونبينا محمد, وعلى آله وأصحابه, ومَن اهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.
وبعد؛ فيقول الله -تبارك وتعالى- : {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا}[الفرقان:53], {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا}[الفرقان:54], {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا}[الفرقان:55], {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا}[الفرقان:56], {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا}[الفرقان:57], {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا}[الفرقان:58], {الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا}[الفرقان:59], ذَكَرَ الله -تبارك وتعالى- مِن جملة آلائه وإنعامه وآياته العظيمة، وقدرته على الخلق -سبحانه وتعالى-, قال -جلَّ وعَلا- : {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ........}[الفرقان:53], مرجهما بخلط ماء البحر العذب الفرات, المياه العذبة عندما يختلط ماؤها بماء البحر الملح الأُجَاج شديد الملوحة, ومع ذلك فإنَّ الله -تبارك وتعالى- جعل حاجزًا بين هذا الماء وهذا الماء؛ حتى لا تفسد الحياة, ولو أنَّ الله -تبارك وتعالى- أسقط هذه الحواجز وعدا ماء البحر المالح على المياه العذبة لفسدت الحياة, وكذلك لو عدلت المياه العذبة ظلت وهي تصب في هذه المياه المالحة حتى تحول البحر المالح إلى بحر عذب، فإنه تنتهي الحياة على ظهر هذه الأرض، لابد مِن وجود البحر المالح، لأنَّ هذا بحر هو غسالة العالم، هذا غسالة العالم، يأتي كل هذه القاذورات فالماء المالح هذه يحطمها ويحولها, وما جعله الله -تبارك وتعالى- فيه كذلك مِن هذه الخيرات العظيمة، السمات العظيمة التي هي معظم غذاء أهل الأرض فيها، ولو عدا الماء المالح على المياه العذبة لفسدت الأرض, ولم يصبح فيها مكان لنزرع فيها, {........وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا}[الفرقان:53], حِجْر لهذا وهذا، يظل عذب وهذا يظل مالح أبد الآبدين، كل هذا فعل الرب، {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ........}[الفرقان:54], ماء النطف, {بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا}, نطفة خَلَقَ الله-منها طفل ينسب إلى أبيه, إلى جده، وأصهار بالزواج مِن العوائل المختلقة، والشعوب المختلقة فيكونون مصاهرة، وهنا تنشأ قرابات بين هؤلاء وهؤلاء، {وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا}, -سبحانه وتعالى-.
ثم عقد الله -تبارك وتعالى- مقارنة فقال : {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ........}[الفرقان:55], يعبد المشركون مِن دون الله آلهة لا تنفع ولا تضر, لم تخلق شيء مِن هذا الكون، وهي غير نافعة لهم وغير ضارة لو تركوا عبادتها لا تضرهم، ولو عبدوها ما عبدوها فإنها لا تنفعهم، والعبادة أشرف ما يفعله الإنسان مِن العمل، أشرف عمل يمكن أنْ يعمله الإنسان العبادة، القيام والسجود والركوع وثمرة قلب، ومحبة ومودة لِمَن يعبد هذه عبادة تعطيها لشيء، أشرف عملك وأعلاه وأفضله تعطيها لما لا ينفعك ولا يضرك، أكبر جهل, أكبر عمى, قال-جلَّ وعَلا- : {........وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا}[الفرقان:55], الكافر هو مظاهر على مَن؟ على ربه، الظهير هو المعين، أي معين أعداء الله -تبارك وتعالى- فيظاهر على الله، أي يجتمع هؤلاء الكفار ويتآلفون ويحبون ويعادون مَن؟ يعادون الرب -تبارك وتعالى-, مَن؟ الرب، ربهم, إلههم, {عَلَى رَبِّهِ}, خالقه ومولاه وإلهه -سبحانه وتعالى-يعادونه, {........وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا}[الفرقان:55], وهذه سورة يبنها الله -تبارك وتعالى-, انظر كيف يعادي الكافر ربه خالقه ورازقه، الذي خَلَقَ له هذ ا الكون، فهو عاديه، ويظاهر عليه، ويوالي مَن يعاديه، ومَن يكفره -سبحانه وتعالى-، {........وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا}[الفرقان:55], لا إله إلا الله.
ثم وَجَّهَ الله -تبارك وتعالى- الخطاب إلى رسوله في هذا السياق؛ فقال له : {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا}[الفرقان:56], لست وكيلًا عليهم، وإنما أنت مُبَشِّر، والمُبَشِّر هو المُخْبِرُ بالأخبار السارة، المفرحة، الطيبة، وهذا لأهل الإيمان، النبي جاء مبشرًا لأهل الإيمان، وأهل الطاعة، بنعمة الله وفضله وإحسانه، {وَنَذِيرًا}, للعالمين ينذر الكل، ينذر العالمين, يخوفهم مِن عقوبة الرب -تبارك وتعالى- هذه مهمة النبي -صلى الله عليه وسلم-، أي كأن الله -تبارك وتعالى-يقول له هذه مهمتك، ليس مهمتك أنْ تجبرهم على الإيمان, أنْ تحملهم إليه، أنْ ترهديهم هذا أمر إلى الله، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا}[الفرقان:56], {قُلْ}, أي لهم لهؤلاء الكفار, {.........مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا}[الفرقان:57], أي عندما دعوتكم بهذه الدعوة إلى الإيمان بالله -تبارك وتعالى-, وفيها نجاتكم وفلاحكم وسعادتكم، لم أطلب أجرًا على هذا، لم أطلب منكم أجرًا تعطوني أجرة على هذه الدلالة، وهذا البيان بالطريق الذي به سعادتكم ورفعتكم وشرفكم ومجدكم وعزكم ونجاتكم مِن العذاب الأخروي، فالدلالة على هذا مِن أعظم أنواع الجميل والنفع والبر والخير الذي ينفع به إنسان إنسان، فما جاء به الرسول مِن ربه -تبارك وتعالى- للناس أعظم شيء، أعظم دعوة إلى الفلاح، وهو لا يطلب على ذلك أجرًا، {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ........}[الفرقان:57]، وإذن ما الذي يوقفكم، أي ليس هناك عائق يَحُولُ بينكم وبين الإيمان بالله - تبارك وتعالى-؛ لأنكم لن تدفعون أجرة في هذا، لا يوجد خراج سيؤخذ منكم في مقابل هذا، وبالتالي تهربون مِن الدين؛ لأنه مطلوب منكم أنْ تدفعوا ضريبة على الدخول فيه لا، {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ........}[الفرقان:57], ثم قال -جلَّ وعَلا- : {........إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا}[الفرقان:57], ليس أجر, ولكن تدقع منك لنفعك, {........إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا[الفرقان:57], فإذا أنفق في سبيل الله؛ فهذا أمره عائد عليه، ولا يطلب الرسول منه شيء،: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا}[الفرقان:57]، فإنَّ كل ما ينفقه هو عائد عليه.
ثم قال -جلَّ وعَلا- لرسوله : {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ........}[الفرقان:58], {تَوَكَّلْ}, سَلِّم أمورك للرب -سبحانه وتعالى-, والتوكل على الله -تبارك وتعالى- هو مَن تسليم الأمر إليه، واعتقاد أنَّ الله هو الذي بيده الأمر كله، وبالتالي جعلوا الأمل، ومحط الرحل وكل ما يتمناه الإنسان هو عند الله -تبارك وتعالى- فتوكل عليه، سلم أمرك له -سبحانه وتعالى-, ووصف الله -تبارك وتعالى- نَفْسَهُ بأنه {الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ}, وهذا أيضًا تعريض بآلهة الكفار، وأنها آلهة مخلوقة ميتة, وأنَّ مَن توكل عليها تخزله؛ لأنها لا تنفعه، وأما المؤمن فإنه متوكل على الله -سبحانه وتعالى-, {الْحَيِّ}, الحياة اللائقة به -سبحانه وتعالى-, ولا شك أنَّ حياة الله -تبارك وتعالى- غير حياة المخلوقات، فإنه حياته مِن ذاته -سبحانه وتعالى-, وليست باعتماده -جلَّ وعَلا- على غيره، الله لا يعتمد على غيره في شيء -سبحانه وتعالى-, هو الحي القيوم القائم بَنَفْسِهِ، المقيم لغيره -سبحانه وتعالى-, وأما الإنسان فحياته إنما هي بغيره، لا يحيا إلا بغيره، فالله هو الذي يحيه، وخَلَقَ الله -تبارك وتعالى- مِن الأسباب مَا يُبْقِي هذه الحياة، مِن الحرارة المناسبة، ومِن الرطوبة المناسبة، ومِن الطعام والشراب والمأوى واللباس, كل هذا, لا يحيا إلا باجتماع هذه الظروف والأسباب التي يخلقها الله -تبارك وتعالى- له؛ لِتُبْقِي حياته، وأما حياة الرب -تبارك وتعالى- فإنَّها حياة ذاته -جلَّ وعَلا-, هو الحي بذاته -سبحانه وتعالى-, الغني عن كل ما سواه -جلَّ وعَلا-, {الَّذِي لا يَمُوتُ}, لا يدركه الموت، الإنس والجن يموتون، والله -تبارك وتعالى- هو الحي الذي لا يموت، {وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ}, {سَبِّحْ}, نَزِّه، التسبيح هو التنزيه، أي نَزِّه الله -تبارك وتعالى- عن كل نقص وسوء، الله منزه عن الزوجة، عن الولد، عن الشريك، عن الكفر، عن الند, عن النظير, أنْ يكون له ند أو نظير، عن كل ما يعتري هذا المخلوق مِن نَقْص الموت، الغفلة، النسيان، الظلم، سبحه -سبحانه وتعالى-, {بِحَمْدِهِ}, حال كونك متلبسًا بحمده، وحمد الله إثبات المحامد له, ما يحمد الله -تبارك وتعالى- عليه مِن صفاته وأفعاله -سبحانه وتعالى- وإنعامه وأفضاله، فهو الله الذي لا إله إلا هو -سبحانه وتعالى- وهو الرحمن الرحيم، وهو الغفور الودود، كل صفاته حسنى -سبحانه وتعالى-، له الأسماء الحسنى، كل صفاته جميلة لا نقص في صفةٍ مِن صفاته، ولا في اسم مِن أسمائه -سبحانه وتعالى-؛ فيحمد الله -تبارك وتعالى- لأسمائه وصفاته وإنعامه وإفضاله -سبحانه وتعالى-, {وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ}, ثم : {........وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا}[الفرقان:58], معنى أنه -سبحانه وتعالى- كفى بالله -تبارك وتعالى- خبيرًا بذنوب عباده، أي أنه لا يحتاج الرب -تبارك وتعالى- إلى مَن يرشده, ومَن يعلمه، ومَن يخبره بذنوب عباده، فإنه كافي جميع هذا؛ لأنَّ علمه -سبحانه وتعالى- محيط بكل خَلْقِهِ، لا يعزب عنه مِن خَلْقِهِ صغير ولا كبير -سبحانه وتعالى-, {........لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}[سبأ:3], فذنوب هؤلاء العباد المجرمون، المعاندون، الرادون لكلام الله -تبارك وتعالى-, الهاجرون لهذا القرآن، المستهزئون برسول الله -تبارك وتعالى-, الذين يقولون : {........أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا}[الفرقان:41], فهذه ذنوبهم العظيمة الله يعلمها، الله يعلمها -سبحانه وتعالى- فالله يطمئن رسوله -صلى الله عليه وسلم-، بأنه يكفي به, {كَفَى بِهِ}, -سبحانه وتعالى-, {بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا}, الخبرة هي العلم الدقيق بكل ما يعملون -سبحانه وتعالى-، فما يخفونه يعلمه الله، وما يبدونه يعلمه الله -تبارك وتعالى-.
ثم قال -جلَّ وعَلا- : {الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ........}[الفرقان:59], آية جامعة في ختام هذا الفاصل العظيم مِن بيان آيات الله -تبارك وتعالى- في الخَلْقِ؛ فقال الله الحي الذي لا يموت : {الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا........}[الفرقان:59], خَلْق إيجاد مِن العدم، وتقدير, قَدَّرَهُا أعطى كل شيء قدره, السموات بما فيها كلها، قد أعطى كل جزئية منها خلقها -سبحانه وتعالى-, هذه النجوم التي هي دون السماء، كل شيء قدره ومقداره، الشمس بمقدارها، القمر بمقداره، هذا بمقدار كل شيء بمقداره؛ فالله خلقها، أخرجها مِن العدم ، وأعطى كل شيء مِن هذا مقداره -سبحانه وتعالى-، هذا خَلْقُ الله للسموات والأرض، فهو {........الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى}[طه:50], أعطى له خَلْقُهُ مِن إبرازه العلم وتقديره، ثم هداه بعد ذلك سبله, {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ}[الزمر:62], {الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ........}[الفرقان:59], قال -جلَّ وعَلا- : {فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ}, مِن أيام الله -تبارك وتعالى- وليست مِن أيام هذه الدنيا، فإنَّ الدنيا جزئية صغيرة مِن هذا الخَلْق مخلوقة, ولها يومها المعلوم، وهو جريان الليل والنهار عليها مرة واحدة، إذا جرى الليل والنهار عليها هذا يوم، فهذا يوم الأرض, وأما هذه الأيام التي خَلَقَ الله فيها السموات والأرض فإنها خلقها -سبحانه وتعالى- بأيامه هل هي اليوم بألف سَنَة كما هي أيام الله -تبارك وتعالى-, {........وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ}[الحج:47]، أو هي كيوم القيامة الذي طوله خمسين ألف سَنَة، {........فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ}[المعارج:4], {فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا}[المعارج:5]، أم أنها أيام بطول غير الأطوال التي ذكر الله -تبارك وتعالى- لنا، نقول الله تعلى أعلم بمقدار هذه الأيام الست التي خَلَقَ الله -تبارك وتعالى- فيها السموات والأرض, {الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا........}[الفرقان:59]، ما بين السموات والأرض مِن هذه المخلوقات، فما بين السموات والأرض فيه سحب، فيه هذه طبقة هواء الموجودة، فيه خَلْق لا نعلمه، فيه بعد ذلك النجوم والكواكب والشموس، فيه هذه المجرات العظيمة ما بين السموات والأرض، وما بين كل سماء وسماء، ما هو كل هذا, أي ما بين السموات والأرض خَلَقَهُ الله -تبارك وتعالى-, أي أتم الله -تبارك وتعالى- خَلْق هذه المخلوقات، كلها في ستة أيام، {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ}، ثم بعد ذلك استوى على العرش، الاستواء معلوم في اللغة وهو العلو والارتفاع ، وأنَّ الله -تبارك وتعالى- على مخلوقاته وعلى عرشه، -سبحانه وتعالى-, {عَلَى الْعَرْشِ}، العرش هو سقف هذه المخلوقات، الأرض, سبع سموات طباقًا طبقة فوق طبقة، ثم كرسي الله -تبارك وتعالى-, ثم عرشه الذي هو سقف كل هذه المخلوقات، والله-تبارك وتعالى- فوق عباده -سبحانه وتعالى-, {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ}[الأنعام:18]، {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ}, {مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ}[المعارج:3], {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ}[المعارج:4], {فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا}[المعارج:5], فالملائكة والروح يعرجون إلى الله -تبارك وتعالى-, الأمر يتنزل مِن الله -تبارك وتعالى- في السموات والأرض، {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا}[الطلاق:12], فالله -تبارك وتعالى- مستوٍ على عرشه، وعرشه فوق سبع سموات -سبحانه وتعالى-, {الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ........}[الفرقان:59]، هذا اسمه هو الرحمن -سبحانه وتعالى-, {الرَّحْمَنُ}, الذي امتلأ بالرحمة، أصل هذا الوصف في لغة العرب اسم الفاعل هذا فعلان يأتي دائمًا للامتلاء, يقول شبعان وجوعان وفرحان غير شَبِع وفَرِح وجائع, فإذا قيل بألف والنون يدل على الامتلاء مِن الوصف، والرب -سبحانه وتعالى- هو الرحمن؛ وذلك أنَّ رحمته -سبحانه وتعالى- وسعت كل خَلْقه، كل خَلْقِ الله -تبارك وتعالى- مخلوق ويعيش في رحمته -سبحانه وتعالى-, الرحمة العامة التي أحاط الله -تبارك وتعالى- بها هذا الوجود، فكل موجود مِن النملة الصغيرة إلى المجرة الكبيرة، إلى هذا، كلها قد نالته الله -سبحانه وتعالى-, انظر رحمة الله -تبارك وتعالى- لهذا المخلوق الضعيف خَلَقَهُ, هداه سبله، عرفه طرق حياته, كيف يحفظ بيضه، كيف يحفظ صغاره, كيف يحمي نَفْسَهُ, كل شيء قد نالته رحمة الله -تبارك وتعالى- مهما كان، كما في الحديث : «إنَّ لله مائة رحمة، أنزل بها واحدة يتراحم بها الخلق، فمنها ما ترفع منه الفرس رجلها عن ابنها»، هذه الفرس تلد ابنها المُهْر الصغير قبل أنْ تشتد قوائمه ليقوم, وهو مازال على الأرض تلحسه وتنظفه، ولو جاءت رجلها علي، فإنها ترفع رجلها عنه، رفع رجلها، رفع الفرس رجلها عن ابنها، هذا مِن الرحمة الذي خلقها الله -تبارك وتعالى- في هذا المخلوق الأعجم ما يتكلم, ولكن خَلَقَ الله في قلبه الرحمة لصغاره؛ فرحمة الله -تبارك وتعالى- قد وسعت كل شيء، ورحمته في الآخرة -سبحانه وتعالى- خاصة بالمؤمنين فقط، {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا........}[الأعراف:156], أي في الآخرة, وقال -جلَّ وعَلا- لموسى قال : {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ}[الأعراف:156], فهؤلاء أهل الإيمان، وأهل التقوى هم الذين تنالهم رحمة الله الخاصة، هذه رحمة الله الخاصة بعبادة المؤمنين -سبحانه وتعالى-، فهو الرحمن، خَلْق هذا الخلَقْ كله برحمة الله -تبارك وتعالى-, الشمس مِن رحمته, وضعها في مكانها على هذا النحو إنما هو مِن رحمة الله -تبارك وتعالى-؛ لأنْ لولا أنَّ الله -تبارك وتعالى- رحمنا بهذه الشمس لما أضاء لنا هذا الوجود الذي نحن فيه، ولما وصلنا هذا الدفء الذي نعيش فيه، ولا نَبَتَ لنا نَبْت، ولا استقرت بنا حياة برحمة الله -تبارك وتعالى-, برحمة مِن الله -تبارك وتعالى- القمر مِن رحمة الله -تبارك وتعالى- فمنافعه العظيمة لأهل الأرض منافع عظيمة جدًا, وهكذا كل جزئية مِن الخلق إنما هي مِن رحمة الله -تبارك وتعالى-, الله رحم عباده بهذا الخلق، فهو الرحمن الذي وسعت رحمته -سبحانه وتعالى- كل خَلْقِهِ، كل مخلوقاته, {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا}, ولا خبير بالرحمن إلا الرحمن, لا يعلم الله على الحقيقة إلا الله؛ فالرحمن هو الذي يخبرنا عن نَفْسِهِ -سبحانه وتعالى-، {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا}, أي نفسه -سبحانه وتعالى-؛ لأنَّ الخبير بالله هو الله, ما يعلم الله على الحقيقة إلا الله -تبارك وتعالى-, والله هو الذي يخبرنا عن أسمائه، وعن صفاته -سبحانه وتعالى-، هذه إنعامه وأفضاله، يخبرنا بها تفضلًا منه -سبحانه وتعالى- هذا مِن فضله العميم, {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا}[الفرقان:1], هذا الفرقان النازل, تعريف العباد بربهم وإلههم وخالقهم أعظم نعم الله -تبارك وتعالى- عَظُمَت بركات الرب -تبارك وتعالى-, يخبرنا الله -تبارك وتعالى- عن أسمائه، وعن صفاته على هذا النحو؛ فَنُجِلُّهُ ونعبده ونشكره ونوحده -سبحانه وتعالى-، ونعرف الطريق إليه، ونسبحه ونُعَظِّمُهُ، ونحمده -تعالى الله تبارك وتعالى- اللهم لك الحمد على إنزال هذا الكتاب العظيم، على إنزال كتابك, إنزال كلامك علينا حتي يعرفك العباد -سبحانه وتعالى- فيسبحوك ويشكروك ويحمدوك ويذكروك -سبحانه وتعالى-, يحمدوك بما أنت أهل له, تعاليت ربنا -سبحانه وتعالى-، أنت الرب, الإله, العظيم -سبحانه وتعالى-, {........الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا}[الفرقان:59], اللهم لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك, سبحانك لا نحصى ثناءا عليك كما أثنيت على نفسك، فلك الحمد ولك الشكر.
ثم قال -جلَّ وعَلا- : {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا}[الفرقان:60], بعد هذا البيان العظيم مِن الرب -تبارك وتعالى- لأسمائه وصفاته، يُبَيِّنُ الله حال هؤلاء المجرمين, الكافرين أنهم إذا دعوا إلى السجود لربهم الرحمن -سبحانه وتعالى-, خالقهم وخالق هذا الكون لهم، الرب, الإله الذي لا إله إلا هو -سبحانه وتعالى-, المتفضل عليهم بكل هذه النعم -سبحانه وتعالى- جهلوها, {قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ}, لا نعرف أنَّ الرحمن اسم مِن أسماء الله، ولا صفة مِن صفات الله، قالوا لهذا تجاهل للرب -تبارك وتعالى-، جهلوا الرب –تبارك وتعالى- وجهلوه, {قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا}, تعالٍ منهم أنْ يسجدوا لله، والسجود لله مِن حقه -جلَّ وعَلا-،فإنَّ مِن حق الرب التي خلقنا هذا الخلق، وأنعم علينا هذه النعم، ورحمته وسعت كل شيء، أنَّ هذا السجود مِن حقها إذا قيل لنا اسجدوا له يجب أنْ نسجد له, وأنْ ونُعَظِّمه -سبحانه وتعالى-, وأنْ نعبده وحده لا شريك له، فهذا أدني ما يقوم به العبد نحو إلهه وربه وخالقه ومولاه -سبحانه وتعالى ، {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ}, لهؤلاء الكافرين, الجاحدين, الممتنعين, {قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا}, أي بالسجود له الرب, الرحمن، {وَزَادَهُمْ نُفُورًا}, زادهم دعوة الله -تبارك وتعالى-, دعوة رسوله لهم بالسجود لله {نُفُورًا}, نفورًا مِن السجود لله؛ لأنهم أنهم يرون أنَّ هذا الفعل عندهم مِن أقبح الأفعال أنْ يضع جبهته في مكان قدميه، وأنْ يسجد لله، {وَزَادَهُمْ نُفُورًا}, أي الأمر بعبادة الله بالسجود له، والحال أنَّ السجود لله -تبارك وتعالى- إنما هو ترجمة لبيان ضآلة هذا الإنسان, وصغره نحو إلهه وخالقه ومولاه -سبحانه وتعالى-, وكذلك شكران للرب، ترجمة عملية لمعنى الشكر لله، وتسبيح لله -تبارك وتعالى- وتعظيمه؛ فالرب يستحق هذا, هو أهل لهذا المخلوق الضعيف، المحتاج، الفقير إلى الرب -تبارك وتعالى-، والقيام بإجلال هذا الرب العظيم -سبحانه وتعالى-، ومِن رحمة الله -تبارك وتعالى- أنْ جعل السجود له، وهو أعظم الأعمال التي يحبها الله -تبارك وتعالى- مِن العبد، ويقترب مِن الله -تبارك وتعالى-, أقرب ما يكون العبد مِن ربه وهو ساجد، فيقربه الله -تبارك وتعالى-, {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى}[العلق:9], {عَبْدًا إِذَا صَلَّى}[العلق:10], {أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى}[العلق:11], {أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى}[العلق:12], {أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى}[العلق:13], {كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ}[العلق:15], {نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ}[العلق:16], {فَلْيَدْعُ نَادِيَه}[العلق:17], {سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ}[العلق:18], {كَلَّا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ}[العلق:19], السجود قُرْبَة مِن لله-تبارك وتعالى-, أقرب ما يكون العبد مِن ربه وهو ساجد، {قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ}, دعوة الله -تبارك وتعالى- لهم بالسجود له, {نُفُورًا}, نفورًا مِن الدين، والحال أنَّ هذا الواجب كان يجب المسارعة إلى تنفيذ أمر الله -تبارك وتعالى- عندما يعلموا آيات الله -تبارك وتعالى-، وعندما علموا إنعامه وإفضاله عليهم، أنْ يبادروا بالسجود له تعظيم له -سبحانه وتعالى-.
ثم أيضًا فاصل آخر وجواب لهؤلاء الظالمين الذين أبوا أنْ يسجدوا لله -تبارك وتعالى-, ونفروا نفورًا عظيمًا مِن دعوة الرسول لهم للسجود لله، أنْ يعرفهم الله -تبارك وتعالى- مَن هو الرحمن، {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا}[الفرقان:61], إعادة مرة ثانية لهذا الفعل عَظُمَ خير الله -تبارك وتعالى- وبركاته؛ فالله -تبارك وتعالى- تَبَارَكَ الله -عز وجل- بإنزال هذا القرآن، وتبارك الله -تبارك وتعالى- بهذا الخير، {الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا}, هذه الشواهد العظيمة، البرج هو البناء العالي، أنَّ هذه الأبنية العظيمة مِن هذه النجوم، الأقمار والشموس التي أنشأها الله -تبارك وتعالى- في السماء، وهذا لا يقدر عليه إلا الرب -تبارك وتعالى-، {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا}[الفرقان:61], فهذا مِن باب ذِكْر الخاص بعد العام، الشمس التي هي أضوء بالنسبة لأهل الأرض أضوء نجوم السماء وأعلاها منزلة، وأعظمها بناء، {وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا}, والسراج هو الضوء المشتعل، ضوء مشتعل، والنار ضوء مشتعل، وهذا أي تشبيهها بالسراج، هذا أيضًا مِن أسرار الخلق, علم الناس سر هذا السراج بعض أسراره في الوقت الحاضر، وكان في وقت التنزيل لا يعلم الناس الذين نزل عليهم هذا القرآن، الشمس وأنها سراج كما نعلمه الآن، {سِرَاجًا}, يضيء هذا الكون, {وَقَمَرًا مُنِيرًا}, قمر كذلك ولكنه مضيء بضوء غير ضوء السراج، وقد عَلِمَ الناس فيما بعد أنَّ شأن القمر جسم بارد، وتنعكس عليه الأضواء ، فيضيء الأرض بنوره فهذا, {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا}[الفرقان:61], فعل الرحمن -جلَّ وعَلا-.
ونعود إلى هذه الآيات -إنْ شاء الله- في الحلقة الآتية, أقول قولي هذا, أستغفر الله لي ولكم مِن كل ذنب, والحمد لله رب العالمين.