الجمعة 29 ربيع الآخر 1446 . 1 نوفمبر 2024

الحلقة (459) - سورة النمل 58-63

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله الأمين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وأصحابه، ومن إهتدى بهديه وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد فيقول -تبارك وتعالى- أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ}[النمل:59]، {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ}[النمل:60]، {أَمَّنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ}[النمل:61]، {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ}[النمل:62]، {أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}[النمل:63]، بعد أن ذكر الله -تبارك وتعالى- في هذه السورة؛ سورة النمل، سنته -سبحانه وتعالى- في إنجاء المؤمنين وفي إهلاك الكافرين، وأن رسالة الله -تبارك وتعالى- ينقسم إليها الناس ولابد إلى قسمين؛ قسم مؤمن وقسم كافر، وأن سنة الله -تبارك وتعالى- في عباده المؤمنين لا تتغير؛ ينجيهم الله –تبارك وتعالى-، وفي عباده الكافرين لابد وأن ينزل الله -تبارك وتعالى- فيهم عقوبته ونقمته، ذكر الله -تبارك وتعالى- ذكر رسالة موسى إلى فرعون وما آلت إليه النهاية، قال-جل وعلا- {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ}[النمل:14]، المفسدين من قوم فرعون الذين أهلكهم الله -تبارك وتعالى-.

وذكر الله -تبارك وتعالى- بعد ذلك نعمته على عبده داود وسليمان وهما من بني إسرائيل، كيف أن الله -تبارك وتعالى- آتاهم ذلك الملك، هذا كله من ثمرات إيمانهم؛ إيمان القوم بالله -تبارك وتعالى-، وكيف أنهم استخدموا ما أعطاهم الله -تبارك وتعالى- من هذه الإمكانيات العظيمة ما سخر لسليمان، وجاء أنهم جعلوه في طاعة الله -تبارك وتعالى-، في طاعة الله -جل وعلا- وفي دعوة الناس إلى الدخول في الإسلام، وكيف أن مملكة من الممالك دخلت الدين بدعوتهم إلى الله -تبارك وتعالى-؛ مملكة سبأ، ذكر الله -تبارك وتعالى- قبيلة ثمود وكيف أن الله أرسل إليهم صالح، دعاهم إلى الله -تبارك وتعالى- وأنهم إفترقوا؛ إفترقت القبيلة، {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ}[النمل:45]، ثم أنظر بعد ذلك فعل المجرمين منهم، ثم النهاية أن يحصدهم الله -تبارك وتعالى-، {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ}[النمل:50]، {فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ}[النمل:51]، {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}[النمل:52]، ثم قال -جل وعلا- {وَأَنجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ}[النمل:53].

ثم انظر أيضًا صنيع الله -تبارك وتعالى- وفعل الله -تبارك وتعالى- مع لوط والذين آمنوا معه ومع الذين كفروا به، قال -جل وعلا- {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ}[النمل:54]، {أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ}[النمل:55]، قال -جل وعلا- {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ}[النمل:56]، فتكون النتيجة قال -جل وعلا- {فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ}[النمل:57]، {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنذَرِينَ}[النمل:58]، هذه صفحة إثر صفحة إثر صفحة من هذه الأقوام، والنتيجة؛ نفس النتيجة تتكرر، نجاة أهل الإيمان، نجاة الرسول والذين آمنوا معه وإهلاك الله -تبارك وتعالى- للكافرين والظالمين.

قال -جل وعلا- في إثر ذلك قال {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ}[النمل:59]، {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ}، أمر من الله -تبارك وتعالى- ودعوة منه إلى العباد أن يحمدوه -سبحانه وتعالى-، الحمد لله {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ}، الحمد بالألف واللام؛ كل المحامد وهو الثناء على الله -تبارك وتعالى- بما هو أهله، بأفعاله العظيمة وإفضاله -سبحانه وتعالى- وصفات الجليلة، {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ}، الحمد لله الذي أنجى عباده المؤمنين الداعين إليه، وكذلك أهلك المجرمين الظالمين الذين كذبوا رسله وناوئوه، {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى ........}[النمل:59]، بعد حمدك لله فسلم على عباد الله الذين إصطفاهم وهم أنبيائه ورسله، والتسليم عليهم دعوة لهم من الله -تبارك وتعالى- بالسلامة، وأنهم سالمون من كل عيب ونقص، وأنهم مسلمون من الله -تبارك وتعالى- بمغفرته ورحماته -سبحانه وتعالى-، {وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى}، الذين إصطفاهم الله -عز وجل- واختارهم لنبوته ورسالته، ثم قال -جل وعلا- {آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ}، يعني من ينظر إلى هذا الأمر؛ هذا أمر واقع، موسى ودعوته في قوم فرعون، صالح ومن دعاهم من قبيلته، لوط ومن دعاهم، {آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ}، آلله -سبحانه وتعالى- خير؟ هذه الله -تبارك وتعالى- يجعلنا هنا نعقد مقارنة بين الرب الإله الذي لا إله إلا هو، الله رب السماوات والأرض -سبحانه وتعالى- ومالك الخلق، وبين ما يشركونه من الأصنام والأنداد والأوثان من دون الله -تبارك وتعالى-، هل العبد ذي العقل يختار الرب -تبارك وتعالى- فيعبده، أم يلتحق بهؤلاء الأصنام فيقدسهم ويعبدهم، انظروا من تعلق بالله -تبارك وتعالى-، آمن به وإتبع سبيله ممن آمن بالله ماذا كان المصير في الدنيا وينتظرهم المصير الحسن في الآخرة، وماذا كان مصير الذين تعلقوا بهذه الأوثان وهذه الأصنام وهذه القاذورات والنجاسات التي كانوا عليها، {آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ}، سؤال يراد به تفكر العباد في من يوالى، من الذي يستحق أن يوالى وأن يعبد وأن يعظم؟ الرب الإله الذي لا إله إلا هو ملك السماوات والأرض أم هذه الأصنام والأوثان والآلهة المدعاة.

ثم شرع الله -تبارك وتعالى- في بيان إفضاله وإنعامه وصفاته وخلقه، هذه صفات الله -تبارك وتعالى- {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ}[النمل:60]، فهذه من صفاته ومن آثار رحمته -سبحانه وتعالى-، هذا فعله -جل وعلا-، {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ}، الله، من خلق السماوات الأرض؟ الله هو الذي خلق السماوات والأرض، يعني هل هذا الرب الإله الذي خلق السماوات والأرض؛ خلقها بأن أعطاها صفتها وهيئتها التي هي عليها، وكذلك أخرجها من العدم -سبحانه وتعالى-، هو الذي أخرجها من العدم وهو الذي أعطى كل جزء من هذه الجزئيات صفته؛ السماوات والأرض، {وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً}، وأنزل لكم؛ أيها العباد، تذكير بنعمة الله -تبارك وتعالى بهذه النعمة العظمى التي لولاها لما كانت ثم حياة، وأنزل لكم؛ للعباد المخاطبين، من السماء؛ العلو، ماءً؛ اللي هو ماء المطر، {فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ}، ثم هو الذي ينبت -سبحانه وتعالى-، بعد نزول هذا المطر أنبت الله -تبارك وتعالى- به حدائق، الحدائق جمع حديقة، والحديقة هي البستان؛ البستان الذي محدق ديَّت، بساتين، حدائق ذات بهجة؛ بهجة هو السرور وإنشراح الصدر وفرع العين والنفس بهذه الحدائق، ما فيها من الزهور اليانعات والثمار الناضجات والأشجار ذوات الظلال المورثات والأنهار الجاريات وهذا الخلق الباهر العظيم.

{حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا}، ما كان لكم؛ إيها العباد، أن تنبتوا شجرها؛ يعني هذا ليس في مكنتم ولا في إستطاعتكم، من يستطيع أن ينبت شجرة؟ أن يأمر بذرة أن تخرج وأن تنبت شجرة على هذا النحو؟ بل كل الخلق لو إجتمعوا على أن يخلقوا بذرة ما إستطاعوا أن يخلقوها؛ فضلًا عن أن ينبتوها وأن ثمروها، {مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإلَهٌ مَعَ اللَّهِ}، هل ثمة إله مع الله؟ إله معبود يستحق العبادة مع الله -تبارك وتعالى- كان له شأن في هذا، شارك الله -تبارك وتعالى- في هذا الخلق أو أعانه، أو خلق خلقًا مستقلًا عن خلق الله -تبارك وتعالى-، {أَإلَهٌ مَعَ اللَّهِ}، قال -جل وعلا- {بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ}، بل هم؛ هؤلاء الكفار المشركون، قوم يعدلون؛ يعدلون بالله -تبارك وتعالى- غيره، يعني يجعلون له مساويًا -سبحانه وتعالى-، إما في ذاته كصنيع النصارى وغيرهم ممن قالوا أن عيسى مساوي بل هو ذاته ذات الرب -تبارك وتعالى-، يخلق وأعطوه صفات الرب كلها من الخلق والرزق والإحياء والإماتة وإدانة ...، كما يقولون يدين الأحياء والأموات أي أنه هو الذي يجازيهم، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا، أو في حقوقه، أن يعدلون بالله -تبارك وتعالى- آلهتهم، التي يعطونها ما يعطون الله -تبارك وتعالى-، يعطون الله -عز وجل- بعض العبادة من صلاة ونسك ونحو ذلك، يعطون آلهتهم كذلك ما يعطى الرب -تبارك وتعالى-، فيذبحون لهم وينذرون لهم ويعبدونهم من دون الله -تبارك وتعالى-، {بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ}، يعدلون بالله غيره والحال أنه ليس من هذه المعبودات من خلق، بل الله -تبارك وتعالى- خالق كل شيء وهذا خلقه {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإلَهٌ مَعَ اللَّهِ ........}[النمل:60]، هل يعبد مع الله -تبارك وتعالى- غيره؟ الرب الذي صنع هذا الصنيع وخلق هذا الخلق وفعل هذ الفعل، هذا يوجد له ند وشبيه ونظير يعدل به مع الله -تبارك وتعالى- فيعبد مع الله، {أَإلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ}.

{أَمَّنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَارًا}، هذا الله -سبحانه وتعالى- الذي جعل الأرض قرارًا، قرارًا؛ قارة، قارة؛ مستقرة، يعني أنها مستقرى بوضعها هذا ليست مزلزلة متحركة مخضخضة، وبالتالي يستحيل أن تقوم حياة عليها، فإن حركة صغيرة من حركات الأرض -أي حركة صغيرة- يحصل بها هلاك ويحصل بها زلزال، الله جعل الأرض قارة؛ مستقرة، {أَمَّنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَارًا}، جعل خلال هذه الأرض أنهار، أنهار من الشمال إلى الجنوب ومن الجنوب إلى الشمال، تجري من الشرق إلى الغرب ومن الغرب إلى الشرق، وتجري في هذه السرر والوديان وتنزل من هذه الجبال وتمشي في هذه بين شعب الجبال، فالأنهار قد جعلها الله -تبارك وتعالى- متخللة لكل جنبات هذه الأرض، {وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ}، جعل لهذه الأرض رواسي وهي الجبال، {وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا}[النازعات:32]، الذي جعلها أوتاد لهذه الأرض كأوتاد الخيمة، تشدها من جنباتها وتجعلها راسية قارة، {وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ}، هذه الجبال العظيمة، {وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا}، جعل حاجز بين البحرين، البحرين؛ اللي هو البحار العذبة والبحار الملحة، جعل الله -تبارك وتعالى- حاجز يحجز هذه عن هذه، فالبحار العذبة تجري وتصب في البحار الملحة، ولا يجعل الله -تبارك وتعالى- سلطان للبحار الملحة حتى تطغى، ولو طغت ودخلت في الأنهار لأفسدت الحياة، فهذا من الحاجز {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ}، فلا يستوون ومع ذلك الله -تبارك وتعالى- جعل في هذا وهذا رزق للعباد، {وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ}، فهذا الرب -سبحانه وتعالى- الذي جعل بين البحرين حاجزًا؛ البحار العذبة والبحار الملحة، وكذلك البحار نفس البحار الملحة فإنه قد علم البشر الآن أن كل محيط من المحيطات وبحر من البحار وخليج من الخلجان وهي كلها وإن كانت في النهاية متشابكة ومترابطة ومتصلة، إلا أنه خواص كل بحر مستقلة عن خواص البحر الأخر في نسب عظيمة وفي أمور عظيمة، في النباتات القائمة، في أنواع صفات الأحياء المائية الموجودة، نسبة الملوحة الموجودة.

وكأن هناك حاجز يحجز هذا الماء عن هذا الماء مع العلم أنهم يرتطمان ويختضان بعضهم ببعض، {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ ........}[الرحمن:19]، فالبحار تمرج ويدخل بعضها في بعض ولكن {بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ}[الرحمن:20]، بينهما؛ بين هذه البحار التي تمتخض ويضرب بعضها بعض ويتصل بعضها ببعض عن طريق المد والجزر والموج، إلا أنهم {بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ}[الرحمن:20]، {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ}[الرحمن:19]، {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}[الرحمن:21]، {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ}[الرحمن:22]، {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ}[الرحمن:23]، {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ}[الرحمن:19]، ثم قال -جل وعلا- {بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ}[الرحمن:20]، بينهما؛ بين هذه البحار وإن كانت متصلة لكن برزخ كالحاجز مثل السد لا يبغيان، وهذا قد عرفه الناس بعد ذلك بدراسة خواص البحار بعضها ببعض، البحار ملحة وهي متصلة بعضها مع بعض ولكن بين هذا وهذا برزخ لا يبغيان، لا يبغي خواص هذا الماء على خواص هذا الماء، وكذلك في البحار والأنهار فإن الله -تبارك وتعالى- جعل بينهما برزخ، هذا البرزخ وهذا العلو أن هذا الماء في مستوى معين وهذا الماء في مستوى معين، ولم يجعل الله -تبارك وتعالى- هذا الماء يعلوا؛ اللي هو ماء البحر ليدخل في الأنهاء، {وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا}، حاجز يحجز هذا عن هذا، {أَإلَهٌ مَعَ اللَّهِ}، هذا الذي يفعل هذا الصنيع العظيم في هذه الأرض، هل هناك إله مع الله -تبارك وتعالى- تتخذونه وتجعلون إله مع الله، أو هل هناك إله مع الله؛ بالفعل إله مع الله، خالق، رازق، يحيي، يميت، يفعل هذا الفعل، خلق هذا الخلق وفعل هذا الفعل، {أَإلَهٌ مَعَ اللَّهِ}، يعني أتتخذون بعد ذلك إله مع الله -تبارك وتعالى-، تعبدونه مع الله والحال أن الله -سبحانه وتعالى- وحده هو الذي صنع ذلك وفعل ذلك، {أَمَّنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ}[النمل:61]، بل أكثرهم؛ أكثر الخلق، لا يعلمون بأن الله هو الإله الواحد -سبحانه وتعالى- وأن هذا خلقه وحده –جل وعلا-، وأنه بالتالي هو وحده الذي يستحق العبادة وحده وأنه لا إله معه -سبحانه وتعالى-.

{أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ}[النمل:62]، {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ}، المضطر هو المجأ بإلجاء قهري، قد يفضي به الأمر الذي هو فيه إلى الوفاة والهلاك أو التلف، فهذا المضطر عندما تلجئه ما هو فيه من الضرورة يقوم ولا يجد منفذ ولا مخرج يقوم يدعوا ربه -سبحانه وتعالى- وإلهه، ويستجيب الله -تبارك وتعالى- له، {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ}، الواقع في المأزق الشديد كأن يكون في ظلمات البحر، في ظلمات البر لا يهتدي، في مرض هائل، في ضيق وضنك، في حالة من غلبة الدين، قهر الرجال، مأسور في أسر، في أمر مهلكة عظيمة، ثم يلجأ إلى ربه -سبحانه وتعالى- والله يستجيب له، وكان الكفار في المأزق الشديد ووقت الكرب الشديد يلجأون إلى الرب الإله الذي لا إله إلا هو -سبحانه وتعالى- ويستجيب الله -سبحانه وتعالى- لهم، {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ}، يكشف؛ يرفع، السوء؛ الذي بكم من مرض من قحط من غيره، إذا دعوتموه كشفه ورفعه، {وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ}، ويجعلكم أيها الناس خلفاء الأرض، يعني جيل منكم يخلف جيل ويقدر جيل يخلف جيل، يصل إلى حد معين في السن ثم يموت ثم يخلفه الجيل الذي يليه، {أَإلَهٌ مَعَ اللَّهِ}، يعني الرب الذي يفعل ويصنع هذا الصنيع يكون صنيعكم معه وجزاء صنيعه هذا أن تجعلوا إلهًا معه وتعبدوا هذا الإله، تتخذوا لكم أصنام تلجأون إليها وتدعونها وترجعون إليها وتنذرون إليها وتذبحون لها وتفذعون إليها وتنسون ربكم وإلهكم وخالقكم، تنسون أنه هو أنجاكم من الذي كنتم فيه وهو الذي كشف السوء وهو الذي فعل بكم كل هذا الجميل، {أَإلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ}، يعني تذكركم قليل، تذكرون؛ توعظون بهذه المواعظ وتذكرون بربكم وإلهكم ومولاكم -سبحانه وتعالى-، ومع ذلك تميلون عنه -سبحانه وتعالى- وتعبدون غيره.

{أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}[النمل:63]، {أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ}، يهديكم في هذه الظلمات إما بهذه الآلات التي أوجدها، بالإلهام أحيانًا، بمقادير يخلها وأنتم في ظلمات البر، ظلمات البر؛ ظلمة البر هي أن يعمى السالك عن المسالك، ما عارف وين ديَّت، تاه تيه في هذه الفلوات فلا يعرف الطريق ديَّت، تشتبه عليه الأمور، فيكون حتى لو كان في النهار يصبح كأنه في ظلمة، أو كان في ظلمة من ظلمات البر، أظلم عليه الوقت وحجبت النجوم ولا يعرف له باب للهداية ويكون الله -تبارك وتعالى- يهديه، إما بأن ينشئ له أمر وإما بأن يشرح له صدره إلى ناحية، وإما أن يلهمه ديَّت حتى ينجيه من هذه المفازة وهذه المهلكة، وكذلك في البحر نفس الأمر قد يغتلم البحر وتضطرب الأمور وتتيه السفينة ولا يعرف السالك المسلك والدرب، ثم تكون رحمة الله -تبارك وتعالى- وتفضله -سبحانه وتعالى- فيهدي الإنسان، كذلك يهديكم في ظلمات البر والبحر بالعقول التي أعطاكم إياها، ليجعلكم تسيرون في هذا مفاوز واسعة في البر وبحور محيطات متسعة، والله -تبارك وتعالى- يعطيكم العقول ويعطيكم الآلات التي تصنعون هذا، وقد وضع لكم في السماء النجوم لتهتدوا بها وهو الذي خلق هذه؛ قبة السماء على هذا النحو، وجعل فيها نجوم ثابتة ليعرف الإنسان طريقه فيها، قال {وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ}[النحل:16]، فالله -تبارك وتعالى- هو الذي أقام هذه الدنيا بهذه المثابة وجعل فيها العلامات التي في السماء والعلامات التي في الأرض، بأن لم يجعل الأرض كأنها منظر واحد بل نوعها، هذه أرض صفراء وهذه حمراء وهذه ديَّت، وهذه جبال بلون وهذه جبال بشكل وهذه ديَّت، وذلك حتى يتعرف الإنسان على جنبات هذه الأرض، وإلا لو جعل الله الأرض شيئًا واحدًا؛ مسطحًا واحدًا، أو أمر كما هو مثلًا الشأن في بعض جنبات الأرض كالربع الخالي منظر واحد فيما حولك، فإن الناس يعثر عليهم الطرق ولا يهتدوا، لكن الله -تبارك وتعالى- جعل في الأرض هذه المسالك وهذه العلامات، وعلامات في السماء وذلك ليهتدي الناس في طرقهم وفي سيرهم، {أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ}، بآلة وبغير آلة مما خلق.

ثم {وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ}، من يرسل لكم الرياح بشرًا؛ بشارة تبشر، والرياح المبشرة هي الرياح التي تأتي بالمطر، وعلم الناس الريح الفلانية إذا خرجت الريح من الجهة الفلانية إلى الجهة الفلانية فإنها تأتي وكانت لها رائحة معينة ورطوبة معينة، فإنها تأتي محملة بالسحب وستأتي الأمطار بعد ذلك، فقد يكون هبوب هذه الرياح التي تسبق المطر قد يكون هبوبها قبل يومين ويعرف الناس، هبت هذه الريح إذن المطر سيأتينا بعد يوم أو بعد أقل أو أكثر، فتأتي الرياح مبشرة بقرب مجيء المطر، ومن يرسل الرياح بشرًا؛ مبشرات، بين يدي رحمته؛ أي قبل مجيء المطر، فمن يرسل لكم هذه الريح بهذه الشكل تبشركم بخلاص قرب مجيء رحمة الله -تبارك وتعالى- عليكم، {أَإلَهٌ مَعَ اللَّهِ}، خلق ذلك، فعل ذلك، هل هناك إله مع الله -تبارك وتعالى- يخلق هذا ويفعل هذا، وذلك {أَإلَهٌ مَعَ اللَّهِ} وتعلمون هذا وتجعلون لله -تبارك وتعالى- إله تعبدون مع الله  -تبارك وتعالى-، {تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}، تعالى الله؛ فمنزلة الرب -تبارك وتعالى- وصفاته فوق هذا، عما يشركون؛ وما الذي يشركون؟ شمس، قمر، نجوم، كلها مخلوقات، أصنام، رجال، ملائكة، كل الذي عبدوه من دون الله -تبارك وتعالى- لا وجه لأن يقارن الرب -تبارك وتعالى- بهذه الآلهة التي تعبد من دونه -سبحانه وتعالى-، فتعالى الله -سبحانه وتعالى- في أسمائه وفي صفاته وفي أفعاله وفي مجده وعلوه -سبحانه وتعالى- عما يشرك به المشركون من آلهة غيره -جل وعلا-.

ثم قال -جل وعلا- {أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَإلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ}[النمل:64]، هذا كذلك من صفاته وإفعاله وإفضاله وإنعامه -سبحانه وتعالى- أنه يبدأ الخلق ثم يعيده، {أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ}، الله هو الذي يبدأ الخلق، فبداية الخلق كلها؛ خلقنا نحن البشر، بداية بآدم ثم بداية كل إنسان بهذا المعلوم من هذه النطفة ثم ينشئه الله -تبارك وتعالى-، بداية خلق السماوات والأرض هو الذي بدأها وهو الذي أنشأها، فهو بديع السماوات والأرض؛ أنشأها على غير مثال سابق، وهو الذي أخرجها من العدم -سبحانه وتعالى-، قال -جل وعلا- {ثُمَّ يُعِيدُهُ}، ثم يعيد خلق الإنسان من جديد، فالإنسان هذا الذي خلقه الله -تبارك وتعالى- على هذا النحو كتب الله -تبارك وتعالى- كتب الله -تبارك وتعالى- له أن يكون له عمر ينتهي، يموت ثم لابد أن يبعث لفصل القضاء، {أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَإلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ}[النمل:64].

نكتفي بهذا -إن شاء الله-، ونعود إلى هذه الآية في الحلقة الآتية -إن شاء الله-، وصل الله وسلم على عبده ورسوله محمد؛ سيد الأولين والآخرين.