الجمعة 29 ربيع الآخر 1446 . 1 نوفمبر 2024

الحلقة (442) - سورة الفرقان 68-77

الحمد لله ربِّ العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين, سيدنا ونبينا محمد, وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه, وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد؛ فيقول الله -تبارك وتعالى- : {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا}[الفرقان:68], {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا}[الفرقان:69], {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}[الفرقان:70], {وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا}[الفرقان:71], سياق هذه الآيات في بيان الرب -سبحانه وتعالى- لصفات عباده الذين نسبهم إلى نَفْسِهِ؛ فقال : {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا}[الفرقان:63]، وجاء هذا السياق في رد الرب -تبارك وتعالى- لتعنت الكفار, المشركين, الذين {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا}[الفرقان:60], ازدادوا نفورًا أنْ يسمى الله -تبارك وتعالى- باسم الرحمن، الله مِن أسمائه وهو الرحمن على الحقيقة التي وسعت رحمته كل شيء، فكل هذا الخلق مَن أثار رحمته -سبحانه وتعالى- بث رحمة مِن مائة رحمة مِن رحماته في هذا الخَلْق يتراحم بها العباد، حتى منها ما ترفع به الفرس رجلها عن ابنها، مخافة أنْ تقتله هذا مِن رحمته -سبحانه وتعالى- فخلق هذا الخلق مِن رحمته، رزقهم، حياتهم، نشأتهم ، الشمس مِن رحمته، والقمر مِن رحمته، كل هذا الخَلْق مِن رحمته -جلَّ وعَلا-؛ فقال -جلَّ وعَلا- : {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا........}[الفرقان:61], هذا الرحمن -سبحانه وتعالى-، {........وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا}[الفرقان:61], {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا}[الفرقان:62], {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ}, مَن هو الرحمن -سبحانه وتعالى- فهذا خَلْقُهُ -سبحانه وتعالى-.

ثم أضرب الله -تبارك وتعالى- عن هؤلاء المعاندين, وقال : {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا}[الفرقان:63], {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا}[الفرقان:64], {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا}[الفرقان:65], {إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا}[الفرقان:66], إلى أنْ قال الله -تبارك وتعالى- معددًا صفات هؤلاء الطيبين, الطاهرين، عباده -سبحانه وتعالى- عباد الرحمن، نسأل الله -تبارك وتعالى- أنْ جعل لنا منهم, قال : {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ........}[الفرقان:68]، فهم عابدون لله وحده -سبحانه وتعالى-، الدعاء هو أشرف وأعلى أنواع العبادة للرب -تبارك وتعالى-, فلا يدعون إله آخر مع الله -تبارك وتعالى-, {وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ}, هذه الجريمة الثانية الكبرى هم مبرءون منها, أنهم لا يقتلون النفس التي حرم الله، حرم الله -تبارك وتعالى- النفوس التي حرم الله قتلها النفس المسلمة، إذا شهد الإنسان أن لا اله إلا الله, وأنَّ محمدًا رسول الله؛ تعصم ذمه بأمر الله -تبارك وتعالى- هو نفس معصومة الدم، ويصبح العدوان عليها عدوان على أمر الله -تبارك وتعالى-, وقد توعد الله -تبارك وتعالى- مَن يعتدي على مسلم بالخلود في النار,  قال : {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا}[النساء:93]، فهم لا يفعلون هذه، يخبر الله -تبارك وتعالى- بأنهم لا يفعلون هذه الجريمة الكبرى, النفس الثانية التي حَرَّمَ الله قتلها، النفس المعاهدة، أي المسلمين وهم القائمون بأمر الله -تبارك وتعالى-, خلفاء الله في أرضه، إذا عاهدوا مشركًا وكافرًا، وأَمَّنُوهُ سواء أَمَّنُوهُ في بلدهم، أو أَمَّنُوهُ في بلده وكان بينهم عهد، فهذا كذلك تصبح معصومة الدم هنا بهذا العهد والأمان الذي يعطيه المسلمين، أي الذي يعطيه المسلمون لغيرهم، فالنفس المسلم لا تكون قول الله -تبارك وتعالى- : {إِلَّا بِالْحَقِّ}, أي ألا أنْ يكون قتل هذه النفس المعصومة بالحق، ولا يكون هذا بالحق إلا بالنسبة للمسلم إلا في إحدى ثلاث،  قال -صلى الله عليه وسلم- : «لا يحل دم امرئٍ مسلم إلا بإحدى ثلاث؛ النفس بالنفس، أنْ يَقْتُلَ عمدًا عدوانًا، فيقتل بهذا», ولابد أنْ يكون قتل هذا عمدًا عدوان، «وكذلك أنْ يكون ثيبًا فيزني», فالثيب الزاني هذا جزاؤه القتل مِن الله -تبارك وتعالى- وهو الرجم، «والجريمة الثالثة هي التارك لدينه المفارق للجماعة», فإذا ترك المسلم دينه، وفارق جماعة المسلمين، فإنه يُقْتَلُ كذلك، وقتله حق، فهذا {إِلَّا بِالْحَقِّ}, وأما بالنسبة للمعاهد فكذلك إذا نقض العهد مع المسلمين، هو أخذ أمانًا مٍن المسلمين فإذا نقض هذا الأمان كذلك بشروط هذا العقد، فقد أحل دمه بذلك, {إِلَّا بِالْحَقِّ}.

 ثم قال -جلَّ وعَلا- : {وَلا يَزْنُونَ}, الجريمة الثالثة التي برء الله -تبارك وتعالى- المؤمنين منها أنهم لا يزنون، والزنا بكل أشكاله هو الاستمتاع مِن الرجم بالمرأة، أو المرأة بالرجل، وقد بَيَّنَ النبي الزنا بكل صوره، فقال العين وزناها النظر، والأذن يزني وزناه السمع، فالاستمتاع إلى المرأة الأجنبية، والاستمتاع بحديثها زنا، والأنف يزني وزناه الشم، والفم يزني وزناه القُبَل، واليد تزني وزناها البطش، والنفس تمنى وتشتهى، تمني النفس واشتهائها لهذا زنا، والفرج يصدق ذلك أو يكذب، فهذه كلها الأنواع، لكن الزنا الأكبر الفرج، ويستتبع هذا كله هذا تابع لزنا الفرج، قال -جلَّ وعَلا- : {وَلا يَزْنُونَ}, نفى عنهم هذا زنا، والزنا لا شك فيه أنه جريمة، وقد جاء مصداق هذه الآية، ما يصدق هذه الآية مِن كلام النبي -صلوات الله والسلام عليه- لما سئل في حديث عبدالله بن مسعود ، قلت يا رسول أي الذنب أعظم ، قال : «أنْ تجعل لله ندًا وهو خلقك»، فأنْ يجعل العبد لله ند، والله قد خَلَقَهُ وهو الشرك بالله -تبارك وتعالى- فهذا أعظم ذنب، قلت ثم أي، قال : «أنْ تقتل ولدك مخافة أنْ يطعم معك»، القاتل والقتل كله حرام، لكن قتل الولد أشد، وكذلك قتله مخافة أنْ يطعم معه، لهذا العلة الشديدة، ثم قال النبي -صلى الله عليه وسلم- : قلت ثم أي، قال : «أنْ تزاني حليلة جارك»، الزنا كله حرام لكنه في الجارة يكون أشد حرمة، وهذا مصداق لقول الله -تبارك وتعالى- أو مطابق، أو بيان لقول الله -تبارك وتعالى- : {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ........}[الفرقان:68]، ثم قال -جلَّ وعَلا- : {........وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا}[الفرقان:68], {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ}, هذا الذي {ذَلِكَ}, هذه الجرائم المشار إليه, {يَلْقَ أَثَامًا}, يلقَ الإثم، وهذا يلقَ أثاما الإثم نفسه, وجريمة الإثم، فيلقَ أثاما يستبع هذا إثم، لأنَّ المعصية تورث المعصية، وكذلك يلقَ نتيجة هذا الإثم عند الله -تبارك وتعالى- في الدنيا والآخرة، {يَلْقَ أَثَامًا}.

 ثم بين الله -تبارك وتعالى- نتيجة هذه الآثام قال : {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا}[الفرقان:69], {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ........}[الفرقان:69], يأخذ عذاب ضعف وهو الزيادة عليه يوم القيامة, {يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ}, يمكث فيه مكوثًا لا ينقطع، {وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا}, {إِلَّا مَنْ تَابَ}, وقد جاء فيه تفصيل عذاب الآخرة أنَّ الذي يخلد خلودًا لا ينقطع، هو الذي يموت على الشرك والكفر بالله -تبارك وتعالى-, وأما ما دون ذلك، فهو محل مغفرة الله -تبارك وتعالى- إنْ شاء، كما قال -جلَّ وعَلا- : {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ........}[النساء:116]، فمن شاء الله -تبارك وتعالى- أنْ يغفر له ما دون الشرك غفر له، إما بحسنات مكفرة، وإما يكفر الله -تبارك وتعالى- عنه ببعض ما يصيبه في مِن عذاب القبر، ومِن عذاب الموقف، ومِن عذاب النار، فإنَّ النار كذلك، قد يعاقب بها المؤمن على بعض الكبائر, ثم يخرجه -تبارك وتعالى- بشفاعة الشافعين، ثم بشفاعة رب العالمين -سبحانه وتعالى- لا يبقى في النار إلا مَن لا خير فيه بالكلية، ومَن مات على الكفر والشرك، {وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا}.

ثم قال -جلَّ وعَلا- : {إِلَّا مَنْ تَابَ}, أي في الدنيا, {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}[الفرقان:70], هذا مِن رحمة الله -تبارك وتعالى- بعباده المؤمنين, وبعباده كلهم -سبحانه وتعالى- رحمة عامة لكل أحد, أنه مَن تاب عن الشرك والكفر، وعن المعاصي، في ما دون الشرك والكفر، {إِلَّا مَنْ تَابَ}, {تَابَ}, رجع، التوبة هي الرجوع، رجع إلى الله -تبارك وتعالى-, وأقلع عن هذا الذنب، {وَآمَنَ}, بالله -تبارك وتعالى- فإقلاعه كان عن إيمان بالله -تبارك وتعالى-, إيمان برسالته, إيمان باليوم الآخر، {وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا}, هذا دليل ليصبح دليل إيمانه، {وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا}, مِن الصلاة والصيام والزكاة والحج، فهذا الذي أقلع عن هذه الذنوب، ثم توجه إلى العمل الصالح، قال -جلَّ وعَلا- : {فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍيبدلها الله -تبارك وتعالى- بعد أنْ كانت سيئات لهم، على هذه السيئة كذا وكذا وكذا، فإنَّ الله -تبارك وتعالى- يعطيهم أجور عليها يوم القيامة، {فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وتبديل هذه السيئات بالحسنات؛ لأنه تاب وصلحت توبته، فكأنه كَفَّرَ عن هذه فكلما تذكر هذا الأمر الذي كان مِن هذا الجرائم ندم وتحسر، يصبح يأخذ أجر، فكأنها أصبحت هذه المعصية التي كانت معصية إنما هي أصبحت وسيلة خير له؛ لأنه بتذكرها والتألم لذلك، والرجوع إلى الله -تبارك وتعالى- والاستغفار مِن هذا، لعله يبكى عما سلف منه، فهذا كله واقع منه هذا الأمر، فإنَّ الله -تبارك وتعالى-يثيبه، على هذه التوبة بأنْ يبدل الله -تبارك وتعالى- ما سلف مِن عمله هذا السيء، فيجعله الله -تبارك وتعالى- حسنات، فقد جاء في الحديث : «أنَّ الله -تبارك وتعالى- يأتي بالمؤمنين يوم القيامة, ثم يقرون بذنبهم فيذكر الله -تبارك وتعالى- له بعض ذنوبه يقول له : أتذكر كذا، أتذكر كذا، أتذكر كذا، فيقول يا رب لا فيقول : إني قد سترتها عليك في الدنيا, واليوم أغفرها لك», ثم كذلك يأتي الله -تبارك وتعالى- بالعبد المؤمن فيقروه بذنوبه يقوله فعلت كذا, فعلت كذا، قد أبدلت لك هذه السيئات بحسنات، فينظر المؤمن في هذا الذي قرره الله -تبارك وتعالى به، ويرى أنَّ الله لم يذكر له سيئات كبرى كان قد فعلها، فيقول ذلك العبد وهذا مِن طبع ابن آدم  فيقول : ربي مالي لا أرى أعمال عملتها غير هذه، وذلك لم يرَ أنَّ الله -تبارك وتعالى- الأعمال التي ذكرها الله له، قد أبدلها الله حسنات، فكذلك يطمع في أنْ يذكر السيئات الكبرى، والحال أنَّ هذا الموقف هو موقف مادام أنَّ الله -تبارك وتعالى- قد ستر عليك فاسترها، لكن لما رأى أنَّ الله -تبارك وتعالى- يعطي على السيئات حسنات، فلما لا يذكر السيئات الأخرى كذلك، فيضحك الله -تبارك وتعالى- منه، ويعطيها الله -تبارك وتعالى- هذا مِن فضل الرب -جلَّ وعَلا- وإحسانه، {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}[الفرقان:70], صفته -سبحانه وتعالى- أنه غفور، والغفر هو الستر, أي أنه يستر ويتجاوز -سبحانه وتعالى- عن سيئة عبده المؤمن الذي تاب عليه، فلا يفضحه بها، ولا يحاسبه عليها، ولا يؤاخذه عليها، وإنما يغفرها الله -تبارك وتعالى- له بأنه يسترها ولا يجازيه عليها -سبحانه وتعالى-، بمعني أنه يعاقبه عليها, ولا يفضحه الله -تبارك وتعالى- بها، رحيم -سبحانه وتعالى- به فإنه يرى ضعفهم وفقرهم وعجزهم، ووقوع هذا منهم في حال ضعف، وحال جهل، فإذا انْتُشِلُوا وتوجهوا إلى الله -تبارك وتعالى- فإنّ الله يرحمهم -جلَّ وعَلا-، هذا مِن رحمته -جلَّ وعَلا-.

ثم قال -جلَّ وعَلا- : {وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا}[الفرقان:71]، الذي يتوب يُقْلِعُ عن الذنب بعد ذلك يلتزم بالطريق، فيعمل بالأعمال الصالحة، {........فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا}[الفرقان:71], هذا المتاب الحقيقي، أي متابًا حقيقيًا هذا الذي أصلح في ما بقي مِن العمر وأقلع عن هذه الذنوب، وهذه لم يعد إليها.

ثم قال -جلَّ وعَلا- : {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ........}[الفرقان:72], شهادة الزور إما شهادة حضور، أو إدلاء بالزور، والزور الكذب، سمي زور؛ لأنَّ الزور هو الميل، والكلام الكاذب مائل عن الحق، فهم لا يشهدون الزور، لا يقولون الكذب، {........وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا}[الفرقان:72], اللغو هو كل كلام لا فائدة منه، لا فائدة في الدين ولا في الدنيا, فهذا لغو ساقط، ولكنه غير الكذب، واللغو غير الكذب وغير الغيبة والنميمة هذه ذنوب، وإنما اللغو كلام لا إثم فيه, ولا نفع فيه، فيمرون كرامًا، أي أنهم كرامًا بكرامتهم وبنفاستهم فلا يدخلون في ما لا فائدة فيه، وهذا يدل على أنهم طيبون, مترفعون عن سفافس الأمور، وعن سقطها يترفعون بها, {........وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا}[الفرقان:72], {وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا}[الفرقان:73], أهل البصيرة، فهم أهل بصر وبصيرة، إذا ذكرهم مذكر بآيات الله -تبارك وتعالى-، جاءتهم آيات الله, {لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا}, كأن لم يسمعوها، {وَعُمْيَانًا}, كأن لم يروها, وإنما هم أهل يقظة, وأهل عِلْم, وأهل معرفة بالله -تبارك وتعالى- يتبصرون، يبصرون ويفقهون ما يسمعونه مِن كلام الله -تبارك وتعالى-، {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا}[الفرقان:74], {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا}, يا ربنا هذا في دعائهم, {هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ}, فهم يدعون الله -تبارك وتعالى- أنْ يحييهم الحياة الطيبة، الحياة الطبية في أنْ تكون زوجاتهم وذرياتهم قرة أعين منهم، قرة العين ما تَقَرُّ عليه العين، والعين القريرة هي العين الفرحة, المستبشرة, قرة عينك بهذا الأمر، إما قَرّ مِن القَرّ وهو البرودة، وعين الفَرِح باردة, وأما عين المحزون والمكلوم حارة، كما يقال : أحر مِن دمع المقلاة قليلة الأولاد، إذا مات ولدها وحيلها فإنه يكون دمعتها حارة جدًا، وكذلك القرارة فالعين الهادئة المطمئنة تكون مستقرة، وأما العين الخائفة فإنها تكون متحركة، فَقُرَّةُ العين هي راحتها وطمأنينتها، {هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ}, أي محل سرور، ومحل فرح، تقر به أعيننا أي نهنأ به, ونسعد به، وهذا لا يكون إلا إذا كانت الزوجات طيبات, طاهرات، عفيفات، محبات لأزواجهم، وكذلك الأولاد طيبون، طاهرون، مطيعون لآبائهم, أي اجعل زوجاتنا طيباتٍ، طاهراتٍ، عفيفاتٍ كما وصف الله -تبارك وتعالى- الزوجات الصالحات، وكذلك اجعل ما ترزقنا مِن الأولاد محل قرة أعين أي أنهم  مِن  أهل الصلاح والتقوي والعفة والكمال، وطاعة الوالدين أبرار، فاجعل لنا منهم قرة أعين لنا، تقر به أعيننا بهم في هذه الدنيا، ثم : {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا}, {وَاجْعَلْنَا}, أي يا رب, {لِلْمُتَّقِينَ},  الخائفين منك -سبحانه وتعالى-، التقوى هي الخوف مِن الله -تبارك وتعالى-، {إِمَامًا}, أي أئمة، وهذه مِن همتهم العظيمة وتوجههم إلى الله -تبارك وتعالى- أنْ يجعلهم الله -تبارك وتعالى- مِن أهل الإمامة في الدين, والإمام في الدين الفرد المقتدى به له مِن الأجر مثل أجور مِن اتبعه، فيطلبون الإمامة في الدين مِن أجل ما لذلك مِن الأجر العظيم، والنفع العظيم في الدعوة إلى الله -تبارك وتعالى-، والتوجيه إلى الخير لأنهم هم دعاة إلى هدى كان له مِن الأجر مثل أجور مَن تبعه، لا ينقص ذلك مِن أجورهم شيئًا، فيطلبون هذه المنزلة العظيمة مِن التقدم في الدين لا مِن أجل التَّرؤس، ومِن أجل العلو؛ فإنَّ هذا مِن أخلاق الإيمان، والأخلاق التي يحبها الله، وإنما  الله -تبارك وتعالى- يحب التواضع كما بدأه هنا، قال : {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا........}[الفرقان:63], وكذلك قال -جلَّ وعَلا- : {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا........}[القصص:83], طلب العلو هذا مِن صفة الطغاة المتجبرين، وإنما طلب المؤمن لأنْ يجعله الله -تبارك وتعالى- إمامًا في المتقين، {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا}, ليس مِن طلب العلو في الأرض, وإنما مِن طلب أنْ يكون داعيًا إلى الله -تبارك وتعالى- إمام مقتدى به، فرد يقتدي به الصالحون فيكون إمام في الصلاح والتقوى والزهد والتواضع، يترسمه الناس ويتخذونه قدوةً في ذلك، وإمامًا في ذلك فيكون له أجر مثل أجور مِن اتبعه، أي رغبتهم في هذا ليس للعلو في الأرض، وإنما رغبة في ما في هذا مِن الأجر العظيم، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- : «لا حسد إلا في اثنتين رجلٌ آتاه الله مالًا  فسلطه على هلكته في الحق، ورجلٌ أتاه الله الحكمة فهو يقضى بها ويُعَلِّمهَا»، آتاه الله الحكمة مِن عِلْمِ الكتاب، ومِن علم السُّنَة، فهو يقضى بها ويعلمها, فهذا إمام في الدين, فللإمامة في الدين فضلٌ عظيمٌ جدًا، لذلك طلبه هؤلاء، قالوا : {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا}, وإمامة المتقين مِن أشرف المنازل، إمام لِمَن؟ للمتقين، لأهل الخوق مِن الله -تبارك وتعالى-, قال -جلَّ وعَلا- : {أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا........}[الفرقان:75], {أُوْلَئِكَ}, هؤلاء المذكورين, الذين ذكروا مِن أول قول الله -تبارك وتعالى- : {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا........}[الفرقان:63], إلى هذا، قال : {يُجْزَوْنَ}, مِن الله -تبارك وتعالى- الفعل مبني لمجهول، والذي يجزيهم هو الله -تبارك وتعالى- على أعمالهم هذه، {الْغُرْفَةَ}, الغرفة هذه حجرات الجنة، قصورها عندما يقول الله : {الْغُرْفَةَ}, بالألف واللام  فهذا لأنَّ أمر عظيم جدًا، فالغرف قصور الجنة، هذه منازل عظيمة جدًا، والنبي يقول : «إنَّ أهل الجنة يتراءون الغرف فوقهم، كما تتراءون النجم البعيد، الغابر في الأفق في الدنيا»، انظر نحن هنا في الأرض، عندما نرى نجم بعيد آخر النظر، وهذا مِن بعده، كذلك ما بين درجة في الجنة ودرجة كما بين السماء والأرض، مِن بعد ما بين الدرجتين في الجنة، فهؤلاء الغرفة هي العالية بالألف واللام، الغرف العالية في جنة الله -تبارك وتعالى-, وقد أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أنَّ هذه الغرف «أنَّ في الجنة غرفًا يُرَى ظاهرها مِن باطنها، وباطنها مِن ظاهرها، فقال : هي لمن يا رسول الله، فقال هي لمن ألان الكلام وأفشى السلام، وصلى بالليل والناس نيام»، وكأن هذا وصف لهذه الأوصاف لعباد الرحمن، فعباد الرحمن أهل ليين في الكلام، {........وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا}[الفرقان:63]، وأفشوا السلام، وكذلك صَلُّوا بالليل والناس نيام، {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا}[الفرقان:64], فهي لهؤلاء, {أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ}, والغرفة هي غرف الجنة, قال -جل وعلا- : {بِمَا صَبَرُوا}, صبروا على أشياء كثيرة، صبروا على طاعة الله -تبارك وتعالى-، وعلى العبادة, والعبادة تحتاج إلى صبر، الصلاة فالحفاظ على الصلاة يحتاج إلى صبر، والصوم صبر، وإخراج الزكاة صبر, والجهاد في سبيل الله، فكل الطاعات تحتاج إلى صبر، وكذلك صبروا على أذى الكفار، هؤلاء الذين جاءوا ليسبونهم، يشتمونهم، يحتقرونهم، فصبروا كذلك على هذا الأمر، على أذى الكفار، ثم صبروا ذلك على ما يُخْتَبَرَونُ به ويُمْتَحَونَ في مجريات هذه الأيام، فإنَّ الله -تبارك وتعالى- يبتلى عبادة بما شاء، {........وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}[الأنبياء:35], فصبروا عن الحرمان، وصبروا كذلك على الأحداث التي يجريها الله -تبارك وتعالى- عليهم، {أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا........}[الفرقان:75], في الدين ، {........وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا}[الفرقان:75], الله أكبر, {يُلَقَّوْن}, المرة تلو المرة، {فِيهَا}, في هذه الغرف المستقرة في الجنة, {تَحِيَّةً}, تحيية، والتحية هنا تحية مِن الله -تبارك وتعالى، وتحية مِن الملائكة ، وتحية الله هي : {سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ}[يس:58]، وتحية مِن الملائكة عندما يقابلونهم على أبواب الجنة، وفي غرفها, كما قال -جلَّ وعَلا- : {........وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ}[الرعد:23], {سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ}[الرعد:24], فتقول الملائكة للمؤمنين : {سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ}[الرعد:24], نعم العاقبة الحسنة في أنْ تكون داركم هنا في الجنة، {وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً}, مِن الله -تبارك وتعالى-, الله يحييهم يسلم عليهم -سبحانه وتعالى-، وملائكته -جلَّ وعَلا- {وَسَلامًا}, أعظم شيء، لا أعظم مِن هذا، {خَالِدِينَ فِيهَا}, ماكثين في هذه الجنة، في هذه الجنة, مكثًا وإقامة لا تنقطع، ولا تنتهي، {........حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا}[الفرقان:76], لا مستقر، ولا مقام أفضل مِن هذا، {حَسُنَتْ}, هذه الغرف في الجنة مستقرًا لهم ومقامًا لهم, {........حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا}[الفرقان:76].

ثم وجه الله -تبارك وتعالى- في نهاية الأمر الخطاب لهؤلاء المعاندين، المستكبرين؛ فقال : {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا}[الفرقان:60], قال -جلَّ وعَلا- : {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا}[الفرقان:77], قل لهم : {مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي}, {يَعْبَأ}, يهتم ولا ليس لكم عند الله قدر ومقدار، {لَوْلا دُعَاؤُكُمْ}, أي لولا أنَّ الله -تبارك وتعالى- أنزل هذا القرآن ليدعوكم إلى الاستجابة والسير في طريقه، يقام عليكم الحجة, {فَقَدْ كَذَّبْتُمْ}, كذبتم مِن دعوة الله -تبارك وتعالى- التي جاءتكم في هذا الكتاب، وببلاغ هذا الرسول -صلى الله عليه وسلم-, {فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا}, العذاب, سوف يكون العذاب لكم, {لِزَامًا}, لازمًا لكم لا تفتكون عليه، وبهذا يرتبط آخر هذه السورة بأولها، فانظر هذا الفاصل الأخير مِن قول الله -تبارك وتعالى- : {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا}[الفرقان:60], ثم بين الله -تبارك وتعالى- عباده الذين يعبدونه, وما أعد له في نهاية المطاف، ثم  وجه الله -تبارك وتعالى- الخطاب الى هؤلاء المجرمين؛ فقال : {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ........}[الفرقان:77], لولا أنْ يدعوكم بهذا، فهذا اهتمام الله -تبارك وتعالى- بهم أنْ يدعوهم إلى الطاعة، وقد كذبتم ، إذن فاعلموا أنَّ العذاب سيكون لازمًا لكم.

بهذا ستنتهي السورة العظيمة؛ سورة الفرقان نسأل الله -تبارك وتعالى- أنْ ينفعنا بما فيها مِن العلم والإيمان والحكمة، وأنْ يجعلنا مِن عباد الرحمن الذين اختصهم واختارهم ليعبدوه -سبحانه وتعالى-, وأنْ يجعل مآلنا الجنة.

 أستغفر الله لي ولكم مِن كل ذنب, والحمد لله رب العالمين