{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الفاتحة:2]، {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}[الفاتحة:3]، {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}[الفاتحة:4]، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن إهتدى بهداه وعمل بسنته إلى يوم الدين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، {قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ}[النمل:41]، {فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ}[النمل:42]، {وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ}[النمل:43]، {قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[النمل:44]، يخبر -سبحانه وتعالى- في سياق ما قصه هنا عن نبيه سليمان الملك -عليه السلام-، أنه لما جائه عرش بلقيس من اليمن إلى المقدس في لمح البصر بقدرة هذا الشخص، الذي قال الله -تبارك وتعالى- قال الله -عز وجل- {قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ}، في لمحة البصر، قال -جل وعلا- {........ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ}[النمل:40]، ثم قال سليمان -عليه السلام- ، {قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا}، يعني غيروا بعض أوضاعه وبعض صفاته، قد يكون بعض الألوان، بعض المواضع فيه، وعرشها؛ سرير ملكها، {........ نَنظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ}[النمل:41]، فلما جائت وأدخلت على هذا المكان الذي فيه عرشها {قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ}، يعني أهكذا عرشك الذي تركتيه باليمن مثل هذا؟ فقالت كلام يدل على منتهى الحكمة والذكاء والفطنة، {قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ}، يعني كأن هذا الموجود هو، فهذا كلام يحتمل أمرين؛ أنه هو لأنه مشابه له تمامًا، ويحتمل أنه عرش قد بني على ذلك الغرار؛ على غرار عرشها، فدل على ذكائها وحكمتها وفطنتها ومعرفتها الدقيقة بالأمور، قال –جل وعلا- بعد ذلك {وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ}، إما أن يكون هذا من كلام سليمان -عليه السلام- أن الله -تبارك وتعالى- آتاه العلم من قبلها وأنه فضله بالإسلام لله -تبارك وتعالى-، أو إذا كان من كلامها فإنها قد آتاها الله -تبارك وتعالى- علم وكانت مسلمة لله -تبارك وتعالى- قبل أن تأتي إلى سليمان، أنها أسلمت لأنها لما دعيت بخطاب سليمان إلى الإسلام {أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ}[النمل:31]، أنها استجابت لهذا الأمر.
قال -جل وعلا- {وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ}[النمل:43]، يعني أنها كانت خليقة وحرية بالإسلام لكمال عقلها وكمال تمييزها ووضعها الأمور في نصابها، ولكن الذي صدها أن تدخل في دين الله أنها كانت من قوم كافرين، وما استمرت عليه من أبهة الملك وما كانت فيه، {وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ........}[النمل:43]، أي أن تتجه إلى الإسلام وتختار الإسلام مع وفرة هذا العقل، {إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ}، وهذا من تأثير ما كانت فيه من البيئة والمجتمع الذي أخذها بعيد عن الإسلام.
أراد سليمان -عليه السلام- كذلك يريها من آثار الملك الذي أعطاه الله -تبارك وتعالى- إياه فبنى لها صرح، الصرح هو القصر في مكان عالٍ وبناء عظيم جدًا من قوارير، {قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ}، قال -جل وعلا- {فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً}، لما رأت الصرح حسبت أنه لجة، أن الدخول إليه اللجة؛ إنما هو لجة الماء، فكشفت عن ساقيها لتخوض في هذا الماء حتى تدخل في ظنها إلى غرف القصر التي أمامها، فقيل لها أن هذا الذي أمامكي ليس ماء وإنما هو صرح ممرد من قوارير، ممرد من قوراير يعني أن الزجاج ناعم الملمس شفاف هو مبني به، وتحت الزجاج يظهر الماء تحته، فإذا رآه الناظر لم يعرف أنه أصبح ...، أن هذه الأرضية التي هي أرضية زجاجية وتحتها الماء وقد يكون تحتها كذلك من حيوانات الماء؛ أسماك وغير أسماك، فينظر الناظر إلى هذا الأمر فيظن أن المسألة أنه داخل إلى نهر من الأنهار أو بحر من البحار، ففعلت هذا الفعل فقال لها {إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ}، وهذا فن عظيم في البناء وفي هندسته متقدم جدًا، طبعًا لا يقارن هذا بعرشها العظيم الذي خلفته ورائها، {قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي}، أي بالشرك والكفر وما كانت فيه من عبادة الشمس قبل ذلك، {وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، فأعلنت دخولها في الدين وأنها قد أسلمت مع سليمان النبي؛ الداعي إلى الله -تبارك وتعالى-، لله رب العالمين وليس لعبادة الشمس كما كانت تعبدها، فدخلت في دين الله -تبارك وتعالى- بدعوة هذا النبي، وبكذلك هذه القوة التي استخدمها في طاعة الله -تبارك وتعالى-، هذه القصة جائت بعد ما قصه الله -تبارك وتعالى- من شأن موسى وفرعون لبيان أثر الإيمان وأثر الكفر، فانظر الذين كفروا من الفراعنة والذين كانوا متمكنين في الأرض بما لهم من قوة وقهر وسلطان، كيف أزالهم الله -تبارك وتعالى- وجعل نهايتهم هذه النهاية البئيسة، وكيف أن الذين أخذوا هذا الدين وآمنوا به وساروا في ركابه، كيف أن الله -تبارك وتعالى- جعل منهم هؤلاء الملوك وهؤلاء القادة، وجعلهم يستخدمون ما أعطاهم الله -تبارك وتعالى- في طاعة الله ودعوة شعوب الأرض إلى الدخول في الإسلام.
هذه صفحة تطوى ثم يفتح الله -تبارك وتعالى- لنا صفحة ثانية في بيان أثر الإيمان والكفر، وسنة الله -تبارك وتعالى- الجارية في العباد، قال -جل وعلا- {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ}[النمل:45]، ولقد؛ بالتأكيد، أرسلنا؛ الله هو المرسل -سبحانه وتعالى-، ويتكلم عن نفسه -سبحانه وتعالى- بصيغة الجمع تعظيمًا لذاته العلية -جل وعلا-، إلى ثمود؛ القبيلة العربية المعروفة والتي بادت، {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا}، أخو القبيلة؛ إبنهم، أخوهم، وقال أخاهم فهم المرسل إليهم الرسل دايمًا ترسل بعد كمال العقل في سن الرجال؛ سن الأربعين، أخاهم صالحًا يدعوهم إلى الله -تبارك وتعالى-، اختار الله -تبارك وتعالى- وكون الله -تبارك وتعالى- يختار من القبيلة أحد أفرادها ممن يعرفونه ويعرفون بدايته ونهايته ومخرجه ومدخله وآبائه وأحواله فبالتالي لا يخفى عليهم أمره، لا يخفى عليهم أمره في الصدق والكذب، {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ}، هذه هي الرسالة التي جاء بها صالح وهذه رسالة كل نبي، أن يدعوا من يرسلهم الله –تبارك وتعالى- إليهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ}، وهل في هذا من شر أو من ضرر أو من ميل عن الحق، بل هذا هو الحق المبين، فلا إله إلا الله -سبحانه وتعالى-، فالله هو خالق هذا الكون وهو مدبره وهو مسيره -سبحانه وتعالى-، فالعبادة حق له، فكل نعمة منه -سبحانه وتعالى-، {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ}، قال -جل وعلا- {فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ}، إذا كأن الفجائية، بمجرد ما قالهم هذا فإن القبيلة إفترقت عند هذه الكلمة فأصبحت فريقان يختصمون، فريق آمن بصالح وفريق كفر وعاند.
{قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}[النمل:46]، قال؛ أي صالح مشفقًا على قومه وداعيًا إياهم إلى الصلاح، {يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ}، لماذا تستعجلون بالسيئة؛ حصول السيئة، وهي عقوبة الرب -تبارك وتعالى-، قبل الحسنة؛ نعمة الله -تبارك وتعالى- لكم بالإيمان، فإن الإيمان يقتضي أن الله -تبارك وتعالى- يؤمنكم في دياركم، يبارك لكم في أحوالكم وأرزاقكم، وتكون كذلك الحسنة الأخروية باقية لكم، فالدين كله خير وكله بركة، وأما الخروج عن طاعة الله -تبارك وتعالى- يعني حصول عذاب الله -تبارك وتعالى- ونقمته لكم في الدنيا والآخرة، فلماذا تستعجلون بالسيئة وهو دعائهم على أنفسهم وكفرهم وعنادهم قبل الحسنة، دخولكم في الدين فيعني حسنة الدنيا والآخرة، {لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ}، لولا؛ هلا استغفرتم ربكم، طلبتم مغفرته -سبحانه وتعالى- من ذنوبكم ومن شرككم ومن كفركم، ورجعتهم إليه -سبحانه وتعالى- {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}، يعني إذا فعلتم هذا لعلكم ترحمون من الله -تبارك وتعالى-، يرحمكم الله -عز وجل- فلا يعاقبكم في الدنيا ويدخر ما يدخر لكم في الآخرة، انظر هذه الدعوة؛ دعوة الحق الذي يدعوا بها صالح، إشفاقه، نصحه لقومه، وكيف تقابل هذه الدعوة.
{قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ}، اطيرنا؛ تشائمنا، من الطيرة اللي هي التشاؤم، يعني أن وجودك أنت ومن معك والإيمان شؤم، وأنه نذير شؤم لنا، إما لتطيرهم به؛ إدعائهم أن وجوههم وجوه شؤم عليهم، أو قولهم أنه اطيرنا بك وبمن معك أنه لا يأتي قوم داعي يدعوهم إلى الرسالة إلا وكان يأتي بعد ذلك العذاب والهلاك لمن كذبه، ويكون هذا من سخافة عقولهم ومن إنحطاطهم تمامًا، لأن الرسل الذين أتوا أقوامهم كهود -عليه السلام- في عاد القريبة منهم، عاد في جنوب الجزيرة وهم ثمود بعدهم في شمال الجزيرة، فإن كانوا يعنون ما سبق من دعوة عاد -عليه السلام-؛ دعوة هود -عليه السلام- لقومه، ثم ما كان من قومه من الهلاك لما لم يؤمنوا، إذا ظنوا أن هذا شؤم وأن هذا من شؤم الرسالة فهذا من سخيف عقولهم وإنحطاط أفكارهم، بل هذ من دواعي الإيمان، من دواعي أن يسرعوا إلى الدخول في دين الله -تبارك وتعالى- والإيمان بالله -تبارك وتعالى- خوفًا من العقوبة، المهم أنهم قالوا لنبيهم أن وجودك ودعوتك هذه شؤم لنا، {اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ}، ويسمى هذا التشاؤم من الطيرة، وذلك أن العرب كانت تستشرف وتريد معرفة الغيب ومعرفة البخت والحظ والنصيب عن طريق زجر الطير، يأتي أحدهم إلى طائر واقف على الأرض ثم يزجره بشيء؛ بإشارته أو بحصى، فإن طار على يمينه؛ على يمين هذا الضارب، تفائل ومضى إلى السبيل الذي يريده، إن كان سفرًا أو تجارة أو غير ذلك مما عزم عليه، وإن طار الطائر يسارًا تشائم؛ إنقبض، وتشائم من الشؤم ومن الشمال، رأى أنه سيحصل له في أمره الذي عزم عليه شر فيتراجع عنه، فقالوا {اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ}، تشائمنا بهذا، ومن معك؛ أي من المؤمنين، {قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ}، فرد عليهم صالح -عليه السلام- {قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ}، طائركم؛ بختكم، نصيبكم، حظكم، قدركم، كله بيد الله -تبارك وتعالى-، {قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ}، يعني ما يصيبكم من خير أو شر وحظ ونصيب هذا كله إلى الله -تبارك وتعالى-، فهو المتصرف في عباده -سبحانه وتعالى-، ثم قال لهم {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ}، بل أنتم قوم تفتنون؛ تقعون في الفتنة، تختبرون، الفتنة إختبار، ولكنهم يطلق أيضًا أنه فتنته فإفتتن يعني تفتنون تقعون؛ ترسبون في الإختبار، فالذي فتن هو الذي سقط في الفتنة وديَّت، فأنتم قوم تفتنون بتكذيبكم لرسولكم ودعائكم على أنفسكم، بهذا تسقطون في هذا الإختبار وبعد ذلك تستحقون عقوبة الرب -سبحانه وتعالى-.
قال -جل وعلا- {وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ}[النمل:48]، كان في المدينة هذه الحجر؛ مدائن صالح، تسعة رهط؛ جمع تسعة يشكلون رهط، مجموعة من قومه، {........ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ}[النمل:48]، إفسادهم في الأرض هذا بكل نواعي الإفساد، طبعًا أعظم إفسادهم تكذيب هذا الرسول والصد عنه والتآمر به، وقد يدخل كذلك في إفسادهم في الأرض أي نوع من الإفساد أنهم هم مفسدون، من قتل، من سرقة، كل هذا داخل في معنى الإفساد في الأرض، قال -جل وعلا- {يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ}، أرض هذه المدائن؛ مدائن صالح، {وَلا يُصْلِحُونَ}، يعني ولا دعوة لهم إلى صلاح، لا هم صالحين إلى أنفسهم ولا هم دعاة إلا صلاح وإنما كل فعلهم الإفساد، كان من إفسادهم أو من أعظم إفسادهم {قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ}، يعني إجتمع هؤلاء التسعة المعروفون كأنهم عصابة؛ عصابة الشر هذه، وقالوا؛ قال كل منهم لبعضهم، {تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ}، تقاسموا؛ فليحلف كل منا، يعني تقاسموا القسم؛ الحلف، {بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ}، نبيتنه؛ البيات هو القتل ليلًا، يعني نهجم عليهم في الليل في غفلة من الناس ونقتل صالح وأهله حتى لا يرانا أحد، فكل من دخلنا عليه هذا البيت نستأصلهم جميعًا، لنبيتنه وأهله؛ مش فقط صالح، وربما تشهد زوجته، يشهد أولاده، حد يشهد بأن القاتل فلان... لا، وإنما نقتل كل من في البيت، {........ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ}[النمل:49]، ثم لنقولن لوليه؛ لأولياء صالح من جماعته المقربين، يعني عشيرته الأقربين الذين قد يحمون له وقد يطالبون بدمه وبثأره، قال هنقول لهم {مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ}، ما شهدنا مهلك أهله؛ من يقول هذا على الكذب، ويقسمون على الكذب وإنا لصادقون، وإما أن يكون على التورية ديَّت، أن ما شهدنا مهلك أهله بأننا مادام قتلناهم ليلًا ما شوفنا، يعني لم نرى مهلك أهله، فيكون هذا من باب إنهم يوروا إنهم ما شهدوا يعني ما شهدوا وجوههم ولا كذا حال قتلهم، وذلك أنهم سيقتلونهم ليلًا دون أن يتفرسوا في الوجوه، وإنما سيقتلوا الجميع، كأنهم سيقتلوا الجميع فكل ما هو موجود سيحرقوه ويبيدوه في ظلمة الليل ويقول ما شهدنا مهلك أهله، يعني مو إحنا اللي قتلناهم هكذا لأن هم ما تفرسوا وجوهًا عندما أبادوهم على هذا النحو، {وَإِنَّا لَصَادِقُونَ}، على التورية إنا لصادقون ما رأيناهم، قال -جل وعلا- {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ}[النمل:50]، المكر هو التدبير الخفي لإيصال الضر العدو، كل من دبر تدبيرًا خفيًا بإيصال ضره إلى العدو دون أن يعلم العدو بهذا الأمر ودن أن يكون متفطن له هذا المكر، فمكروا مكرًا هذا المكر الذي مكروه وهو أن يقتلوا صالح وأهله على هذا النحو؛ غيلة بالليل، ثم يصبحون يبرئون أنفسهم بالأيمان وأنهم ما شهدوا هذا، وبالتالي تموت قضيته وينتهي أمره، لكن الله -تبارك وتعالى- هم يدبرون هذا التدبير ويمكرون هذا المكر والله –سبحانه وتعالى- فوق تدبيرهم، قال -جل وعلا- {........ وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ}[النمل:50]، الله -تبارك وتعالى- قد مكر بهم مكر ولا شك أين مكر العباد وتدبيرهم وأمرهم من مكر الله –تبارك وتعالى- بهم، الله فوقهم -سبحانه وتعالى- ويعلم تدبيرهم وهم لا يستطيعون أن يعرفون ما يدبره الله -تبارك وتعالى- لهم، {........ وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ}[النمل:50]، وهم لا يشعرون بأن الهلاك؛ هلاك الله -تبارك وتعالى- قادم.
قال {فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ ........}[النمل:51]، انظر؛ هذا أمر من الله -تبارك وتعالى- لرسوله ولكل المخاطبين، لينظروا كيف كان عاقبة مكر هؤلاء {فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ}[النمل:51]، أنا دمرناهم؛ وهم هؤلاء وقومهم أجمعين، وذلك أن الله -تبارك وتعالى- أمر صالح أن يخرج بالليل هو والمؤمنون معه، ثم إن الله -تبارك وتعالى- أرسل ملكًا فصاح فيهم صيحة، كما قال -تبارك وتعالى- {فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ}، {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ}[القمر:31]، كالهشيم الذي يمر عليه عام فيدق ويتفتت ويصبح محطمًا مهشمًا، العيدان التي تهشم، {فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ}، {فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ}[النمل:51].
{فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا}، تلك؛ إشارة لهذه البيوت، {بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا}، خاوية؛ ليس فيها أحد، قد فرغت من سكانها، مات أهلها، قتل أهلها، ثم أصبحت تصفر فيها الريح وليس فيها أحد، قال -جل وعلا- {بِمَا ظَلَمُوا}، يعني بسبب ظلمهم، بعنادهم، بتكذيبهم لرسولهم، بردهم خبره، بتآمرهم لقتله، كانت هذه هي العاقبة، {........ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}[النمل:52]، وهذه مازالت مساكن ثمود؛ قوم صالح، خالية وباقية إلى يومنا هذا محفورة في الجبال قد خليت وتركت، إن في ذلك؛ في هذا ما صنعه الله -تبارك وتعالى- من إهلاك هؤلاء الظالمين ومن إنجاء عباد الله المؤمنين، {لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}، آية؛ علامة على قدرة الرب -تبارك وتعالى- وأنه بالمرصاد، وأن من ناوئه ومن مكر به ومكر بأوليائه لصنع فيه مثل هذا الصنيع، {لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}، ثم قال -جل وعلا- {وَأَنجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ}[النمل:53]، أنجينا الذين آمنوا؛ صالح والذين آمنوا معه، كانوا يتقون؛ يخافون الله -تبارك وتعالى-، إذن هذه الصفحة الجديدة صفحة ثمود نفس الأمر، نفس الأمر كما مضت سنة الله -تبارك وتعالى- في إهلاك قوم فرعون وإنجاء أهل الإيمان وتمكينهم وتثبيتهم كان هنا الأمر نفسه، فهذه قبيلة أرسل الله -تبارك وتعالى- فيها رسولًا منها يدعوهم إلى الله -تبارك وتعالى-، افترقوا بإيزاء هذا الرسول، منهم من آمن ومنهم من كفر، فانظر كيف كانت عاقبة الكافرين وكيف كانت عاقبة المؤمنين.
ثم صفحة أخرى من صفحات هذه الدعوة وهذا الدين؛ رسالة الرب -تبارك وتعالى-، قال -جل وعلا- {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ}[النمل:54]، لوطًا؛ النبي الذي أرسله الله -تبارك وتعالى- في قرى غور الأردن، جاء وقال لقومه {........ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ}[النمل:54]، سؤال يدل على الإشمئزاز والإحتقار وهز عقول هؤلاء المخاطبين، {........ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ}[النمل:54]، هل الفاحشة هذه التي تؤتونها وهي إتيان الذكور من العالمين، فاحشة؛ أمر غليظ، الفحش هو الأمر الغليظ، الفاحش هو الغليظ، فهذا غليظ في القبح والنكارة، تأتون هذه الفاحشة وأنتم تبصرون، يعني تفعلونها وأنتم حال كونكم تعملون أعينكم في هذا الأمر، اللي هو الأمر الذي يجب أن يستنكفه وأن يستقذره وأن يبتعد عنه كل ذي عقل سليم وفطرة سوية، {........ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ}[النمل:54]، {أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ}[النمل:55]، أئنكم؛ سؤال كذلك مع تأكيد أن يفعلون هذا الفعل، وليس سؤالًا للإستفهام ولكنه سؤال للإستنكار والإستقباح، {لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ}، شهوة؛ تشتهون هذا الأمر ويقع في شهوتكم وفي مرادكم من دون النساء، {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ}، بل الحال أنكم قوم تجهلون، فاعلوا الجهل، يعني جهال تفعلون أمرًا لا يدل إلا على الجهل والفحش.
قال -جل وعلا- {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ}[النمل:56]، انظر كيف يكون الرد، لا رد لهم على هذا الأمر وهذه الدعوة الطاهرة الطيبة النظيفة، التي تبين لهم قبح ما يفعلون وطهارة ما يريد أن ينقلهم إليه، الله يقول {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ}، حصر هنا؛ يعني لم يكن لهم جواب أن يجيبوا به هذا الرسول الكريم، {إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ}، أمروا بإخراجهم من قريتهم، {إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ}، تأكيد أن سبب دعوة بعضه بعض إلى إخراج لوط والذين آمنوا معه أنهم من أهل الطهارة، فجعلوا تطهرهم وإبتعادهم عن هذه النجاسة وهذا القبح جريمة، جعلوا فعلهم الطاهر الطيب جريمة لهم يستحقوا بها أن يخرجوهم من هذه القرية، وكأنهم يقرون على أنفسهم أنهم أهل قذارة ونجاسة وفاحشة على هذا النحو، وأنهم مستبرئون لها وأنه لا ينبغي أن يبقى طاهر لا يوافقهم في فعلهم الخبيث ولا يرضى عن هذا الفعل أن يبقى معهم في قريتهم، {........ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ}[النمل:56].
وتكون نفس النتيجة؛ قال -جل وعلا- {فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ}[النمل:57]، فأنجيناه؛ أخرجه الله -تبارك وتعالى- وأهله من هذه القرية؛ قرية السوء، إلا إمرأته؛ وذلك أنها كانت كافرة، موافقة لقومها على فعلهم الخبيث، قدرناها؛ قدرها الله -تبارك وتعالى-، من الغابرين؛ المتروكين، الذين أمر أن تترك في هذا المكان لا تخرج مع الناجين؛ مع لوط ومع إبنتيه، ولكن تبقى مع هؤلاء الغابرين الذين يصيبها العذاب معهم، قال -تبارك وتعالى- {........ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ}[هود:81]، وفي الصباح كان جبريل يحمل هذه القرى على طرف جناحه ويكفئها على رؤوس أصحابها.
ثم قال -جل وعلا- {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنذَرِينَ}[النمل:58]، أمطرنا عليهم مطرًا بعد هذا؛ بعد الإهلاك، بهذا الشواظ النار وبعد القلب، {........ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنذَرِينَ}[النمل:58]، أسوأ مطر ممكن أن يكون لأنه ليس مطر رحمة، ليس بهذا الماء الذي ينبت الزرع ويحيي الله -تبارك وتعالى- به الأرض، بل ماء مطر ملحي فاسد؛ لا يحيى معه شيء، ومازال هذا المطر إلى يومنا هذا إنه البحر الميت، آية من آيات الله -تبارك وتعالى- أبقاها الله لتكون شاهد على قدرته وعذابه لهؤلاء الأقوام.
أستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، نكتفي بهذا -إن شاء الله-.