الجمعة 25 شوّال 1445 . 3 مايو 2024

الحلقة (46) - سورة البقرة 164

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على عبد الله والرسول الأمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، وعمل بسنته إلى يوم الدين.

وبعد أيها الإخوة الكرام، يقول الله -تبارك وتعالى- {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}[البقرة:164]، هذه سبع آيات من آيات الله -تبارك وتعالى- الكونية الخلقية، خلقها وأقامها الله -تبارك وتعالى- آياتٍ لعباده -سبحانه وتعالى-، ووجههم -سبحانه وتعالى- إلى أن ينظروها وأن يعقلوها، وأنها أدلة على أنه الإله الواحد الذي لا إله إلا هو، فبعد أن أخبرنا الله -تبارك وتعالى- بهذه القضية الخبرية الكبرى، قائلًا: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ}[البقرة:163]، أي معبودكم، إلهكم معبودكم الذي يجب عليكم أن تألهوه، وتحبوه وتعبدوه هو إلهٌ واحد، لا إله إلا هو، أي لا إله حقًا إلا هو، فكل ما نسبت إليه الألوهية غيره باطل، وكل إلهٍ غيره كذب وزور، وهو إله الحق وحده، وهو الرحمن اسمه وصفته الرحيم، فمن أدلة أنه الإله الواحد، وأنه الرحمن الرحيم خلقه، فأولى هذه الآيات خلق السماوات والأرض، وهذا خلقٌ عظيم كبير، لا تسعه لليوم عقول البشر، مع تقدم علومهم وآلاتهم، فلا يعرفون صنع الله -تبارك وتعالى- في السماوات والأرض، كيف هو؟ ولا حقيقة بنائه، ولا سعة هذا البناء، والأرض التي هم عليها بالرغم من صغر حجمها وأنها جُزَيْء صغير من هذا الكون العظيم الفسيح الذي لا تبلغه عقولهم، إلا أنهم كذلك لم يبلغوا أسرارها كلها، بل ما علموه منها جزءٌ قليل مما هو من صنعتها الحقيقية، وأسرارها الحقيقية وما هي عليه في الحقيقة، ففي خلق السماوات والأرض من الإبداع والإحكام والأسرار والعلم والإتقان مما يدل على قدرة الخالق وعظمته، وأنه الإله الذي لا إله إلا هو، فالذي صنع هذا الصنع العظيم لا شك أنه هو الإله وحده، ولا يمكن أن يكون قد شاركه أحدٌ في هذا الخلق، لأنه لو شاركه أحد وكانت هذه شركة، كانت السماوات والأرض خلقها لمجموعة من الآلهة اشتركوا فيها لفسد هذا الخلق، {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا}[الأنبياء:22]، وذلك أنه لابد أن يعلو كل إلهٍ على غيره، وأن تقوم حرب بينهم، حرب النجوم، هذه حرب النجوم الحقيقية، فيقاتل كل منهم الأخر ويستقل بما خلق، كما قال -تبارك وتعالى- إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ}[المؤمنون:91]، إذن لذهب كل إلهٍ بما خلق، كل إله يذهب بما خلق في ناحية من نواحي هذا الكون، {وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ}، سبحان الله عما يصفون أن يكون هناك إلهٌ غيره -سبحانه وتعالى-،

ثم {وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ}، وقد بيَّنا بعض ما في هذه الآيات من الدلائل العظيمة، على أن خالقها ومقيمها إلهٌ واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم، وكذلك {وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ}، كنا قد وقفنا عند هذه الجملة من هذه الآية في الحلقة الماضية، وذكرنا أن السحاب هنا قال الله -عز وجل- {الْمُسَخَّرِ}، والتسخير هو تسييرٌ وتذليل وقهر، فسخره الله -تبارك وتعالى- وجعله في خدمة خلقه -سبحانه وتعالى-، {وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ}، فهو ينتقل من مكان إلى مكان، يُنزل ما فيه من الماء في هذا المكان، وهو مذلل حيث يشاء الله -تبارك وتعالى- سوقه، {وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ}، وكونه بين السماء -بين العلو- وبين الأرض لا شك أن وجود السحاب في المكان الموجود فيه أمر عظيم دال على حكمة الله -تبارك وتعالى-، فسريان وجريان السحاب في المكان الذي هو فيه مناسب تمامًا للخلق، وآية من الإبداع، نظرًا جمالًا بعدًا عن الإتلاف، لو كان هذا السحاب يجري على وجه الأرض لأزال ما أمامه لما يمتلئ به من الماء، ولو كان بعيدًا جدًا لندر ماؤه وتشتت هنا وهنا، فجعله الله -تبارك وتعالى- في المكان المناسب، وسيَّره وسخَّره -سبحانه وتعالى- على ظهر هذه الأرض بحكمة وتدبير عظيم.

{وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}، هذه الآيات التي كل واحدة منها مجموعها هذه سبع آيات ذكرها الله -تبارك وتعالى- في هذه الآية الواحدة، الآية المقروءة المتلوَّة، ترشدنا إلى هذه الآيات المنظورة، وأخبر أنها آيات لكن لقومٍ يعقلون، لمن يحمل عقلًا، أما مَن لا يحمل عقلا؛ فإنه تمر عليه هذه الآيات وهو لا يدري، ما الذي أوجدها، لم أوجدها؟ ما الحكمة فيها؟ ما مآلها؟ كما وصف الله -تبارك وتعالى- حال الكفار فقال: {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ}[يوسف:105]، وَكَأَيِّنْ أي كثيرًا، {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ}[يوسف:105]، ألا ينظر الكافر هذه الآيات ما خلق الله في السماوات والأرض، ألا ينظر الشمس والقمر، واختلاف الليل والنهار، والبحر والفلك التي سخَّر الله -تبارك وتعالى-، سخَّرها الله لتركب سرج هذا البحر وتنتقل من مكان إلى مكان، ألا ينظر إلى تصريف الرياح على سطح هذه الأرض، ألا ينظر إلى السحاب والمطر، ينظر إلى كل هذه الآيات ولكن لا يعلم مَن سخَّرها؟، ولِم سخَّرها؟، ما الحكمة في هذا؟، ماذا وراء هذا؟ الآيات المشاهدة، إن علم شيئًا من حقائقها لا يفهم ما وراءها، كما قال -تبارك وتعالى- ولكن كثيرًا من الناس لا يعلمون، {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ}[الروم:7]، ولذلك وصف الله -تبارك وتعالى-  هؤلاء الذين لا يدركون حقائق هذه الآيات، وأن الله هو الذي خلقها ونصبها وأقامها فيما أقامها فيه، نفعًا لعباده، وتسخيرًا منه -جل وعلا-، وأنه لا يقدر على تسخير هذه المسخرات إلا هو -سبحانه وتعالى-، وصف الله هؤلاء الكفار بأنهم لا عقل لهم، وأنهم أحط دَرَكًا، ودَرْكًا من الحيوان.

قال -جل وعلا- {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ}[الأعراف:179]، وصفهم الله بأنهم كالأنعام، وذلك أن الأنعام تأكل وتشرب، لا تدري ما يُراد بها، وهؤلاء وصفهم الله أنهم على هذا النحو، قال {........ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ}[محمد:12]، والنار مثوًى لهم في الحقيقة، طبعًا هذا جزاء لكفرهم، عنادهم، لإغماضهم أعينهم وصمَّهم إقفالهم آذانهم عن سماع الحق، وعن النظر في آيات هذا الكون، فأخبر الله أنها آيات لكن لأهل العقل، أما مَن لا عقل له، من لم يستخدم عقله فيما شُرع له ونصب له في النظر في آيات هذا الكون؛ ليعرف ربه -سبحانه وتعالى- وخالقه، فإنه لا يستفيد بهذه الآيات، بل هو أعمًى أصمٌ، يرى هذه الآيات وقد يعلم شيئًا من علمها، كيف تقوم؟ كيف تعمل؟ كيف تنتظم؟ ولكن يظن أنها خلقت هكذا، إذا سئل الكافر إما أن يقول: أنها خلقت هكذا، أو ينسب خلقها إلى مخلوق، فالنصارى ينسبون هذا الخلق إلى عيسى وهو بشر، لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا، من أين لعيسى قدرة في أن يضع الشمس في مكانها! والقمر في مكانه! ويقيم هذه الكائنات في مكانها! ويعلم ما في البر والبحر! هذا أمرٌ لا يقدر عليه إلا الله، الإله الخالق الذي لا إله إلا هو، ولا شبيه له ولا يمكن أن يكون بشرًا مثلنا ولا مخلوقًا، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا، فهذا من العمى، وكذلك من يعبد  ما يعبد؛ يعبد الملائكة، يعبد حجرًا، يعبد شجرًا، يعبد بقرًا، ما يملك هذا الذي تعبده من هذا الكون، هل أوجد شيئًا؟! {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ}[النحل:17].

فهذا الكافر إما أنه منكر للخالق إنكارًا كليًا، هذا نوع من الكفر، وإما أنه متعلق بإلهٍ باطل من هذه الآلهة الباطلة ينسب لها النزاهة، وينسب لها النفع والضر، والحال أنها ليست لا تنفعه ولا تضره، ويدعوها من دون الله، ويجعل أشرف الأعمال؛ أشرف أعمال الإنسان من الوله والحب والسجود والركوع والصلاة والنذر، أشرف أعماله وهي العبادة يجعلها لهذه المخلوقات الضعيفة الفقيرة، التي هي في ذاتها مفتقرة إلى غيرها، بل مفتقرة إلى الإنسان الذي يعبدها، يكون هذا الصنم هو من صناعة الإنسان، فالإنسان هو الذي تفضَّل عليه، وهو الذي بناه، وهو الذي نصبه، وهو الذي أقامه، ثم بعد ذلك يسجد له ويعبده ويرجوه ويألهه، كيف تأله ما تخلقه أنت! أنت الذي خلقته، كما قال إبراهيم لقومه {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ}[الصافات:96]، قال هذه آلهة ما تنفع شيئا، هذا الذي تعبدونه أنتم خلقتموه بأيديكم، ولا يملك أنت الذي تملك نفعه وضره، بمعنى أنك تقيمه تطعمه تسقيه تمنع عنه الأذى، كيف تعبد من أنت تتفضَّل عليه! المنطقي أن يكون الإله الذي تعبد هو المتفضِّل عليك، هو الذي أوجدك، هو الذي يحييك، كما قال إبراهيم لقومه {قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ}[الشعراء:75]، {أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ}[الشعراء:76]، {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ}[الشعراء:77]، {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ}[الشعراء:78]، {وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ}[الشعراء:79]، {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ}[الشعراء:80]، {وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ}[الشعراء:81]، {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ}[الشعراء:82]، فهذا هو الذي يستحق أن يعبد، أما غيره فلا يملك شيئًا، لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا فضلًا على أن يملكه لمن يعبده.

فالله يخبر على أن هذه الآيات هي الآيات الدالة على أنه الإله الواحد، {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ}[البقرة:163]، ثم يقول هذه الآيات، هذه آيات تدل على أن إلهكم أيها الناس إله واحد، لا إله إلا هو الرحمن الرحيم، وذكر الله -تبارك وتعالى- هذه الآيات، وقال هذه آيات قال: {لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}، لهم عقل يعقلون به، أما مفهوم هذا أنه إن لم يكن لهم عقول يعقلون بها، فإنهم بالنسبة لهذه الآيات عمي بكم صم، كما قال الله -تبارك وتعالى- في القرآن {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ}[البقرة:171].

ثم بعد هذا بعد أن بيَّن الله -تبارك وتعالى- أنه الإله الواحد خبرًا، وبرهانًا ودليلًا، وجَّه إلى الشرك، لنرى أين يقع هؤلاء المشركون من العقل؟!، قال -جل وعلا- {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ}، ثم قال -جل وعلا- {........ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ}[البقرة:165]، {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ}[البقرة:166]، {وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ}[البقرة:167]، {وَمِنَ النَّاسِ}، أي بعضًا، بعضا من الناس، {مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا}، يتخذ؛ الاتخاذ هنا اعتقاد، وعمل بمقتضى هذا الاعتقاد، من دون الله غير الله -تبارك وتعالى-، {أندادًا} يزعمهم أنهم أنداد لله، هو اتخذه ندا لله، والحال أن الله ليس لله ند، في الحقيقة والواقع ما لله ند، الند هو النظير الشبيه، فالله لا ند له، بمعنى أنه له نظير مشابه مماثل لا، ليس لله ندٌ -سبحانه وتعالى-، شبيهٌ أو نظيرٌ أو مماثل، بل الله هو الإله المتفرد بأنه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}[الشورى:11]، لا ند له لا في ذاته ولا في صفاته، فالله لا شك أنه لا إله يماثله -سبحانه وتعالى- ولا يشابهه، ليس هناك موجودٌ في كل الوجود له صفة الرب -تبارك وتعالى-، ومن ذلك أنه ليس له ولد، وليست له زوجة، لأن الزوجة لابد أن تكون نظيرا لزوجها، والولد ابن الوالد يحمل صفاته، {........ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}[الأنعام:101].

الله لا ند له -سبحانه وتعالى-، هؤلاء الناس اتخذوا من دون الله أندادًا، أنداد لله هم اتخذوهم، لكن ليسوا على الحقيقة، أندادا: بعض هؤلاء الناس اتخذوا لله أندادًا في الذات، قالوا ذاته ذاته, كما قالت النصارى في المسيح: ذات المسيح ذات الله، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا، وبالتالي صفاته صفاته، أي اعتقدوا أن صفات المسيح هي صفات الرب، خالق، يخلق، يرزق، يحيي، يميت، يهيمن على هذا الكون، يدين الأحياء والأموات، فاعتقدوه على هذا النحو، أو الذي عبدوا الفرعون، عبدوا النمروذ، فقد أعطوهم صفة الخلق والرزق والإحياء والإماتة، ادعاه الشخص لنفسه ثم وجد من يشيعه على هذا الأمر، كقول فرعون مثلًا لقومه {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي}[القصص:38]، وقول النمرود {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ}[البقرة:258]، ووجد من يشايعه على ذلك، إلا ما قام إبراهيم في وجه وقال له {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ}[البقرة:258]، ليبين كذبه في ادعائه الربوبية والألوهية.

أو بعض الناس تتخذ أندادا لله؛ أندادا في الحقوق وفي العبادة، هو يعلم أنه ليس نظيرا لله في الذات، وفي كل الصفات، ولكنه يعطيه ما يعطي الله من العبادة ومن الطاعة، فهنا اتخذوا، والله بيَّن أن هؤلاء اللذين اتخذوا من دون الله أندادا، فمثلًا الذي عبد الشمس والقمر قد لا يعتقد بوجود الرب وأن الله الذي خالقها، لكنه يرى أن هذه إله يُعبد، وأنها فيها نفع، ويتأتى منها مضرة لذلك يتقرب إليها، أو الذين عبدوا الملائكة، هنا يبين الله -عز وجل- أن هؤلاء الذين اتخذوا من دون الله أندادًا في اعتقادهم أنهم لله أنداد، قال -جل وعلا- {يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ}، الحب أسمى مشاعر وأعمال الإنسان، وهو ميل للقلب نحو هذا المحبوب، وامتلاء القلب من الشعور بالانجذاب والميل نحو هذا المحبوب، فأشرف أعمال الإنسان والحب؛ حب العبادة فيه تعظيم ووله، وقد يكون تحيُّرا في الكنه، ورغبة هائلة لأن هذا المحبوب المألوه يرى من يحبه أن بيده النفع، فيميل إليه قلبه، وكذلك يرى أن بيده الضر، فيحبه محبة كذلك من يخاف منه، ومن يرى أنه يدفع عنه الشر والضر فيألهه، {يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ}، فهؤلاء الذين اتخذوا أندادا لهم ظانين أنهم مماثلون لله في الذات والصفات، أو في الحقوق كالعبادة قال –جل وعلا- {يُحِبُّونَهُمْ}، يحبون هؤلاء الأنداد {كَحُبِّ اللَّهِ}، كحب الله أي كما يُحَب الله، فالله يُحَب حب عبادة، وقد جعل الله -تبارك وتعالى- هذا من أشرف العبادة أن يُحَب، {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ}[المائدة:54]، فالله الإله الحق -سبحانه وتعالى- يُعبد حبا، وبُعبد رغبة، ويُعبد رهبة، هذه مشاعر القلب، وبُعبد توكلًا، ويُعبد إنابة، ويُعبد خشية، هذه كلها مشاعر؛ مشاعر عبادة نحو الإله الحق -سبحانه وتعالى-، فالله يُعبد بالحب، المؤمن يحب الله -تبارك وتعالى- حب العبادة، ويختلف حب العبادة عن حب الشيء الشهوة، كما يحب الإنسان مثلًا ما يشبع رغباته من الطعام والشراب والراحة والأمن والسلام والزوجة، وسائر المحبوبات والمستلذات والمشتهيات، هذا نوع من الحب، حب ما يشتهيه الإنسان وما يأنس به، وما تقر عينه به مما يحقق له المتعة في هذه الدنيا، أما محبة العبادة فالله أعلى من هذا، محبة العبادة المحبة لله؛ محبة شوق إلى لقائه، محبة إجلال وتعظيم لأسمائه وصفاته العلا، محبة جميل وذلك أن الله هو المتفضِّل على العبد بالخلق، بالرزق، بالتقدير، فجميل الله وإحسانه إلى عبده لا يمكن مكافأته، وهو سبب إعطاء العبد كل محبوب من محبوباته في الدنيا، فالله هو رازقه، وهو الذي يعطيه كل مشتهياته وكل رغباته، فإذا كان الإنسان يحب المال ويحب الأولاد ويحب الزوجة ويحب ما يشبع غريزته ويقيمه ويحييه كلها من الله -تبارك وتعالى-، فكل هذه النعم من الله -تبارك وتعالى-، فالله يُحَب لإنعامه وإفضاله، يُحَب لذاته، يُحَب لإنعامه وإفضاله –سبحانه وتعالى-، هذه محبة العبادة، وهي أشرف أعمال القلب وأشرف العبادات.

يخبر الرب -تبارك وتعالى- بأن من الناس ناسًا يعطون غير الله هذا الحب الذي هو حب عبادة، وهذا إجرامٌ فظيع وجهل وكفرٌ شنيع، كيف يعطي المخلوق أو العابد مخلوقًا هذا المخلوق لا يملك نفع نفسه ولا ضره، ولا يملك نفع من يعبده فضلًا عن أن يملك لعابده النفع والضر، يعطيه ما يجب أن يُعطى لله خالق السماوات والأرض؟!، هذا جريمة؛ جريمة كبرى، الشرك أكبر الجرائم، أكبر الجرائم أن الشخص يتوجه بمحبة العبادة للشمس، للقمر، للنجوم، للملائكة، لشجر، لحجر، لأي إله غير الله -تبارك وتعالى-، مهما كان هذا المخلوق شريفًا كعيسى وكمحمد -صلوات الله والسلام عليه- وكالأنبياء، هذه مخلوقات شريفة، شرَّفها الله وكرَّمها بالرسالة، وبالإيمان وبالهدى، لكن أن يُعطى المخلوق ما يجب أن يُعطى الله، ويُعطى أشرف أعمال الإنسان وهو المحبة، يعطيها للمخلوق هذا أمر جريمة، فعرض الله -تبارك وتعالى- لما يعرض لنا القضية على هذا النحو، يعني كأنه يقول انظروا الجريمة الكبرى، {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ}، كيف يكون هذا؟! كيف يتأتى هذا؟! كيف يتخذ إناثا يجعلون لهم إله غير الله؟ يحبونه كما يُحَب الله، كما ينبغي أن يُحَب الله -تبارك وتعالى-، جريمةٌ كبرى.

ثم جاءت هنا جملة اعتراضية في الآية قبل المسير في السياق، وبيان حال هؤلاء المجرمين من المشركين، قال -جل وعلا- {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ}، الذي آمنوا في محبتهم لله أشد من محبة الكفار لآلهتهم، فالذين آمنوا يحبون الله -تبارك وتعالى- حبًا عظيمًا، بل إن ممن محبتهم لله -تبارك وتعالى- يقدمون أرواحهم وأنفسهم، فالمؤمن يقدم أغلى ما عنده روحه وماله لله -تبارك وتعالى-، ويستعذب الآلام؛ يستعذب الآلام في سبيل الله -سبحانه وتعالى-، هذا المؤمن الحقيقي، {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ}، فالآلام والمحن والفتن؛ والفتن التي تأتيه ويعلم أن فيها رضا الرب -تبارك وتعالى- يستعذبها، يرى أنها عذبة وحلوة وجميلة لله -تبارك وتعالى-، فالمؤمنون في محبتهم لله لا شك أنهم أعظم من المشركين في محبتهم لآلهتهم.

ثم بعد ذلك ينتقل السياق إلى جريمة هؤلاء الذي أحبوا آلهة، اتخذوهم أندادًا من دون الله، وأعطوهم أشرف عملٍ للإنسان وهو المحبةُ، محبةُ الألوهية والعبودية أعطوها لهذه المخلوقات، قال -جل وعلا- بعد ذلك بيَّن حسرتهم {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا}، هنا ظلموا بمعنى وضعوا هذه المحبة في غير موضعها، والظلم وضع الشيء في غير محله، {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ}، أي حين يرون العذاب؛ عذاب يوم القيامة، {أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ}.