الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله الأمين، سيدنا ونبينا محمد, وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه, وعمل بسنته إلى يوم الدين.
وبعد؛ فيقول الله -تبارك وتعالى- : {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الشعراء:192], {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ}[الشعراء:193], {عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ}[الشعراء:194], {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ}[الشعراء:195], {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ}[الشعراء:196], {أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ}[الشعراء:197], {وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأَعْجَمِينَ}[الشعراء:198], {فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ}[الشعراء:199], {كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ}[الشعراء:200], {لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ}[الشعراء:201], {فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ}[الشعراء:202], {فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ}[الشعراء:203].
يخبر -سبحانه وتعالى- في ختام هذه السورة؛ سورة الشعراء بعد أنْ قص الله -تبارك وتعالى- قَصَصَ الأُمَم التي كذبت رسلها، وأنَّ كل أمة كذبت رسولها قد كذبت الرسل جميعًا، {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ}[الشعراء:105]، {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ}[الشعراء:123]، {كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ}[الشعراء:141]، إلى أنْ قال : {كَذَّبَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ}[الشعراء:176].
ثم بعد أنْ ذكر الله -تبارك وتعالى- أولئك قال -جلَّ وعَلا- : {وَإِنَّه}, هذا القرآن المنزل على عبده ورسوله محمد، {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الشعراء:192], الله -سبحانه وتعالى- الذي أنزله, وفي هذه الشهادة مِن الله -تبارك وتعالى- كفاية لمن كان له عقل، أنْ يعلم أنَّ هذا القرآن رسالة مِن الله -تبارك وتعالى- رب العالمين إلى الناس، {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ}[الشعراء:193], {عَلَى قَلْبِكَ}, انظر أيضًا سند هذه الرسالة أنها مِن الله وأنَّ واسطتها المَلَك العظيم, مَلَكُ الله -تبارك وتعالى-, رسول الله -عز وجل- الأمين إلى الرسل جبريل -عليه السلام-, {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ}[الشعراء:193], {عَلَى قَلْبِكَ}, مباشرة بدون واسطة، يسمعه جبريل مِن رب العزة -سبحانه وتعالى-, ثم ينقله ويقرؤه على النبي -صلى الله عليه وسلم- يسمعه النبي فيصل إلى القلب, ويُطْبَع في قلب النبي -صلى الله عليه وسلم-, {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ}[القيامة:17], جمعه في قلبك, وقرآنه على لسانك, فإذا قرآناه وهو رجلًا أمي مع إني القرآن فنية القرآن والتشابه اللفظي يحتاج إلى حذق ومهارة سنين طويلة حتى يصبح الإنسان يستطيع أنْ يقرأ هذا القرآن بالفروق التي أحيانًا تكون حرف هنا, وحرف هناك، ولكنه هذا القرآن بهذا التشابه اللفظي العظيم يُطْبَع في قلب النبي -صلوات الله عليه وسلم-, {عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ}[الشعراء:194]، ليكون هذا النبي مِن المنذرين، وهو أعظم منذر, أعظم منذر عرفته الأرض، منذر بهذا الكتاب العظيم الذي جعله الله -تبارك وتعالى- نذارة إلى كل الناس، {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا}[الفرقان:1], فليس نذارة لقبيلة ولأُمَّة صغيرة، وإنما لكل العالمين, نذارة تخويف مِن عقوبة الرب -تبارك وتعالى-؛ وذلك أنَّ هذا رسالة مِن الله كل معرض عنها فهو حتمًا لابد أنْ يُعَذَّب, ليس له أي مصرف آخر، {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ}, الله جعل كل مَن يكفر بهذا القرآن, لم يجعل له إلا النار قال : {فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ}, فهذا القرآن نذارة, {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا}[الفرقان:51]، {فَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ........}[الفرقان:52], بهذا القرآن, {جِهَادًا كَبِيرًا}, {لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ}, ثم قال -جلَّ وعَلا- : {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ}[الشعراء:195], أي أنزله الله –تبارك وتعالى-, كلامه هذا منه -سبحانه وتعالى-, جبريل واسطته, وأنزله الله -تبارك وتعالى-, {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ}[الشعراء:195], ليقرأ هذا القرآن, {بِلِسَانٍ}, بلغة, {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ}[الشعراء:195], واللسان العربي مِن المعجزات كذلك، كما أنَّ القرآن مُعْجِز في بيانه فإنَّ هذا اللسان العربي الذي تكلم به العرب قبل نزول هذا القرآن معجز مِن حيث تفنن العرب في لغتهم, وجريانها على ثوابت عظيمة، وتفريقهم بين المعاني المتقاربة بفروق لفظية هائلة, وكل فرق معنوي فيه تفريق لفظي؛ حتى لا يختلط شيء بشيء, ثم التفنن العظيم في هذه اللغة أولًا كثرة مفرداتها الكثيرة, لا توجد لغة في الأرض لها مِن المفردات ما للغة العربية فلها أكثر مِن أربعة ملايين مفردة، ونظامها في الاشتقاق وفي بنية الكلمة وفي السَّنَن الذي تسير عليه أمر عظيم جدًا، فهو لسان, {عَرَبِيٍّ مُبِينٍ}, مُبْيِن, مفصح للمعنى, موضح له تمام الإيضاح؛ بحيث لا يلتمس أي معنى بغيره, هذا مِن اختيار الرب -تبارك وتعالى- أنْ يكون الرسول الخاتم مِن العرب, وأنْ يكون الكتاب الذي يكون نذير العالمين ينزل بهذه اللغة الفريدة في لغات الناس؛ فإنَّ اللغات غير العربية تقصر كثيرًا وكثيرًا عن أداء المعاني التي تساق لها, ويختلط الأمر, ويشتبه اشتباهات عظيمة إلا هذا اللسان العربي المبين، قال -جلَّ وعَلا- : {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ}[الشعراء:195], وهذا ليكون موضح, ويكون بالفعل نذير للعالمين, {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ}[الشعراء:196], {إِنَّه}, الإشادة بهذا القرآن، والإشادة بهذا الرسول, {لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ}, الزبر الكتابة, {زُبُرِ الأَوَّلِينَ}, جمع زبور والمزبور هو المكتوب في الكتب التي كتبت للأولين، التوراة والإنجيل، وصحف إبراهيم, وما أنزله الله -تبارك وتعالى- مِن هذه الزبر, الكتب كلها قد أشاد الله -تبارك وتعالى- بالقرآن, وأشاد بهذا النبي الذي يرسله -صلوات الله والسلام عليه-، {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ}[الشعراء:196], الإشادة به وذِكْره, ثم قال -جلَّ وعَلا- : {أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ}[الشعراء:197], {أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ}, لهؤلاء العرب, المرسل فيهم النبي -صلى الله عليه وسلم- بهذا اللسان العربي المبين، بهذا الكتاب مِن الله -تبارك وتعالى- الذي تحداهم الله -تبارك وتعالى- أنْ يأتوا بسورة مِن مثل سوره، قال-جلَّ وعَلا- : {أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً}, علامة على صدق الرسول, {.......أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ}[الشعراء:197], {يَعْلَمَهُ}, يعلم أنَّ هذا القرآن مِن الله، ويعلم أنَّ هذا محمد بن عبد الله هو رسول الله حقًا وصدقًا, وقد شهد علماء بني إسرائيل منهم، ومِن أشرف وأعلى الذين شهدوا بذلك عبدالله بن سلام -رضى الله وتعالى عنه-، فإنه كان في المدينة يوم أنْ نزل النبي بالمدينة أتي النبي -صلى الله عليه وسلم- لما سمع بخبره وأختصر بالنبي, وقال له : إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي إنْ أجبتني عنهم علمت بهم، فسأله عن ثلاثة أشياء أجابها النبي -صلوات الله والسلام عليه-, ثم اختبره, أول شيء اختبره شكلًا وموضوعًا قال لما نظرت في وجهه علمت أنه ليس بوجهه كذاب، وهذا مِن الفراسة, ومِن الفهم كلما نظرت في وجه النبي علمت أنَّ هذا الوجه لا يمكن أنْ يكون وجه كذاب، ثم لما سأله أجاب النبي -صلوات الله عليه وسلم- وقال له : (أخبرني بهن جبريل آنفًا), قال له هذه المسائل التي سألت عنها هذا جبريل أخبرني بهن، قال له جبريل : هذا عدو اليهود مِن الملائكة اليهود يعادون جبريل؛ لأنهم يعلمون أنه سينزل بالرسالة الخاتمة, وأنه سينزل بحربهم، ثم قال له أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، ثم قال له : يا رسول الله إنَّ اليهود قوم بُهْت، قوم كأنهم أصلهم أو تركيبهم كذب، البهت والبهتان هو الكذب سمي الكذب بهتانًا؛ لأنه يبهت مَن يقال له, ومعنى يبهته البهت هو السكون, أي كأنه لم يسمع الكذب فيسكن لا يجعل السامع يحيل جوابًا؛ فقال يا رسول الله إنَّ اليهود قوم بُهْت, كذابين أشد الكذب, وأنهم إنْ سمعوا بإسلامي بهتوني عندك قال له فخبئني, ثم إذا جاءوا فاسألهم عني، فلما جاء بعض علماء اليهود يسألون هذا الذي جاء هذا هو رسول أم لا, فجلسوا يجادلوا النبي ساعة والنبي يقرأ عليهم, ويدعوهم إلى الإسلام, ويقرأ عليهم القرآن, ويقول لهم آمنوا بي والله, إنكم لتعلمون أني الرسول المُبَشَّر به عندكم بالتوراة, وتعلمون صفتي, وقد قال : له عبد الله بن سلام قال له : والله يا رسول الله إني لأعلمك أكثر مِن ابني، قال له أعرفك أكثر مِن أولادي؛ لأنه صفته معلومة، فالنبي ناقشهم وكلمهم فمكثوا ساعة يجادلون النبي ولا يؤمنون، فقال لهم عبد الله بن سلام فيكم، ما وزنوا ما عنده فقالوا : هو حبرنا وعالمنا وابن عالمنا, مدحوه وأشادوا به وقالوا هذا حَبْرنا, الحَبْر هو العالم الذي بلغ النهاية في العلم، قيل : حَبْر مِن السرور, أو حَبْر مِن الحِبْر الذي يستخدمه، قالوا : هو حَبْرُنَا وعالمنا وابن عالمنا فهو أخذ العلم كابر عن كابر فيهم؛ فقال لهم النبي : ما رأيكم لو أسلمت تسلمون هذا عالمكم تقتدون به؟ فقالوا أعاذه الله مِن ذلك, كيف يسلم! هذا ما هذا؛ فخرج عبدالله بن سلام خلف النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فقال : أشهد أن لا إله إلا الله وأنَّ محمد رسول الله؛ فقالوا : هو شرنا وابن شرنا ووقعوا فيه؛ فعند ذلك قال عبد الله بن سلام يا رسول الله هذا الذي كنت أحزر, أخاف أنْ يقول هذه المقالة إذا علموا بإسلامي قبل أنْ تسألهم عني؛ فسألهم فأقرهم أولا عنه, ثم قالوا هذا؛ فالصادقون مِن بني إسرائيل آمنوا به على هذا النحو, وشهدوا به على هذا النحو, والكاذبون, المعاندون حقدوا وكذبوا, {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ}[البقرة:90]، مِن هؤلاء كذلك حيي بن أخطب تقول صفية أم المؤمنين زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- تقول : أنا كنت محببةً عند أبي وعمي، وكان عمي إذا جاء وأبي كان ركضت إليهم فحملوني وتحببوا إلي تقول في يوم سمعت عمي يقول لأبي يقول : ألم ترَ هؤلاء بني قيلة قد اجتمعوا على رجلٍ, على نبي لهم يقول : تعالى ننظر تقول فخرجا مِن أول النهار تقول : لم يرجعا إلا في آخر النهار بني قيلة الأنصار؛ فالأوس والخزرج ي نسبتهم واحدة، إخوة, تقول : فلم يرجعا إلا في آخر النهار ورجعا منكسرين، والمنكسر هو الذليل الذي يشعر بأنه قد جاء أمر يذله ويقهره، تقول : فسمعت عمي يقول لأبي أهو هو؟ فقال أبي : والله هو قال : هو هو, قال : فما صنيعك به قال : عداوته والله ما بقيت, قال : سأعاديه ما بقيت, أعادي هذا الرجل, هذا الرسول، فانظر لقد علموا هذا حيي بن أخطب وأخوه مِن رؤساء بني النضير, ومِن زعماء اليهود, لكنهم شهدوا به هذه ابنة حيي صفية -رضى الله تعالى عنها- تشهد على أبيها وعمها هذه الشهادة وتقول : نعم قال هو هو, لكن والله لأعادينه ما بقيت, طول حياتي ما أنا بقيت لأعادينه, وفعلًا ظل على هذا النحو حتى مات على الكفر -عياذًا بالله-، فالله -تبارك وتعالى- يخبر هؤلاء العرب بأنَّ علماء بني إسرائيل قد صدقوا, {أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ}[الشعراء:197] وقبل هذا ورقة بن نوفل -رضى الله تعالى عنه-, وكان هذا قبل الرسالة عَلِمَ بمجرد ما قرأ عليه {اقْرَأْ}، قرأ النبي عليه رجل صفته كذا وكذا مع أول نزول للوحي على النبي -صلى الله عليه وسلم- في غار حراء, وقال : {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}[العلق:1], {خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ}[العلق:2], {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ}[العلق:3], {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ}[العلق:4], {عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}[العلق:5], فقال له يا بني, وكان كالعمي؛ فقال له : يا بني إنَّ هذا والذي جاء به موسى ينبع مِن مشكاة واحدة, قال له : هذا نفس الكلام الذي نزل على موسى، نور مِن مشكاة, مِن مصباح واحد قال له إنَّ هذا والذي جاء به موسى ينبع من مشكاة واحدة، ثم قال له ليتني أكون فيها جزعًا إذ يخرجك قومك، أكون شاب عندما يأتي قومك أهل مكة يخرجوك منها؛ فقال النبي : أو مخرجي هم! قال له : يا بني إنه لم يأت احدًا بمثل ما جئت به إلا عودي, ولم ينشأ بعد ذلك أنْ توفى ورقة, هذا أمر كذلك قد كان معلومًا عند هؤلاء, وهذا عالم مِن العلماء الذين درسوا التوراة, وكان يقرأ منها، ويعتبر مِن علماء بني إسرائيل, ولم يكن منهم, لكن مِن العلماء الذين علموا ما عند بني إسرائيل, فمن أمثال عبد الله بن سلام -رضى الله تعالى عنه-, ومخيريق وغيرهم ممن آمنوا ولو كانوا قلة علموا هذا, وشهدوا للنبي -صلوات الله والسلام عليه- بالرسالة؛ فقال -جلَّ وعَلا- : {أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ}[الشعراء:197], آية لهم كذلك على أنَّ هذا النبي إنما هو رسول الله حقًا وصدقًا, وإنه جاء بما جاءت به الرسل السابقين.
ثم قال -جلَّ وعَلا- : {وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأَعْجَمِينَ}[الشعراء:198], {فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ}[الشعراء:199], {لَوْ نَزَّلْنَاهُ}, هذا القرآن, {عَلَى بَعْضِ الأَعْجَمِينَ}, رسول أعجمي, ليس عربي, {فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ}, فجاء هذا الرسول بلسانه يقرأ عليهم لغته مِن لغة الروم، أو مِن لغة الفرس، أو مِن أي لغة سريانية، أو مِن غيرها, {فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ}[الشعراء:199], ما كان هؤلاء العرب ليؤمنوا به؛ على عادة العرب في استصغار واحتقار غيرهم مِن الأمم والشعوب, ورأت أنَّ لغتهم هي اللغة الفريدة والعليا, قال الله جلَّ وعَلا : {........مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ}[الشعراء:199], ما كانوا يؤمنون بقرآن نزل مِن الله -تبارك وتعالى- علي غيرهم، أي فلينظروا فضل الله -تبارك وتعالى- عليهم, وأنه خاطبهم بلغتهم, ومِن رسول يعلمون مخرجه ومدخله, ويعلمون نسبه وأصله وفصله أي يعرفون عنه كل أمر ,ولم يكونوا متهمين له قبل أنْ يأتي بهذه الرسالة بأي اتهام مِن الكذب، {وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأَعْجَمِينَ}[الشعراء:198], {فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ}[الشعراء:199], سموا الأعجمين؛ وذلك أنَّ العرب تسمي كل لسان غير لسانهم لسان أعجمي والعجمة هو عدم الإفصاح ضد الفصحى، فالعجمة ضد الفصحى أي أنهم هؤلاء ليسوا بفصحاء, فكأن لغتهم قريبة مِن لغة العجماوات، {وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأَعْجَمِينَ}[الشعراء:198], {فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ}[الشعراء:199].
ثم قال -جلَّ وعَلا- : {كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ}[الشعراء:200], {كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ}, أدخلناه مثل السلك لما يدخل في أمر في الخرز وفي غيرها، {فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ}, أي, التكذيب هذا التكذيب أدخله الله -تبارك وتعالى-, {فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ}, لأنه مجرم علم أنَّ هذا صدق ولم يصدق الصدق فعند ذلك أدخل الله -تبارك وتعالى- هذا التكذيب, يرد الصدق فيبقي هذا موجود في قلبه, {كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ}[الشعراء:200], {لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ}[الشعراء:201], عقوبة لهم مِن الله -تبارك وتعالى- أنْ أدخل التكذيب في قلوبهم فجعل كأن التكذيب أصبح جُرْم, شيء موجود, حاجز يمنعنهم مِن التصديق؛ لأنه عَلِمَ أنَّ هذا محمد بن عبدالله صادق, وأنَّ هذا كتاب مِن الله -تبارك وتعالى- كَذَّبَ هذا فلما كذبه؛ أدخل الله -تبارك وتعالى- بعد ذلك التكذيب في قلبه, وأصبح التكذيب له صفة، {كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ}[الشعراء:200], {لا يُؤْمِنُونَ بِهِ}, حرمهم الله -تبارك وتعالى- مِن الإيمان بقية عمرهم, {........حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ}[الشعراء:201], إلا أنْ تنزل بهم عقوبة الرب -تبارك وتعالى-, كما صنع الله -تبارك وتعالى- في أبي جهل والعاصي بن وائل السهمي، والوليد بن المغيرة وغيرهم, فالوليد عَلِمَ هذا, كان يقول : هذا القرآن هذا قال : نحن عرفنا كل صنوف الشِّعْر والله ما هو بِشِعْر، عرفنا الكهانة، وعرفنا زمزمة الكهان وقولهم, والله ما هو بكهانة، عَلِمْنَا السِّحْر, ولغة المسحورين, والله ما هو بسحر، يقول : إنَّ لكلامه لحلاوة، وإنَّ عليه لطلاوة، وإنَّ أعلاه لمثمر، وإنَّ أسفله لمغدق، وأنه ليعلوا ولا يعلى عليه، وإنه ليحطم ما تحته، فيقول لهم هذا أسلوب فريد في الكلام ما هو ليس بشعر ولا سحر، ولا كهانة، وإنَّ هذا لفظ حامل للمعني, أعلاه مثمر, أسفله مغدق، كل معاني في أعلاه, وفي أسفله, ما يؤخذ منه مِن نَصّ, وما يؤخذ منه كذلك مِن الفحوى وأوجه الدلالات الأخرى مثمر جدًا, أعلاه مثمر، أسفله مغدق، وإنه لا يعلو كل كلام, ولا يُعَلى عليه, لا يستطيع أحد أنْ يأتي مِن كلام يعلو به على هذا الكلام، وإنه ليحطم ما تحته؛ فكل أسلوب ممكن أنْ يتكلم في أي شأن مِن الشئون ويوضع هذا الكلام الذي جاء به محمد, وهذا الكلام الآخر يحطمه، كلام الرب -سبحانه وتعالى- إنه ليحطم ما تحته؛ إذن قد علموا هذا, كما قال -تبارك وتعالى- في شأن الوليد : {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ}[المدثر:18], {فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ}[المدثر:19], {ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ}[المدثر:20], {ثُمَّ نَظَرَ}[المدثر:21], {ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ}[المدثر:22], {ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ}[المدثر:23], {فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ}[المدثر:24], {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ}[المدثر:25], {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ}[المدثر:26], {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ}[المدثر:27], {لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ}[المدثر:28], {لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ}[المدثر:29], {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ}[المدثر:30], فهؤلاء الذين عرفوا الحق مِن أمثال الوليد بن المغيرة، ومِن أمثال عاصي بن وائل السهمي، ومن أمثال أُبَيّ بن خلف، وأمية بن خلف، ومِن أمثال هؤلاء المجرمين, الله -تبارك وتعالى- يقول : {كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ}[الشعراء:200], {لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ}[الشعراء:201], وقد وقع أمر الله -تبارك وتعالى- فإنهم لم يؤمنوا به إلا بعد أنْ وقع العذاب الأليم بهم، عذاب الله -تبارك وتعالى- بهم, أول عذابه في الدنيا لما قُتِلُوا في بدر وقف النبي بعد أنْ جمع جثثهم في القليب، قليب بدر, وناداهم بأسمائهم يا فلان بن فلان، يا فلان بن فلان، يا فلان، يا فلان، يا فلان ناداهم, هل علمتم أنَّ ما وعدكم ربكم حقا؟ فإني قد علمت أنَّ ما وعدني ربي حقا، قال لهم أنا تحقق في موعود الله -تبارك وتعالى- بالنصر, بأنَّ هذا الدين يبقى، هل علمتم الآن أنَّ ما وعدكم به الرب ربكم حقًا مِن العذاب والنكال هذا في الدنيا, و الآن يطرح في الآخرة، حتى قيل للنبي : يا رسول الله, كيف تخاطب أقوامًا قد جيفوا؟ أي أنتنوا وخرجت ريحة جيفهم، فقال ما أنتم بأسمع لما أقوله منهم, إنْ كنتم تسمعوني أنتم وأنتم أحياء؛ فهم سمعهم لي أكبر مِن سمعكم لي؛ فالشاهد أنَّ الله -تبارك وتعالى- قد تهددهم وتوعدهم وقد وقع الأمر كما كان موعود الله -تبارك وتعالى-, قال : {كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ}[الشعراء:200], {لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ}[الشعراء:201], وقد وقع، وهذا الإيمان في هذا الوقت ما يفيد, قال : {فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ}[الشعراء:202], فيأتيهم العذاب بغتة, إما بغتة بالموت هذا, أو القتل كما وقع لأهل بدر فإنهم ما كانوا يتصوروا أنهم سيموتوا في هذا, كانوا يتصوروا أنهم منتصرون في هذا المعركة إلى بلا تردد, وأنه لم يكن عندهم احتمال ولا جزء مِن الاحتمال في أنهم يقتلون، أو يؤسرون، أو يفرون، ما كان هذا واردًا في احتمالهم؛ فأتاهم المثل بغتة, كما قيل لبعضهم : كيف صنعتم؟ قال والله ما شعرنا إلا أنْ واجهنا القوم حتى أعطيناهم أكتافنا وظهورنا، يقول : واجهناهم وإذا بنا نعطيهم أكتافنا وظهورنا ونولي الأدبار؛ فيقع بعد ذلك فيهم القتل والأسر, {فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً}, العذاب العاجل في الدنيا, {لا يَشْعُرُونَ}, أو يأتيهم عقوبة الله -تبارك وتعالى-, عذاب الله -تبارك وتعالى- بالآخرة, {........بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ}[الشعراء:202], كما تأتي الساعة مَن يكون على ظهر هذه الأرض يأتيهم الأمر بغتة, كما قال -جلَّ وعَلا- : {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً........}[الأعراف:187], {بَغْتَةً}, فجاءة تبغتهم وتبهتهم, ولا يكون عند أحد قبل مجيء الساعة عِلْم بأنها تأتي في هذا الوقت, أو في صبيحة هذا اليوم قَطّ, ولا عند أي أحد في الأرض, {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى}[طه:15], فتأتي الساعة والشخص يأكل طعامه فيرفع اللقمة مِن إنائه فلا يضعها في فيه, والشخص يلوط حوضه ليسقي فيه إبله، الناس في أشغالهم كما هم, ولا نذارة, {فَيَأْتِيَهُمْ}, أي العذاب, {........بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ}[الشعراء:202], أي بمجيئه, {فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ}[الشعراء:203]، أي يقول هؤلاء المجرمون الذين دخل في قلوبهم هذا التكذيب، { هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ}, كلام تمني لكن لأمر بعيد لا يكون، {هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ}, المُنْظَر المُمْهَل, المعطى مهلة جديدة, {هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ}, أي هل نحن ممهلون, نبقى مهلة ثانية, نُرَدّ إلى الدنيا, ويعطينا الله فرصة أخرى ومهلة ثانية للبقاء، أو عندما يفاجئهم العذاب على هذا النحو هل يمد لنا مرة ثانية ربنا -سبحانه وتعالى- في الأجل حتى نصلح الأمر {فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ}[الشعراء:203].
قال -جلَّ وعَلا-: {أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ}[الشعراء:204], سؤال للإنكار تستعجل بهذا أيها الكافر, {أَفَبِعَذَابِنَا}, عذاب الرب -تبارك وتعالى-, {يَسْتَعْجِلُونَ}, يستعجل عذاب الله, وعذاب الله عذابه شديد جدًا الله, يقول : {أَفَبِعَذَابِنَا}, وينسب هذا العذاب إلى نَفْسِهِ عذاب الرب, والذي لا أحد يُعَذِّبُ كما يُعَذِّبُ الرب -تبارك وتعالى-, {فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ}[الفجر:25], {وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ}[الفجر:26], وعذاب الرب وأخذه شديد, مؤلم, {أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ}[الشعراء:204] يقول ائتِ به لا يهمنا, {أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ}[الشعراء:204], وكان الكفار يستعجلون عذاب الله -تبارك وتعالى-, ويدعوا على أنفسهم ويقولوا : {رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ}[ص:16], أي عَجِّل نصيبًا مِن العذاب قبل يوم القيامة حتى ائتِ به الآن، استهزاء وعتو وكبر، {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}[الأنفال:32], فالله -تبارك وتعالى- يقول لهؤلاء المجرمين, المكذبين : {أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ}[الشعراء:204], سؤال للاستنكار, يستنكر الله -تبارك وتعالى- عليهم أنَّ هذا المجرم, الغافل عن طاعة ربه -تبارك وتعالى-, الجاحد يستعجل بماذا؟ بعذاب الله -تبارك وتعالى-, {أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ}[الشعراء:204], {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ}[الشعراء:205], {ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ}[الشعراء:206], {مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ}[الشعراء:207], {أَفَرَأَيْتَ}, سؤال مِن الله -تبارك وتعالى- للتعجيب والإخبار، أخبرني, {إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ}, إنْ متعنا هؤلاء, {سِنِينَ}, أي سنين طويلة فليعش في هذه الدنيا ممتعًا مِن قِبَل الرب -تبارك وتعالى-, {سِنِينَ}, ألف سنة,{ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ}[الشعراء:206], ثم جاءهم ما كانوا يوعدونه مِن الله -تبارك وتعالى- بالعذاب والهلاك, {مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ}[الشعراء:207], {مَا أَغْنَى عَنْهُمْ}, ماذا ينفعهم الذي كانوا يمتعون به في الدنيا, والحال أنْ مكث الكافر في عذاب الله -تبارك وتعالى- لحظة تنسيه كل ما مضى عليه مِن النعيم, ولو عاش آلاف السنين، يؤتى برجل كافر فيغمثه الله -تبارك وتعالى- في النار غمثًا, ثم يقول له : (أي يا عبدي هل رأيت نعيم قَطّ), فيقول : لا بعزتك ما رأيت نعيم قَطّ، هذا في عذاب الآخرة بل الأمر في الدنيا؛ فإنَّ زوال النعمة في الدنيا فقط مجرد الزوال تجعل الإنسان إذا انقطعت عنه هذه النعمة يرى أنه كأنه لم ينعم فإنَّ الذي عاش في الدنيا لو مائة سنة معذب, ثم أتاه الموت الآن ينظر إلى كل هذه المدة التي مضاها كأنها حلم, وكأنها انتهت، وكأنها ساعة مِن نهار, انتهي الأمر مادام هذا, فكيف إذا انتهي هذا إلى العذاب والعياذ بالله، فإنَّ كل هذا الذي مُتِّعَهُ له لا قيمة له, ولا يغني عن صاحبه شيئًا، {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ}[الشعراء:205], في هذه الدنيا, {ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ}[الشعراء:206], مِن العذاب, {مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ}[الشعراء:207], ماذا يفيدهم بعد ذلك, وما ينفعهم, وما يغني عنهم أنهم تمتعوا في الدنيا هذا الدهر الطويل, موعظة عظيمة مِن مواعظ القرآن, منِ أعظم مواعظ القرآن, هذه الموعظة لكل ذي بصر أنَّ هذه الدنيا لا تغني مِن الآخرة شيئًا, ولو كان الأمر هو زوال النعيم فقط لكفى في أنَّ هذا النعيم له مده وينتهي, وماذا يفيد, فيكيف إذا كان وراء هذا النعيم العذاب الأليم, والعذاب الباقي يكون أشد وأنكى.
أستغفر الله لي ولكم مِن كل ذنب, وصلى وسلم على عبده ورسوله محمد.