الجمعة 29 ربيع الآخر 1446 . 1 نوفمبر 2024

الحلقة (443) - سورة الشعراء 1-14

الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله الأمين، سيد الأولين والآخرين, نبينا محمد, وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه, وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد ؛ فيقول الله -تبارك وتعالى- {طسم}[الشعراء:1], {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ}[الشعراء:2], {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}[الشعراء:3], {إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ}[الشعراء:4], {وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ}[الشعراء:5], {فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون}[الشعراء:6], {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ}[الشعراء:7], {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ}[الشعراء:8], {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}[الشعراء:9], {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}[الشعراء:10], {قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ}[الشعراء:11], هذه الآيات مطلع سورة الشعراء، بدأ الله -تبارك وتعالى- هذه السورة بهذه الحروف الثلاثة المقطعة، الطاء والسين والميم، {طسم}[الشعراء:1], وقد مضى قول أهل العلم في معاني هذه الحروف، وخلاصة أقوال أهل العلم في هذا الأمر، أنَّ هذا مِما استأثر الله -تبارك وتعالى- بعلمه، أو أنها تسمية لهذه السور، أو أنها حروف تنبيه، {طسم}[الشعراء:1], كأنها أقوال, أي انتبه أو اسمع ما يقال، أو أنها إشارة مِن الله -تبارك وتعالى- إلى هذه الحروف، حروف العربية, والتي نزل بها القرآن الكريم, وفي هذا إشارة إلى العرب، وتحدٍ لهم بأنه إذا كنتم مكذبين للنبي -صلوات الله والسلام عليه-, ومدعين أنه افترى هذا القرآن، فأَلِّفُوا كلامًا مِن هذه حروفكم, مِن هذه اللغة التي نزل بها هذا القرآن، أَلِّفُوا كلام يكون في مستوى هذا الكلام فصاحةً وبلاغةً وبيانًا، وقد تنزل الله -تبارك وتعالى- عنهم في هذا التحدي بدءًا : {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ}[الطور:34], بالقرآن كله، ثم : {فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ}, ثم تنزل بسورة, {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ}, ثم بسورة مِن مثله, {وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ}[البقرة:23], أو أنها كل حرف إنما يدل على كلمة بعده؛ فتكون اختصار كلمة مِن الكلمات مِن أسماء الله -تبارك وتعالى-.

{طسم}[الشعراء:1], {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ}[الشعراء:2]، إشارة مِن الله -تبارك وتعالى- إلى هذا القرآن، بالإشارة إلى البعيد تعظيمًا وتشريفًا لهذا الكلام العظيم المنزل مِن الله -تبارك وتعالى-, بيان أنه كتاب الله, ومُنَزَّلٌ مِنه -سبحانه وتعالى-، وأنه آيات كل قطعة منها آية، أي أنها الآية هي العلامة، علامة, دلالة واضحة أنَّ هذا الكلام كلام اللَه -تبارك وتعالى- بما فيه مِن الإعجاز في اللغة, وكذلك المعاني العظيمة التي اشتمل عليها هذا الكتاب العظيم مِن الله -تبارك وتعالى-، فهو خطاب عزة مِن الرب العزيز -سبحانه وتعالى-, {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ}, {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}[فصلت:42], وهو كذلك خطاب رحمة لعباده الله -تبارك وتعالى- المؤمنين، خطاب هُدَى، وخطاب بيان، خطاب حجة، وخطاب حكم مِن الله -تبارك وتعالى-، {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ}, هذا القرآن، وهو كتاب؛ لأنَّ الله -تبارك وتعالى- كتبه في السماء، وأنزله -سبحانه وتعالى- على قلب النبي -صلوات الله والسلام عليه-، وكُتِبَ في الأرض في هذا المصحف؛ ليكون أعظم كتاب مِن الكتب بل هو الكتاب، هو الكتاب لا ينبغي أنْ يُسَمَّى كتاب إذا أطلق كتاب إلا هذا الكتاب المتضمن لكلام الرب -سبحانه وتعالى-, {الْمُبِينِ}, المُبَيِّن كل معنى جاء به الكتاب، فقد بَيَّنَهُ الله -تبارك وتعالى- أعظم البيان، ونزل بهذه اللغة البينة الواضحة, {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ}[الشعراء:195], فتلك كتاب مبين، {الْمُبِينِ}, أي البَيِّن في نَفْسِهِ مِن بان بمعني ظهر, البين الظاهر، أو{الْمُبِينِ}, المُبْيِن مِن أبان ،أبان فهو مبين بمعنى أنه مُبَيِّن لكل ما نزل به، كما قال الله -تبارك وتعالى- : {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ}, هذه بداية وافتتاح, تنويه بهذا القرآن، وبيان أنه كتاب مبين مِن الله -تبارك وتعالى-, {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ}[الشعراء:2]، ثم بعد ذلك الدخول في موضوع هذه السورة, وهي تطمين النبي -صلوات الله والسلام عليه، وبيان أنَّ مشيئة الله -تبارك وتعالى- في هداية مَن يهدي مِن عباده، وإضلال مَن يضل قائمة، وأنَّ النبي مهما اجتهد في أمر, وحرص على هداية الناس، فإنَّ الأمر في النهاية راجعٌ إلى مشيئة الرب -تبارك وتعالى-، فإنَّ الرب -تبارك وتعالى- يطمئن نبيه, ويمسح أحزانه وهمومه, ويُبَيِّن له أنْ يعلم أنَّ تكذيب المكذبين وعناد المعاندين، إنما هو قائم بأمر الله -تبارك وتعالى-, وفي السورة تفصيل طويل لأحوال الذين كذبوا الرسل قبل النبي محمد -صلوات الله والسلام عليه-، بدءًا بموسى النبي -عليه السلام-، انظر حجته وآياته التي أنزلها الله -تبارك وتعالى-, وانظر الحصيلة بعد ذلك مِن قوم فرعون لم يؤمن له إلا رجل وامرأة مِن قوم فرعون, مؤمن آل فرعون, وامرأة فرعون التي آمنت له, وأصبح كل القوم بدءًا مِن الفرعون الأكبر إلى آخر تابع لم يؤمنوا له بالرغم مِن وضوح حجته، ومِن بيانها وسطوعها.

ثم بعد ذلك تمضى هذه السورة في بيان الرسالات، رسالةً رسالة، {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ}[الشعراء:105]، مِن نوح إلى هود إلى صالح -عليهم السلام- جميعًا, إلى لوط إلى شعيب، ويُبَيِّنُ الله -تبارك وتعالى- أنَّ هذه الرسل كذبت رسلها، والنتيجة التي كانت في النهاية، إنجاء الله -تبارك وتعالى- للمؤمنين، وإهلاكه -تبارك وتعالى- للظالمين, قال الله -تبارك وتعالى- بعد ذلك  لنبيه : {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}[الشعراء:3], {لَعَلَّكَ}, خطاب للنبي -صلوات الله والسلام عليه-، {بَاخِعٌ نَفْسَكَ}, قاتلٌ نفسك، {أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}, ألا يكون الذين أرسلت إليهم مؤمنين، وهذا كأنه خطاب مِن الله -تبارك وتعالى- لرسوله -صلوات الله والسلام عليه- ، أنْ يهون على نَفْسِهِ الأمر، أنْ ينبغي أنْ تهون على نفسك،  وأنك بما أنت فيه ستقتل نفسك، وقد بين أنَّ قتل النبي لِنَفْسِهِ هنا إنما هو بالحزن والغم لإعراض مَن يعرض عن دينه، كما جاء في قول الله -تبارك وتعالى- : {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا}[الكهف:6], أي أسفًا عليهم متأسف، والأسف هو الحزن الشديد العميق، ألا يؤمن الناس بهذه الرسالة, وهذا مِن إشفاق النبي -صلوات الله والسلام عليه- على مَن يكفر, وخوفه أنهم ملاقون عذاب الله -تبارك وتعالى-, وهو يعلم مقدار هذا العذاب الذي أعده الله -تبارك وتعالى- للمكذبين، فكان النبي يُغَمّ أشد الغم، ويحزن ويتأسف أشد الأسف الذي يجعله هذا الأسف مع الحزن الشديد ممكن أنْ يموت السفن وحزن منه -صلوات الله والسلام عليه-، كأن الله يقول له هون على نفسك،  {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}[الشعراء:3], أي حزنًا وأسفًا وغمًا على هؤلاء الكفار.

ثم بَيَّنَ الله -تبارك وتعالى- أنه لو أرادا أنْ يجعلهم يؤمنون بالقوة القاهرة لفعل -سبحانه وتعالى-, قال : {إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ}[الشعراء:4], {إِنْ نَشَأْ}, إذا شاء الله -تبارك وتعالى- وأراد الله تبارك وتعالى- على هؤلاء الكفار أنْ ننزل عليهم {مِنَ السَّمَاءِ آيَةً}, علامة واضحة أنها مِن عنده -سبحانه وتعالى- آية قوية قاهرة، {........فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ}[الشعراء:4], تظل أعناقهم خاضعه لهذه الآية التي ينزلها الله -تبارك وتعالى-, كأنْ يرفع الله -تبارك وتعالى- عليهم جبلًا, كأنْ يقع عليهم عذاب مِن فوقهم فيؤمنوا ويزعنوا، يروا كِسْف مِن السماء ساقط عليهم سيهلكهم، أي آية مِن هذه الآيات القوية القاهرة، والله -تبارك وتعالى- قادرٌ عليها؛ عند ذلك سيكون أعناقهم خاضعة لهذه الآية، ويقولون ربي آمنا ورجعنا وتبنا إليك، فالله -تبارك وتعالى-, أي إذا أراد الله -تبارك وتعالى- أنْ يجعلهم يؤمنون بالقوة القاهرة فإنه يفعل -سبحانه وتعالى-, {إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ}[الشعراء:4].

ثم قال -جلَّ وعَلا- : {وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ}[الشعراء:5], أي أنَّ هؤلاء بَلَغَ بهم الكفر والعناد إلى هذا الحد, {وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَث........}[الشعراء:5], جديد، ذِكْر جديد ينزل مِن السماء، غَضّ، طري، نازل مِن الله -تبارك وتعالى- إلى رسوله الآن، نازل مِن الله -تبارك وتعالى- إلى رسوله الآن، نازل يقرؤه عليهم مِن النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولكنهم يعرضون عليه, ليس كلام قديم قد يجيء به مِن صحف الرسل السابقين، لا, وإنما كلام تكلم الله -تبارك وتعالى- به الآن، ونزله على قلب النبي محمد، ويأتيهم به، وقائمة الأدلة فيه، ومع ذلك هم عنهم معرضين، علمًا أنه كلام جديد نازل مِن الرب -تبارك وتعالى-, {وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ}[الشعراء:5], والمعرض هو الذي يعطي عرضه للأمر, أي أنه معرض عنه، وهذا دليل على شدة عنادهم، وعلى قسوة قلوبهم، هذا رسول الله يرونه بأعينهم، والأدلة كلها قائمة على صدقه، وعلى أمانته، يعلمون هذا مِن حقيقة قلوبهم، وأنه لا يمكن أنْ يتأتى مِن هذا النبي الطاهر كذب -صلوات الله والسلام عليه-، المُبَرَّء مِن كل عيب ونقص، أنْ يكون يأتي منه كذب, ويكذب على الله -تبارك وتعالى-،  ثم هذا القرآن المتحدى به دليله قائم، وهو يتحداهم ائتوا سورة مِن مثل هذا القرآن، ومع هذا يعلمون بأنَّ هذا كلام الله -تبارك وتعالى-, وهو جاءهم الآن، ويخاطبهم الرب -تبارك وتعالى- وهم يعرضون عنه، ماذا تريد بعد ذلك مِن هؤلاء الكفار الذين هذا حالهم مع ربهم -سبحانه وتعالى-, الذي يأتيهم بآياته ثم يعرضون عنه، {وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ}[الشعراء:5], قال -جلَّ وعَلا- : {فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون}[الشعراء:6]، {فَقَدْ كَذَّبُوا}, وقع هذا، وقع التكذيب منه؛ وإذن لابد أنْ يأتيهم العذاب، {فَسَيَأْتِيهِمْ}, هذا وعيد مِن الله -تبارك وتعالى-, {........أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون}[الشعراء:6]، الأنباء الأخبار العظيمة, {مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون}, أي أنباء هذا القرآن، الذي يستهزئون به، فإنَّ الله  توعدهم وتهدهم به بأنه {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ}, وتهددهم الله -تبارك وتعالى- بالعذاب العاجل، والعذاب الآجِل، كل هذا الذي تهددهم الله -تبارك وتعالى-به، فهذا سيأتيهم، سيأتيهم أنباء هذا القرآن الذي يتهددهم، جاء بوعيد الله، هذا الوعيد النازل في القرآن, مادام أنهم قد كَذَّبُوا بهذا القرآن سيأتيهم وعيد، {فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون}[الشعراء:6]، لأنه لا يأتي العذاب إلا بعد التكذيب وقد حصلوا، كما قال -تبارك وتعالى- في السورة التي قبل كذلك : {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ........}[الفرقان:77], دعاكم الله -تبارك وتعالى- إلى طريقه, {........فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا}[الفرقان:77], أي العذاب، يكون العذاب عن ذلك لازمًا,{فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون}[الشعراء:6].

ثم قال -جلَّ وعَلا- لهؤلاء الذين يطلبون الأداء ويعرضون, قال : {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ}[الشعراء:7], آية مِن آيات الله -تبارك وتعالى-, آية النبات، وهي بألوف الألوف أكثر مِن اثنين مليون أي اثنين ألف ألف نبتة موجودة على ظَهْرِ هذه الأرض، وذكرً وأنثى زوج، وكل شيء له مِن جنسه ألوان وأشكال، فالعنب أعناب وأجناس، والبرتقال وكل الفواكهة كذلك، والقمح أجناس وكل نوع، وكل جنس مِن هذه الأجناس فيه هذه الأزواج الكثيرة، {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الأَرْضِ كَمْ........}[الشعراء:7], العددية التكثيرية، {........كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ}[الشعراء:7], {كَرِيمٍ}, نفيس، مِن حيث الطعوم، والطيب، إنها طيبة حيث المنظر الجميل، انظر إلى الفاكهة عندما تُزْهِر، وعندما يونع شجرها، وعندما تبدأ الثمرة، وعندما يكمل نضجها، انظر نفاسة هذا الأمر مِن رائحته الطيبة وطعمها الطيب، وفوائده العظيمة، انظر إلي الزروع ومنظرها الجميل، انظر إلى حقول القمح وخضرتها العظيمة, في وقت خضرتها، وصفرتها كالذهب في وقت نضجها، وجمال شكلها، جمال السنبلة، وجمال الساق، أمرٌ عظيم جدًا، فهذه الأرض الله يقول : {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا........}[الشعراء:7], {كَمْ}, التكثيرية،  {........أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ}[الشعراء:7], نفيس، هذه آيات, قال -جلَّ وعَلا- : {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً........}[الشعراء:8], {فِي ذَلِكَ}, في هذه النباتات التي خلقها الله -تبارك وتعالى- على هذا النحو مِن الزروع، ومِن الأشجار المثمرة، وغير المثمرة, {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً........}[الشعراء:8], قال -جلَّ وعَلا- : {........وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ}[الشعراء:8], آية لِمَن كان عنده بصر، سمع، ولكن {مَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ}, أكثر الذين بُعِثَ إليهم النبي -صلى الله عليه وسلم-, {مُؤْمِنِينَ}, أكثرهم يكفرون، وهذه سنة الله -تبارك وتعالى- في كل الأُمَم، لا يوجد رسول آمن به الكثرة مِن قومه، وإنما الذين آمنوا به القليل، قال : {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ}[الشعراء:8], {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}[الشعراء:9], {وَإِنَّ رَبَّكَ}, يا محمد {الْعَزِيزُ}, الغالب الذي لا يغلبه أحد، {الرَّحِيمُ}, سبحانه وتعالى- بعباده المؤمنين، فالعزة هنا في مقابل هؤلاء الكفار المعاندين، والرحمة في مقابل هؤلاء العباد المؤمنين، فهو العزيز -سبحانه وتعالى- الغالب الذي لا يغلبه أحد، ومِن عزته -سبحانه وتعالى- دعوة الجميع إلى الطاعة والإنابة والإسلام له -سبحانه وتعالى-، ومِن رحمته -سبحانه وتعالى- هداية مَن يشاء إلى طريقه، ورحمتهم بصنوف الرحمة، {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}[الشعراء:9], هذه مقدمة هذه السورة، وهي اشتملت على ما يأتي؛ اشتملت أولًا على الإشادة بهذا القرآن الكريم، {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ}[الشعراء:2], ثم تطمين للنبي -صلى الله عليه وسلم-، وتهدية مِن حزنه وأسفه، وأنه إنْ استمر في هذا قَتَلَ نَفْسَهُ، {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}[الشعراء:3], ثم بيان قدرة الرب -تبارك وتعالى- على عباده وأنه يمكن أنْ يجعلهم مؤمنين بالقوة القاهرة، بقوة قاهرة, تأتيهم آية مِن السماء، مِن فوقهم فتجعل أعناقهم خاضعة لها، يجعل قطعة مِن العذاب فوق رؤوسهم، فيؤمنوا رغما عن أنوفهم، لو أراد الله -تبارك وتعالى- أنْ يفعل هذا لفعل، ثم توجيه من الرب -تبارك وتعالى- إلى هذه الآيات العظيمة التي بثها، وتوجيهنا إلى آية النبات، {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ}[الشعراء:7], {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً........}[الشعراء:8], ثم إخبار منه -سبحانه وتعالى- أنَّ أكثر الناس لم يؤمنوا، قال : {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ}[الشعراء:8]، وبيان أنه -سبحانه وتعالى- العزيز الغالب الذي لا يغلبه أحد، الرحيم -سبحانه وتعالى-.

ثم تأتي بعد هذه المقدمة السورة تفصيل لهذه المقدمة، وبيان أولًا الأُمَم، كيف كان حال هذه الأُمَم مع آيات الله -تبارك وتعالى-, ومع رسالاته، شَرَعَ الله -تبارك وتعالى- في بيان ذلك بنبيه موسى -عليه السلام-، وكيف أرسله الله -تبارك وتعالى- إلى قوم فرعون، أرسله الله -تبارك وتعالى- بالحجة الظاهرة البينة، أو بالحجج الظاهرة البينة، ثم كان التكذيب والعناد، ثم انظر كيف كان المصير بعد ذلك, قال -جلَّ وعَلا- : {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}[الشعراء:10], {قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ}[الشعراء:11], {وَإِذْ نَادَى}, اذكر, {إِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى}, وكان هذا النداء في الطور، عند عودة موسى -عليه السلام-، مِن مَدْيَن بعد أنْ تزوج بها في ما قَصَّهُ الله -تبارك وتعالى- علينا مِن قصته بزواج بنت الرجل الصالح، ومكوثه هناك عشر سنوات بعد أنْ ذهب إليها فارًا بِنَفْسِهِ عندما قتل ذلك الفرعون دفعًا عن الإسرائيلي, ثم فر بعد ذلك ومكث عشر سنوات، وفي أثناء عودته عند طور سيناء، ناداه الله -تبارك وتعالى- وهو منفرد ترك أهله, وذهب إلى النار في شجرة مِن الأشجار ظنها أناس يسألهم عن الطريق ويأتي بهم بقبس، {إِذْ قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ}[القصص:29]، فلما جاءها عند هذه النار، إذا بها نور, ثم ناده الله -تبارك وتعالى- عندها, وحَمَّلَهُ الرسالة إلى فرعون, {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}[الشعراء:10], أي موضوع هذا النداء الذي قاله -عزَّ وجلَّ-, {........أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}[الشعراء:10], أي اذهب للقوم الظالمين، وسماهم الله -تبارك وتعالى- بالقوم الظالمين؛ لأنهم وضعوا الأمور في غير محلها, وضعوا العبادة بدلًا مِن أنْ يعبدوا الله الذي لا إله إلا هو رب السموات والأرض، عبدوا المالك، عبدوا واحد منهم، فرعون وجعلوه هو الرب الإله، الخالق، الرازق، المدبر لهذا الكون، وقال لهم : يا أيها الناس {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي}, وأنه ليس هناك إلهٌ سوى الله -تبارك وتعالى-, وأنه {مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ}[غافر:29]، واتبعوه على هذا الأمر؛ فهذا مِن الظلم، وكذلك مِن ظلمهم كذلك ظلمهم لِمَن تحت أيديهم مِن بني إسرائيل وسومهم إياهم سوء العذاب, {........أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}[الشعراء:10], {قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ}[الشعراء:11], دعوة مِن الله -تبارك وتعالى- لهم إلى التقوى، {أَلا يَتَّقُونَ}, يخافون الله -تبارك وتعالى-, وينزعون عن هذا الكفر والشرك، فيعبدوا الله -تبارك وتعالى- الواحد, ويبعتدوا عن الظلم، لا يظلموا مَن تحت أيديهم هذا الظلم الذي يظلمونهم إياه, {أَلا يَتَّقُونَ}.

قال موسى مجيبًا الله -تبارك وتعالى- : {قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ}[الشعراء:12], وخوفه مِن التكذيب ما يكون بعد هذا التكذيب بعد ذلك مِن أنْ يهينوه، أنْ يسجنوه, أنْ يضربوه، أن يقتلوه، {قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ}[الشعراء:12], أي يتهمونني بالكذب، وبعد ذلك ينزلون في عقوباتهم وهم قوم مجرمون، ثم قال : {وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ}[الشعراء:13], {وَيَضِيقُ صَدْرِي}, أي عند الحديث، ومَن يضيق صدره لا يستطيع أنْ يترجم ويقول ما في نَفْسِهِ، {وَلا يَنْطَلِقُ لِسَانِي}, أي بالكلام، وقد قيل أنَّ سبب عدم انطلاق لسانه هو ما حصل له وهو في الصغر، عندما كان وهو طفل على حجر فرعون يومًا فشد لحيته، فأوجس منه خيفته، وقد كان يُخَوَّف بهذا، بأنَّ رجلًا مِن بني إسرائيل سيقتله، وسيكون هلاكه علي يديه، وكان يتوجس مِن هذا الغلام أنه سيكون هو، وعندما الْتُقِطَ موسى مِن البحر، وألقى الله -تبارك وتعالى- المحبة عليه، {وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ........}[القصص:9]، فإنَّ فرعون فقال لكِ وحدكِ, أما لي فلا، وأراد أن يقتله لكنه حُجِبَ عن ذلك، وحمته امرأته، وبقي، نشأ في حجر فرعون، فقيل أنه انتزع, كما في حديث الفتون عن ابن عباس شد لحية فرعون, فقال : هو الذي هذا الغلام، فقالت : إنه لا يعرف، هو غلامًا صغير لا يعرف التمر مِن الجمر، فقال : فَلُيَقَّدم  له إناء فيه تمر، وإناء فيه جمر، فإنْ أخذ التمرة وترك النار فهو يفهم ويميز, فلما قُدِّمَ له جاء وأخذ جبريل بيده ووضعها في الجمر, ووضع الجمر في فمه فحرقت لسانه، فبقي ثقل اللسان فيه بعد ذلك فيه مِن التقامه للجمرة التي أخذها, والتي كان بسبب ذلك نجاته مِن أنْ يتسلط عليه فرعون فيقتله, {وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ}[الشعراء:13]، أرسل يا ربِّ لي هارون؛ ليكون نبيًا معي ووزيرًا مِن أهلي، طلب أنْ يُنَبِّأَ الله -تبارك وتعالى- أخاه هارون، فيشد الله -تبارك وتعالى به أزره, ثم أيضًا مِن اعتذاره للرب -تبارك وتعالى- عن القيام بهذه المهمة، {وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ}[الشعراء:14], والذنب الذي على موسى هو أنه قتل واحدًا منهم، قبل أنْ يفر إلى مَدْيَن, أخبر الله -تبارك تعالى- أنه {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ........}[القصص:15], إسرائيلي وفرعوني, {فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى}, أي أنه أبعده عن الإسرائيلي, {فَقَضَى عَلَيْهِ}, كانت في هذه الوكزة، وهذه الضربة، كان فيها موته؛ فمات بهذه, وعند ذلك فَرَّ لما عَلِمَ ملاء مِن قوم فرعون بأنَّ موسى الذي فعل هذا فطلبوه ليقتلوه, ولكنه قد خرج، أتاهم رجل منهم قال -جلَّ وعَلا- : { وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ}[القصص:20] {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ........}[القصص:21]، فقال : {وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ}, أني قتلت واحدًا منهم, {فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ}, عندما أذهب إليهم فيقولون له جئت برجيلك أنت قد قتلت, والآن ننفذ فيك حكم القاتل، {فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ}, أي بذلك الشخص الذي قتلته أنا قبل ذلك.

قال الرب -تبارك وتعالى- لموسى, {كَلَّا}, كل هذا لم يكون أنْ يقتلوك لم يكون, {فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا}, {فَاذْهَبَا}, قَبِلَ الله دعائه في أخيه، ونَبَّأَهُ معه هارون، وكان هارون مازال في مصر، قال له : {فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا}، {آيَاتِنَا}, المقروءة المنزلة عليه, وآيات الله -تبارك وتعالى- المنظورة التي يعطيه الله -تبارك وتعالى- إياها، وقد أخبر الله -تبارك وتعالى- أنه قد أعطاه آيتين في التو واللحظة، أعطاه عصاه التي إذا ألقاها أصبحت حية تسعى، وكذلك يده السمراء، فإنَّ موسى كان أسمر اللون إذا أدخلها في جيبه ثم أخرجها تكون بيضاء مِن غير سوء، مِن غير برص، ولا مرض، وأنها كأنها في جسم أبيض، وهذا تغيير الجلد هكذا بمجرد وضع اليد في الجيب ثم أخرجها هذا أمر لا شك أنه مُعْجِز، قال له الله -تبارك وتعالى- :{ قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ}[الشعراء:15].

نقف هنا -إنْ شاء الله-, ونعود إلى هذه الآيات- إنْ شاء الله- في الحلقة الآتية، أقول قولي هذا, وأستغفر الله لي ولكم مِن كل ذنب, وصلى الله وسلم على رسوله محمد.