{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الفاتحة:2]، {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}[الفاتحة:3]، {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}[الفاتحة:4]، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن إهتدى بهديه وعمل بسنته إلى يوم الدين.
وبعد فيقول الله -تبارك وتعالى- {قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ}[النمل:27]، {اذْهَب بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِه إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ}[النمل:28]، {قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ}[النمل:29]، {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}[النمل:30]، {أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ}[النمل:31]، {قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ}[النمل:32]، {قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ}[النمل:33]، {قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ}[النمل:34]، {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ}[النمل:35]، يخبر -سبحانه وتعالى- أن عبده سليمان الملك -عليه السلام- عندما جائه الهدهد الذي غاب عنه هذه الفترة، وتوعده سليمان بأنه قال {........ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ}[النمل:20]، {لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ}[النمل:21]، قال -جل وعلا- {فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ}، ثم جاء الهدهد ليخبره بهذا الخبر العظيم، قال له {أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ}، يعني علمت ما لم تعلمه، {وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ}، {إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ........}[النمل:23]، من أبهة الملك وسلطانه، {وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ}، {وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ}[النمل:24]، {أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ}[النمل:25]، {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ}[النمل:26].
لما جائه بهذا وبهذه الخطبة العظيمة والأخبار ها ديَّت، عند ذلك تصرف سليمان -عليه السلام- تصرف الملك الحازم، فقال له سننظر {قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ}، يعني في ما خبرك هذا الذي أتيت به، {........ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ}[النمل:27]، ثم كتب كتابًا وقال له {اذْهَب بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِه إِلَيْهِمْ}، يعني دعه عندهم، حطه عليهم، {........ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ}[النمل:28]، يعني إلقيه وارجع، يخبر -سبحانه وتعالى- أن مطوي الكلام المعلوم يطوى في القصة، يعني أن الهدهد أخذ الكتاب وألقاه على عرش كرسي الملكة وجائت وجدت كتاب قد ألقي في فراشها؛ في عرشها، {قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ}، وزرائها وقادتها؛ كبار القوم، {........ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ}[النمل:29]، قالتلهم ألقي بالبناء للمجهول لأنها لا تعلم كيف وصل هذا الكتاب إلى مخدعها أو إلى مكانها، كتاب كريم؛ ووصفت هذا الكتاب بأنه كريم وإن كان يحمل ما يحمل من هذا التهديد، لأنه إفتتح إفتتاحًا كريمًا ببسم الله الرحمن الرحيم، وفيه دعوة كريمة لهؤلاء الناس بأن يدخلوا في دين الله -تبارك وتعالى- وأنه من سليمان، قال أنه من سليمان وأنه إلى هذه الملكة، يبدوا أنه قدرها وبيَّن منزلتها ودعاها إلى الدخول في دين الله -تبارك وتعالى-.
قالت {........ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ}[النمل:29]، {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ}، سليمان الملك النبي ويبدوا أن طبعًا ذكره في كل مكان فتعلم هذا، وإنه؛ إن هذا الكتاب، إفتتح على هذا النحو {........ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}[النمل:30]، إفتتح سليمان كتابه بسم الله، ومعنى بسم الله يعني هذا بسم الله إبتدائي، بسم الله كتابي، كتابي هذا بسم الله، منطلقي في هذا الأمر وعملي وتبركي بسم الله، الله -سبحانه وتعالى- الذي لا إله إلا هو، الرحمن الذي وسعت رحمته كل شيء، الرحيم بعباده -جل وعلا-، فتضمن الإفتتاح هذه الأسماء الثلاثة لله -تبارك وتعالى-؛ الله، الرحمن، الرحيم، {أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ}[النمل:31]، إختصار؛ إختصار لبلوغ الهدف، ألا تعلوا علي؛ لا تعلوا علي، وذلك يتضمن تهديد بأنه رجل قد أوتي قوة وبائس هائل {أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ}[النمل:31]، وأتوني مسلمين مناقدين مزعنين، وإسلام لله -تبارك وتعالى-، وكذلك إسلام للدخول في السلم والدخول في دين الله -تبارك وتعالى-، ولا تعارضوا أمر الله -تبارك وتعالى- ولا تحاولوا أن تحاربوا وتعاندوا {وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ}، {قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي}، وهذا يدل على حكمتها وعقلها الراجح مع كفرها وديَّت، إلا أنها إمرأة ملكة حكيمة وديَّت، فاستشارت قومها {قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي}، طلبت فتواهم في هذا الأمر الذي نزل وحل بهم، لأن هذا دعوة إلى أن يتنازلوا عما هم فيه من العبادة والتراث والشرك، وأن يأتوا مزعنين منقادين إلى ملك يدعوهم إلى الدخول في سلطانه، {........ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ}[النمل:32]، ما كنت لأقطع أمرًا؛ وأقطعه يعني أبت فيه وأحكم فيه حكمًا، حتى تشهدون؛ حتى تكونوا شاهدين وحاضرين والأمر يعرض عليكم، ثم بعد ذلك تقطع في الأمر، أقول قولنا أن ذلك من كمال عقلها وكمال تدبيرها للأمور، وأنا لم تكن مستبدة تستبد بالأمر وتقطع الأمر دون أن تشاور أحدًا، بل إنها إمرأة حكيمة لا تنفرد بأمر حتى تشاور الملأ من قومها.
فأشاروا إليها كذلك بما يعلمونه في أنفسهم {قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ}، نحن أولوا قوة؛ أهل قوة، أهل لهذه القوة يعني أنهم أهل حرب وأهل ميراث وأهل معاندة؛ فهم أهل قوة في الحرب، {وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ}، أولوا؛ أصحاب، بأس؛ البأس الشدة، شدة حرب، من صبر، من استخدام سلاح، من منازلة عدو، أولوا بأس شديد، {وَالأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ}، يعني نحن على استعداد لأن نقاوم ونحارب، هذا تهديد جائنا بالحرب ونحن على استعداد أن نقابل هذا التهديد بأن ندخل في معركة مع هذا الذي يهددنا، والأمر إليك؛ إن رأيتي الحرب فنحن جاهزون وهذا استعدادنا، وإن رأيتي السلم فالأمر مفوض لكي، والأمر إليكي؛ يعني أمر الحكم والقرار النهائي بيدكي، فانظري ماذا تأمرين؛ فأنتي انظري في الأمر وبالذي تأمرينه فنحن سننفذ ما تختارينه لنا من حكم، فقالت {قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا}، وتعني أن هذا سليمان ملك، وهؤلاء الملوك من شأنهم وسيرتهم وعاداتهم أنهم إذا دخلوا قرية يعني احتلوا بلد ومدينة وغلبوا أناس أفسدوها، لأنهم أهل بطش وعلو، ملك الحكم والوراثة فهذا إذا بطشوا بغيرهم بطشوا جبارين، أفسدوها؛ وإفسادها بأن خلاص يجعلوا أعزة القوم أذلة، يذلوا هذا، يضربوا هذا، يهينوا هذا، وهذا كان شأن الملوك في الأرض، الأمم كانت تغير بعضها على بعض والقوي يأكل الضعيف، {إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً}، أعزة أهلها؛ كبرائهم ووزرائهم وقادتهم جعلوهم أذلة، جعلوهم في الخدمة وفي الذل، {وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ}، يعني هذه سيرتهم وسنتهم، يعني ظنت أن سليمان واحدًا من هؤلاء الملوك وهذا ملك يهدد على هذا النحو، يأمرنا بأن ندخل في حكمه على هذا النحو، ولا شك أنه يعني انظروا إلى الجانب الأخر أنه إن غلبنا ودخل قريتنا فإن أمرنا سيئول إلى هذا المآل.
ثم قالت {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ}[النمل:35]، أرادت أن تعطي نفسها مهلة للإزعان والسلم، وأن تصانع هذا الذي ظنته ملك من الملوك أن تصانعه مصانعة، قالت {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ ........}[النمل:35]، أرسل لهم بهدية وهذه الملوك كثير منهم إذا جائتهم هدية من الأخرين فإنه يرضى بذلك ويفرح بذلك ويستأنس، وبالتالي نسلم من شرهم، يعني يبقوا في أماكنهم ونبقى في أماكننا ونصانعهم بهذه المصانعة؛ بإعطاء هدية، تكون هذه الهدية بمثابة الرشوة لهم ليبقوا كما هم، {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ}[النمل:35]، سأنتظر ما الذي يرجع به المرسلون الذين يرسلون بهذه الهدية.
قال –جل وعلا- {فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ}[النمل:36]، {ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ}[النمل:37]، {فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ}، يعني رسل ملكة سبأ جائوا محملين بالهدايا إليه وكأن هذا نوع ديَّت، فسليمان قال {أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ}، مدد بمال من عندهم، المال؛ كل ما يتمول، طبعًا الهدية قد تكون من الذهب ومن الفضة ومن الأواني ومن التحف ومن غيرها مما يتحف به الملوك، {قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ}، ما آتاني الله -تبارك وتعالى- من الأموال ومن التحف ومن ومن ...، خير مما آتاكم؛ خير مما أعطاهم ديَّت، {بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ}، بل أنتم؛ يعني هؤلاء ملوك الكفر وملوك الشرك هم الذين يفرحون بمثل هذه الأمور من أمور الدنيا، أما سليمان إنما هو ملك نبي يحكم بحكم الله -تبارك وتعالى- وينشر دين الله -تبارك وتعالى- في الأرض ويطبق أحكام الدين، فهذا همه الدين وليس همه الدنيا التي يجري الملوك إليها، فهو ملك لكنه مسخر في طاعة الرب -تبارك وتعالى-، وقد كان أبوه داود -عليه السلام- هو ملك هذه المملكة كلها قبله وكان لا يأكل إلا من عمل يده، كان ما يأكل من هذا المال؛ مال الملك شيء، وإنما يصنع في كل يوم يصنع درع من دروع الحرب ويبيعه، كل يوم يصنع درع كما قال -تبارك وتعالى- {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ}، {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ}، درع يبيعه، بثلثه يأتي بالخام الحديد الذين ديَّت، وثلثه يتصدق به، وثلثه ينفقه على نفسه، وكما قال النبي -صل الله عليه وسلم- «خير الطعام طعام داود، كان يأكل من عمل يده»، فكان يأكل من عمل يده، وهؤلاء ملكهم جعلوه لله -تبارك وتعالى-؛ ملكهم إنما هو مسخر له، وليس فقط أنه لأبهة الملك وزينة الدنيا وزخارفها، قال {بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ}.
{ارْجِعْ إِلَيْهِمْ}، أرجع الهدهد مرة ثانية بخطاب أخر إليهم، خطاب عاد هذا خطاب ليس مجرد دعوة وديَّت وإنما هو خلاص إما هذا وإما هذا، خطاب تهديد {ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ}[النمل:37]، فهنا أرجعهم بأنهم رفضوا دعوته وبالتالي هو سيوجه الجنود التي لا يستطيعون ردها، {ارْجِعْ إِلَيْهِمْ}، أي بكتاب أخر، {فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا}، فنأتينهم؛ بالتأكيد، بجنود لا قبل لهم بها؛ لا قبل لهم بها يعني لا يستطيعون الصمود أمامها ولا ردها، {وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ}، ولنخرجنهم منها؛ من أرضهم، أذلة؛ حال كونهم ذليلين، وهو حال المهزوم المنكسر، وهم صاغرون؛ الصاغر هو الحقير الذليل.
علم سليمان بعد أن أرسل هذا التهديد الأخير لهم والإبلاغ لهم بأنه مرسل جنوده إليهم، بأن هؤلاء سيسقط في أيديهم وسيأتوا مزعنين للأمر، وهنا يبين الله -تبارك وتعالى- أمر من الأمر العظيمة التي مكن فيها سليمان، قال سليمان {قَالَ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ}[النمل:38]، سليمان وهو في جنوده وملأه قال لهم يا أيها الملأ؛ يستشيرهم، أيكم يأتيني بعرشها؛ من يستطيع أن يأتي بعرش بلقيس إلى هنا، كان هذا الكلام يتكلم وهو في بيت المقدس بعرشها من اليمن، من سبأ إلى بيت المقدس، قبل أن يأوني مسلمين؛ قبل أن يأتوني وهم مسلمين، علم أنهم خلاص هم مزعنون وسيأتوا بعد هذا التهديد مزعنين للأمر، قال -جل وعلا- {قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ}[النمل:39]، عفريت؛ هو المتمرد الصغير من الجن، وهؤلاء من الجن الذين سخروا له، {أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ}، أنا أستطيع أن أنقل العرش، العرش هذا بكرسي الملك وكراسي وجوه القوم ووزرائهم والبسط التي تكون من السجاد الفخم والزخارف والزينات يأتي بها، قاله {أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ}، أنقله بهذه بضعة الآلاف من الكيلومترات، ينقله من سبأ من أقصى الجزيرة في اليمن إلى بيت المقدس في فلسطين قبل أن يقوم من مقامه، مقامه هذا إنما يكون ربما ساعة من الساعات يأتيه بالعرش، قال {........ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ}[النمل:39]، وإني عليه؛ يعني على هذا العرش، لقوي أمين؛ مؤتمن لا تفقد منه خرزة، آتيك به كله كاملًا غير منقوص.
عرض هذا العرض على سليمان وقام غيره، قال -جل وعلا- {قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ}، {قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ}، الذي عنده علم من الكتاب؛ وصف الله -تبارك وتعالى- هذا القائل بهذه الصفة الذي عنده علم من الكتاب، ولم يأتي تفصيل من هذا الذي عنده علم من الكتاب، هل هو أحد أفراد الجن الذين عندهم علم من الكتاب؟ وأي كتاب هذا الذي عندهم علم منه؟ هل هو الكتاب المنزل التوراة المنزلة؟ وكتب الله -تبارك وتعالى-، أو علم أخر أو كتاب أخر من كتب الله -تبارك وتعالى-، لم يأتي تحديد لهذا الذي عنده علم من الكتاب، ويبدوا أنه فرد من أفراد الجن المؤمنين المؤتمنين الذي عنده علم أكثر من هذا العفريت الصغير الذي يستطيع أن يأتي بالعرش في هذا الوقت، {قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ}، طبعًا كثير من المفسرين قال الذي عنده علم من الكتاب هو جبرائيل -عليه السلام- وبعضهم قال هو سليمان، وكل هذه الأقوال لا دليل عليها، وإنما هذا من الملأ الذين سخروا له ومن الجند الذين سخروا له؛ هذا نوع من التسخير، لأن الله -تبارك وتعالى- سخر له هؤلاء الجن يعملون عملًا فوق قدرة الإنس أن يعملوها، كما قال -جل وعلا- {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا ........}[سبأ:13]، قال {وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ}[الأنبياء:82]، فكان لهم قدرات، لا شك أن للجن قدرات غير قدرات البشر ويبدوا أن هذا أحد هؤلاء الجن، والجن متفاوتون؛ فهذا عفريت يستطيع أن يأتيه فيه في ساعة، وهذا رجل منهم عنده علم من الكتاب يستطيع أن يأتي بالعرش في غمضة عين؛ في لمحة بصر، {قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ}، في غمضة عين، في لمحة البصر أستطيع أن آتي بهذا العرش، وهذا أمر عظيم، هذه تمكن هائل جدًا في نقل هذا العرش بوزنه وبحجمه في هذه الآلاف الكيلومترات في لمح البصر، {أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ}.
قال -جل وعلا- {فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ}، فلما رآه؛ أي رأى سليمان -عليه السلام- العرش مستقر عنده في بيت المقدس في لمحة بصر، أتى به هذا الذي عنده علم من الكتاب في لمح البصر، ولما رأى العرش مستقرًا عنده قال هذا من فضل ربي، هذا التمكين والتيسير والتسخير الذي سخره الله -تبارك وتعالى- له وهذه القدرة العظيمة عند هؤلاء الجند الذي سخروا لسليمان وأصبحوا في خدمته قال هذا من فضل ربي، من إحسانه، ليس بقوتي وعلمي ومعرفتي وإنما هذا إحسان وتفضل من الله -تبارك وتعالى-، ثم قال {لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ}، وهذه النعمة للإبتلاء؛ الإبتلاء بالشكر، هل يشكر؟ قال ليبلوني؛ أي ليختبرني، أأشكر؛ يعني نعمة الله -تبارك وتعالى-، أم أكفر؛ بهذه النعمة، وشكرها هو أولًا نسبتها إلى مسديها وفاعلها الرب -سبحانه وتعالى- الإله، فهو المنعم المتفضل بها وهو الذي سخره هؤلاء لسليمان وهو الذي أعطاه هذا، فكله من فضله وإحسانه -سبحانه وتعالى-، الإعتراف بهذا قلبًا وشكر اللسان على ذلك والقيام بواجب الشكر لله -تبارك وتعالى-، من الصلاة والصوم والعبادة والقنوت للرب -تبارك وتعالى-، {أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ}، والكفر هو الظن أن هذا حقه وهذا جدارته وهذا من إستحقاقه، ونفي هذا الأمر وجعل هذا أنه من عنده وعدم نسبة هذا إلى الله -تبارك وتعالى- والتبجح بهذا والتكبر بهذا، {أَمْ أَكْفُرُ}، قال سليمان {وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ}، من شكر فإنما يشكر لنفسه وذلك أن جزاء الشكر سيعود عليه، فجزاء هذا الشكر من الله -تبارك وتعالى- سيعود عليه زيادة من الله -تبارك وتعالى- وتمكن وفضل من الله، {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ}[إبراهيم:7]، {وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ}، من كفر بالله -تبارك وتعالى- فإن ربي غني كريم، غني عن هذا العبد الذي كفر به -سبحانه وتعالى- وغني عن عباده كلهم، فهو المحمود لذاته -سبحانه وتعالى- بذاته، كريم؛ الله -تبارك وتعالى- هو الغني الكريم -سبحانه وتعالى-، المتفضل بفضله على عباده والذي لا يحتاج إلى أحد -سبحانه وتعالى-.
ثم أراد سليمان -عليه السلام- أن يختبر عقل هذه المرآة التي تصرفت هذا التصرف الحسن ديَّت، فقال {قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ}[النمل:41]، قال سليمان أي لجنوده {نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا}، نكروه يعني اجعلوه مستنكر بالنسبة لها، هو هو عرشها لكن نكروه، يعني أن يوضع مثلًا الكرسي في غير محله، إن شيء يكون في العلو يكون في السفل، أن شيء يكون في السفل يكون في العلو، إنه كذا، إنه يتغير شيء من اللون، من كذا، صبغ أخر، أمر أخر، فيكون هو العرش ولكن يحصل فيه أنواع من التغيير والتبديل، بحيث يكون هو ما هو، قال {........ نَنظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ}[النمل:41]، أتهتدي إلى عرشها؛ أنها تعرفه تمام هذي، فيختبر عقلها هل هي تعرف هذا العرش تمام ولا هي من الذين لا يهتدون، يعني كانت تعيش في هذه الأبهة وهذه الفخامة وهي لا تعرفها حق المعرفة، {قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ}[النمل:41]، {فَلَمَّا جَاءَتْ}، أي من سبأ، وجائت بما يجيء به البشر في هذا الوقت من المراكب المعلومة؛ من الخيل والإبل ونحو ذلك، {قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ}، يعني أدخلت على المكان وقيل لها هل عرشك الذي باليمن وتركتيه مثل هذا؟ فنظرت إليه {قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ}، يعني كأن هذا العرش هو، طبعًا لم يكن في خلدها، لم يدر في ذهنها وفي خلدها أن ينقل عرشها هذه النقلة ويسبقها ليوضع في هذا المكان {قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ}، يعني الناظر إليه والمتحقق فيه كأنه ذلك العرش، وهذا أيضًا جوابها يدل على كمال عقلها وحذقها وفطنتها، وأن هذا الذي تراه كأنه هو العرش الذي خلقته خلفها، طبعًا أراد سليمان بهذا كذلك أن يبهرها، وأن يعلم أن دخولها في الإسلام وفي قوة وتحت جناح سليمان ودخولها على هذا النحو سلمًا إنما كان هو القرار الصائب، إنما هو القرار الصائب وأنه لم يكن هناك مجال في المعاندة والمحاربة، {........ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ}[النمل:42]، وأوتينا العلم من قبلها؛ آتاه الله -تبارك وتعالى- يعني آتى الله -تبارك وتعالى- العلم بكل الأشياء، من قبلها وكنا مسلمين؛ يعني أن الله -تبارك وتعالى- فضل سليمان عليها، فهذه المرأة كانت عندها علم وعندها خبرة وعندها كذا، ولكن علم النبي، علم الملك سليمان أتم وأكمل من هذا، وأوتينا العلم من قبلها وكنا مسلمين لله -تبارك وتعالى-، ففضل بعلم الدنيا وعلم الآخرة.
قال -جل وعلا- {وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ}[النمل:43]، يعني صدها عن الدين وعن الإيمان وعن الإسلام، ما كانت تعبد من دون الله؛ من هذه الآلهة التي عبدتها من دون الله، {إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ}، يعني أنها مع كمال عقلها وحذقها وفهمها وفطنتها إلا أن نشأتها في هؤلاء القوم وترعرعها في هؤلاء صدها هذا عن الدين، {وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ}[النمل:43]، وجهز لها سليمان -عليه السلام- مفاجأة أخرى وأمر لم يكن كذلك بحسبانها، وهذه المفاجأة نوع من المتاع الدنيوي والزينة والإبداع في البناء والفخامة ما حلمت به ولا رأت مثله، قال -جل وعلا- {قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[النمل:44].
ولأن هذه الآية تحتاج إلى مزيد -إن شاء الله- من التفسير سنرجئ هذا إلى الحلقة الآتية -بحول الله تبارك وتعالى وقوته-، أقول قولي هذا، أستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، وصل الله وسلم على عبده ورسوله محمد.