السبت 19 شوّال 1445 . 27 أبريل 2024

الحلقة (45) - سورة البقرة 164

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على عبد الله والرسول الأمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد إيها الإخوة الكرام، وصلنا إلى قول الله -تبارك وتعالى- {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ}[البقرة:163]، {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}[البقرة:164]، يخبر -سبحانه وتعالى- عباده أنه هو الإله الواحد، الذي لا إله إلا هو، وأن الإله لا يكون إلا واحدا، {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ}، معبودكم الذي يجب أن تألهوه وتعبدوه إلهٌ واحد، لا إله إلا هو، وهو الرب الله الرحمن الرحيم -سبحانه وتعالى-، أقام الله -تبارك وتعالى- على هذه القضية الخبرية التي يخبر الله -تبارك وتعالى- بها عباده، الأدلة المنظورة؛ أدلة كونية ظاهرة، ينظرها كل ذي عقل، فساق الله -تبارك وتعالى- هنا من هذه الأدلة، قال أولًا {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ}، عدَّد الله -تبارك وتعالى- سبع آيات كونية منظورة، وقال فيها: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ}، إلى أن قال: {لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}.

فأول هذه الآيات قول الله {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ}، الخَلق بمعنى الإيجاد من العدم، الإخراج من العدم والتقدير، والسماوات كل ما علانا، قد أخبر الله -تبارك وتعالى- أنها سبع، وحقيقة السماوات على الحقيقة لما يصل البشر فيها إلى حقيقة علمها، وذلك أن الله -تبارك وتعالى- أوسعها سعة لا تبلغها عقولنا، ولن نبلغها بآلاتنا مهما وصلنا، قال -جل وعلا-: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ ........}[الذاريات:47]،  بقوة، {وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ}، وأخبر -سبحانه وتعالى- أنه مهما حاول الإنسان أن يصل إلى هذه الأبعاد فإنه لن يستطيع، قال –جل وعلا- {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ}[الملك:4]، قال {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[الملك:1]، {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ}[الملك:2]، {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا}، طباقا؛ طبقات بعضها فوق بعض، {........ مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ}[الملك:3]،  هل ترى من تشقق وخراب في السماوات التي فوقك؟ هل ترى من فطور؟ {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ}، المرة بعد المرة، {........ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ}[الملك:4]، قد حاول الإنسان أن ينظر بعينه المجردة، ثم بآلة وهو على الأرض، ثم أخذ آلاته ومناظيره وصعد بها إلى الكواكب وركزها ونظر، وكلما بالغ في النظر وجد أن هناك أبعادًا لا يستطيع أن يصلها، فالسماوات وحقيقتها على حقيقتها وصورتها الحقيقية، هندستها، بناؤها، غير معلومة لنا على الحقيقة، والأرض التي نحن عليها علمنا بعض من أسرارها، أبعادها، صفتها، شكلها، بما مكَّن الله -تبارك وتعالى- به من حقائق العلم ومن الآلات، غصنا في بحارها، اخترقنا بعض أطباقها.

قال -جل وعلا- {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ}، خلقها إبرازها من العدم إلى الوجود، بناؤها على ما بنيت عليه. هذه آية عظيمة من آيات الله -تبارك وتعالى-، فهندسة الكون على هذا النحو، بناء الكون على هذه الصورة التي بناه الله -تبارك وتعالى- عليها، وإن كنا نحن مخلوقٌا ضئيلا صغير الحجم يعيش على كوكب صغير وهو كوكب الأرض، تابعٌ لنجم عظيم أكبر منه مليون مرة وهو الشمس، ثم نحن ومجموعتنا نعتبر مجموعة ضئيلة صغيرة بالنسبة إلى مجموعات أخرى في مجرتنا، ومجرتنا واحدة من آلاف وعشرات الألوف من المجرات العظيمة، التي تحيط بنا وتسبح في هذا الفضاء، الذي لا يُعرف له حد ينتهي إليه، ونهاية ينتهي إليها، هذه آية عظيمة تدل على أن الذي خلق هذا الخَلق بهذا الإتقان، وبهذه السعة، وبهذه القوة، وبهذه الدقة، فإن انضباط كل جزء من السماوات والأرض انضباط هائل، حركة القمر مثلًا وهو جزء من هذه السماء التي فوقنا, انضباط جريانه بالدقيقة بجزء من الثانية، الشمس التي ندور حولها, نحن ننضبط في مسارنا ومدارنا, ولا نخرج عن هذا بجزء من الثانية، كما قال -تبارك وتعالى- {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ}[الرحمن:5]، وحسبان صفة مبالغة من الحساب، ما قال بحساب، لأن بحساب أي ليس مبالغًا فيه، لكن قول الله بحسبان أنها بحسابٍ بالغ, ما بلغ في الدقة والإعجاز، {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ}[الرحمن:5]، {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ}، هذه من آيات الله -عز وجل-، {........ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ}[فصلت:37].

فهذا خلق السماوات والأرض، وهذا أمرٌ لو ركز البشر جهودهم وعلومهم وجلسوا فقط موفَّرَين على هذا العلم، أن يتعلموا كيفية خلق السماوات والأرض لما وصلوا في ذلك إلى غاية وإلى نهاية، ولم يعرفوا أصلًا الصورة النهائية لهذا الخَلق، فإذن هذا أمر أكبر من أن تبلغه عقول البشر، مما يدل على أن خالق هذه المخلوقات أعظم من هذه المخلوقات، لأنه لا يمكن أن يقهر هذه المخلوقات الكبيرة إلا من هو أقوى منها وأقدر منها، ولقد قال -سبحانه وتعالى-: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ........}[فاطر:41]،  ما أمسكهما من أحدٍ من بعده، فإن إمساك السماوات والأرض كلٌ في مساره وفي مداره على النحو الذي يقوم به؛ هذا لا يقدر عليه إلا خالقه، إلا الله -سبحانه وتعالى- الرب الذي أخبرنا بأنه الرحمن الرحيم، {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ}[البقرة:163]، فهذا الذي خلق السماوات والأرض على هذا النحو، هو الذي يستحق وحده العبادة، هذا دليل من أدلة أنه الإله الواحد الذي لا إله إلا هو، لأن كل ما يعبد من دونه لا يمكن أن يدَّعي شيئًا من هذه، من خلق السماوات والأرض، من قوة هذا الإله، من عظمة هذا الإله، فكيف يكون ما يعبد من دونه منافس، ومساو وند لهذا الإله -سبحانه وتعالى-، فهذا أول آية، وهي آيةٌ عظيمة، لا يسعها مجلدات ولا علوم البشر كلها لو -اجتمعت- أن تعلم حقيقة خلق السماوات والأرض كيف هي؟ وكيف بنيت؟ وما هي أسرارها؟ وكيف تقوم؟ فإنهم لا يستطيعون ذلك، إذن يسَلَّم بالخالق القوي القادر الذي خلق السماوات والأرض على هذا النحو، وينبغي أن يؤله، يؤله يعبد، ويُتحَير في كنهه وفي قدرته، ويوله من الوله كذلك،  يُحَب حبًا عظيمًا لهذه الصفات العلا، التي يتصف بها -سبحانه وتعالى- من العلم والقوة والإمكان والإبداع، وهذه إبداعاته -سبحانه وتعالى- خلق السماوات والأرض.

ثم قال -جل وعلا- {وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ}، اختلاف الليل والنهار على هذه الأرض التي نعيش عليها، واختلاف الليل والنهار يختلفون في أمور كثيرة، أول شيء في الصفات والخواص، فالليل أولًا مظلم، هذا أول صفة له، والنهار مضيء مشرق نور، الليل غالبًا يكون باردا، والنهار حارا، حرارة وبرودة، طول وقصر؛ والطول والقصر يعتور الليل والنهار على هذه الأرض في كل مكان، هذا يطول مثلًا في الصيف يطول النهار ويقصر الليل، ويتعاكسان ففي الشتاء يطول الليل ويقصر النهار، ويأكل هذا من هذا، ثم يعودان إلى نفس المسار الذي كانا فيه، هذا الاختلاف موافق تمامًا للأحياء والمخلوقات على سطح هذه الأرض، ولولا هذا الاختلاف لما تقوم الحياة، لما قامت الحياة، فإنه لو كان ليلٌ دائم لجمدت الأرض، وأصبحت برودة دائمة ولم تقم حياة، ولو كان نهارٌ دائم لاحترقت الأرض، ولم تقم كذلك حياة على سطح هذه الأرض، فلابد من الليل والنهار لاستمرار الحياة، ثم مناسبتها للإنسان، للحيوان، للنبات، النبات والإنسان والحيوان لابد لكل هذه الأحياء من ليل ونهار، الليل للراحة حتى النبات يرتاح في الليل، الحيوان يرتاح في الليل، يتجدد نشاطه، وكان سواد الليل مناسبًا لهذه الراحة، سوادٌ وسكون وبرودة، في النهار هذا سعيٌ للرزق وكد يحتاج ضوء، وحرارة للسعي والجد، النبات يحيا بهذا وبهذا، الإنسان يحيا بهذا وبهذا، فمن خلق هذا الخلق الذي لابد أن يكون مخلوقا على هذا النحو حتى تتم الحياة هو الله -سبحانه وتعالى-، هذا دليل من أدلة أن الله هو الإله الواحد، وأنه هو الرحمن الرحيم -سبحانه وتعالى-، قد ضرب الله -تبارك وتعالى- مثَلا بالليل والنهار، ليبين عظمته وأنه لا غِناء عنه -سبحانه وتعالى-، لا غناء للمخلوق عن هذا الإله –سبحانه وتعالى- الخالق.

قال: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ........}[القصص:71]، أخبروني لو أن الله جعل الليل سرمدا إلى يوم القيامة، {........ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ}[القصص:71]، لو جُعل الليل سرمدا إلى يوم القيامة انتهت الحياة، وهل هناك إله معبود مما يعبد من دون الله يستطيع أن يأتي الخلق بضوء بنور؟ {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ........}[القصص:72]، سرمدًا أنه مسرود سردا دائما، ولا ينتهي إلى يوم القيامة، {مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ}، يجن الإنسان لو أن النهار أصبح مستمرا لمدة أسبوع فقط، ليس سرمدا إلى يوم القيامة، لأصيبت المخلوقات الموجودة على الأرض بالجنون وانتهى، وبالضعف والخُبال، لابد لها من وقت كل هذه مخلوق لابد له من وقت يستريح فيه، {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ}[القصص:72]، {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ}، ثم بيَّن ما نوع هذه الرحمة، قال {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ ........}[القصص:73]، هذا اللف والنشر، قال الليل والنهار ثم بعد ذلك نشر لبيان حاجة الخلق إلى هذا وهذا، قال {لِتَسْكُنُوا فِيهِ}، أي في الليل، وتبتغوا من فضله أي بالسعي في المصالح والمعايش، زراعة وصناعة وضرب في الأرض، وتبتغوا من فضله -سبحانه وتعالى-، {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}[القصص:73]،  لعلكم بتبيين أسرار هذا الخلق وتعريفكم برحمة الله -تبارك وتعالى- بكم، بخلق اليل والنهار تشكرون الإله الذي خلق هذا، والذي لا يقدر على هذا إلا هو -سبحانه وتعالى-، فلا يقدر على هذا الفعل غيره -جل وعلا-، فهذه آية ثانية {وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ}.

ثم قال -جل وعلا-: {وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ}، الفلك السفن، والفلك يطلق على الفرد والجماعة، {الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ}، سمى الله جريها في البحر جريان، {بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ}، بما ينفع الناس من السفر، من نقل البضائع، من الذهاب من مكان في الأرض إلى مكانٍ آخر، نفعا عظيما عن طريق هذه الفلك، هذا من تيسير الله -تبارك وتعالى-، وذلك أن الله خلق البحر، وخلقه على هذا النحو، وهدى الإنسان إلى صناعة ما يصنعه من هذه السفن ليركب البحر، والحركة في البحر أسهل منها في البر، لو خلق الله -تبارك وتعالى- الأرض كلها يابسة لما قامت حياة، ولو خلقها كلها مياه كذلك لما قامت حياة، وإنما وزَّع -سبحانه وتعالى- يابسة وماء، ونسبة اليابسة إلى الماء تقريبًا الربع، وهذه النسبة الفاصلة والواجبة والتي لو تغيرت لما قامت الحياة، الانتقال فوق سطح الماء أسهل كثيرًا من الانتقال على اليابسة، لسهولة انزلاق ما يسَّر الله -تبارك وتعالى- للإنسان صنعه من السفن العظام، التي تحمل هذه الملايين ملايين الملايين الملايين من أطنان الأرزاق والمصنوعات ذهابًا وجيئة على سطح هذا الماء بأقل التكلفة، فهذا من رحمة الله -تبارك وتعالى-، فيخبر الرب -تبارك وتعالى- هذه آية من آياته، قال: {وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ}، وبما ينفع الناس كلام عام بكل نفع للناس، من كان يظن مثلًا الآن أن مادة هي شريان حياة الناس كالبترول، تقوم هذه السفن العملاقة وتحمل فيها وتنقلها من مكان إلى مكان آخر، فتيسير الله -تبارك وتعالى- الخلق على هذا النحو، خلق البحر، خلق اليابسة، وتيسير البحر ليحمل الإنسان فيه كل ما ينفعه من جهةٍ إلى جهة، آية كذلك من آيات الله -تبارك وتعالى-، وأنه الرب الإله الرحمن هذا من رحمته، أن يسَّر لعباده  سبل المعايش في هذه الأرض، {وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ}.

{وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا}، آيةٌ عظيمة من آيات الله -تبارك وتعالى-، أولًا دالة على قدرته، على عظيم صنعه، على رحمته -سبحانه وتعالى- بعباده، {وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ}، السماء العلو، أنزل الله -تبارك وتعالى- منها الماء، الذي هو ماء المطر، والذي به حياة الإنسان، حياة الإنسان بل حياة كل ذي حياة على سطح هذه الأرض تتوقف على هذا الماء، {فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ}، حياة الأرض بعد موتها بالنبات، تحيا الأرض نفس الأرض تحيا، {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ ........}[فصلت:39]، وأنبتت من كل زوج كريم، فتحيا الأرض نفسها، ثم تحيا بحياة النبات عليها، ثم ما بثَّ الله -تبارك وتعالى- في هذه الأرض من كل دابة، أولًا المطر آية لها لأن كل هذه الدواب التي تبقى على الأرض الماء هو حياتها، بدون الماء لا تبقى أي دابة النملة إلى الفيل، والإنسان أحد هذه الحيوانات التي تدبُّ على الأرض حياته كذلك بالماء، {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ}[الأنبياء:30]، تصريف الماء على سطح هذه الأرض آية من آيات الله -تبارك وتعالى-، كون الله صرَّف، جعل هذا المطر يتوزع على هذه الأرض بهذه الصورة من التوزيع، شتاءً هنا وصيفًا هناك، مطر صيفي هنا ومطرًا موسميًا هناك، ومطرًا في الربيع، وهذا مطر طيلة العام في هذا المكان ويحتاج أن يكون هنا، لابد أن يكون هناك مطر طول العام حتى تبقى حياة، كما هو في المناطق الاستوائية عند خط الاستواء، أمطار تأتي في الصيف؛ لتلطف الجو، أمطار تأتي في الشتاء؛ لتدفئ الجو.

هذا الأمر الذي قول الله -تبارك وتعالى- فيه {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا}[الفرقان:50]، فهذه آية المطر وإنزاله، وليس كل ما قولناه من الآيات التي فيه، بل الآيات التي فيه لا تحويها مجلدات، انظر توزيع المطر، هذه السحب فوقنا اختار الله -تبارك وتعالى- لها مكانا؛ أنسب مكان لتسير فيه، فهي ليست بعيدة جدًا علينا، وليست قريبة إذا مرت تضرنا، فهي في مكان مناسب من الارتفاع فوق الأرض، ثم فهي تسير فوق رؤوسنا تحمل ملايين الملايين من أطنان الماء، لا نسمع هدير محركات الرافعات والجرارات التي تجرها، ولا تجتاح لنا قرية ولا مدينة، إنما تسير فوق رؤوسنا بكل يسر وسهولة، ثم إذا نزلت؛ نزلت مطرًا حبات مفرقة، أو نزلت ثلجا خفيفا ينزل، ولا تنزل كتلا فتدمر الأرض، هذا كله لا شك من أدلة عظمة هذا الإله، وأدلة رحمته -سبحانه وتعالى-، {وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ}، بثَّ نشر ووزع، فيها في هذه الأرض، {مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ}، من كل دابة تدب على هذه الأرض، زواحف، حشرات، حيوانات، ونوَّع الله -تبارك وتعالى- فيها قوله: {مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ}، مما نعلمه وما لا نعلمه ولا نحصيه عدًّا، ولا نستقصيه صفةً وخواصًا، فمن كل نوع من الأنواع نجد ألوفًا من هذه الدواب، النمل بألوف الأنواع، عندنا أكثر من ألفي نوع من البعوض وحده، من الأسود، من النمور، من سائر الحيوانات، من الطيور، إثبات الإنسان وجمع الإنسان لهذه الدواب أمرٌ يفوق الوصف، ولا شك أن نشر هذا في الأرض على هذا النحو أولًا بهجة، حياة، إظهار لقدرة الخالق ولتصويره، ميدان للعلم والتعلم، وقد تعلم الإنسان من هذه الدواب أمورًا عظيمة جدًا، أمورًا في الصناعة، في الادخار، في تقليدها ومحاكاتها، فيما يخترع الإنسان، فالطير علَّم الإنسان، ما تعلمنا صناعة الطيران إلا بأن نرى هذه النظم والقوانين التي يطير بها الطائر في الجو، وما علَّمنا السفن إلا عندما رأينا كيف تسبح هذه السابحات من الطيور فيه، أمورًا كثيرةً تعلمناها مما بثه الله –تبارك وتعالى- فيه، وهو ميدان للتعلم والعلم والتعرف على أسرار هذا الخلق العظيم، فهذه آية، بثُّ الله -تبارك وتعالى- لهذه الكائنات وهذه الدواب آية من آيات الله -تبارك وتعالى-، وقد وجَّه الله -تبارك وتعالى- إليها مَن طلب آية دليلًا على أنه الإله الواحد، وجَّه إلى هذه الآية.

قال {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً........}[الأنعام:37]، آية خارقة، طلبوا آية خارقة للعادة، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ}[الأنعام:37]، {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ........}[الأنعام:38]، انظروا إلى هذه الآية {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ}، جماعات، {أَمْثَالُكُمْ}، كيف البشر هم أمم، ولهم نظام ولهم قانون ولهم تشريعات ولهم نظم لهذا الاجتماع، كذلك لهذه الدواب نجد أنها لها نظم ولها تشريعات ولها قوانين ولها نظام، انظر مملكة النحل، مملكة النمل، ممالك الطيور، لهم من النظام الجماعي الذي يجتمعون حوله والنظم والقوانين أشياء صارمة، حتى أن بعض جماعات البشر لم تتوصل إلى أنظمة مشابهة أو مقاربة لأنظمة هذه المخلوقات، التي قد ينظر إليها الإنسان نظرة دونية، والحال أنها في معانٍ من التنظيم والإحكام في أشياء بعض البشر لم يستطيعوا أن يصلوا إليها في مجتمعاتهم.

فيخبر -سبحانه وتعالى- بأن هذه آية من آياته، قال: {وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ}، ثم قال -جل وعلا- {وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ}، تصريف هو التنويع والتفريق، الرياح هي حركة هذا الهواء على سطح هذه الأرض، الله -تبارك وتعالى- صرَّفها تصريفًا عظيمًا، رياحا من الشرق إلى الغرب، ورياحا من الغرب إلى الشرق، ورياحا من الشمال إلى الجنوب، ورياحا من الجنوب إلى الشمال، ورياحا بين هذه الجهات الأربعة، شمال شرقي، جنوب غربي، ورياحا تهب صيفًا، ورياحا تهب شتاء، وهذه الرياح المنوَّعة على سطح هذه الأرض لها من المنافع والأمور أمور عظيمة جدًا، ولولا حركة هذه الرياح بهذه الصورة لما قامت الحياة كذلك، فرياح تلطف الجو تأتي من مناطق باردة إلى مناطق حارة لتخفيف الحرارة، ورياح تذهب من مناطق حارة إلى مناطق باردة لتدفئتها، والريح تحمل السحاب من مكانٍ إلى مكان، ورياح توزِّع تلوث هذا المكان فتذروه في ذلك المكان، وتحمل حبوب اللقاح من مكان؛ من هذه إلى هذه، قال -جل وعلا- {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ}[الحجر:22]، أمرٌ يفوق التصور من هذه آية من آيات الله -تبارك وتعالى-.

سنقف عند هذه الآية -إن شاء الله-، ونكمل في حلقة آتية، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد.