الجمعة 29 ربيع الآخر 1446 . 1 نوفمبر 2024

الحلقة (445) - سورة الشعراء 35-55

الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله الأمين، سيدنا ونبينا محمد, وعلى آله وأصحابه, ومَن اهتدى بهداه, وعمل بسنته إلى يوم الدين.

يقول -تبارك وتعالى- : {قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ}[الشعراء:34], {يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ}[الشعراء:35], {قَالُوا أَرْجِه وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ}[الشعراء:36], {يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ}[الشعراء:37], {فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ}[الشعراء:38], {وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ}[الشعراء:39], {لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ}[الشعراء:40], {فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ}[الشعراء:41], {قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ}[الشعراء:42], {قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ}[الشعراء:43], {فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ}[الشعراء:44], {فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ}[الشعراء:45], {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ}[الشعراء:46], {قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ}[الشعراء:47], {رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ}[الشعراء:48], كنا قد وصلنا في الدرس الماضي، إلى قول الله -تبارك وتعالى- عن فرعون : {قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ}[الشعراء:34], وذلك عندما ألقى موسى عصاه فتحولت عصاه إلى ثعبان مبين، ثم كذلك أدخل يده في جيب ثوبه وأخرجها؛ فإذا هي بيضاء للناظرين، فعند ذلك قال موسى للملأ وهم حوله, وهذا موسى قد جاء هو وهارون يدعوانه إلى الله -تبارك وتعالى-, وقعت هذه الآيات، قال للملأ حوله : {قَالَ}, فرعون, {لِلْمَلَإِ}, الجماعة وسموا ملأ؛ لأنهم يملؤون المكان، أو يملؤون العين، {........حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ}[الشعراء:34], مشيرًا إلى موسى عليم بالسحر، {يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ........}[الشعراء:35], هنا يستثير فيهم خوفهم وقوميتهم، وأنه يريد بهم الشر, ينسب موسى إلى الشر، {يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ........}[الشعراء:35],ثم يخرجكم ومِن أرضكم, {بِسِحْرِهِ}, بهذا السحر, {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ}, أشيروا عليّ بالذي ترونه، وتأمرون به، أي في حق هذا الساحر الذي أراد أنْ يوقع هذه الفتنة، وهذا الشر بنا, {قَالُوا أَرْجِه وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ}[الشعراء:36], أي قال الملأ مِن قوم فرعون لفرعون : {أَرْجِه}, أي أعطيه مهلة، الإرجاء هو الإمهال وتأخير الأمر, أي أخره إلى أجل, {وَأَخَاهُ}, وذلك أنَّ موسى قد جاءه أخوه؛ لعرض آيات الرب -تبارك وتعالى-، {........وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ}[الشعراء:36], مدائن مصر، أرسل فيها حاشرين، أي جامعين؛ ليجمعوا لك السحرة مِن كل مدينة مِن المدن، أي نحن عندنا سحرة، وهم أعلم وأبصر بالسحر مِن هذا الإسرائيلي، وهذا الإسرائيلي لا شك أنَّ سَحَرَتنَا هم أعلم وأقوى منه، {........وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ}[الشعراء:36], {يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ}[الشعراء:37]، {سَحَّارٍ}, هنا صيغة مبالغة مِن الساحر, أي أنه ماهرٌ, عظيمٌ في السحر, عليمٌ به.

 ونعود إلى مكر فرعون بقومه, وقول الله : {يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ........}[الشعراء:35], علمًا أنَّ موسى عندما عرض في البداية دعوته على فرعون، أنه قال له في كل مهمته, أن رسول رب العالمين، وقد أرسلت فقط أرفع يدك عن  هذا الشعب، عن شعب بني إسرائيل، واتركهم يخرجون إلى أرض مصر, ويعبدون الله -تبارك وتعالى- حيث شاءوا فهو لم يطلب الإقامة والمقام في  مصر, وإنما طلب أنْ يسمح له بأنْ يخرج هو وبنوا إسرائيل مِن أرض مصر، ولكن مكر فرعون أراد أنْ يُؤَلِّبَ شعبه ضد موسى؛ فقال له : {يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ}[الشعراء:35]،  فاقترحوا عليه هذا الاقتراح؛ وهذا ليتم مراد الله -تبارك وتعالى-، وتقام الحجة على الجنات، فأُلْهِمُوا أنْ يُمِدُّوا له على هذا النحو، وألا يعاجلوا فرعون، ويقول له اطرده مِن هنا، أو اقتله، أو أفعل فيه ما أفعل، ولكن قالوا ارجعه، مادام هو سحار بالشكل هذا، فلنأتي بسحرة كذلك ليبطلوا سِحْرَهُ، وبالتالي نتغلب عليه، كما في قول الله -تبارك وتعالى- : {قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى}[طه:57], {فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى}[طه:58]، فلما اقترحوا عليه هذا كان هذا مرادًا لموسى -عليه السلام- كذلك، أنْ يجتمع الناس, وأنْ يروا آية الله تبارك وتعالى- أمامهم فاقترح عليهم أنْ يكون يوم أيضًا فراغ، {قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى}[طه:59]، قال -جلَّ وعَلا- : {فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ}[الشعراء:38], جمع السحرة، والذي جمعهم فرعون بِمَن أرسلهم في سائر المدائن؛ ليأتوا بكل ساحر, حازق، ماهر في سِحْرِهِ، {فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ}[الشعراء:38]، {لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ}, لوقت يوم معلوم، وكان هذا اليوم يوم عيدهم، يوم زينتهم، {وَقِيلَ لِلنَّاسِ}, وهم يجمعونهم, {هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ}, أي دُعِيَ الناس للاجتماع، وقيل لهم : {هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ}, في هذا اليوم؛ لتشاهدوا هذه المباراة العظيمة، وهذا الحدث الجلل, {هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ}, {لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ}[الشعراء:40], {لَعَلَّنَا},يرجون, {........نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ}[الشعراء:40]، الذين سيغلبون موسى -عليه السلام-، قال -جلَّ وعَلا- : {فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ}[الشعراء:41], {فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ}, الذين جمعوهم مِن كل مكان، وجمعوهم لهذه المباراة، ومباراة التي هم يظنون أنهم غالبون فيها بكل جدارة، وأنه لن يقوم له أحد، ولكنهم أرادوا أنْ يستوثقوا مِن الأمر، وأنْ يكون لهم أجر في هذا وحظوة عند فرعون الذي دعاهم، وأتى بهم مِن مدائن مصر، {فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ}[الشعراء:41], أي إذا انتصرنا في هذا الأمر وغلبناه ألنا أجر عندك, ستسلمنا أجر عندك وجائزة هذا, {قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ}[الشعراء:42]، {قَالَ نَعَمْ}، فوافقهم على الأجر والجائزة، {وَإِنَّكُمْ إِذًا}, عندما تَغْلِبُونَ, {لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ}, منه, يدخلون عليه وقت ما يشاءوا، ويجلسون يكونون مِن جلسائه, مِن أعوانه، مِن وزرائه، فيقربهم, {وَإِنَّكُمْ إِذًا}, عندما تَغْلِبُونَ, {لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ}.

 قال -جلَّ وعَلا- : {قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ}[الشعراء:43], أي أنهم اجتمعوا لهذا اليوم وحُشِرَ الناس، وجاءوا ونُظِّمَت الساحة، ووضعت الأعلام، واجتمع الجميع، {قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ}[الشعراء:43], أي أبدأوا فأنتم, سمح لهم هم أنْ يكونوا أول مَن يظهر ما عنده مِن السحر، {قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ}[الشعراء:43], الذي تلقونه، قال -جلَّ وعَلا- : {فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ}[الشعراء:44], {فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ}, في هذه الساحة العظيمة، وأمام هذا الحشد العظيم ، ولما ألقوا هذه الحبال والعصي، تحولت في الساحة لِمَن ينظر إليها, كل مَن ينظر إليها يتخيل مِن السحر العظيم الذي جاء فيها أنها تسعى، كما قال -تبارك وتعالى- : {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ}, حتى موسى نَفْسه, {........مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى}[طه:66], {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى}[طه:67]، وقال الله -تبارك وتعالى-  {........سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ}[الأعراف:116], عيون الناس كلها سُحِرَت ورأت أَّن الوادي هذا، أو الساحة التي أمامهم قد امتلأت حياة وثعابين، {وَاسْتَرْهَبُوهُمْ}, خاف الجميع مِن انفلات هذا العدد والكم الكثير مِن هذه الثعابين التي بدت أمامهم وكأنها  تسعى يَمْنَةً ويَسْرَة، {فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا........}[الشعراء:44], عندما ألقوا هذا الحبال والعصى معتزين بفرعون, حالفين به، {وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ}, أي بغلبته, {إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ}, أي سنغلب بعزة فرعون، قسمًا به، يُقْسِمُونَ به، وكذلك بأنه العزيز فإنَّ عِزَّهُ هو الذي سيجعلنا كذلك نَعِزّ ونغنى، {........وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ}[الشعراء:44], بكل أنواع المؤكدات، {إِنَّا}, وباللام هذه، وبالجملة التامة, {نَحْنُ الْغَالِبُونَ}, قال -جلَّ وعَلا- : {فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ}, موسى وحده مع هذا الجمع الهائل والكبير مِن السحرة الكثيرين، وحده وليس معه إلا عصاه، عصاه الحقيقي التي ليس فيها سِحْر, ليس فيها إلا أنها آيه مِن آيات الله -تبارك وتعالى-, {فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ}، قال -جلَّ وعَلا- : {........فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ}[الشعراء:45], اللقف هو البلع بشدة دون مضغ، وهو فعل الثعبان بالفعل؛ فإنَّ الثعبان عندما يفتح فاه ويأخذ فريسته يلقفها، تفتح فاه ثم يأخذها فيلقفها ثم يبتلعها، {........فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ}[الشعراء:45], كل ما أفكوه أي أنهم أفكوه وافتروه، وأنهم خَيَّلُوا الناس أنَّ هذه الحبال قد تحولت بالفعل إلى حيَّات, إذا بهذه الحية الحقيقة, والثعبان الحقيقى آية الله -تبارك وتعالى- تركض وتتبع كل هذه الحبال والعصى, ثم تبتلعها في بطنها، {........فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ}[الشعراء:45], عند ذلك رأى السحرة أن هذه آية الرب -تبارك وتعالى- وأنَّ هذا فعل الله ليس هذا سِحْر، قال -جلَّ وعَلا- : {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ}[الشعراء:46]، أُلْقِي بالبناء لم يُسَمَّ فاعله، أي كأن آخذًا أخذهم وألقاهم، وليس فعلًا إراديًا منهم أنهم سجدوا مِن أنفسهم, وإنما أُلْقِيَ السحرة ساجدين، كمن أخذهم وألقاهم في الأرض سجدًا، {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ}[الشعراء:46]، وهم في هويهم إلى السجود، {قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ}[الشعراء:47]، هذا الله رب العالمين، الذي كانت أول كلمة قالها موسى لفرعون : {........فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الشعراء:16], قال إنا رسول رب العالمين، نحن أنا وأخي رسول مِن رب العالمين جئناك، فهذا رب العالمين، الذي أصبح أشيع عند الجميع أنَّ موسى إنما هو رسول مِن رب العالمين بهذا التعريف، تعريف الله -تبارك وتعالى-, {قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ}[الشعراء:47], ثم خصوا مِن العالمين موسى وهارون؛ حتى لا يُظَنّ بأنَّ هذا هو غير الله -تبارك وتعالى- فقالوا : {رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ}[الشعراء:48]، وذلك أنَّ الفرعون كان يعتقد بأنه هو رب العالمين، قال : {يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي}, ليس هناك إله غيره، فإنه منكر وجاحد للرب -تبارك وتعالى-؛ فقالوا هذا رب العالمين, الذي نؤمن به، إنما هو : {رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ}[الشعراء:48]، الذي أرسل موسى وهارون إلينا، قال : {رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ}[الشعراء:48]، أُسْقِطَ في يدِ فرعون ولكنه جاحد، معاند، فاجر، رأى هذه الآيات العيانية, البيانية, آيات قاهرة والتي عندما رآها السحرة، فإنهم آمنوا في التو واللحظة، وألقوا ساجدين لله -تبارك وتعالى-, وبهرتهم الآية، وهذه آية واضحة لكل ذي عينين، ولكن هذا الفاجر، الكافر، وقد أُسْقِطَ الأمر في يده ورأى الأمر سينفلت منه، استطاع بخبثه وفجوره أنْ يُحَوِّلَ هذا المشهد مِن مشهد كان يمكن أنْ يكون مشهد إيمان عند الجميع، وأنَّ فرعون لو أَقَرّ وقال ليس هذا بساحر، وإنما هذا رسول رب العالمين، وهذه شهادة السحرة أهل الفن بهذا الأمر, والأدلة قامت بما لا يدع مجال للشك فآمن؛ لآمن كل هذا الشعب أنَّ هذا الذين رأوا هذه الآيات عيانًا، بيانًا، كان يجعل الجميع يؤمنوا, وأنْ يكون رأس الإيمان في هذا فرعون، ولو أنه فعل هذا لآمنت هذه الجموع، لكن هذا الطاغية حَوَّلَ الأمر وبدأ بتوجيه أول طعنة إلى هؤلاء الذين آمنوا بالله -تبارك وتعالى- فاتهمهم بأنَّ هذا أمر دُبِّرَ بالليل، {قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ}[الشعراء:49], في لمح البصر، وفي سرعة البرق، بهذه البديهة الكافرة لفرعون حَوَّلَ المشهد كله، فأول شيء اتهم هؤلاء بأمر إجرائي, أنهم كيف يخرجون مِن طاعته إلى طاعة موسى دون استئذان وهو الملك، فكان ينبغي الأول أنْ يتريثوا وأنْ ينتظروا رأي ملكهم وقائدهم، {قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ........}[الشعراء:49], قبل أنْ تستأذنوني في هذا الأمر، وآذن لكم بهذا الأمر، فهذا أمر إجرائي, وقد يكون عند بعض الناس ممن يقول نعم يلومهم على هذا، كيف يؤمنون مَن ويتحولون هذا التحول دون أنْ يستأذنوا مَلِكَهُم.

ثم بدأ يطعن في نيتهم ويلبسهم تهمة هم بريئون منها، قال : {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ}, {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ}, هذا زعيمكم، الكبير, المُقَدَّم فيكم، {الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ},لم تتعلموا السحر إلا منه، فهذا رجل ساحر، وهو الذي علمكم هذا السحر، وهذا فيه أنه ما دام علمهم السحر قد رتبوا هذا الأمر، كما جاء في قول الله -تبارك وتعالى- : {إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا}, فهذا مِن مكركم ومكركم أنكم تمالئتم على هذا الأمر، وجعلتم  الأمر يسير على هذا النحو، ودبرتم هذه المؤامرة؛ لتخرجوا أهلها, وتصبحوا أنتم الحكام والملوك مكان الحاكم الفعلي والحق لأرض مصر، ثم قال لهم : {فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ}, بدأ هنا بالتهديد, ثم أصدر الحكم مباشرة ما انتظر أنْ يكون هناك محاكمة وقضية، ويحيل الأمر إلى القضاء، وإلي أنْ ينظر فيه لا, بل أخرج حُكْمَهُ؛ فقال : {........لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ}[الشعراء:49], فأصدر الحكم بالقتل, وأصدر صورة القتل كذلك، واختار أشنع وأفظع صور القتل بالتعذيب والإهانة، قال : {لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ}, أي اليد اليمنى مثلًا مع الرجل اليسرى، أو اليد اليسرى مع الرجل اليمني؛ وذلك حتى مَن يُفْعَل به هذا لا يستريح على جنب, لا يستريح على هذا الجنب, ولا هذا الجانب، ويبقى على هذا النحو، ثم يُصَلَّب, {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ}, كلكم أصلبنكم، وتصليبه أنْ يكون مثل الصليب، تشد يديه، ويشد جسمه إلى شاخص، واختار هذا الشاخص أنْ يكون في جزوع النخل، فيدخلهم أي يعصبهم على جذوع النخل، ويشد أيديهم فيه, ويربطهم فيه؛ فيكون هنا مُعَذَّب مِن كل النواحي، معذب بالقطع؛ قطع اليدين والرجلين، ومعذب بجزع النخلة الذي يصلب ويشد عليه، ويترك ينزف على هذا النحو أمام الجميع حتى يموت، فاختار هذه القتلة الشنيعة لهم؛ ليردع الجميع بهذا الحكم الذي أصدره، وفي لمح البصر, وفي نفس المشهد ألقى الروع والرعب في الجميع، وجعل الجميع يخافون، قد غُلِبَ فرعون، وغُلِبَ السحرة، وظَهَرَ كذبهم وإفكهم، لكن فرعون حَوَّلَ المشهد كله إلى مشهد كذلك، أنه الغالب، وأنَّ هذه مؤامرة، وأنه اكتشفها، وأنه علم الحقيقة، وأنه لابد مِن بتر هؤلاء, ومِن قتلهم على هذا النحو، وبالتالي فقد هذا الفاجر الكافر طريق الرب، وطريق الهداية، فضل هو، ثم أضل قومه عن طريق الهُدَى، وأبعدهم عن طريق الحق؛ فأضاع هذه الفرصة العظيمة لهم للإيمان، وهذا بيان مِن الرب انظر, {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ}[الشعراء:8]، {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}[الشعراء:9]، لم يكن مِن السحرة الذين فاجأهم هذا الحكم، وكانوا ينتظرون مثل هذا الإيمان أنْ يكونوا هم طليعة أهل الإيمان في قومهم، وفي شعبهم، وأمام الجميع، وأنهم قد شهدوا هذا؛ فيشهد الجميع ورائهم, لكنهم فوجئوا بأنهم وُضِعُوا هم في فُوَّهَةِ الأمر, وأنه هو الذي ينفذ فيهم هذا الحكم الشديد، عند ذلك لم يجدوا إلا الاستسلام لقضاء الرب, الإله -سبحانه وتعالى-, {قَالُوا لا ضَيْرَ}, الضير الضرر، {قَالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ}[الشعراء:50]، إنا عندما نموت فإننا سنعود إلى الله -تبارك وتعالى-, أي ما هذه الدنيا التي نبقى فيها، {قَالُوا لا ضَيْرَ}, مهما كان مِن شدة هذا الأمر إلا أنه لا ضير منه، {........إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ}[الشعراء:50]، نحن راجعون إلى الله -تبارك وتعالى-, وما دمنا  أننا بعد الموت نرجع إلى الله -تبارك وتعالى- فالله ربنا، وهو يستقبلنا، وهو حامينا، ولاشك أنَّ جزاءنا عنده ، {........إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ}[الشعراء:50]، {إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ}[الشعراء:51], {إِنَّا نَطْمَعُ}, طمعهم أي رغبتهم في ما عند الله -تبارك وتعالى- مِن الخير، {أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا}, يمحو عنا سيئات ما سلف منا مِن الكفر وعمل السحر، {أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ}[الشعراء:51], بأنْ كنا أول المؤمنين، لأنْ كنا أول المؤمنين, آمنا, كنا نحن طليعة أهل الإيمان، وتحملنا هذا أنَّ الله -تبارك وتعالى- بهذه المسابقة إلى الخير، السابقة للخير، وأنْ نكون نحن أول المؤمنين, أنْ يمحو الله -تبارك وتعالى- عنا سيئاتنا، وانتهت هذه الصفحة على هذا النحو بهذا المشهد العظيم، وانتهت بإيمان هذه الكوكبة فقط، هؤلاء السحرة الذين هم جاءوا طامعين في أجر مِن فرعون، وممالئين له، وحالفين بعزته، وكانوا معه, ولكنهم أكرمهم الله -تبارك وتعالى- بالإيمان بهذه المعجزة، ثم نالهم ما نالهم بعد ذلك مِن الأذى جزاء إيمانهم، وفقد الناس بإجرام فرعون على هذا النحو, وفقد الناس طريق الإيمان بالله -تبارك وتعالى-, ثم إنَّ موسى مكث بعد في أرض مصر ما شاء الله -تبارك وتعالى- أنْ يمكث مع شدة وطء فرعون وقومه لهم، وقيامه لهم بالتعذيب والإهانة, وأنه إلى متي سيدعهم على هذا النحو، {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ}[الأعراف:127], {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}[الأعراف:128], {قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ}[الأعراف:129], بقى موسى على هذا النحو.

ثم إنَّ الله -تبارك وتعالى- أوحي إليه أنْ يخرج هو وقومه مِن أرض مصر، قال -جلَّ وعَلا- : {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ}[الشعراء:52], {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى}, بعد أنْ مكث ما مكث، وحصل مِن الآيات ما حصل، ولم يؤمن قوم فرعون, {أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي}, السرى هي السفر ليلًا، {بِعِبَادِي}, نسبهم الله إليه؛ لأنهم اختاروا العبودية لله -تبارك وتعالى-, وهم بنو إسرائيل مع موسى، {إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ}, سيخرج قوم فرعون في إثركم، قال -جلَّ وعَلا- : {فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ}[الشعراء:53]، أي أنَّ موسى أخبر قومه تواعدوا في يوم يخرجون سرًا ليلًا, وخرجوا قام المصريون؛ فرعون وقومه، ثم وجدوا أنَّ بني إسرائيل خرجوا عن بَكْرَةِ أبيهم، وخلوا البلد وخرجوا، فَجُنَّ جنون فرعون, وبدلًا مِن أن يقول فليذهبوا إلى ما هم ذاهبون إليه, وتخلصنا منهم، وانتهى الأمر إلا أنه جُنَّ جنونهم ورأى أنَّ في هذا إهانة لهم؛ إهانة لفرعون وجنده، وكيف يخرجون مِن أرضه، وهم كانوا تحت قهره، وفي ذُلِّهِ ويقومون ما يقومون به مِن الأعمال والسُّخْرة، ورأى أنَّ هذه إهانة إذن لابد مِن الذهاب في إثرهم، وإعادتهم مرة ثانية إلى الذُّلِ والخضوع، قال -جلَّ وعَلا- : {فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ}[الشعراء:53]، في مدائن مصر, {حَاشِرِينَ}, جامعين, يقولون : {إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ}[الشعراء:54], {وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ}[الشعراء:55], {وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ}[الشعراء:56], خرجوا ينادون في مدائن مصر بهذه الكلمات، أولًا : {إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ}[الشعراء:54], فقلل أولًا مِن بني إسرائيل الذين آمنوا بمصر، وقيل أنهم في هذا النحو سبعمائة وخمسين ألف، فإنَّ بني إسرائيل مكثوا منذ أنَّ دخلوا أرض مصر في وقت يوسف -عليه السلام-, إلي موسى نحو خمسمائة سنة، وتكاثر عددهم إلى نحو سبعمائة وخمسين ألف؛ فقال : {إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ}[الشعراء:54]، قللهم؛ وذلك حتى يشجع قومه إلى أنْ ينفذوا ما يريد منهم مِن إذلالهم وإعادتهم إلى الذُّلِ مرة ثانية، {وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ}[الشعراء:55], أي لنا لغائظون، وغيظهم هنا منهم أنهم خرجوا عل هذا النحو، وفروا منه دون أنْ يبقوا تحت الأسر، وتحت التعذيب، {وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ}[الشعراء:56], إنا لجميع حاذرون منهم؛ فربما كان يقول لهم إنَّ هؤلاء ربما أنهم يعودوا ويأتوا بقوة ويغير هذا، وأنهم عند خروجهم هذا ليس خروجًا نهائيًا؛ فقد يَعودوا يقاتلون إذا لابد أنْ نذهب لنستأصلهم, أو نبيدهم ونعيدهم مرة ثانية إلى الأسر، إلى تحت أسرنا، وتحت حكمنا، {وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ}[الشعراء:56], أي منهم, قال -جلَّ وعَلا- : {فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ}[الشعراء:57], أي هذا مِن تدبير الرب -سبحانه وتعالى- الذين لا يعلمونه، أنْ يخرجهم مِن أرض مصر على هذا النحو؛ ليكون مآلهم أنْ يغرقهم الله -تبارك وتعالى-، {فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ}[الشعراء:57], {فَأَخْرَجْنَاهُمْ}, أي قوم فرعون، {مِنْ جَنَّاتٍ}, بساتين، {وَعُيُونٍ}, مياه تجرى, {وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ}[الشعراء:58]، {كُنُوزٍ}, فهم مِن أول الشعوب الذين اكتشفوا الذهب والفضة، وحَلُّوا بها نساءهم وقصورهم وبيوتهم, {وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ}[الشعراء:58]، {كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ}[الشعراء:59].

 ونعود -إنْ شاء الله- إلى هذه الآيات في الحلقة الآتية، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد.