الجمعة 29 ربيع الآخر 1446 . 1 نوفمبر 2024

الحلقة (453) - سورة الشعراء 215-227

   الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم, مالك يوم الدين, والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين, سيد الأولين والآخرين, نبينا محمد, وعلى آله وأصحابه, ومَن اهتدى بهداه, وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد؛ فيقول الله -تبارك وتعالى- : {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ}[الشعراء:210], {وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ}[الشعراء:211], {إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ}[الشعراء:212], {فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ}[الشعراء:213], {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ}[الشعراء:214], {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}[الشعراء:215], {فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ}[الشعراء:216], {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ}[الشعراء:217], {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ}[الشعراء:218], {وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ}[الشعراء:219], {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}[الشعراء:220], {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ}[الشعراء:221], {تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ}[الشعراء:222], {يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ}[الشعراء:223], {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ}[الشعراء:224], {أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ}[الشعراء:225], {وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ}[الشعراء:226], {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ}[الشعراء:227].

هذه الآيات جاءت في ختام هذه السورة؛ سورة الشعراء، التي بدأها الله -تبارك وتعالى- بالإشادة بهذا القرآن الكريم؛ فقال -جلَّ وعَلا- : {طسم}[الشعراء:1], {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ}[الشعراء:2], ثم إنَّ الله -تبارك وتعالى- طمأن رسوله -صلى الله عليه وسلم- أنَّ أكثر الناس في كل الرسالات لم يؤمنوا, وأنَّ القلة فقط هي التي آمنوا, وأنَّ النبي لن يكون بِدْعًا مِن الرسل -صلوات الله والسلام عليه-، فقال الله -تبارك وتعالى- تهديئًا مِن روعه : {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}[الشعراء:3], {إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ}[الشعراء:4], الرب -تبارك وتعالى- قادر على أنْ يحملهم على الإيمان حملًا بالقوة القاهرة، ولكنه لم يشأ أنْ يفعل -سبحانه وتعالى-, وإنما أرسل لهم هذا الرسول محمد -صلوات الله والسلام عليه- المُؤَيَّد بالمعجزات الباهرات ومِن هذا، هذا الكتاب الكريم الذي هو إلى كونه معجزة تحدى الله -تبارك وتعالى- بها البلغاء أنْ يأتوا بسورة مِن مثل سوره وكتاب هداية، وكتاب رحمة، وكتاب تشريع، وكتاب دعوة مِن الله -تبارك وتعالى- هذا خطاب الله -تبارك وتعالى- إلى العباد فهذا أعظم الآيات التي أُرْسِلَت على الرسل ينزل الله -تبارك وتعالى- كتابه في سورة دليل معجز يبقى هذا إعجازه إلى آخر الدهر، إلى جوار كون هذا القرآن الكريم كتاب هداية، كتاب توضيح، كتاب نور، كتاب بيان، السورة كلها مضت في بيان هذه الحقيقة, وهي أنَّ أكثر الناس كفروا برسلهم مع توضيح الحُجَّة, ومع وضوح الدليل، بدأ الله -تبارك وتعالى هذا في شأن موسى -عليه السلام-, والآيات التي أرسلها الله -تبارك وتعالى- إليها، وعناد فرعون وقومه مع وضوح الآيات، وختم الله -تبارك وتعالى- هذا؛ فقال : {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ}[الشعراء:8], {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}[الشعراء:9], تكررت هذه الآية ثماني مرات في هذه السورة, المرة الأولى بعد أنْ ذكر الله -تبارك وتعالى- هذه الآية الباهرة، آية هذه, {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ}[الشعراء:7], هذه ظاهرة النبات، هذا النبات الذي ملأ الله -تبارك وتعالى- به الأرض مِن أعظم آيات الله -تبارك وتعالى- لِمَن يريد أنْ يتعظ ويعتبر، ويعلم أنَّ هناك الرب, الإله, الخالق -سبحانه وتعالى-, {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ}[الشعراء:7], {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ}[الشعراء:8], {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}[الشعراء:9], ثم جاء هذا بعد ذكر الله -تبارك وتعالى- لموسى، ثم بعد ذِكْر الله -تبارك وتعالى- لإبراهيم وحجته الباهرة على قومه، ثم بعد ذِكْر الله -تبارك وتعالى- لنوح، ثم هود، ثم صالح، ثم لوط، ثم شعيب، وفي كل ختام لحلقة مِن حلقات هذه السلسة؛ سلسلة هذه النبوات, رسالة الله -تبارك وتعالى-, يقول -جلَّ وعَلا- : {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ}[الشعراء:8], {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}[الشعراء:9], هنا بَيَّنَ الله -تبارك وتعالى- هذه الآية العظيمة, آيات القرآن, المنزلة على عبده ورسوله -صلى الله عليه وسلم-؛ فقال -جلَّ وعَلا- : {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ}[الشعراء:210], {وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ}[الشعراء:211], ليس كما يقولون بأنَّ هذا القرآن قد أوحاه وأملاه على النبي شياطين, وأنه رأى رَئِيّ مِن الجن, وأنه أتى يأخذ هذا عنه, قال -جلَّ وعَلا- : {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ}, أي مِن السماء, أو أنها جاءت به الشياطين, {وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ}[الشعراء:211], أنَّ هذا ليس في مقدروهم, وليس في استطاعتهم, {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا}[الإسراء:88], {وَمَا يَسْتَطِيعُونَ}[الشعراء:211], {إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ}[الشعراء:212], يقول -سبحانه وتعالى- : {إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ}, مِن السماء, {لَمَعْزُولُونَ}, فقد حرس الله -تبارك وتعالى- السماء, ويرسل الشهب في إثرهم عندما يركب بعضهم بعض إلى العنان ليسمعوا مِن الملائكة, كما جاء في الحديث, وفي قول الله -تبارك وتعالى- : {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ}[الصافات:6], {وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ}[الصافات:7], {لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ}[الصافات:8], {دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ}[الصافات:9], {إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ}[الصافات:10], وقول الجِنَّة : {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا}[الجن:8], {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا}[الجن:9].

ثم بعد ذلك وجه الله -تبارك وتعالى- رسوله إلى عباده الله -تبارك وتعالى- وحده, هذا أمرٌ, له وأمرٌ لأمته, وهذا هو مقصد الرسالات كلها, ومقصد رسالة النبي -صلوات الله والسلام عليه-، كل الرسل دعوا إلى عبادة الله وحدة لا شريك له, {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ........}[النحل:36], قال -جلَّ وعَلا- : {فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ}[الشعراء:213] {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ}[الشعراء:214], ابدأ بالنذارة  للعشيرة الأقربين, وقد جمعهم النبي -صلى الله عليه وسلم- وأنذرهم, قال لهم : يا بني فلان، يا بني كعب، يا بني عدي، يا بني هاشم، يا عباس بن عبد المطلب، يا صفية عمة رسول الله، يا فاطمة بنت محمد، عم النبي, عم مِن بطون قريش وحص، اعملوا لا أُغْنِي عنكم مِن الله شيء ثم في بنته قال : سليني مِن مالي ما شئتِ لا أُغْنِي عنكِ مِن الله شيئًا, {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ}[الشعراء:214], {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}[الشعراء:215], مهما كان مِن فقراء الناس ومِن ضعفائهم، وقد أمره ربه -سبحانه وتعالى- أنْ يصبر نَفْسَهُ معهم, {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا}[الكهف:28], وخفض الجناح ألا يرفع يده عليهم بضرب أو شتم، وإنما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- كما أَهَّلَهُ -سبحانه وتعالى- لين الجانب, سمحًا، كريمًا، عطوفًا، رؤف رحيم، كما وصفه الله -تبارك وتعالى- : {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}[التوبة:128], {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ}[آل عمران:159], فلم يكن للنبي فظ، ولا غليظ، ولا قاسي القلب، وإنما كان أبًا, رحيمًا, عطوفًا -صلوات الله والسلام عليه-، {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}[الشعراء:215]، {فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ}[الشعراء:216], عصوك هؤلاء الكفار, واختاروا طريق الضلال على طريق الهدي, {........فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ}[الشعراء:216], أي لي عملي, ولكم عملكم، {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}[الكافرون:1], {لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ}[الكافرون:2], {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ}[الكافرون:3], {وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ}[الكافرون:4], {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ}[ال كافرون:5], {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}[الكافرون:6], {فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ}[الشعراء:216], {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ}[الشعراء:217], التوكل هو تسليم الأمر في نتائجه للرب -تبارك وتعالى-, ثمرة القلب تكون تعلق القلب بما وراء الأسباب بتدبير الرب واختياره -سبحانه وتعالى- مع بذل الأسباب، وحقيقة التوكل أنْ يبذل الإنسان الأسباب التي توصل لجعلها الله -تبارك وتعالى- موصلة إلى النتائج, ثم يسلم الأمر لله -تبارك وتعالى-, ففي الجهاد النصر على الكفار مطلوب، مأمور العبد المؤمن بأنْ يسعَ في الجهاد بحيازة أسبابه مِن الحذر، ومِن العدة، ومِن العتاد، ومِن تنظيم الجيش، وأخذ الأُهْبَة كل هذه الأسباب واجبه, ثم بعد ذلك تسليم الأمر والنتائج الله -تبارك وتعالى-, فقد كان للنبي -صلوات الله والسلام عليه-، سيد المتوكلين، أعظم الناس أخذًا بالأسباب, وكذلك أعظم الناس توكلًا على الله -تبارك وتعالى-, انظر حاله في كل أحواله، في دعوته في مكة -صلوات الله والسلام عليه-، في هجرته ففي الهجرة مثلًا حتى يريد أنْ يصل إلى المدينة دون أنْ يلحق به الكفار, وأنْ يقطعه الكفار دون هذا الأمر, انظر كيف احتاط للأمر فأثار فيه سرًا, لم يبلغ فيه إلا أبو بكر الصديق -رضى الله تعالى عنه- هو وأولاده كيف يمكث ثلاثة أيام في غار ثور، مَن يأتيهم بالأخبار، مَن يأتيهم بالطعام في هذا الوقت، اختيار الدليل الذي يدلهم على طريق آخر غير الطرق المعتادة، فيؤخذ هذا الخربيت الهادي لهذا الطريق, ما ترك سبب مِن الأسباب التي يمكن أنْ تساعد في هذا الأمر إلا اتخذه -صلوات الله والسلام عليه-، ثم سار بعد ذلك متوكلًا على الله -جلَّ وعَلا-, ومسلم الأمر لله وعندما يقول أبو بكر له وهما في الغار : يا رسول الله والله لو نظروا تحت أقدامهم لرأونا؛ فيقول له : (يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما)، ما تظن باثنين الله ثالثهما, فانظر الكفار لو خطوا خطوة لوقعوا على النبي -صلى الله عليه وسلم-، وعلى أبو بكر وهما مختفيان في الغار, لقد بذل أبو بكر والنبي كل الأسباب التي يمكن أنْ يبذلاها حتى يخرج مِن مكة إلى المدينة، وسلم الأمر بعد ذلك لله -تبارك وتعالى- فكان النبي في هذا متوكل على الله, ومسلم أمره له، ويعلم أنه سيتم الأمر كما أراد الله -عز وجل-, انظر أخذ الأسباب, وانظر مقدار توكله على الله -تبارك وتعالى-, لم يقل النبي في التوكل أخرج شاهرًا سيفي, وأخرج في وَضَحِ النهار ويفعل الكفار ما يفعلونه، وكذلك في كل شئونه -صلى الله عليه وسلم- في غزوة بدر، في غزوة أُحُد، في غزوة بدر اتخذ كل الأسباب والاحتياطات للأمر, وسلم الأمر في النهاية, ودعا الله -تبارك وتعالى- وقال : (اللهم إنْ تهلك هذه العصابة لا تُعْبَد), وفي أُحُد أخذ الأمر, شاور أصحابه، اتخذ العدة, ولم يلبث درعًا واحدًا، وإنما ظهر بين درعين -صلوات الله والسلام عليه-, وقام وضع المسلمين على أماكنهم, كما قال له الله -تبارك وتعالى- : {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}[آل عمران:121], وبذل كل الأسباب, ثم سلم بعد ذلك النتائج إلى الله -تبارك وتعالى-, الشاهد مِن كل هذا أنَّ الله -تبارك وتعالى- أمر رسوله؛ فقال له : {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ}[الشعراء:217]، وليس التوكل كما يفهم عند بعض الناس التوكل هو ترك الأسباب وتسليم الأمر إلى الله -تبارك وتعالى-لا, بل معنى التوكل أنْ يبذل المؤمن جميع الأسباب التي توصل في العادة إلى النتيجة التي يريدها, ثم يسلم الأمر إلى الله -تبارك وتعالى-, {عَلَى الْعَزِيزِ}, الغالب -سبحانه وتعالى- الذي لا يغلبه أحد, {الرَّحِيمِ}, بعباده -سبحانه وتعالى- المؤمنين، فالله هو العزيز الرحيم, وقد جمع الله -تبارك وتعالى- بين هذين الوصفين وهما متجاورين؛ لِيُبَيِّن معاملنه -سبحانه وتعالى- وعزته على الكفار، وأنه العزيز الذي لا يُغْلَبُ -سبحانه وتعالى- والرحيم بعباده المؤمنين, الهادي لهم الموفق لهم -سبحانه وتعالى-, الذي ييسر لهم كل الأسباب ليصلوا إلى النتائج المرضية مِن وصول جنة الله -تبارك وتعالى- ورضوانه, {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ}[الشعراء:217], {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ}[الشعراء:218], تأنيس للنبي, {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ}[الشعراء:218], {وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ}[الشعراء:219]، {حِينَ تَقُومُ}, بما تقوم به, حال قيامك, والنبي حال قيامه أعظم قيام له، القيام بالدعوة إلى الله -تبارك وتعالى-, والعمل لله -عز وجل-؛ فالله يراك إذن لا تخاف فربك معك هذا تأنيس للنبي -صلوات الله والسلام عليه-, وبيان أنَّ ربك -سبحانه وتعالى- معك, {وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ}[الشعراء:219]، التقلب التقلب التنقل, {فِي السَّاجِدِينَ}, أي قيامك في حالك كونك ساجدًا لله -تبارك وتعالى-, وقائمًا في هذا, أو : {وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ}[الشعراء:219]، في المؤمنين, الساجدين الذي وصفهم الله -تبارك وتعالى- بهذا الوصف كأن هذا هو حالهم، كما وصف الله -تبارك وتعالى- أصحاب النبي في الآية الأخرى فقال : {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا........}[الفتح:29], {رُكَّعًا سُجَّدًا}, حال, أي تراهم كلما وقع بصرك عليهم فتجدهم إما راكعين, وإما ساجدين أنَّ معظم أحوالهم في الصلاة, {وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ}[الشعراء:219], والنبي -صلوات الله والسلام عليه- كان قائمًا مع هؤلاء الساجدين, الصفوة, المؤمنة التي آمنت به, وهذه السورة مكية, يُعَلِّمُ هذا في دار الأرقم بن أبي الأرقم يتصل بهذا, ويكون مع هذا, ويُثَبِّتُ هذا, ويقول لهذا هاجروا إلى هذا المكان؛ فمعهم -صلوات الله والسلام عليه-, {وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ}[الشعراء:219], {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}[الشعراء:220], {إِنَّهُ}, الرب -سبحانه وتعالى-, {هُوَ السَّمِيعُ}, لكل خَلْقِهِ -سبحانه وتعالى-, {الْعَلِيمُ}, بهم جميعًا -سبحانه وتعالى-, وعندما يعلم المسلم أنَّ ربه سميع عليم يأنس بذلك، ويفرح لذلك، ويراقب ربه -سبحانه وتعالى-، ويعلم أنه يضيع مده، و لن يضيعه، ولن يتخلى عنه -سبحانه وتعالى-, وأنه سامع له عليم به, كما الله -تبارك وتعالى- لموسى عندما أرسله في المهمة العظيمة إلى فرعون : {قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى}[طه:46], لما شكى موسى إلى ربه -سبحانه وتعالى- عظمة تبعه, والذهاب إلى فرعون, {قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى}[طه:45], {قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى}[طه:46], فإذن إذا كان الله -سبحانه وتعالى- الذي أرسلهما معهما, أي بتأييده ونصره يسمعهم ويراهم, فإنهم عند ذلك لا يخافون, الله معهم -سبحانه وتعالى-, {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ}[الشعراء:217], {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ}[الشعراء:218], {وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ}[الشعراء:219], {إِنَّهُ}, الرب -سبحانه وتعالى- { هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}.

ثم شرع الله -تبارك وتعالى- يرد مقالة هؤلاء المجرمين الذين قالوا بأنَّ هذا القرآن شِعْر, وأنَّ شأن محمد شأن هؤلاء الشعراء؛ فقال -جلَّ وعَلا- : {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ}[الشعراء:221], {تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ}[الشعراء:222], {يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ}[الشعراء:223], {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ}[الشعراء:224], {أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ}[الشعراء:225], {وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ}[الشعراء:226], {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ}[الشعراء:221], بالكهانة وبالشِّعْر وبالعرافة، وبادعاء علم الغيب وهذا كان نسبوا النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى العرافة، وإلى الكهانة، وإلى قول الشِّعْر، وكانوا عندهم أنَّ لكل شاعر شيطانًا يوحي إليه هذا الشِّعْر, ونسبوا النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى هذا، كاهن وعراف وشاعر؛ فقال -جلَّ وعَلا- : {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ}[الشعراء:221], النبأ الخبر العظيم, مَن الذي تخالطه الشياطين, وينزلون عليه, ويوحون إليه بما يوحون إليه مِن كذب القول, {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ}[الشعراء:221], {تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ}[الشعراء:222], فهذا الذي يناسبهم ويخالطونه وينزلون عليه، ويتصلون به, ويعطونه ما يعطونه مِن الأخبار التي بعضها مما يسترقونه مِن السمع مِن السماء، ومما يفترونه ويكذبونه، {عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ}, أفاك قائل الإفك، والإفك هو الكذب, وأصل الأفك القلب, وذلك أنَّ الكذب كلام مأفوك، مقلوب، فالأفاك هو الذي يفترى الكلام، ويقلب الحقائق ويقولها، {أَفَّاكٍ}, مِن هؤلاء الكهنة والعرافين، {أَثِيمٍ}, صاحب إثم، مجرم ، صاحب آثام، أفاك، كذاب، فهذا الذي تنزل عليه الشياطين, وأما محمدٌ -صلى الله عليه وسلم- فحاشاه؛ فإنه الصادق، البر، الأمين -صلوات الله والسلام عليه-, الذي لم يتهموه قَطّ قبل هذه الرسالة بكذبة، ما قالوا عنه في يوم  قَطّ وقد عاش فيهم أربعين سنة قبل أنْ يوحى إليه بأنه كذب عليهم كذبة، لم يأثروا عليه كذبة، ولم يأثروا عليه خيانة -صلوات الله والسلام عليه-، فهذا الذي يكون عرافًا وكاهنًا وشاعرًا مِن شعرائهم، أهل الإفك فهذه الشياطين تتنزل على أمثال هؤلاء, وكان هذا معروفًا أنه لا يمكن أنْ يكون إنسان مِن أهل الصدق والأخلاق الكريمة ينزل عليه الشيطان كما قالت  خديجة -عليها السلام- قالت للنبي -صلى الله عليه وسلم- لما قال : خشيت على نفسي مِن الذي رآه في الغار أول مرة، فقالت له : (لا والله لا يخذيك الله أبدًا، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكلّ، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق)، هذا الذي يتصف بهذه الأخلاق الجميلة، البديعة، العالية، الزكية، كيف تنزل عليه! لا يتنزل عليه الشيطان ولا يخالطوه هؤلاء الشياطين، {تَنَزَّلُ}, أي الشياطين الله يخبر بأنها :  {تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ}[الشعراء:222], {يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ}[الشعراء:223], {يُلْقُونَ السَّمْعَ}, أي الشياطين يلقون السمع؛ ليسمعوا مِن السماء, وهؤلاء يلقون السمع لهم مِن هؤلاء الشياطين, ومعنى إلقاء السمع أي أنهم يسمعون لهذا الإفك والكذب {وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ}, {أَكْثَرُهُم}, أكثر هؤلاء الذين تنزل الشياطين, {كَاذِبُونَ}, أَفَّاكُونَ.

ثم قال -جلَّ وعَلا- : {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ}[الشعراء:224], وذلك أنَّ الشِّعْر فنون مِن القول، الشِّعْر الذي كان سائدًا في هذا الوقت كان الشاعر لا يكون شاعرًا إلا في كل أفانين القول؛ في المدح والهجاء والفخر والوصف، وفي الغزل، وفي الخمريات، وفي كل أفانين مِن القول حتى يكون شاعرًا، {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ}[الشعراء:224], أهل الغواية، وأهل الضلال هم أتباعهم، فزمرة الشعر إنما هي صحبة الغواية، صحبة أهل الغواية والضلال فإنه هذه سِيَر كل الشعراء أنه لا يلتف حولهم, ولا يكون حولهم إلا أهل الغواية والضلال مما يحبون هذا الميادين التي كان أهل الجاهلية يقولون الشعر فيها؛ الغزل والخمر والوصف والهجاء المقذع، والمدح الكاذب, {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ}[الشعراء:224], {أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ}[الشعراء:225], {أَلَمْ تَرَ}, يخبر-سبحانه وتعالى- أنَّ الشعراء مِن شأنهم, {........أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ}[الشعراء:225], الوادي هو الطريق الذي مجري السيل بين الجبال, والمعنى هنا وادٍ مِن القول, أي في كل وادٍ مِن أودية القول, وكل فن مما يسمونه مِن فنون الشعر يهيمون، والهائم هو الذي يسير لا يدري إلى أين يسير, فهو ليس لديه مقصد يسير إليه لكنه هائم، {أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ}[الشعراء:225], أي يسيرون على غير هُدَى, {وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ}[الشعراء:226], كذابون، فقد يقول الغزل الرقيق, وليس عنده حال لهذا الغزل, وهو كاذب فيه, وقد يتكلم عن نَفْسِهِ, ويمدح نَفْسَهُ بالشجاعة وهو مِن أجبن الجبناء, ويمدح هذا الممدوح, وهو في قرارة نَفْسِهِ أنه هو ذَامٌ له, ويهجو هذا وهو يعلم أنه مِن أهل الفضل؛ فهم يقولون ما لا يفعلون, وخلاف ما يعتقدون, {وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ}[الشعراء:226].

ثم قال -جلَّ وعَلا- : {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا........}[الشعراء:227], استثنى الله -تبارك وتعالى- مِن جملة أهل الشِّعْر قال : {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا}, صَدَّقُوا وعملوا بمقتضى هذا التصديق هذا معنى الإيمان، {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}, الأعمال الصالحة، {وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا}, وكانوا مِن أهل ذكر الله -تبارك وتعالى-, { وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا}, وذِكْرُ الله -تبارك وتعالى- موجب للتقوى، وموجب للاستقامة على أمره -سبحانه وتعالى-, {وَانتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا}, انتصروا بالقول, {مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا}, أي ردوا على مَن ظَلَمَهُم بالقول وبالشِّعْر, ردوا عليهم انتصارًا لهم, {مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا}, ومِن هؤلاء الشعراء حسان بن ثابت الأنصاري -رضى الله تعالى عنه-، وكعب بن مالك، وعبدالله بن رَوَاحَة شعراء هؤلاء النبي -صلوات الله والسلام عليه,- ولبيد بن ربيعة، حسان شاعر مخضرم كان في الجاهلية وأسلم, وسَخَّرَ بعد ذلك شعره في خدمة الإسلام, وفي الدعوة الله -تبارك وتعالى-, وكان النبي يأمره بأنْ يهاجي عنه، يهاجي قريش؛ لأنَّ قريش كان فيها شعراء يهجون النبي -صلوات الله والسلام عليه- مِن أمثال عبدالله بن الزبعرى وغيره كانوا هؤلاء, فالنبي قابل شِعْرهم هذا الخبيث في الصد عن سبيل الله بشعر الإسلام؛ فقام حسان بن ثابت يدافع عنِ النبي صلوات الله والسلام عليه-, وكان النبي يمدح شعره ويقول له : (لَشِعْرُكَ عليهم, أو قولك عليهم أكبر مِن وقع السهام بالجهاد في الحرب), وقال : (اهجهم يا حسان وروح القدس معك), وفي خلافه عمر دخل عمر المسجد مرة يومًا وجد حسان ينشد فقال له : (أرغاءٌ كرغاء البعير), وأراد أنْ يمنعه؛ فقال له كن أقول فيه، كنت أقول الشعر في هذا المسجد وفيه مَن هو خير منك، فقال صدقت, أي النبي -صلوات الله والسلام عليه- فحسان مِن أمثاله مِن الذين نصروا الإسلام بقولهم البديع, ومازال الشعر بعد ذلك سلاح لنشر الدين  والدفاع عن حوزة الإسلام والمسلمين، فالله استثنى؛ فقال : {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا........}[الشعراء:227].

ثم قال -جلَّ وعَلا- تهديد في آخر هذه السورة : {........وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ}[الشعراء:227], هذا وعيدٌ شديدُ مِن الله -تبارك وتعالى- لهؤلاء الظلمة الذين ناءوا هذا القرآن, وناءوا هذا النبي, واتهموه بما اتهموه به بالكهانة وبالشِّعر قال : هؤلاء الذين ظلموا سيعلمون أي منقلب ينقلبون، مِن منقلب الذي سينقلبون له، والمنقلب هو المآل والنهاية وقد كان؛ فإنَّ هؤلاء انقلبوا شر منقلب فمنهم مَن قَتَلَهُ الله -تبارك وتعالى- في مكة, {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ}[الحجر:95]، ومنهم مَن قتله الله -تبارك وتعالى- في بدر وأنزل بهم نقمته وعذابه -سبحانه وتعالى-, وما ينتظرهم بعد ذلك مِن العذاب والنكال في الآخرة أشد وأبقى، ونصر الله -تبارك وتعالى- عبده ورسوله محمد -صلوات الله والسلام عليه-, وفتح الله -تبارك وتعالى- لهذا الدين الذي جاء به, وهذا القرآن الذي جاء به الآفاق؛ فختمت هذه السورة بهذا الختام العظيم, {........وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ}[الشعراء:227], ولا شك أنه كان شر منقلب انقلب إليه الذين ظلموا باتخاذهم إله لهم غير الله -تبارك وتعالى-, ومناوئتهم هذا الدين.

 الحمد لله رب العالمين, بهذا تمت هذه السورة العظيمة؛ سورة الشعراء, أسال الله -تبارك وتعالى- أنْ ينفعني وإياكم بما فيها مِن العلم والهدى, أستغفر الله لي ولكم مِن كل ذنب فاستغفروه.