الحمد لله ربِّ العالمين، الرحمن الرحيم, مالك يوم الدين, والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين, سيدنا ونبينا محمد, وعلى آله وأصحابه, ومَن اهتدى بهداه, وعمل بسنته إلى يوم الدين.
وبعد؛ فقد وقفنا في الحلقة الماضية عند قول الله -تبارك وتعالى- عن إبراهيم -عليه السلام-، أعوذ بالله مِن الشيطان الرجيم، {رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ}[الشعراء:83], {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ}[الشعراء:84], {وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ}[الشعراء:85], {وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ}[الشعراء:86], {وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ}[الشعراء:87], {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ}[الشعراء:88], {إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}[الشعراء:89], {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ}[الشعراء:90], {وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ}[الشعراء:91], {وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ}[الشعراء:92], {مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ}[الشعراء:93], {فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ}[الشعراء:94], {وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ}[الشعراء:95], {قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ}[الشعراء:96], {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ}[الشعراء:97], {إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ}[الشعراء:98], {وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ}[الشعراء:99], {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ}[الشعراء:100], {وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ}[الشعراء:101], {فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}[الشعراء:102], {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ}[الشعراء:103], {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}[الشعراء:104].
بعد أنْ اقام إبراهيم -عليه السلام- الحُجَّة على قومه في بيان فساد ما يعبدونه مِن دون الله -تبارك وتعالى- مِن هذه الأصنام التي لا تنفع, ولا تضر، وأنه متوجهٌ إلى عبادة الرب الإله، الذي لا إله إلا هو -سبحانه وتعالى- قال عن أصنامهم : {قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ}[الشعراء:75], {أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ}[الشعراء:76], {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ}[الشعراء:77], {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ}[الشعراء:78], {وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ}[الشعراء:79], {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ}[الشعراء:80], {وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ}[الشعراء:81], {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ}[الشعراء:82], {رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ}[الشعراء:83]، بدأ بعد هذا يدعوا الله -تبارك وتعالى-, يدعوا ربه -جلَّ وعَلا-, قال : {رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ}[الشعراء:83]، حُكْم عِلْم يستطيع أنْ يحكم به على الأمور، يحكم بالحكم الإلهي، بحكم الله -تبارك وتعالى-, بنور الله -تبارك وتعالى- {وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ}، عبادك الصالحين، أي بعد الموت ألحقني بعبادك الصالحين, أي في الجنة, الذين يذكرون جنة الله -تبارك وتعالى-، {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ}[الشعراء:84]، لسان صدق مِن الناس, لسان صادق يذكرني به مَن يأتي مِن الأهل والإيمان بالخير، وقد جعل الله -تبارك وتعالى- له لسان صدق عظيم، كما قال -جلَّ وعَلا- : {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ}[الشعراء:84], فلا يذكر الإيمان إلا ويذكر إبراهيم -عليه السلام-، أبو الأنبياء فهو أبو الأنبياء جميعًا مِن وقته وإلى يوم القيامة، هو أبو إسحاق، وأبو يعقوب بعد ذلك, وما تناسل مِن ذرية إسرائيل إلى عيسى بن مريم -عليه السلام-، ثم لما انتقلت الرسالة إلى محمد بن عبدالله، ومحمد بن عبدالله الذي ينتهي نسبه بإسماعيل بن إبراهيم, بكِرْ إبراهيم -عليه السلام-، ذُكِرَ وجعله الله -تبارك وتعالى- منارًا وإمامًا يقتدى به عند هؤلاء جميعًا، وبُعِثَ نبينا محمد خاتم الرسل على منهجه، وعلى ملته -سبحانه وتعالى-, {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}[النحل:123]، فأصبح إبراهيم يذكر بكل خير, ونذكره عندما نصلي نبينا نصلى على إبراهيم, اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد ، كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم، أنك حميد مجيد, {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ}[الشعراء:84], {وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ}[الشعراء:85], الذين يرثونها، أي تكون لهم ميراثًا، ملكًا، أبديًا لا ينقطع، جنة النعيم في الآخرة، {وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ}[الشعراء:86], دعا لأبيه بالمغفرة، وقد أخبر -سبحانه وتعالى-أنَّ هذا الدعاء له، إنما كان فقط عن موعدة وعدها إياه أنْ يرجع عن أصنامه ويتوب, ولكنه لما أصر أبوه على طريقته, وبقى على هذا تبرأ إبراهيم منه، كما قال الله -تبارك وتعالى- : {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ}[ال توبة:114]، {وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ}[الشعراء:87], {تُخْزِنِي}, الخزي أي خزي؛ فالخزي الأكبر لاشك مَن يدخل النار؛ فإنَّ مَن أدخله الله -تبارك وتعالى- النار فقد أخزاه، {ر إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ}, لأنه يدخل بالخزي والعار إلى السجن الأبدي، الذي لا يخرج منه -عياذًا بالله-، وكذلك قد يكون خزي أقل مِن هذا، فأنْ يخزى الإنسان بأنْ يُفْضَحَ بأعماله في الآخرة، يُشَهَّر به أمام الجمع، هذا الجمع العظيم، يجمع الله -تبارك وتعالى- الأولين والآخرين، {ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ}, فهذا يوم يجمع الله -تبارك وتعالى- فيه الأولين والآخرين، ومِن الذين يخزون الغادر، كما قال النبي -صلوات الله والسلام عليه : «يرفع لكل غادر لواء تحت استه يوم القيامة», وكل مَن عذبه الله -تبارك وتعالى- ولو عذاب جزئي فهو خزي بهذا المعني، فأي خزي دعا الله -تبارك وتعالى- ألا يخزيه أي خزي في هذا اليوم العظيم الذي تهتك فيه السرائر، ويظهر فيه عمل كل إنسان، ويظهر كل الإنسان على حقيقته، قال : {وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ}[الشعراء:87], {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ}[الشعراء:88], وقد جاء في الحديث؛ حديث الإمام البخاري (أنَّ إبراهيم يلقى أباه آزر يوم القيامة وقد سُرْبِلَ آزر بسربال مِن قطران؛ فيقول له إبراهيم : يا أبتِ ألم أقل لك لا تعصني، أي في الدنيا، فيقول له آزر: يقول لابنه إبراهيم : يا بني الآن لا أعصيك ؛فيدعو إبراهيم ربه -تبارك وتعالى- ويقول : ربي لقد وعدتني ألا {تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ}, وأي خزي أكبر مِن أب الأبعد، وأي خزي لي أكبر مِن أنَّ أبي يؤخذ به إلى النار, وهذا أبو إبراهيم؛ فيقول له الله -تبارك وتعالى- : يا إبراهيم أني حرمت الجنة على الكافرين، وهذا حُكْمٌ إلهي، حُكْم الله -تبارك وتعالى-, وحكم الله لا يغير, ولا يتبدل، قال إني حرمت الجنة على الكافرين، وانظر تحت قدميك، فينظر تحت قدميه، فإذا بذيخ ملطخ بالدماء، ذكر الضبع, يمسخ أباه ضبعًا ثم يؤخذ بقوائمه, ويلقى به في النار), فهذا لأنه لا نسب يوم القيامة, {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ}[المؤمنون:101], ولا ينفع الكافر شفاعة الشافعين مهما كان, {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ}[المدثر:48], مهما كان الشافع له، فالشافع للكافر لا تقبل, لا يقبل الله -تبارك وتعالى- شفاعة في كافر قط مات على الكفر.
{وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ}[الشعراء:87], {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ}[الشعراء:88]، {لا يَنْفَعُ مَالٌ}, لو فُرِضَ أنه قد جاء بهذا المال؛ فإنه لا ينفع, {وَلا بَنُونَ}, أولاد؛ فإنهم لا ينفعون أباهم, كما قال -تبارك وتعالى- : {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ}[لقمان:33], ومهما أبصر مِن أقاربه, ومِن أهله فإنهم لا ينفعونه, {يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ}[المعارج:11], {وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ}[المعارج:12], {وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ}[المعارج:13], {وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ}[المعارج:14], بل يتمنى الإنسان أنْ ينقذ نَفْسَهُ، بأي شيء يدفعه، لو دفع أولاده، ودفع زوجته، ودفع الناس كلهم لأنْ ينقذ هو يفعل؛ فهذا يوم كل إنسان أمام عمله، ولا ينفعه إلا عمله، {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ}[الشعراء:88], {إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}[الشعراء:89], والقلب السليم ضد المريض, كما قال الله -جلَّ وعلَا- : {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا........}[البقرة:10]، و قول الله -تبارك وتعالى- : {........فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا}[الأحزاب:32], فجاء مرض، مرض النفاق، ومرض المنافقين, مرض شك وتكذيب، ومرض لؤم يُظْهِرُونَ شيئًا ويخفون شيئًا آخر، يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر؛ فهو خبث ولؤم وكذب، فهذا مِن مرض قلوبهم، والمرض الثاني مرض الشهوة، مرض الميل إلى الحرام فهذا مريض، الذي يميل إلى ما حرمه الله -تبارك وتعالى-, وينظر إلى زوجات الآخرين، ومَن ليسوا بمحارمه ويطمع فيهم؛ فهذا فيه مرض، الكافر كذلك مريض القلب، بل قلبه أسود، مسمط، مختوم عليه, لا يفقه؛ فهذا مِن أشنع أمراض القلوب هو عدم فقهها، لهم قلوب لا يعقلون بها، فهو قلب مفرغ ما فيه معنى, أي المعني الذي مِن أجله خُلِقَ القلب وهو العقل, لا يعقل، {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ}, فمرض القلب قد يكون العمى، عمى القلب هذا, وقد يكون النفاق وهو الكذب والتلون، وقد يكون الميل إلى الحرام، والقلب السليم هو الذي سَلِمَ مِن كل هذه الآفات، سَلِمَ مِن كل آفات القلوب، فهو قلب قد عَقَلَ عن الله -تبارك وتعالى-، آمن بالله -تبارك وتعالى- ووحده، واستقام على أمر الله -تبارك وتعالى-, لم يمل إلى حرام، وليس فيه أدني شك, بل هو قلب مؤمن؛ فهذا القلب السليم، ولا شك أنَّ صاحب القلب السليم، لا شك أنه يعمل، أي قد استقام على أمر الله، لا يمكن قلب سليم ولم يستقم على أمر الله -تبارك وتعالى-؛ فهو إيمانٌ وإسلامٌ كذلك، لابد أنْ يكون هذا صاحب القلب السليم مؤمنًا، مسلمًا، مؤمنًا بعمل القلب، ومسلم لله -تبارك وتعالى-مطيع له، {إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}[الشعراء:89], {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ}[الشعراء:90]، إخبار مِن الله -تبارك وتعالى- بأنه في هذا الوقت، أي يوم القيامة، تُزْلَف الجنة، تُزْلَف تقرب، الزلفى القربى، {الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ}, للخائفين مِن الله -تبارك وتعالى-، المتقين الذين جعلوا لهم وقاية بينهم وبين عذاب الله -تبارك وتعالى-، ولا يكون ذلك إلا بالإيمان بالله -تبارك وتعالى- وطاعته والانتهاء عن محارمه، والإخلاص له -سبحانه وتعالى-, {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ}[الشعراء:90], نسأل الله أنْ يجعلنا منهم، {وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ}[الشعراء:91], {وَبُرِّزَتِ}, أُظْهِرَت، وقد جاء في الحديث أنها تجر، ويأتي بها يوم القيامة إلى المشهد؛ ليراها الناس، وأنه يخرج منها عنق، يطلع على الناس؛ فعند ذلك تسود وجوه أهل الكفر الذين هم واقعوها، نعوذ بالله -تبارك وتعالى- مِن حالهم, {وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ}[الشعراء:91], {الْجَحِيمُ}, هذ السجن العظيم، العميق, الذي جعله الله -تبارك وتعالى- نارًا قاعه وغطائه وأسواره، وكل ما فيه -عياذًا بالله-, {وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ}, الغاوي هو الذي ضَلَّ, والغواية هي الضلال، والسير في الطريق البعيد عن الحق، غوى بمعنى ضَلَّ وذهب عن الحق، {وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ}, وقيل لهم في هذه الحالة العصيبة : {........أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ}[الشعراء:92], {هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ}[الشعراء:93]، {........أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ}[الشعراء:92], سؤال للتبكيت والتقريع والتأنيب, أين آلهتكم التي عبدتموها مِن دون الله -تبارك وتعالى-؟ وهذا في سياق قوم إبراهيم فإنهم عبدوا أصنام لا تنفع ولا تضر، قال لهم : {مَا تَعْبُدُونَ}, {قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ}[الشعراء:71], {قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ}[الشعراء:72], {أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ}[الشعراء:73], {قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ}[الشعراء:74]، فهؤلاء وأمثالهم كلهم ينادون : {........أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ}[الشعراء:92]، أين الذين كنتم تعبدون؟ {هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ }[الشعراء:93] أي مِن هذا مِن هذا الحال، ينصرونكم مِن الله -تبارك وتعالى-، ينصرونكم مِن دخول النار، {أَوْ يَنْتَصِرُونَ}[الشعراء:93], هم وذلك أن َّهذه الآلهة كذلك ستقذف معهم، وتحشر معهم إلى نار جهنم، {هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ}[الشعراء:93]، أي هذه الآلهة التي عبدتموها مِن دون الله -تبارك وتعالى-, قال -جلَّ وعَلا- : {فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ}[الشعراء:94], {وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ}[الشعراء:95], كبكبوا فيها, أي ألقوا فيها، كُبُّوا فيها مرة بعد مرة، فوج إثر فوج، {هُمْ وَالْغَاوُونَ}, كل مَن غوى وضل عن طريق الرب -تبارك وتعالى-, وعبد مِن دون الله -تبارك وتعالى- إلهًا آخر؛ فإنَّ مصيره إلى الجحيم -عياذًا بالله-، {هُمْ وَالْغَاوُونَ}, {وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ}[الشعراء:95], كل جنود إبليس مِن الإنس والجن، مِن الجن الذين جُنِّدُوا لهذا الأمر لإضلال الناس، وكذلك مِن الإنس الذين همهم إغواء الناس كذلك، فهؤلاء وهؤلاء مِن القادة المضلين، مِن شياطين الإنس، كلهم يجمعهم الله -تبارك وتعالى- ويحشرهم, ويكبوا على وجوههم في النار عياذًا بالله، {فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ}، {وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ}[الشعراء:95]، {قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ}[الشعراء:96], {قَالُوا}, أي بعضهم لبعض، {وَهُمْ فِيهَا}, {وَهُمْ}, هؤلاء جميعًا, {فِيهَا يَخْتَصِمُونَ}, الأتباع مِمَن أضلوهم، والإنس مِن الجن الذي أضله، والشياطين يردوا على هؤلاء، والكبراء يردوا على الأتباع الذين اتبعوهم، كل منهم يُلْقِي بالملامة على الآخر، ويلعن الآخر، ويلعنه الآخر ويتخاصمون، كلهم يتخاصمون في النار، ويسب بعضهم بعض, {إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ}[ص:64]{قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ}[الشعراء:96]، {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ}[الشعراء:97]، {تَاللَّهِ}, يقسمون بالله, {........إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ}[الشعراء:97]، هنا شهدوا على أنفسهم أنهم كانوا في ضلال مبين، بَيِّن، واضح، ما فيه شك أنَّ الذي يقول أنَّ الذي كنا فيه كان ضلال واضحًا بينًا, {إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ}[الشعراء:98], عندما جعلناكم في منزلة رب العالمين -سبحانه وتعالى- فعبدناكم، عكفنا عندكم، دعوناكم، رجوناكم، خفناكم، طلبنا منكم، أعطيناكم ثمرة قلوبنا هذه ثمرة القلب، وأشرف الأعمال، مِن صلاة وطواف ودعاء وذكر، ما يعطى لله -تبارك وتعالى-، أعطوه بهذه الأصنام التي لا تنفع ولا تضر، ولهذه الآلهة، ولهذه الطواغيت التي هي في الأساس مضلة، الشيطان أكبر هذه الطواغيت، وكل مَن أطاع الشيطان، ودعا إلى عبادة نَفْسِهِ، ودعا إلى عبادة غير الله -تبارك وتعالى-، فهو طاغوت مُضِلّ, {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ}[الشعراء:97], {إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ}[الشعراء:98], {وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ}[الشعراء:99], {وَمَا أَضَلَّنَا}, عن طريق الله -تبارك وتعالى-, {إِلَّا الْمُجْرِمُونَ}, مِن القادة ومِن الزعماء، ومِن الطواغيت المجرمة الذين زوروا لنا، وحَسَّنُوا لنا طريق الشر وعبادة غير الله -تبارك وتعالى-، {وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ}[الشعراء:99], فاعلوا الإجرام، والإجرام هو الذنب العظيم، {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ}[الشعراء:100], يقروا بأنفسهم الآن بعد أنْ يروا الحال على ما هو عليه، ليس لنا شافع، شافع يشفع لنا عند الله -تبارك وتعالى-, وسمي الشافع الذي يحمل قضية الآخر إلي مَن يُشْفَع عنده بأنه شافع؛ لأنه كأنه أقترن, أصبح شفع مع الذي يطلب له، دفع مضرة, أو جلب منفعة، {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ}[الشعراء:100]، أحد يقوم يشفع لنا عند الله -تبارك وتعالى-، {وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ}[الشعراء:101], {حَمِيمٍ}, يحموا, سمي الصديق حميمًا إذا كان صديق صِدْق، يحموا لصاحبه، ويغضب له، ويحزن لحزنه؛ فهم سيقابلون العذاب الأكبر، دخول النار, وليس هناك مَن يزرف عليهم دمعة، ولا مَن يَرْثَى لحالهم، ولا مَن يشفق عليهم، لا يوجد صديق يتأسف ويرثى لحالهم، ربما الإنسان إذا لقي في الدنيا مصيبة، وكان هناك مَن يحزن معه، ومَن يواسيه ويصبره ويثبته فهذا يخفف عنه، هذا يوم القيامة لا يكون، لا يكون للكافر بتاتًا، ليس له صديق قَطّ، حتى أخلص المخلصين له، وأقرب المقربين منه مِن نسبه ونحو ذلك، إذا كانوا في الجنة فقطعت الصلة بينه وبينهم، وإنْ كانوا في النار، فهو لا يطالعهم, لا أحد يشفق على الآخر, بل كل يسب الآخر ويلومه، مهما كان مِن يوم كان في الدنيا أحباب، {الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ}[الزخرف:67], {الأَخِلَّاءُ},الأخلاء في الدنيا الذين كانوا في أعظم مراحل الصداقة، الخُلَّة، {........يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ}[الزخرف:67], فيشعر كل منهم أنه بقي وحده, وأنه لا أحد يبكي عليه، ولا يتأسف له؛ فيقول : {وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ}[الشعراء:101], {فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}[الشعراء:102], لو هنا للتمني البعيد، يا ليت لنا كرة، {كَرَّةً}, رجعة مرة ثانية، الكرة هي الرجوع, نَكِرُّ فنرجع إلى الدنيا ثانية، {فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}, فنؤمن مرة ثانية، ونصلح عملنا حتى ننجوا مِن هذا العذاب، {فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}[الشعراء:102], ولكن هذا الرجاء انتهى وقته, يترك هذا.
وقد أخبر -سبحانه وتعالى- بأنه لا رجعة، {........ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}[المؤمنون:100], {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ}[المؤمنون:101], لا رجعة إلى الدنيا مرة ثانية, وليست هناك فرصة، هي فرصة وحيدة، هي فرصة وحيدة تعطى لهذا الإنسان في هذه الحياة، فإنْ اهتم لها وآمن واتقى الله -تبارك وتعالى- وسار في طريقة سعد السعادة الأبدية، وإنْ ضيعها فقد أضاع عمرة وخسر كل شيء، {........قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ}[الزمر:15], الخسارة البينة التي لا مجال لتعويضها بتاتًا، ولا مجال للخروج منها، فلا مجال لأنْ تتعوض، ولا أنْ يخرج الإنسان فهذا لا مجال له، {فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً........}[الشعراء:102], أي رجعة إلى الدنيا, {فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}, قال -جلَّ وعَلا- : {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً........} [الشعراء:103], {إِنَّ فِي ذَلِكَ}, هذه الإشارة إلى ما قصه الله -تبارك وتعالى- هنا مِن خبر إبراهيم -عليه السلام-، { لَآيَةً}, واضحة أنَّ الكافر لا تنفع معه آية.
انظر آيات الله -تبارك وتعالى- البينات, الواضحات، حجته القاطعة على لسان إبراهيم لقومه، كيف لم يستفيد منها شيئًا، وبقوا على كفرهم وعنادهم إلى أنْ كان الأمر على هذا النحو، {........وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ}[الشعراء:103], أكثر القوم الذين أُرْسِلَ إليهم إيراهيم -عليه السلام- لم يكونوا مؤمنين، فإنَّ حصيلة الذين آمنوا إبراهيم، حصيلة قليلة جدًا، إنما هي زوجته سارة هذه التي آمنت معه، وكان يقول لها يومًا، يا سارة, ليس في الأرض اليوم مؤمنًا إلا أنا وأنتِ, وذلك عندما نزلوا أرض مصر، ثم لما كان بعد ذلك في بلدهم، في الكلدانيين في أشور، قال -تبارك وتعالى- : {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ}, لم يؤمن له إلا ابن أخيه فقط، فهذا كل الحصيلة المحصلة التي خرج بها إيراهيم -عليه السلام- مِن هذه الدعوة، الظاهرة, البينة، ومِن إيقاف قومه على حقيقة التوحيد، تحطيمه لأصنامهم، مجادلته فيهم، ثم قيامه بحرقه في النار، وجمع النار له، وجمع الأمُةَّ كلها، لتشاهد هذا المشهد، ثم ينجيه الله -تبارك وتعالى-, ينجيه إلهه أمامهم مِن النار ولا يؤمنون، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ........}[الشعراء:103], أي الذين بعثوا فيهم إبراهيم -عليه السلام- بمؤمنين، {........وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ}[الشعراء:103], {وَإِنَّ رَبَّكَ}, يا محمد -صلوات الله والسلام عليه-, {لَهُوَ الْعَزِيزُ}, الغالب, الذي لا يغلبه أحد -سبحانه وتعالى-, {الرَّحِيمُ}, ومِن عزته -سبحانه وتعالى- وغلبته أنْ غلب هؤلاء القوم الكافرين، انظر مآلهم, ثم رحمة الله -تبارك وتعالى- بعباده المؤمنين.
طوى الله -تبارك وتعالى- صفحة هؤلاء، وشَرَعَ الرب -تبارك وتعالى- يُبَيِّنُ صفحة الرسالات بعد ذلك؛ فقال -جلَّ وعَلا- : {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ}[الشعراء:105], {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ}[الشعراء:106], {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ}[الشعراء:107], {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ}[الشعراء:108], {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الشعراء:109], {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ}[الشعراء:110], بدأ الله -تبارك وتعالى بذكر الرسالات بدءً بنوح -عليه السلام-, ثم هود ثم صالح, ثم لوط, ثم شعيب بهذا الترتيب الزمني في هذه السورة، وقد سبق ما قصته الله -تبارك وتعالى- مِن تقديم قصة موسى -عليه السلام-, ثم إبراهيم، ولعل السبب في تقديم قصة موسى وإبراهيم ولم تأتِ في سياقها في هذه السورة؛ أنَّ التقديم لأهمية هذا الأمر؛ فإنَّ الآيات التي أُرْسِلَ بها موسى مِن أعظم هؤلاء الأنبياء، هل هي لعلها أكبر آيات الأنبياء العيانية، البيانية، ثم إنه مِن أكبر ومِن أكثر الرسل جوبهوا بالتكذيب، موسى -عليه السلام-، ثم كذلك إبراهيم، إبراهيم أدلته التي جاء بها أمور واضحة جدًا، مِن الحجة القاهرة، ثم مِن المعجزة الباهرة، معجزة أنْ يحرق بالنار، يحاول قومه أنْ يحرقوه بالنار, ثم ينجيه الله -تبارك وتعالى-؛ فلذلك جاء ترتيب القَصَص هنا، قصص الأنبياء في هذه السورة؛ سورة الشعراء بحسب الآيات العظيمة التي أُرْسِلَ بها كل رسول، ثم كون جاء لكل منهم هذا التكذيب، لعله أكبر رسول كُذِّبَ هو موسى -عليه السلام- مع حججه العظيمة ثم إبراهيم، ثم بعد ذلك يأتي السياق مِن نوح, يأتي السياق, يمر السياق بالأنبياء بحسب الترتيب الزمني، نوح فهود فصالح فلوط شعيب -عيهم السلام-.
وإنْ شاء الله نأتي لنسير مع هذا السياق, أستغفر الله مِن كل ذنب, وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد.