الجمعة 29 ربيع الآخر 1446 . 1 نوفمبر 2024

الحلقة (452) - سورة الشعراء 207-215

الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين, سيدنا محمد, وعلى آله وأصحابه, ومَن اهتدى بهداه, وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد؛ فيقول الله -تبارك وتعالى- : {أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ}[الشعراء:204], {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ}[الشعراء:205], {ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ}[الشعراء:206], {مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ}[الشعراء:207], {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنذِرُونَ}[الشعراء:208], {ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ}[الشعراء:209], {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ}[الشعراء:210], {وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ}[الشعراء:211], {إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ}[الشعراء:212], {فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ}[الشعراء:213], {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ}[الشعراء:214], {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}[الشعراء:215], {فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ}[الشعراء:216], {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ}[الشعراء:217], {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ}[الشعراء:218], {وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ}[الشعراء:219], {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}[الشعراء:220].

هذه الآيات مِن ختام سورة الشعراء، يعظ الله -تبارك وتعالى- فيها  المكذبين برسالة هذا النبي محمد -صلوات الله والسلام عليه- وعظًا عظيما؛ فيقول -سبحانه وتعالى- : {أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ}[الشعراء:204], إنكار مِن الرب -تبارك وتعالى- على هؤلاء المعاندين مِن المجرمين الذين كانوا يستعجلون العذاب, ويقولون للنبي : {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}[الأنفال:32], وكذلك قولهم : {وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا........}[ص:16], أي قطنًا نصيبًا من العذاب, {قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ}, {اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ........}[ص:17], {أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ}[الشعراء:204], {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ}[الشعراء:205], طويلة, أي يعيشون في هذه الدنيا مع ما يعطيهم الله -تبارك وتعالى- فيها مِن ألوان النعيم والترف سنين طويلة، {ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ}[الشعراء:206], {ثُمَّ جَاءَهُم}, في نهاية هذا  المتاع الطويل, {مَا كَانُوا يُوعَدُونَ}, مِن العذاب, {مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ}[الشعراء:207], ماذا يستفيدون، ما الذي يفيدهم ويغني عنهم هذا المكث الطويل في نعيم الله -تبارك وتعالى-؛ فإنَّ النعمة إذا زالت عن العبد وعن الإنسان؛ أحس بألم الفقد، وأصبح ينظر إلى هذه النعمة الطويلة التي أنْعِمَ بها وكان لا شيء وكأنها انتهت, وكأنها حلم, وكأنها سحابة صيف وانتهت, فكيف كان العذاب في إثر ذلك, وجاءه العذاب؛ عذاب الرب -تبارك وتعالى-, والله يقول : {أَفَبِعَذَابِنَا}, منسوب إلى الله -تبارك وتعالى- الذي لا يعذب أحد كما يعذب هو -سبحانه وتعالى-, {فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ}[الفجر:25], {وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ}[الفجر:26], مَن ذا يستطيع أنْ يضع مَن يعذبه في مكان يأتيه فيه كل أسباب الموت ولا يموت، النار المحرقة سبب, أي تقتل في التو واللحظة لو إنها خليت كسبب، لكن  الله-تبارك وتعالى- يجعلها عذاب مؤلم, دائم لا يقتل صاحبة, وإنما يبقى حي فيها يُعَذَّب، والحميم الذي يصب فوق رأسه والغساق, والماء الذي يهرى بطنة، والمقام عند الحديد التي يضرب بها على رأسه، والحيات التي تنهشه كل أسباب الموت, {........وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ}[إبراهيم:17]، لا يعذب أحدٌ كعذاب الله -تبارك وتعالى-, الله يقول : {أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ}[الشعراء:204], {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ}[الشعراء:205], {ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ}[الشعراء:206], {مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ}[الشعراء:207].

 ثم قال -جلَّ وعَلا- : {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنذِرُونَ}[الشعراء:208], {ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ}[الشعراء:209], ما أنزل الله -تبارك وتعالى- هلاك قرية مِن القرى الذي أرسل فيها الرسل, {إِلَّا لَهَا مُنذِرُونَ}, كان لها مَن ينذرها ويخوفها عذاب الله -تبارك وتعالى- كما الشأن في قوم نوح، عاد، ثمود، قرى لوط، كل القرى التي أهلكها الله -تبارك وتعالى- مِما ذكره علينا كان لها منذرون، كلهم كان لهم منذرون، رسل ينذرونهم ويخوفونهم عذاب الله -تبارك وتعالى-, قال -جلَّ وعَلا- : {ذِكْرَى}, الرسل جاءوا يُذَكِّرُونَ الناس, ويخوفونهم عقوبة الله -تبارك وتعالى- قال : {وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ}, أنْ يعجل الله -تبارك وتعالى- وأنْ يبدأ هؤلاء القوم العذاب دون أنْ ينذرهم، ودون أنْ يُذَكِّرَهُم، ودون أنْ يحذرهم عقوبة -سبحانه وتعالى-, {وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ}[الشعراء:209].

ثم قال -جلَّ وعَلا- : {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ}[الشعراء:210], كما يقول هؤلاء المجرمين بأنَّ هذا القرآن تنزلت به الشياطين على النبي -صلوات الله والسلام عليه-، قال -جلَّ وعَلا- : {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ}[الشعراء:210], إنما الذي نزل به جبريل -عليه السلام-، الشياطين جمع شيطان, وهو المتمرد والمقصود المتمرد مِن الجن؛ لأنهم متمردون عتاه؛ فكل مَن تمرد مِن الجن فهو شيطان، رأس الشياطين شياطين الجن إبليس هو رأسهم, وهو قدوتهم, وهو أعظم سبب في إضلال مَن يضل مِن هذا العالم، {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ}[الشعراء:210], {وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ}[الشعراء:211]، {مَا يَنْبَغِي لَهُمْ}, ما يتيسر لهم هذا الأمر, ولا يستطيعونه, ولا هم أهل له، ليسوا أهل لأنْ يُحَمِّلَهُم الله -تبارك وتعالى-, أو يحملوا رسالة  الله، أو أنْ يأتوا بهذا القرآن على النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا أمرٌ لا يستطيعونه، ليسوا أهل بأنْ يتكلموا بهذا الكلام الذي هو كلام الرب -تبارك وتعالى-, {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا}[الإسراء:88], هو فوق قدرة كل أحد، فوق قدرة البشر جميعًا، وفوق قدرة الشياطين والجن جميعًا, {وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ}, ليسوا أهلًا لأنْ يأتوا بمثل هذا القرآن، {وَمَا يَسْتَطِيعُونَ}, لا يستطيعون هذا الأمر، {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ........}[يونس:37]، ما يستطيع أي مخلوق أنْ يفتري هذا القرآن، فهذا كلام الله -تبارك وتعالى- المعجز, النازل منه -سبحانه وتعالى-, {وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ}[الشعراء:211]، {إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ}[الشعراء:212], {إِنَّهُمْ}, الجن, {عَنِ السَّمْعِ}, مِن الرب -تبارك وتعالى-, {لَمَعْزُولُونَ}, فلا يسمعون كلام الله -تبارك وتعالى- الذي يلقيه -سبحانه وتعالى- إلى الملائكة، وحي الله -تبارك وتعالى- عزلهم الله -تبارك وتعالى- عنه، يصل كلام الله -تبارك وتعالى- عن طريق الملائكة إلى رسل الله -تبارك وتعالى-, ولا يستطيعون في أي درجة مِن درجات هذا الوحي مِن الله -تبارك وتعالى- لرسوله أنْ يسمعوا هذا الوحي, ولا أنْ يدركوه ويسمعوه إلا بعد أنْ ينزل إلى الرسول -صلوات الله والسلام عليه-, {إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ}[الشعراء:212], والمعزول هو الممنوع الذي فيه انعزال عن هذا الأمر, وقد أخبر -سبحانه وتعالى- إنه حَرَسَ السماء التي نازل منها هذا القرآن حرسها -سبحانه وتعالى-, {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ}[الصافات:6], {وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ}[الصافات:7], {لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ}[الصافات:8], {دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ}[الصافات:9], في الآخرة، فالله -تبارك وتعالى- حفظ السماء, وشهدت الجن الذين سمعوا هذا القرآن مِن النبي -صلى الله عليه وسلم-, وهو يتلوه في مكة, قالوا : {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا}[الجن:1], وسمعهم للقرآن كان مِن النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد أنْ أوحي إليه, ونزل مِن السماء، فلم يعرفوا بتاتًا أنه قد نزل قرآن, والله تكلم به, سمعه جبريل، جبريل نزل به إلى النبي -صلى الله عليه وسلم-, وكان النبي في انعزال تام عن هذا، فهؤلاء الكفار الذين زعموا أنَّ الرسول تلقى هذا القرآن مِن الجن تعالى الله -تبارك وتعالى- عن ذلك؛ فقال -جلَّ وعَلا- : {إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ}[الشعراء:212]، فَمِن عَزْلِهِم عن السمع أنَّ الله -تبارك وتعالى- حَرَسَ السماء ألا يسمع الجن يخبروا النبي -صلى الله عليه وسلم- بأنهم يركبوا بعضهم بعضًا إلى العنان فيسمعون ما قضى الله -تبارك وتعالى- به مِن أمر الملائكة، وذلك أنَّ الله يقول للنبي : إنَّ الله إذا قضى أمرًا تكلم به فيصعق الملائكة لكلامه، يقعون مصعوقين عندما يتكلم الرب -تبارك وتعالى-؛ فيكون أول مَن يفيق مِن الصعقة وهو جبريل، فيقولون ماذا يقول ربك يا جبريل، يقول قال الحق وهو العلي العظيم؛ فيخبر جبريل الملائكة بما قضاه الله -تبارك وتعالى-, ثم بعد ذلك تتكلم كل ملائكة أهل السماء للذين دونهم، السماء السابعة إلى الذين دونهم، إلى الذين دونهم, إلى أنْ يكون إلى السماء الدنيا، الشياطين يركب بعضهم بعضًا؛ حتى يسمعوا مِن الملائكة ما قضى الله -تبارك وتعالى- به؛ فالله -تبارك وتعالى- قد أرسل الشُّهُب فيهم، فأحيانًا الشيطان يلقي الكلمة التي سمعها مِن الملائكة إلى مَن تحته، فأحيانًا يأتيه الشهاب قبل أنْ يلقيها، فيحرق بها, وأحيانًا يلقيها قبل أنْ يأتيه الشهاب, وهذه تكون مِن جملة ما خطفه الملك، قال -جلَّ وعَلا- : {إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ}[الصافات:10], يخطف الخطفة مما يسمعه مِن كلام الملائكة, ويتبع هذا الشهاب, أحيانًا يلقى الكلمة إلى مِن تحته، لكن مِن تحته يزيد في الكلمة، كل يزيد فيها يزيد فيها كذابين، هم كذابون حتى تصل بعد ذلك إلى أوليائهم مِن الإنس, وهي كلمة واحدة مِن الصدق، مما تحدث الله -تبارك وتعالى- به, ومعها تسعة وتسعون مِن الكذب الذي زاده وأفكه وهؤلاء الكاذبون وهم الجن، جعل الله -تبارك وتعالى- هذه الخطفة التي خطفها الجني مِن الخبر، يجعلها الله -تبارك وتعالى- فتنة حتى يقول الناس أنَّ هذا العراف, أو هذا كذا، ألم يقل لكم يوم كذا وكذا سيكون كذا وقد كان، يكون هذا مِن كلام الصدق الذي سمعه الجن مِن المَلَك وباقي كلامهم يكون كذب، فأكثر كلام المنجمين وكلامهم يكون كذب إلا هذه الكلمة أو النَّبَوءَة التي أخدوها مِن كلام الملائكة على هذا النحو؛ فالله -تبارك وتعالى- عزلهم عن السمع, وقد شهد الجن بهذا قبل مبعث النبي -صلوات الله والسلام عليه-، قالوا : {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا}[الجن:8], {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا}[الجن:9], يقول كنا في الأول نقعد منها مقاعد للسمع؛ ولذلك كانت العرافة قبل النبي -صلى عليه وسلم- والكهانة كانت منتشرة, وكان هناك يحدث العرافون وهؤلاء الكهنة بأمور كثيرة مِن أمور الناس, ويقع منها أمور كثيرة، وذلك قبل أن يحفظ الله -تبارك وتعالى- السماء قبل بعثة النبي -صلى الله عليه وسلم- هذا الحفظ؛ ولذلك الجن لما سمعوا الوحي, {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ}[الأحقاف:29], {قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ}[الأحقاف:30], {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}[الأحقاف:31], فالجن الذين استمعوا القرآن استمعوه مِن النبي -صلوات الله والسلام عليه-, {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا}[الجن:1], {يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا}[الجن:2], {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَدًا}[الجن:3], {وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا}[الجن:4], {وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا}[الجن:5], {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا}[الجن:6], {وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا}[الجن:7], {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا}[الجن:8], {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ}[الجن:9], أي قبل هذا, {........فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا}[الجن:9], {وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا}[الجن:10], فالله أخبر بأنَّ هؤلاء الجن عن السمع لمعزلون, فهنا يُبَيِّن الله -تبارك وتعالى-, ويُبَيِّنُ لهؤلاء الذين شكوا في القرآن مِن هؤلاء العرب, ونسبوا قول الله -تبارك وتعالى- عن الجن، أنَّ الجن معزولون عن السمع، وأنه نزل به جبريل على النبي -صلى الله عليه وسلم-, كما قال الله -تبارك وتعالى- قبل ذلك : {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الشعراء:192], {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ}[الشعراء:193], {عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ}[الشعراء:194], فالذي نزل بالقرآن هو الروح الأمين جبريل -عليه السلام- ولم يتلقَ النبي هذا القرآن مِن رَئِيّ مِن الجن كما زعموا بأنَّ النبي ترآى له ناس مِن الجن والشياطين, وأنهم هم الذين أوحوا له بهذا الكلام.

ثم قال -جلَّ وعَلا- : {فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ}[الشعراء:213], ترتيب على كل ما سبق أنَّ هذا كتاب الله، أنَّ هذا وحي الله -تبارك وتعالى- أنزله إليك, وإذن استقم على أمر الله -تبارك وتعالى-, الله أبطل كل ما قاله الكفار عن هذا القرآن, وبَيَّنَ أنَّ هذا رسوله، وأنَّ هذا الكلام منه -سبحانه وتعالى-, والذي يترتب على هذا أعظم ما يدعوا الله -تبارك وتعالى- العباد إليه أنْ يعبدوه وحده لا شريك له، قال : {فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ}[الشعراء:213], وهذه دعوة الله -تبارك وتعالى- ألا يُعْبَد إلا هو -سبحانه وتعالى-, {فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ........ }[الشعراء:213], لأنَّ الله هو الإله وحده -سبحانه وتعالى-, الإله المعبود، المعبود الذي لا إله إلا هو -سبحانه وتعالى-, وكل إله آخر غير الله باطل يسميه الناس إله, أي معبود, ولكنه معبود بالكذب والزور والظن والتخمين, لا إله إلا هو, لا إله يستحق العبادة إلى الله -تبارك وتعالى-، {فَلا تَدْعُ}, والدعاء هو العبادة, {........مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ}[الشعراء:213], هذا حكم الله -تبارك وتعالى-, {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ........}[الإسراء:23], فلا عبادة إلا له، والعبادة أشرفها الدعاء، الدعاء هو العبادة, {فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ........}[الشعراء:213], الدعاء هو العبادة, أي لا تعبد إله آخر مع العبادة -تبارك وتعالى- فترجوه وتخافه وتسأله إلا الله، {فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ}[الشعراء:213], هذا خطاب للنبي -صلوات الله والسلام عليه- ومعلوم أنَّ النبي معصوم مِن أنْ يدعوا مع الله إلهًا آخر, أو يشرك بالله -تبارك وتعالى-, ولكن هذا الخطاب خوطب به الجميع، خوطب به ملائكة الرب، وخوطب به رسل الله -تبارك وتعالى- وخوطب به الجميع وإذا كان؛ حتى يعلم الناس أنه إذا خوطب الرسل حتى المعصومين مِن هذا بهذا الخطاب فلا شك أنَّ هذا غيرهم أُوْلَى بالطاعة, وأنه العذاب إذا كان سيقع في الرسل ففي غيرهم تاريخ الأَوْلَى إذا كان هذا هو رسل الله، إذا خالفوا أمره في هذا فيقع بهم العذاب فكيف بغيرهم، قال -جلَّ وعَلا- : {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}[الزمر:65], {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ}[الزمر:66], فهذا أمر, وقال في الأنبياء : {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[الأنعام:88], {فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ}[الشعراء:213], {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ}[الشعراء:214], أمرٌ مِن الله -تبارك وتعالى- الرسول بأنْ ينذر عشيرته الأقربين منه، وعشيرة الإنسان هم أهله مِن الأعمام، وأبناء العمومة، فهؤلاء العشيرة الأقربين، وقد فعل النبي -صلى الله عليه وسلم- فإنه لما نزل عليه أمر الله -تبارك وتعالى- قام على الصفا خطيبًا, ونادى بطون قريش، فعم وخص، عَمَّ مِن بني فهر بن مالك, وبني عدي ومَن دونهم إلى بني هاشم, ثم إلى بعض أعمامه, قال : (يا عباس بن المطلب، يا صفية عمة رسول الله، يا فاطمة بنت محمد اعملوا فلا أُغْنِي عنكم مِن الله شيئًا، أنقذوا أنفسكم مِن النار)؛ فدعا الجميع مِن قريش عمومها وخصوصها، خصوصها بعض الأفراد كالعباس وصفية وفاطمة، وأخبر الجميع بأنه نذير للجميع، النبي نذير للجميع؛ لأقاربه ولعشيرته الأقربين, وكذلك للناس أجمعين، وقال للجميع أنقذوا أنفسكم مِن النار لا أُغْنِي عنكم مِن الله شيء، وقال في ابنته الذي يلزمه نفقتها قال لها : (يا فاطمة بنت محمد سليني مِن مالي ما شئتِ لا أُغْنِي عنك مِن الله شيئًا)، السؤال الذي تسأله مِن مال النبي؛ لأنَّ هذه أبناء الإنسان يلزمه نفقتهم، أما بالنسبة إلى نجاتهم فإنَّ هذا ليس له، نجاتهم في الآخرة إنما هي متوقف على إيمانهم وعملهم الصالح، وأما شفاعة النبي لهم، ودعائه لهم فلا يكون إلا لأهل الإيمان, لابد أنْ ينقذ كل إنسان نَفْسهُ، فالله قال لرسوله : {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ}[الشعراء:214], أنذرهم أي خوفهم عقوبة الله -تبارك وتعالى- إنْ لم يؤمنوا, وأنَّ مَن لم يؤمن ومات على الكفر؛ فإنه لا تنفعه شفاعة الشافعين، وقد ضرب الله -تبارك وتعالى- الأمثال في الذين ماتوا على الكفر مِن أقارب الرسل، وأنه لم تنفعهم قراباتهم بالرسل، فهذا نوح -عليه السلام- لم ينفع ابنه قرابته منه، ناداه وقال له : {........يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ}[هود:42], {قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ........}[هود:43], إلى قال الله -تبارك وتعالى- لما أراد أنْ يشفع في ابنه : {........فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ}[هود:45]، {قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ}[هود:46], وكذلك في زوجته؛ زوجة نوح, قال -تبارك وتعالى- : {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ}[التحريم:10], ادخلا النار وإنْ كنتما زوجتا نبي، زوجة نوح, وزوجة لوط -عليهما السلام-، ما نفعهم أنهم زوجات للأنبياء أنْ يدخلهم هذا الجنة، وكذلك أبو إبراهيم فإبراهيم خليل الرحمن, ولكنَّ أباه عصاه ولم يؤمن به؛ فلم ينفعه إبراهيم، ما استطاع أنْ ينفعه, وفي الحديث الصحيح : «يلقى إبراهيم يوم القيامة أباه آزر, وقد على وجه آزر غبرة وقترة», كشأن الكفار تعلوا وجههم الغبرة والقترة، القترة السواد, الكفار كل شأنهم أنهم يأتون يوم القيامة وجوههم مسودة، {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ........}[الزمر:60] وكذلك قول الله -تبارك وتعالى- : {كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا}, وقال -جلَّ وعَلا- : {........وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا}[طه:102], الزرق السواد، الزرقة في لغة العرب هو السواد المظلم شديد الظلمة، أي أنهم يحشرون على هذا النحو؛ فالنبي يخبر بأنَّ إبراهيم يلقى أباه آزر وقد علا وجه آزر غبرة وقترة؛ فيقول له إبراهيم : يا أبتي ألم أقل لك لا تعصني, في الدنيا عندما دعاه فإنَّ الله -تبارك وتعالى- نقل لنا دعوة إبراهيم الكريمة لأبية، وإنَّ إبراهيم قال له : {يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا}[مريم:43], {يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا}[مريم:44], {يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا}[مريم:45], ولكن كان رد أبوه عليه رد سيء، {قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ مريم:46], أي ترغب عن آلهتي, وتكره آلهتي التي أنا أعبدها, {لَئِنْ لَمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا}[مريم:46], قال له إذا ما انتهيت عن دعوتك التي تدعوا بها, {........لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا}[مريم:46], {قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا}[مريم:47], {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا}[مريم:48], فأعتزلهم ولما طردوه على هذا النحو, ولم يستجب أبوه، فإبراهيم يذكر أباه بهذه الدعوة, ويقول له : يا أبتي ألم أقل لك لا تعصاني فيقول آزر يا بني الآن لا أعصيك, أي في هذا الوقت لا أعصيك، أي أعبد الذي تعبد, أعبد الله -تبارك وتعالى- فيدعو إبراهيم ربه -سبحانه وتعالى- يقول : ربي, يدعوا بالدعاء الذي كان قد دعا به ألا يخزيه, قال مِن دعائه  في الدنيا قال :  {وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ}[الشعراء:87], {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ}[الشعراء:88], {إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}[الشعراء:89], فيدعوا ويقول ربي لقد وعدتني ألا تخذني يوم يبعثون، وأي خذي اكبر مِن أبي الأبعد, قال أي خذي أكبر مِن أبي يلقى في النار، فيقال له : يا إبراهيم أني حرمت الجنة على الكافرين, هذا حُكْم حكمهم الله -تبارك وتعالى- وانظر تحت قدميك، فينظر تحت قدميه؛ فإذا هو بذيخ ملطخ بالدماء، يمسخ الأب إلى ذيخ, ذكر ضبع ملطخ بالدماء يكون منظر كريه، والضبع مِن أقبح الحيوانات مرأى ومنظر, وخاصة إذا كان ملطخ بالدماء، فيؤخذ مِن قائمة ويلقى به في النار، {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ}[المؤمنون:101], لا يوجد نسب هذا أبي، هذا أخي، نسبك دينك، نسبك إيمانك بالله -تبارك وتعالى- هذا الذي ينجيك فقط, أما أبوك نبي، ابنك نبي, هذه امرأة زوجها قد كان نبيًا هذا أخ وأخوه, فالله قال لرسوله : {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ}[الشعراء:214], أنذرهم خوفهم عقوبة الرب -تبارك وتعالى-, العشيرة الأقربين الذي قد يتكل بعضهم ويظن أنه مادام أنه قريب مِن الرسول فهذا الرسول عمه، أو ابن عمه، أو أنَّ هذا مِن أولاده، أو مِن نسله أنَّ هذا يتكل على هذا الأمر، والنبي حذر مِن هذا، فقال لهم لا يأتيني الناس بالأعمال, وتأتوني بالأحساب والأنساب ,إذا تؤتوني بالنسب لا يفيدكم هذا، أنقذوا أنفسكم مِن النار، أنقذوا أنفسكم مِن النار لا أُغْنِي عنكم مِن الله شيئًا، فالنبي دعا الجميع في مكة -صلوات الله والسلام عليه-، وهو يقول : أنقذوا أنفسكم مِن النار لا أُغْنِي عنكم مِن الله شيئًا، قال الله -تبارك وتعالى- : {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ}[الشعراء:214], أي منك، أي خوفهم عقوبة الله -تبارك وتعالى- وعذابه يوم القيامة، ثم : {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}[الشعراء:215], هذا توجيه مِن الله -تبارك وتعالى- لرسوله أنْ يخفض جناحه، وخفض الجناح كناية عن التواضع لهم، والذُّل لهم، والرحمة بهم، واليد تسمى جناح؛ لأنها في الجانب كجناح الطير، وخفض الجناح كناية عن هذا، أي لا ترفع عليهم يدك بتهديد, أو وعيد كشأن مَن يهدد ويواعد فإنه يحرك يده, أو بضرب, أو بنحو ذلك، {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}[الشعراء:215]، مَن اتبعك مِن المؤمنين اخفض لهم الجناح, وهذا أقول أمر مِن الله -تبارك وتعالى- بأنْ يكون النبي -صلوات الله والسلام عليه- طَيِّعًا, رحيمًا بأصحابه, وقد كان هذا مِن صفاته -صلوات الله والسلام عليه؛ كما قال له الله -تبارك وتعالى- : {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ........}[آل عمران:159], فقد كان بمثابة الأب الرحيم -صلوات الله والسلام عليه-، الودود، العطوف يعامل أصحابه -صلى الله عليه وسلم- كما يعامل الأب أبنائه وأكثر, {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ........}[الأحزاب:6], وهو أب لهم, {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ}, فهذا النبي الرؤف الرحيم, {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}[التوبة:128], فقد كان رؤفًا رحيمًا -صلوات الله والسلام عليه- يعفوا عن مسيئهم، يعلم جاهلهم، يزور مرضاهم، يتبع جنائزهم، يحد مَن يغالي منهم, ينشط ويشجع مَن تكاسل منهم، ثم يعفوا عن إساءتهم لم ينتقم لِنَفْسِهِ قط -صلوات الله والسلام عليه-, الأب الرؤف, الرحيم -صلى الله عليه وسلم-, {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}[الشعراء:215], الله وقد أمره الله -تبارك وتعالى- كذلك مع هذا خفض الجناح بأنه يصبر نَفْسَهُ قال : {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا}[الكهف:28], فهذا النبي الرحيم كان على هذا النحو, وهذا توجيه الرب -سبحانه وتعالى-, وما وضع الله -تبارك وتعالى- في قلبه نبيه مِن الرحمة والحلم والكمال -صلوات الله والسلام عليه-، {فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ}[الشعراء:216]، {فَإِنْ عَصَوْكَ}, وهذا لهؤلاء وهؤلاء, {........فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ}[الشعراء:216].

 ونأتي إنْ شاء الله لهذه الآيات في حلقة آتية, إلى ختام السورة, أستغفر الله لي ولكم مِن كل ذنب, وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد.