الجمعة 29 ربيع الآخر 1446 . 1 نوفمبر 2024

الحلقة (444) - سورة الشعراء 14-34

الحمد لله ربِّ العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا ونبينا محمد, وعلى آله وأصحابه, ومَن اهتدى بهداه, وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد؛ فيقول الله -تبارك وتعالى- : {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}[الشعراء:10], {قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ}[الشعراء:11], {قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ}[الشعراء:12], {وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ}[الشعراء:13], {وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ}[الشعراء:14], {قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ}[الشعراء:15], {فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الشعراء:16], {أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ}[الشعراء:17], {قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ}[الشعراء:18], {وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ}[الشعراء:19], {قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ}[الشعراء:20], {فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ}[الشعراء:21], {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ}[الشعراء:22], هذه الآيات مِن سورة الشعراء وهي سورة مكية كما مضى، ويقص الله -تبارك وتعالى- علينا هنا ما كان مِن شأن موسى -عليه السلام- وهارون، حيث أرسلهم الله -تبارك وتعالى- إلى فرعون، ثم ما كان مِن الأحداث العظيمة في هذا, وانتهاء الأمر بتكذيب فرعون، وقومه لموسى -عليه السلام-، مع ظهور الآيات, البَيِّنَات, الواضحات، ثم تكون النتيجة أنْ يدمر الله -تبارك وتعالى- الكافرين, وينجي الله -تبارك وتعالى- المؤمنين، ويأتي ما قَصَّهُ الله -تبارك وتعالى- هنا بموسى أول القصص في سورة الشعراء، وقد مضى في مقدمة هذه السورة أنَّ الله -تبارك وتعالى- هَوَّنَ علي رسوله -صلوات الله والسلام عليه-، وبَيَّنَ له أنَّ ما يعانيه مِن الألم والحسرة؛ علي كفر الناس به، أنَّ هذا كائن بمشيئة -سبحانه وتعالى-، وأنَّ هذا هو الأمر، وأنَّ الله -تبارك وتعالى- لو أراد أنْ ينزل عليهم آية قاهرة، على هؤلاء المكذبين لفعل، قال -جلَّ وعَلا- في مطلع هذه السورة : {طسم}[الشعراء:1], {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ}[الشعراء:2], {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}[الشعراء:3], {إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ}[الشعراء:4].

ثم أخبر -سبحانه وتعالى- عن عناد هؤلاء المشركين, وأنهم يأتيهم وحي الله -تبارك وتعالى- مِن عنده صباح مساء، وحي جديد مِن الله -تبارك وتعالى-، آيات الرب -جلَّ وعَلا-, وهي واضحة الدلالة على أنها مِن الله -تبارك وتعالى-, ومع ذلك هم يُكَذِّبُونَ، {وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ}[الشعراء:5],  قال جلَّ وعَلا  : {فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون}[الشعراء:6], أي ما حذرهم الله -تبارك وتعالى به، وما أخبرهم به مِن النكال والعذاب على هذا التكذيب سيأتيهم، سيأتي هؤلاء المكذبين.

ثم قال -جلَّ وعّلا- : {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ}[الشعراء:7], {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ}[الشعراء:8], هذه هي اللازمة التي تأتي بعد كل قصة, {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ}[الشعراء:8], {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ........}[الشعراء:9]، الذي لا يغلبه أحد، {الرَّحِيمُ},-سبحانه وتعالى- فهذه سنته الجارية في كل رسالته السابقة، بدأ الله -تبارك وتعالى- بذكر موسى -عليه السلام-، ولعل في تقديمة هنا، تقديم قصته؛ لأنَّ الدلالة على هذا الأمر مِن أوضح الأمور في قصة موسى -عليه السلام-، فإنَّ موسى قد أُرْسِلَ بآيات, واضحات, بينات، آيات قاهرة، أي ينبغي لأي عاقل وأي مريض الحق أنْ يردها فهي ساطعة بينة، ومع ذلك يحصل التكذيب بها مع أنَّ هذه آيات عيانية بيانية، ثم يكون الأمر بعد ذلك، إنجاء الله -تبارك وتعالى- للمؤمنين، وإهلاكه -سبحانه وتعالى- للظالمين، {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى........}[الشعراء:10], اذكر, {إِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى}, ربك يا محمد، هنا في قول الله لم يقل وإذا نادى الله موسى, وإنما {رَبُّكَ مُوسَى}, وهذا فيه تأنيس للنبي -صلوات الله والسلام عليه-، وبيان أنَّ ربه هو الذي نادى موسى -عليه السلام-، ناداه الله -تبارك وتعالى- في الطور مِن مَدْيَن إلى مصر، حَمَّلَهُ الله –تبارك وتعالى- الرسالة, وسمع موسى نداء الرب -تبارك وتعالى-, وكلام الله -تبارك وتعالى-, خلاصة النداء : {........أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}[الشعراء:10], {قَوْمَ فِرْعَوْنَ}, وسماهم الله -تبارك وتعالى- بالظالمين؛ لأنهم وضعوا كل أمر في غير نصابه؛ فالعبادة التي هي أشرف الأعمال, والتي لا تجوز إلا للرب, الإله, الخالق -سبحانه وتعالى- وضعوها في مَلِكِهِم، وشَرَّعُوا لأنفسهم التشاريع الباطلة، التي تدل على سَفَه وقلة عقل، وتركوا طريق الرب -تبارك وتعالى- فهم ظالمون في شركهم وكفرهم وعنادهم وتشريعهم لأنفسهم، وترك دين الله -تبارك وتعالى-، {قَوْمَ فِرْعَوْنَ}, كذلك هم ظالمون في ظلمهم لبني إسرائيل، وتحميلهم الأعمال الشاقة، وسومهم سوء العذاب، يُقَتِّلُونَ الذكور، ويتركون النساء أحياء، ويسومونهم مِن الأعمال، أعمال السُّخْرة، والعذاب ما يسومونهم به, {قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ}[الشعراء:11], ألا يخافون ربهم -سبحانه وتعالى- ويتقوه، {قَالَ}, أي موسى معتذرًا : { ........رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ}[الشعراء:12]، عَلم مِن صلفهم وكبرهم وعنادهم وعلوهم، أنْ يكذبوه، وهو رسول مِن قوم يعتقد هؤلاء أنهم عبيدٌ لهم، {قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ}[الشعراء:12], {وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ}[الشعراء:13]، {وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ}[الشعراء:14]، ذَكَرَ هنا موسى مِن جمله اعتذاره للرب -تبارك وتعالى-، عن تحمل هذه المسئولية العظيمة، أنه لقوم فرعون عليه ذنب، وذلك أنه قد قتل أحد القبط، عندما دفعه بعيدًا عن الإسرائيلي الذي استغاث به، {فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ}, بقتله السابق للقبطي, {قَالَ}, الرب -تبارك وتعالى- : {........كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ}[الشعراء:15], {كَلَّا},أي إنَّ كل الذي ذكرته إنما الله -سبحانه وتعالى- سيؤيدك ويقويك في رسالتك، والله -تبارك وتعالى- معك، {قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا}, كلا اعتذار لهذا الأمر، بل يجب أنْ يقوم به كما أمر الله -تبارك وتعالى-، {فَاذْهَبَا}, أمر له ولهارون  أنْ يذهبا, {بِآيَاتِنَا}, آيات الله -تبارك وتعالى-, وقد بَيَّنَ الله -تبارك وتعالى- أنَّ هذه الآيات التي أعطاه الله -تبارك وتعالى- تسع آيات، قال : {فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ}, مِن هذه الآيات العصى التي يضعوها في الأرض, عصاه يضعوها في الأرض فتصبح ثعبانًا عظيمًا، ثم إذا أخذها مرة ثانية تعود إلى طبيعتها عصاه، ويده السمراء يضعها في جيب ثوبة, ثم يخرجها فإذا هي بيضاء, {قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ}[الشعراء:15], {إِنَّا}, الله -تبارك وتعالى- يتكلم عن نَفْسِهِ -سبحانه وتعالى- بصيغة الجمع؛ تعظيمًا فهو الرب العظيم -سبحانه وتعالى-، {مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ}, وفي هذا تأنيس لعبده ورسوله موسى -عليه السلام-، وأنَّ الله -تبارك وتعالى- مستمع ما يقوله له، ومستمع ما يرد به فرعون له، إذن الله -تبارك وتعالى- معك، إذن فَأْنَس بذلك، واعلم أنَّ الله -تبارك وتعالى- مؤيدك وناصرك, {فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ}, أمر مِن الله -تبارك وتعالى- لموسى وهارون أنْ يأتيا فرعون، {........فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الشعراء:16], أي أنْ ينزل ببلاطه، وأنْ يأتي إليه، لا يُرْسِلُ له رسالة، بل يجب أنْ يشافهه وأنْ يأتيه، قال : {فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا}, أي له, {إِنَّا}, وهو موسى وهارون الاثنين, {رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ},  وذلك رسول, ما قال رسولا لأنَّ رسالتهم واحدة فهم كأنهم رسول واحد مِن الله -تبارك وتعالى-, {........إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الشعراء:16]، رب الخلق أجمعين -سبحانه وتعالى-، العالمون جمع عالم، والله -تبارك وتعالى- خالق كل هذه العوالم، الملائكة، الجن، الإنس، السموات والأرض، كل هذه عوالم الله ربها خالقها، مبرزها، منشؤها، مربيها، سيدها -سبحانه وتعالى-, كل هذا مِن معاني الرب, {أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ}[الشعراء:17], خلاصة الرسالة، {........أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ}[الشعراء:17], أي أخرجهم مِن العبودية ودعهم يخرجون مِن أرض مصر؛ ليعبدوا الله -تبارك وتعالى- حيث يريدون في هذه البرية، يخرجهم إلى سيناء ويخرجهم مِن ذُلّ هذه العبودية، أخرج معنا بني إسرائيل، اسمح لهم بالخروج مِن أرضك؛ ليعبدوا الله -تبارك وتعالى- خارج أرض مصر، التي أذلوا فيها، وأهينوا وعُذِّبُوا هذا العذاب، {أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ}[الشعراء:17], {قَالَ}, فرعون : { قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا........}[الشعراء:18], القصة هنا، ما يُعْلَمُ منها مطوي، وجاء الأمر أنَّ موسى أخذ رسالة الله -تبارك وتعالى- وذهب إلى مصر وَصَّلَهَا، ذهب بأخيه، ذهبا إلى قصر فرعون، انتظرا حتى يؤذن لهما، أُذِنَ لهما، فدخلا على فرعون، وقالا هذا الكلمة : {........إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الشعراء:16], {أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ}[الشعراء:17]، فَرَدَّ فرعون عليهما قائلًا  لموسى : {قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ}[الشعراء:18], كلام التعالي والعلو، {أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا}, بدأ يَمْتَنّ عليه بأنه قد رباه في قصره وليدًا, عندما كان مولود صغيرًا فقد رُبِّيَ في قصره، وذلك أنَّ أم موسى لما خافت عليه أوحي الله -تبارك وتعالى- لها أنْ أرضعيه وألقيه في اليم، ثم سار به البحر, وهو نهر النيل إلى أنْ رسى على قصر فرعون، فالتقطوه مِن الماء وأخذوه؛ فألقى الله -تبارك وتعالى- محبته عليه, كل مَن يراه يحبه، وأحبته امرأة فرعون، وقالت : {قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ}, بعد أنْ كانت المواسي تعمل في بني إسرائيل، ومثل هؤلاء الأولاد الذين يلقون يأخذوهم فيقتلوهم، قالت : {قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ}, حماه الله -تبارك وتعالى-, ونشأ موسى في قصر الفرعون, ذَكَّرَهُ بهذا, {قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ}[الشعراء:18] لبثت في أرض مصر مِن عمرك سنين,  هو جاء الآن مِن مَدْيَن، {وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ}[الشعراء:19], قال له : {وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ}, أراد أنْ يُضَخِّمَ قتله للقبطي علمًا بأنه قتله شِبْه عمد، لم يقتله متعمدًا، وإنما دفعه فقط ودفعه؛ لأنه ظالم, متعدي؛ فقال له : {وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ}, جعلها فعلته ونسبها إليه, {........الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ}[الشعراء:19], أنت مِن الكافرين لنعمته، كأنه يرى أنه قد جحد نعمة مولاه وسيده وملَكِهَ،ُ وخرج عنه, وفعل هذه الفعلة العظيمة وفَرَّ بها, {وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ{قَالَ}, أي موسى -عليه السلام-، {قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ}[الشعراء:20]، بدأ موسى يرد علي فرعون، وبدأ أولًا يمتص صدمة هذا الكلام الفاجر، الكاذب، الذي وجهه، وأول قضية، قضية أنه ذكره بقتله للفرعون، وهذا القتل كان مِن موسى، اعتذر منه لربه -تبارك وتعالى-, وتاب عنه، ورأى أنه قد فعل خطأ لأنه لم يؤمر بأنْ يقاتل في هذا الوقت، {قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ}[الشعراء:20]، قال له  هذه الفعلة التي تذكرن أني فعلتها، أنا فعلتها كنت مِن الضالين، عين الحق، لم أكن قد لم يؤمر مِن الله -تبارك وتعالى- بمثل هذا الفعل, {قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ}[الشعراء:20] الضالين هنا ليس الضالين عن الهُدَى والدين، وإنما الضالين عن الحق في هذه المسألة، ضللت عن الحق في هذه المسألة ففعلتها، {قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ}[الشعراء:20]، وهذا اعتراف له ليمتص هذه التهمة التي اتهمه بها فرعون، وأراد أنْ يُلْزِمَهُ الإقرار بجريمة، وبالتالي يكون مذنبًا عنده، {قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ}[الشعراء:20], {فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ........}[الشعراء:21], {لَمَّا خِفْتُكُمْ}, وذلك لأنهم لا يحكمون بعدل، وأنهم سيقتلونه وهذا لا يستحق القتل،  أي أنه الآن بهذا العمل حتى لو أنه هذا منه فإنَّ هذا ليس بقتل عمد وعدوان وظلم، وإنما هو دفعٌ عن مظلوم، وقتل شِبْه عمد، وليس فيه هذا قال : {فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ........}[الشعراء:21],  أي أنْ يقتلوه, {........فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ}[الشعراء:21]، {فَوَهَبَ لِي رَبِّي}, مِن عنده، هبة مِن عنده، عطاءه مِن عنده، {حُكْمًا}, بهذه الرسالة والنبوة، والرسالة والنبوه تعطى مَن يحملها  الحكم على الأمور, الحكم الصالح على الأمور؛ لأنه يحكم بحكم الله -تبارك وتعالى-، {وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ}, صيرني الله -تبارك وتعالى-، الجعل هنا التصيير, أنه هَيَّئَهُ وأعده الله -تبارك وتعالى- للرسالة، {وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ}, المرسلين مِن عنده ، الذين يرسلهم الله -تبارك وتعالى- إلى خَلْقِهِ.

ثم قال له : {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ}[الشعراء:22], بدأ موسى -عليه السلام- في هذا النقاش حال الهجوم، وبَيَّنَ له أنه لا يحق أنْ يَمُنَّ عليه نعمة أنه آوى شخص واحد مِن بني إسرائيل, ونشأ عنده في القصر، والحال أنه قد استعبد بني إسرائيل جمعهم يُذَبِّحُ، يقتل الذرية، ويستحي النساء، ويقيمهم ويسخرهم في أَشَقِّ الأعمال، قال لهم : {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ........}[الشعراء:22], {تِلْك}, هذه التي تقول بأنك ربيت عندنا في قصرنا، {قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ}[الشعراء:18], قال : {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ}[الشعراء:22], أي في مقابلها قد عَبَّدْتَ بني إسرائيل، ومعنى عَبَّدْتَ أي جعلتهم عبيدًا عندك، فرعون سكت عن هذا، وبدأ يهاجم موسى -عليه السلام-، ويرد في زعمه على قوله : {إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الشعراء:16]، {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ}[الشعراء:23]، يقولها كلام المتجاهل، المستعلي فكأن رب العالمين ليس بمعلوم عنده، مَن  هو هذا رب العالمين الذي تسأل عنه، {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ}[الشعراء:23], سؤال جاهل, الذي يتجاهل كذلك، وذلك أنَّ هذا الفاجر قد نَصَبَ نَفْسَهُ إلهًا للناس ومعبودًا لهم، وبالطبع نُسِيَ رب العالمين على الحقيقة, الله -سبحانه وتعالى- خالق كل شيء، ورب كل شيء، هذا أصبح مَنْسِي عنه، وأصبح هذا الفاجر، الكافر، قد وضع نَفْسَهُ في مكان الإله المعبود، {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ}[الشعراء:23]، فرد عليهم موسى؛ فقال : {قَالَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إنْ كُنتُمْ مُوقِنِينَ}[الشعراء:24]، رب العالمين الذي أرسلني هو : {رَبُّ السَّمَوَاتِ}, ربها؛ خالقها وبارؤها وصانعها ومبدعها، وهو -سبحانه وتعالى- سيدها، وهو مالكها يملك هذا، خَلَقُه ويملكه وهو السيد -سبحانه وتعالى- في السموات والأرض، {رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا}، بين السماء والأرض، مِن نجوم، شموس، أقمار، هواء، رياح، سحب، كل ما بين السموات والأرض يملكه -سبحانه وتعالى-، فهذا قد بَيَّنَ له أنَّ كل هذا العالم المُشَاهَد مِن الأرض التي نحن عليها والسموات التي فوقنا، وما بين ذلك كله هو الله ربها -سبحانه وتعالى-، {قَالَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إنْ كُنتُمْ مُوقِنِينَ}[الشعراء:24], إنْ عندكم يقين وتوقنون، تصدقون بهذا وتوقنون فهو رب السموات والأرض، إذا أيقنتم بهذا، وعلمتم هذا، أما إذا جحدتم وأنكرتم فهذا أمرٌ آخر, {قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ}[الشعراء:25], وهذا مِن الجدل والصرف، فلم يجب هنا ولكنه جعل كأن هذا الكلام الذي قاله موسى، وهو كلامٌ ظاهرٌ، يحمل الحجة القوية القاهرة، والمعنى الذي لا يُدْفَع، فهي قضية لا تُدْفَع ، أنَّ الله -تبارك وتعالى- هو خالق هذه السموات والأرض، رب العالمين الذي أرسلني هو مُدَبِّرُ هذا الكون، خالق السموات والأرض وربها -سبحانه وتعالى-, {قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ}[الشعراء:25], أي وكأن موسى قد قال كلامًا لا يُصَدَّق وإفك مِن القول, وأمر بعيد؛ فقال لهم : {أَلا تَسْتَمِعُونَ}, لما يقول هذا، أي الذي يهزي ويَخْرِفُ، {قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ}[الشعراء:25], وهم يسمعون، لكن كأنه يريد أنْ يُبَيِّن أنَّ هذا كلام ينب ويبعد عن السمع ، ولا ينبغي أنْ يسمعه أحد، أي ألا تستمعون في زعمه هذا السفه مِن القول، فجاء موسى وأعطاهم دليل آخر على وصف الرب -سبحانه وتعالى- الحقيقي, {قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ}[الشعراء:26]، هذا إلهي الذي أرسلني, رب العالمين هو : {........رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ}[الشعراء:26]، دخل مِن العموم رب العالمين، {رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا}, رب إلى الخصوص، إلى خصوصهم هم أنفسهم؛ فقال : {قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ}[الشعراء:26]، فهو خالقكم, ربكم خالقكم، وسيدكم، وضريكم ومربيكم، وكذلك خالق آبائكم ، فإنَّ أحدًا لم يخلق نفسه، ولم يهيئ نفسه، فقال: {قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ}[الشعراء:26]، فعند ذلك لا حجة بيد فرعون يدفع بها هذا؛ فذهب إلى التسفيه، وأنَّ هذا الذي يقوله موسى إنما هو جنون, {قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ}[الشعراء:27], استهزاء مِن فرعون لموسى؛ فقال : {إِنَّ رَسُولَكُمُ}, نسب أولًا رسالة موسى إلى أنه رسالة إلى عموم الناس, وليست له, فما قال له إنَّ هذا الرسول الذي أرسل إلينا لمجنون, لا, {قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ........}[الشعراء:27]، أي أيها الناس وهم جماعته وكبراؤه، والملأ حوله, {لَمَجْنُونٌ}, فحكم عليه بالجنون، وأنه يقول قول خارج عن معاني العقل، كأن العقل لا يقول بمثل هذا الكلام أبدًا، {قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ}[الشعراء:27]، فعند ذلك حصرهم موسى، وبَيَّنَ أنَّ ربه -سبحانه وتعالى- هو رب جميع ما حولهم, {قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ}[الشعراء:28], أنَّ الله رب العالمين الذي تسألون عنه، هو : {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ}, فهذه الجهات, {وَمَا بَيْنَهُمَا}, إذن كل ما بينهما, ليس هو فقط خصوص أنه رب العالمين، رب هؤلاء المخاطبين بل كل مَن على هذه الأرض مِن شرق الشمس، ما تشرق فيه الشمس والنجوم إلى ما تغرب فيه كل هؤلاء، وما بين المشرق والمغرب، إنما هو الله -تبارك وتعالى-, {قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ}[الشعراء:28], وفي الأخير قال لهم : {إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ}, لبيان أنَّ الخارج عن هذا الاعتقاد غير عاقل؛ لأنه هذا حقيقة الرب -تبارك وتعالى- أنه رب العالمين ، رب السموات والأرض وما بينهما، وأنه رب البشر، {........رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ}[الشعراء:26]، وأنه رب المشارق والمغارب، {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا}, ثم قال لهم في الأخير : {إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ}[الشعراء:28]، إنْ كان لكم عقل، فهذا هو الله -سبحانه وتعالى- الذي أرسلني، عند ذلك  ليس هناك الحجة يرد هذا الأمر الساطع البَيِّن الذي هو كالشمس الطالعة لا ينكرها إلا أعمى, فعند ذلك اتجه فرعون إلى التهديد، فقال له : {قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ}[الشعراء:29], هذا منطق الإجرام، ومنطق الكفر، وأنَّ هذا هو يقول عن نَفْسِهِ أنه الإله ولا إله غير لنفسك ليس تدعوا له, لنفسك كذلك، تعبده أنت, ويعبده الجميع, {لئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي}, تعبده, {لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ}, فستكون مِمَن أدخلهم السجن، عند ذلك بدأ لما لم تُفِد الحجة البيانية العقلية، القائمة, والآيات المنزلة، بدأ موسى هنا يأتي بالآيات المنظورة، الخارقة للعادة والمعجزة، فهذه نقلة مِن الخطاب العقلي، القلبي، للإيمان إلى الخطاب، وإقامة الدليل الحسي، النظري؛ فقال فرعون لموسى : {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ}[الشعراء:30], دليل قاهر بَيِّن, {بِشَيْءٍ مُبِينٍ}, واضح، بَيِّن على أنَّ الله -سبحانه وتعالى- رب العالمين, هو الذي أرسلني، عند ذلك فرعون لم يجد بدًا مِن أنْ يطلب هذا الدليل, {قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}[الشعراء:31]، وقوله : {........إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}[الشعراء:31]، اتهام له بالكذب, وأنه ليس عنده مِن دليل يستطيع أنْ يقيمه على ذلك، {قَالَ فَأْتِ بِهِ}, أي هذا الشيء الذي تقول إنه شيء مبين, {........إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}[الشعراء:31]، عند موسى فجاءهم, قال -جلَّ وعَلا- : {فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ}[الشعراء:32]،  الفاء للتعقيب بمجرد أنْ قال له : {........فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}[الشعراء:31]، عند ذلك ألقى موسى العصا، ما شرح الأمر.