الجمعة 21 جمادى الأولى 1446 . 22 نوفمبر 2024

الحلقة (456) - سورة النمل 15-27

{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الفاتحة:2]، {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}[الفاتحة:3]، {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}[الفاتحة:4]، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن إهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ}[النمل:15]، {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ}[النمل:16]، {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ}[النمل:17]، {حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ}[النمل:18]، {فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ}[النمل:19]، بعد أن ذكر الله -تبارك وتعالى- في هذه السورة؛ سورة النمل، المصير الذي إنتهى إليه قوم فرعون الذين كذبوا رسولهم موسى -عليه السلام-، وأنهم كانت جحودهم وتكذيبهم بعد الإيقان بأن هذه آيات الله -تبارك وتعالى-، قال -جل وعلا- {وَجَحَدُوا بِهَا}، بآيات الله، {وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا}، ثم قال -جل وعلا- {فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ}، وقد بيَّن الله -تبارك وتعالى-، فصل هذه العاقبة بأنه أغرقهم أجمعين، قال {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ ........}[القصص:40]، فكان هذا المصير، قال {وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ}، فهذا مصير من كذب الرسل.

ثم ذكر الله -تبارك وتعالى- نعمته على أهل الإيمان، نعمته على بني إسرائيل ومن بني إسرائيل كان داود -عليه السلام- وإبنه سليمان، آتى الله -تبارك وتعالى- داود الملك على بني إسرائيل، وشد الله -تبارك وتعالى- له الدولة، قال –جل وعلا- {وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ}[ص:20]، دولة راسخة البنيات، قوية الأركان، وورث سليمان إبنه هذا الحكم بعده في بني إسرائيل، انظر كيف كان تمكين الله -تبارك وتعالى- لبني إسرائيل في الأرض، قال -جل وعلا- مذكرًا نعمته -سبحانه وتعالى- على هؤلاء العباد المؤمنين {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا}، ذكر الله داود وإبنه سليمان وأنه -سبحانه وتعالى- آتاهما علمًا، {........ وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ}[النمل:15]، هذا العلم طبعًا علم بالدين وعلم بالشريعة وعلم بسياسة الملك، وعلوم أخرى خصهم الله -تبارك وتعالى- بها، فمما خص الله -تبارك وتعالى- عبده داود علم الزبور الذي أنزله الله -تبارك وتعالى- إليه، وهذا الصوت الحسن الذي كان يقرأ به الزبور وترديد الجبال والطير معه، كذلك علمه الله -تبارك وتعالى- صنعة الدروع وهو أول من صنع الدروع، كما قال -جل وعلا- {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ}[الأنبياء:80]، فكان أول صانع للدروع والأسلحة على هذا النحو، علم الله -تبارك وتعالى- سليمان علم عظيم، سلطه الله -تبارك وتعالى- على الجن؛ الشياطين منهم، أن يأسرهم، أن يسخرهم في عمله، سخر الله -تبارك وتعالى- له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب، علمه منطق الطير، أنواع من العلوم أعطاهم الله -تبارك وتعالى- إياها، {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ}[النمل:15]، قالا؛ أي سليمان وداود، الحمد لله؛ شاكرين الله -تبارك وتعالى-، الحمد لله بجمع كل معاني الحمد وهو الثناء وذكر الله -تبارك وتعالى- بالجميل لإفضاله وإنعامه ولصفاته -جل وعلا-، الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين؛ فقد حمدا الله على أن فضلهم الله -تبارك وتعالى- على كثير من عباده المؤمنين، فضلهم بالنبوة بالملك، بهذا العلم الذي آتاهم -سبحانه وتعالى-.

قال -جل وعلا- {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ}، ورثه في الملك، ورثه في العلم، ورثه في سياسة بني إسرائيل، وكان بنوا إسرائيل يسوسهم الأنبياء؛ كلما هلك نبي خلفه نبي من بعده، هذه راجعة إلى الله -تبارك وتعالى- خلافة داود في إبنه سليمان، فجمع له الله -تبارك وتعالى- بين النبوة وبين الحكم، {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ ........}[النمل:16]، يخاطب سليمان قومه في بني إسرائيل {يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ}، هذا من العلم الذي علمه الله -تبارك وتعالى-، منطق الطير؛ لغته، كيف ينطق وكيف يتكلم، وهذا علم خاص أعطاهم الله -تبارك وتعالى- إياه، ولا شك أن طبعًا للطير لغات تتكلم بها وتتفاهم بها لأنها أمم، كما قال -جل وعلا- {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ ........}[الأنعام:38]، أمثال البشر جماعات، تعيش جماعات ولا يمكن لجماعة أن تعيش إلا إذا كان بينها لغة مشتركة يتفاهمون بها ويتخاطبون بها، فالطير لها لغاتها، علم الله -تبارك وتعالى- لغات الطير لسليمان -عليه السلام-، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ}، من كل شيء مما يحتاج له الملك، الملك والقوة والسلطان والجيش والسلطان العظيم للإدارة، سلطان عظلم ديَّت، {وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ}، إن هذا؛ يعني الذي هم فيه، لهو الفضل المبين؛ من الله -تبارك وتعالى-، فضل الله -تبارك وتعالى- البيِّن الواضح لكل ذي عينين.

قال -جل وعلا- {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ}[النمل:17]، حشر؛ جمع، لسليمان؛ هذا النبي الكريم -صل الله عليه وسلم-، جنوده؛ التي جندها الله -تبارك وتعالى- له من الجن والإنس والطير، الجن كانت جنود له وأخبر الله -تبارك وتعالى- بأن هذا الجنود يعملون أعمال لا يستطيع كثير من البشر أن يقوم بها، كما قال -تبارك وتعالى- {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ}[سبأ:13]، {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ}، أبنية، محراب يعني للصلاة، {وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ}، جفنة، الجفنة هي القصحة الكبيرة التي يطعم فيها، كالجواب؛ جمع جابية، والجابية هي بركة الماء الواسعة، يعني جفنة للطعام كقدر البركة الكبيرة من ديَّت، وقدور راسيات؛ قدور عظيمة تأخذ عدد كبير من الإبل والغنم تطبخ فيه، راسية؛ ترسوا بهذا الرسوا يعني مع هذا الكبر العظيم وذلك لإطعام هذه الجيوش، {وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا}، اعملوا آل داود حال كونكم شاكرين لله {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ}، فهذا من شكر الله وهم يشكرون الله -تبارك وتعالى-، قال -جل وعلا- {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ ........}[النمل:17]، الذين كانوا تحت إمرته، والطير كذلك؛ طير مجند له، {فَهُمْ يُوزَعُونَ}، ليس كل الجن طبعًا وإنما الله {وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ}[الأنبياء:82]، من الشياطين؛ يعني بعضهم، وكذلك لم يكن له كل الإنس فلم يكن له كل الناس الذين في الأرض، ولكن كان له بعضهم بنوا إسرائيل الذي كان ملكًا عليهم، والطير كذلك له مجموعة من هذه الطيور تخدمه وتقوم بأمره، وسيأتي قصة هدهد كان في خدمته وانظر ماذا قام به؛ المهمة العظيمة التي قام بها، فهم يوزعون؛ يعني كل هؤلاء الجنود المحتشدة من هذه الأجناس من الجن والإنس والطير، يوزعون؛ يجمعون، يعني عندما يكون هناك النفير هذه كل فرقة وكل جماعة وكل هذه الأوزاع تجتمع، كل مجموعة لها رئيسها ولها نظامها ولها عملها، فهم جنود منتظمون، جيش منظم موزع كلٌ في مهامه.

قال -جل وعلا- {حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ ........}[النمل:18]، يعني أن يخبر الله -تبارك وتعالى- عن سليمان أنه في إحدى خرجاته بهذا الجيش المجموع، أتوا؛ جائوا، على واد النمل؛ وادي من الأرض تكون فيه مجموعات للنمل، قرى للنمل، قالت نملة؛ محذرة أخواتها وجماعتها، {........ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ}[النمل:18]، يعني كأن هذه محذرة والنمل معروف أنه في جماعاته هناك من يرقب الطريق ومن يعرف العدو ومن يعرف الآتي والقادم، فهذه حذرت أخواتها وقالت لهم ادخلوا مساكنكم حماية لهم، لا يحطمنكم سليمان وجنوده؛ أي في مشيهم، وهم لا يشعرون؛ أنهم يعني في شعورهم نمل هذا يعني لا ينظرون تحت أقدامهم حتى يروا نملة أو وادي نمل فيجتنبونه.

قال -جل وعلا- {فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا}، سمع سليمان -عليه السلام- مقالة هذه النملة وهي تحذر أخواتها وتقول هذا، وقد علمه الله -تبارك وتعالى- منطق الطير ومنطق الحيوان وعرف أقوال هذه الأمم فعند ذلك تبسم ضاحكًا من قولها، التبسم معروف اللي هو بداية الضحك فقط وليس القهقهة وإنما التبسم بداية الضحك، ضاحكًا؛ يعني أن كان ضحكه التبسم، كما جاء في وصف النبي -صل الله عليه وسلم- كان ضحكه التبسم، يعني لا يضحك بالقهقهة وبالصوت وإنما فقط مجرد التبسم، قال -جل وعلا- {فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا}، وهذا من كمال خلقه كذلك لأن الضحك مع القهقهة إنما هو فعل الجهال والسوقة، {فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ}، عند ذلك ذكر نعمة الله -تبارك وتعالى- {........ وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ}[النمل:19]، انظر دعائه لله -تبارك وتعالى- مع كمال التواضع للرب -جل وعلا-، {وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي}، أوزعني؛ إجمعني، يعني إجمع أوزاعي كلها، إجعل كل همتي وأعضائي كلها في شكرك، ربي أوزعني؛ أهلني بكليتي، {أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ}، نعمتك التي أنعمت علي؛ ونعمته هنا نعمة الله -تبارك وتعالى- مفرد أضيف إلى معرفة تعم، يعني نعمك العظيمة التي أنعمت بها علي، {وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ}، وأن هيئني أن أعمل صالحًا ترضاه وتقبله وتثيب عليه، {وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ}، أدخلني برحمتك في عبادك الصالحين في الدنيا والآخرة، يعني اسلكني مع عبادك الصالحين وهذا من كمال التواضع، أنه لم يرى لنفسه علوًا على أهل الإيمان بل طلب أن يسلكه الله -تبارك وتعالى- في جملة عباد الله -تبارك وتعالى- الصالحين في الدنيا والآخرة، {وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ}، فانظر كيف أنه لما وقف على هذه النعمة؛ نعمة قليلة، وهي نعمة أن الله -تبارك وتعالى- علمه منطق الطير، وسمع هذه النملة تقول هذا وقد علمته وعلمت جنوده وكذلك عذرته هو وجيشه من أن يحطموهم عند مسيرهم، قالت وهم لا يشعرون، كل هذا أحيا عنده الشعور بنعمة الرب -تبارك وتعالى- وإحسانه وفضله عليه فقال هذا الدعاء.

قال -جل وعلا- {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ}، تفقد الطير هذا دليل على يقظته وعلى أنه قائد وملك يقظ؛ يعرف مملكته وديَّت، تفقد الطير من جملة هذه الطير التي هي في جنده تفقدها، ومعنى تفقدها ينظر هل كل منها في الخدمة وقائم بالمهمة التي كلف بها أم لا، قال -جل وعلا- {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ}[النمل:20]، هذا أحد جنوده؛ هدهد من جملة الجنود، هذه الجيوش الجرارة لكنه قائد يشعر ويدرك ويحس غياب جندي صغير من جنوده؛ غياب الهدهد، هذا الطير الصغير، قال -جل وعلا- {وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ}[النمل:20]، لما لا أراه؟ أم كان من الغائبين؛ يعني عن نظري في مكان ما، {لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ}[النمل:21]، هذا من الحزم والصرامة، وأن هذا يعني قال إن كان قد فر من الخدمة أو ذهب بنفسه أو تهاون في الأمر فهذا لابد له من العقوبة، واختار له عقوبات شديدة، قال {لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا}، لو كان قد أهمل في واجبه وفي قيامه، أو لأذبحنه؛ إن كان فر أو ذهب وظن أن ليفلت، {........ أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ}[النمل:21]، فإما عذاب إن كان نوع من التهاون، وإما ذبح إن كان فرار، وإما أن يأتيني بسلطان مبين؛ بعذر واضح بيِّن، سلطان؛ يعني أمر قاهر ظاهر على غيابه، فلابد أن يأتي بعذر يعذر به على غيابه عن مكانه وعن مقامه، {أَوْ لَيَأْتِيَنِي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ}، هذا على كل حال ذكر الله -تبارك وتعالى- هذا عن سليمان ينبئ أن هذا قائد نعم القائد، وأنه في مقام اليقظة الكاملة والعلم الكامل بكل جنوده، وأن طيرًا إذا تخلف عن مقامه كان له معه هذا الشأن العظيم.

قال -جل وعلا- {فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ}، يعني الهدهد، مكث غير بعيد؛ يعني طال مكثه في الغياب غير بعيد، يعني ليست مدة طويلة وإنما مدة قصيرة، فقال؛ أي جاء الهدهد إلى سليمان، وقال له {........ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ}[النمل:22]، الهدهد الحقيقة جاء منتفشًا وقائلًا لسليمان كلام عظيم جدًا، قال له {أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ}، يعني عندي علم شيء لم يصل إليه علمك، فجعل نفسه أنه قد بلغ إلى علم لم يبلغه سليمان، هذا سليمان النبي في علمه وفقه وعلمه بالطير وإدارته الهائلة لكل هذا؛ يأتي له الهدهد ويقوله {........ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ}[النمل:22]، جئتك من سبأ؛ هذه المملكة في اليمن، بنبأ يقين؛ النبأ هو الخبر العظيم، يقين؛ أكيد لا شك فيه ليس مجرد ظن، وإنما هو عن رؤية وعن أمر أنا متيقن منه، إذن كان هذا الهدهد لم يكن غائبًا يتلهى أو فار من الخدمة، وإنما كان ذاهبًا في أرض الله -تبارك وتعالى- يبحث عن مملكة تغزى، عن قوم يشركون، عن باب تذهب إليه جيوش الله -تبارك وتعالى- فاتحة قائمة منتصرة، قال له {أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ}، وهذا هو هدف الدولة كلها؛ هدف الدولة كلها هو نشر الدين في الأرض، فقال له الهدهد أنا جئتك بأمر عظيم {........ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ}[النمل:22].

{إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ}، أول أم إستنكره أن يكون إمرأة على رأس القوم، قال {إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ}، تملك القوم، {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ}، أنها ذات سلطان هائل، {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ}، مما يحتاجه الملوك؛ العرش والأبهة والوزراء والأعوان والجيش المعد وكل أدوات الملك، {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ}، مما يحتاجه الملوك، {وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ}، إختص بهذا بأن لها عرش عظيم في أبهته وفخامته، لعله بكراسيه ونحوه وتيجانه ذهب أو من أبانوس أو موشى بالذهب، عرش عظيم تجلس عليه وحولها جندها ووزارئها، {وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ}، وجدت هذه المرأة المتمكنة والتي لها هذا الملك العظيم هي وقومها يسجدون للشمس من دون الله، قوم مشركون يعبدون الشمس ولا يعبدون الله -تبارك وتعالى-، {وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ}، غير الله -تبارك وتعالى-، {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ}، زين؛ جمل، الشيطان جعل هذه الأعمال القبيحة؛ أعمالهم القبيحة حسنة في أعينهم، من أعمالهم القبيحة عبادة غير الله -تبارك وتعالى- وأن تكون هذه المرأة هي ملكتهم وهي قائمتهم، وأن أعمالهم التي يعملون جمل الشيطان لهم هذا العمل القبيح في نظرهم، {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ}، الصد؛ المنع، يعني منعهم عن السبيل، السبيل؛ سبيل الله -تبارك وتعالى-، الطريق، بالألف واللام السبيل المعهود، السبيل الذي هو السبيل، الطريق الذي لا ينبغي أن يسمى طريق إلا هو، وذلك أنه طريق الرب -تبارك وتعالى- الموصل إلى رضوانه وجنته، {فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ}، فهم لا يهتدون؛ قد أعماهم الشيطان وأخذ بهم إلى الشرك والكفر.

{أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ}[النمل:25]، {أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ}، يعني هلا سجد هؤلاء لله، وكان سجودهم لله -سبحانه وتعالى- دعوة إلى الذي ينبغي له السجود ويصح له السجود هو الرب الإله -سبحانه وتعالى-، الله –جل وعلا-، {أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ}، ثم وصف الله -عز وجل- {الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ}، الخبء؛ الخبيئ، كل شيء مخبوء، ما يخبأ عن ما سوى الله -تبارك وتعالى-، لا غيب على الله ولا خبء عليه -سبحانه وتعالى-، الملائكة يعلمون أمور ولا يعلمون غيرها، والبشر والجن يعلمون شيء ولا يعلمون غيره، يعلمون ما يشاهدون وما يقع تحت حواسهم وما يغيب عنهم لا يعلمونه والله -تبارك وتعالى- على كل شيء شهيد، فكل خبء في السماوات الأرض؛ كل أمر هو مخبوء في السماوات والأرض يعلمه الله -تبارك وتعالى-، {........ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ}[النمل:25]، يعلم ما تخفون؛ يعني الخلائق، كل ما يخفيه خلق من خلقه فهو يعلمه؛ حتى ذات الصدر، سر الصدر المكنون الذي لم يخرجه صاحبه إلى أحد، قد يكون عند بعض الناس أسرار لم يطلع غيره؛ غير صاحب هذا السر، ما أطلع زوجته ولا صديقه ولا أحد إطلع عليها، ما إطلع عليها إلا الرب، الله هو الذي يعملها -سبحانه وتعالى-، {وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ}.

{اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ}[النمل:26]، هذا الذي يستحق أن يسجدوا له لا الشمس، الله؛ هذا الإسم علم على ذات الرب -تبارك وتعالى-، وكل أسماء الله –تبارك وتعالى- عائدة إليه، فيقال الله الرحمن الرحيم اللطيف الخبير، كل الأسماء بعد ذلك تعود إلى هذا الإسم العلم، الذي لم يسمى به أحد إلا الله -تبارك وتعالى-، فهو الإسم الخاص بالله الذي يعرفه به كل خلقه، إذا أطلق لفظ الله فإن الخلق تعرف بأنه لا يطلق إلا على رب السماوات والأرض؛ خالق الوجود -سبحانه وتعالى-، {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ........}[النمل:26]، لا إله إلا هو؛ لا معبود بحق إلا هو، فالآلهة كل إله غيره فباطل، كل إله؛ يعني كل معبود غير الله -تبارك وتعالى-، غير الله -عز وجل- فباطل، الإله هو المعبود، كل ما عبد فهو إله مهما كان، في لغة العرب كل شيء يعبد فهو إله، الشمس كانوا يسموها الإلهة، وهذه الأصنام يسموها آلهة، {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ}[ص:5]، {قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ}[الأنبياء:59]، فهذه آلهة، كل ما عبد فهو إله، ولكن كل شيء يعبد غير الله -تبارك وتعالى- باطل، ليس إله على الحقيقة وإنما هو إله في كلام الناس، في ظنهم، في حسبانهم، وكل هذا أسماء {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ}، {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ}[النمل:26]، ربه؛ مالكه، العرش العظيم؛ سقف هذه المخلوقات، فإن الله -تبارك وتعالى- خلق الأرض، خلق السماوات سبع سماوات طباقًا، فوقها كرسيه -سبحانه وتعالى-، فوق ذلك عرشه، العرش هو سقف كل هذه المخلوقات، وكل هذه المخلوقات دون عرش الله -تبارك وتعالى-، والله هو الرب الإله المستوي على عرشه -سبحانه وتعالى-؛ وعرشه فوق سبع سماواته، {رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ}، وعظمة هذا العرش لا يقدرها إلا الله، كما قال النبي -صل الله عليه وسلم- «والعرش لا يقدر قدره إلا الله»، لا يمكن لأحد أن يعرف سعته وزنته وعظمته إلا خالقه -سبحانه وتعالى-، الرب العظيم -سبحانه وتعالى-، {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ}[النمل:26].

جاء الهدهد وقال هذه المقالة العظيمة لسليمان -عليه السلام-، قال له أنا {........ أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ}[النمل:22]، {إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ}، وخطب هذه الخطبة العظيمة، وبلغ هذا النبأ العظيم لسليمان -عليه السلام-، وانظر هذا إخبار وانظر تصرف الملك الحازم في مقابلة هذا الخبر وديَّت، فأول الأمر قال له {........ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ}[النمل:27]، لم يأخذ كلامه على الصدق مطلقًا ولا على الكذب في الرد، وإنما قال سنتحقق ونتبين من هذا النبأ الذي حملته، {قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ}[النمل:27]، ثم في سبيل التحقق وبيان أن هذا صدق؛ أن الحمل على الصدق، قال له {اذْهَب بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِه إِلَيْهِمْ}، كتب كتابًا من سليمان وختمه وأعطاه للهدهد، وقال له {اذْهَب بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِه إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ}[النمل:28]، ألقي هذا الكتاب إليهم واتركهم؛ لا تخاطب أحد، طبعًا هدهد وسيحمل هذه الرسالة، قال {........ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ}[النمل:28]، لننظر ما هو ردهم على هذه الرسالة، أخذ الهدهد رسالة سليمان -عليه السلام- ثم دخل بها إلى داخل إيوان هذه الملكة وألقى كتاب سليمان على عرشها، وطبعًا فوجئت برسالة موجودة فقالت على طول لما فتحت الرسالة {قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ}[النمل:29]، قالت؛ أي ملكة سبأ، يا أيها الملأ؛ ملأها، وهم وزرائها وقادتها وقادة جيوشها، {........ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ}[النمل:29]، {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}[النمل:30]، {أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ}[النمل:31].

وهذا تفصيله -إن شاء الله- في الحلقة الآتية؛ نعيش في أجوائها وفي ظلالها، أستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فإستغفروه.